لا تيقظني من نومي فأنا احلم بالتغيير لا تقطع حلمي فانا أكره تكرار الأحلام ولا اقبل تفسيرا للأحلامإلا إن جاء لصالح قوميالليل ثابتٌ مكانه كتمثال قديمٍ راكزٍ على أرضيةٍ صخريةٍ ، لا ينقشع ، ولا يتزحزح . والصبح بعيد لا يزال يتمطى في فراشه النائي وكأن البلدان المجاورة قد وفرت له دثاراً ودفئاً لا يريد أن يفقده . وما عرفت إن كان الليل هو الذي يصر على البقاء فيلفّنا بظلامه الدامس دون أن يترك لنا نقطة ضوء ، أم أن الصبح هو المتكاسل فيصر على حجب ضوئه فلم يصلنا بعد وكأنه ينتظر منّا تأشيرة دخول أو إذنٍ مسبق ، ووسط كل هذا نحن لا نهتم . في أول الليل – كعادتي دائما - شربت حد الثمالة ، ثم - كما حكت لي زوجتي - نمت نوما عميقا علا فيه شخيري ، وتقلبت في فراشي كالملدوغ ، وكنت أرسل زفرة عالية مع كل انقباضة نفس ، إلا أنني لم أكن أحس بذلك كله ، أو استشعره لولا أن زوجتي بقيت ساهرة إلى جانبي تبلل شعر رأسي بالماء حتى أفوق مما أنا فيه . ما كنت أعبأ بالليالي ، ولا أهتم ببزوغ الفجر ، ولا أخرج من بيتي منتصف النهار ، ولم يكن الوقت يعني لي شيئاً . كل ما يهمني من االوقت هو المساء ، فتجدني أحرص على ترتيب أحوالي لقضاء الأماسي كما أريدها ، أو تأتي هي طائعةً بكل ما أريد . أبحث عن مجالس المغنين والعازفين والشعراء ، ففيها أجد السلوى وأتناسى عذابات العمر كلها ، وأستعيد مرحاً وسروراً افتقدتهما منذ أن افترق أبي وأمي ، ثم بعد ذلك بقليل طردتني أمي خارج البيت . ومع هؤلاء فقط تنفتح مسام عقلي وتستوعب بعض تفاصيل العلاقات الإنسانية وأبعادها ، فأهيم وجداً وطرباً ، ويحلو لي الأنس .بعد طلاقه من أمي، سافر أبي بعيداً ، لا نعلم أين ، ولم يعد ، وانقطعت أخباره ، فلم يعد يسأل عنا أو نسأل عنه، ثم سمعنا أنه توفي بعد حياة عادية ، وترك أرملة هناك تقوم على تربية ولدين وثلاث بنات . وقد قيل لنا أنه لم يترك لهم شيئا يعينهم على نشأتهم وتعليمهم ، ولم يترك وصية تعيننا أو تعينهم حتى على الصبر والاستمساك به. سمعنا بنبأ وفاته فلم نقم لأبي مأتما ولا عويلا، ولم تغش وجه أمي مسحة حزن عليه . وأنا اعتدت أن أردد تسبيحا تعلمته من أمي ، كأني أقلّدها. لا أعلم إن كان مطابقاً لسنةٍ ، أو مخالفاً ، أو هو من سنن من هم قبلنا .. يا ربي ياسيدي تحقق مرادي وتأخر ميعادي ، هكذا كانت تقول أمي وتردد. ولا أعلم لها مراداً بيّناً ، ولا أرى ما يهدد ميعادها، فهي تعيش منذ رأيتها حتى يومنا هذا دون أن تطلب عوناً من أحد ، وقد بلغت الثمانين أو يزيد، لكنها لا تزال تمشي معتدلة الظهر ، لا تستعين بعصا ، ولا تشكو ألماً، ولا تزور طبيبا. كنت أردد هذا الدعاء فيمنحني إحساسا طيبا ، وكأنه يهدهدني فأعود إلى نومي من جديد كلما انتابتني نوبة أرق، أو أحسست بما يكدّر علي حياتي ، فاطمأننت إليه ، وجعلت أردده ، فأصبح يجري على لساني مجرى اللعاب . ولم أشغل بالي أبداً بمعناه ومقصده ، لكني عندما راقبت بعض أمري بدقة وجدت أنني – بالمقارنة- يتحقق لي ما لا يتحقق لغيري . لكن ليس كحال أمي ، فأرزاقها كثيرة لا تنقطع . يأتيها نصيب مقدّر من أبنائها المغتربين في عدد من دول العالم ، وهي جالسة في عقر دارها لا تحرك شيئا ، ولا تدير عملا إلا من شرب القهوة والثرثرة. كانت تتدثر بغرور وتعال كبيرين ، لا تقبل رأياً من أحد، ولا تدير حواراً مع أحد، ولا تستمع إلا لمن تضمن لديه مصلحة. حتى حين كنا نحتج على تصرفات بعض أحفادها ، كانت تقول لنا : اتركوهم ، بكرة يكبروا وربنا يهديهم . لم تكن أمي تبذل مجهوداً يذكر في تربية أحفادها ، كما لم تكن قد بذلت مجهوداً يذكر في الاهتمام بأولادها وبناتها من قبل. كانت تترك كل واحدٍ منهم لنفسه ، ليخرج إلى الدنبا كما يريد هو، أو كما تريده شلته، فنشأ أولادها وبناتها المنحدرين أصلاً من ثلاثة رجال نشأةً غريبة لا تتلمس فيها وحدة في المنهج أو السلوك أو الفكر. لم تكن أبدا تسعى لإرضاء أحد، لكنها لا تغضب أبدا من فعل يصدر من أحد أبنائها أو أحفادها مهما كان الفعل مشينا أو ضارا . وظلت تقابل كل أمر يفعلونه بابتسامة، ودونما انفعال، ودائما تردد دعاءها: ياربي ياسيدي تحقق مرادي وتأخر ميعادي. كانت فقط تدعو بهذا الدعاء وكأنها تردده تلقائيا، فلا تمنحك الإحساس بأنها ترسله من داخلها موجها إلى الخالق، لكن يبدو لي أنها تعيش حياتها كلها معتمدة على هذا الدعاء. ولم أكن أعلم من علّمها هذا الدعاء، أهي ورثته عن أحد والديها، أم تعلمته من أحد الشيوخ العارفين بالله، أم أن الله ألهمها له في لحظة صفاء فاستمسكت به فكان لها بمثابة مفتاحٍ لرزقٍ لا ينقطع . أسرفت أمي على نفسها في كل شيء ، فكان نصيبها في الزواج ثلاث زيجات، طلقت منهم من طلقت، ومات من مات، وبقيت هي تحتضن عددا من الأولاد والبنات والأحفاد. ورغما عن هذا الجيش الجرار الذي يدخل البيت ويخرج منه في أوقات مختلفة طوال اليوم، فتجد البيت يضج بالفوضى، وتسيطر عليه العشوائية السلوكية. لكن أمي لم تكن تأبه بهذا ، وقد ظلت تعيش في دعة، وسعة من أمرها، يجري المال بين يديها كما يجري بين شاطئيه النيل حاملا السقيا والطمي، وجزءا من غذاء الإنسان، فتمنح وتعطي، تطعم وتكسو، وتتصدق، ولا تفلس أبدا. ويبدو لي أنني الوحيد في عالم أمي الذي نال غضبها، فثارت ثورتها تلك، وأمرتني بالخروج من البيت، وأن لا أعود إليه أبدا . ونواصل
12-31-2015, 11:20 AM
ودقاسم
ودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146
لم أكن أتودد أمي ، أو أسألها أن تمنحني تصدقا أو كرما أو جودا. كنت أرى أنه لزامٌ عليها أن تعطيني ما أريد، وأن تجعل لي نصيبا منتظما من ثروتها المنسابة دون جهد ودون عرق، حتى لو كنت أصرفها فيما لا يرضيها. لكنها لم تكن تتقبل هذا، فالإحساس بالغنى حوّلها إلى امرأة قاسية متسلطة، تنظر إلى الناس من علٍ، خاصة الذين اعتادوا أن يحصلوا منها على بعض الفتات أو الذين يتزلفونها وينافقونها. ويظل هذا ديدن أصحاب الأموال، يتحصنون بأموالهم ويتمترسون خلفها لاكتساب روح التسلط والتعالي ، يرون أنهم إن وزّعوا شيئا من أموالهم على الفقراء، فهم يوزعونها من بقاياهم ، وفتاتهم ، وما زاد كثيرا عن حاجتهم . وكلما أحسّوا بتكاثر الفقراء من حولهم ، ازدادوا ترفعا وتسلطا ، وتعاظم إحساسهم بالغنى ، ولجأوا إلى المزيد من الترف والصرف التفاخري . وكما كنت متأكدا أن ما يحدث لأمي هو بسبب هذا الدعاء الذي ظلت متمسكة به ، إلا أنه لم يكن هذا حال الدعاء نفسه معي ، فقد كانت تأتيني أرزاق تكفي احتياجاتي المحدودة ، لكنها لم تكن مما يرسله لي أولادي ، وهم أيضا مثل أولاد أمي، سافروا وكسبوا ، لكنهم لا يرسلون لي شيئا من المال، ولا يسألون عني . فأنا مجرد متلقي صدقات لا أكثر ولا أقل. أولادي يرون أنني سكّير عربيد لا أستحق أن أضع يدي على المال، أو أمنح حق التصرف فيه ، فهم يعرفون أنني أصرفه في لا شيء . والغريب انني كنت ذو حظ عظيم في شرب الخمر وما يتبعه من عربدة . كنت دائما أجد مالاً أشتري به ما أريد من الخمر الجيد ، وأجد طعاما يقيم أودي ويملأ معدتي فتحتمل كميات كبيرة من الكحول . يحدث هذا بالرغم من أني كنت كأمي تماما لا أعمل عملا يذكر ، ولا أجيد فعل شيء أفيد به نفسي أو غيري ، بل وأكثر من ذلك لا أفعل شيئا يحمده الناس لي . لكني ما شكوت يوما من جوع ، ولا توقفت عن عربدتي ، ولا تغيبت عن مجالسة أصحابي ، ولا مددت يدي لأحد . وأذكر أنني في إحدى الأماسي ما كنت أمتلك ثمن قارورة الخمر لتلك الأمسية ، فخرجت أحمل همي ، أبحث عن مكان ما أجالس فيه أحدا من الناس أو جماعة يعينوني على تمضية مساء بلا خمر ، لكني عند وصولي إلى مدخل النادي الذي قصدته ، وجدت على الأرض ظرفا به بضع جنيهات ملفوفة بعناية، كأن صاحبها قد أعدّها خصيصا لي ، لكنه نسي أن يكتب اسمي على الظرف . أخذت الظرف دون أدنى تردد ، وكأنه ورثةٌ قديمة آلت إلي دون أن أبذل سعياً في طلبها ، ثم استدرت إلى الخلف، وتوجهت تلقائياً إلى البار القريب ، وأمضيت أمسيتي هناك. ليالٍ كثيرة كانت شديدة الظلمة والقسوة في حياتي، لكنّ هذا الليل كان مختلفاً تماما عن كل الليالي التي مرت علي طوال حياتي مذ صرت أعيش منفرداً بعيداً عن أمي . فقد ظل هذا الليل يتطاول بي عبر المدى ، حتى يخيل لي أن المدة التي انقضت بين أوله ومنتصفه قد بلغت نصف عمري الافتراضي. ولا أعرف ليلا طال بي وتمدد مثل ما فعل بي هذا الليل ، حتى حسبته ينتمي إلى زمان آخر يحسبون فيه الليل خمساً وثلاثون ألف سنة كجزء من يومٍ مقداره سبعون ألف سنة مما نعد . يوم طردتني أمي من بيتها كنت رجلاً رقيق الحال، ليس في جيبي مال ، ولا في جسدي صحة تمكنني من البحث عن مكانٍ يأويني ، لكني كنت شابا أحلم – أحيانا - بمستقبل كريم لي وللناس من حولي . كان يمكن أن أنام تلك الليلة ، تحت حائطٍ ، أو شجرةٍ ، أو أي جمادٍ على قارعة الطريق. ولم يكن لأي من أصدقائي بيتٌ خاص به فأداهم أحدهم لأقضي تلك الليلة معه، فهم لا يزالون يسكنون مع أسرهم الكبيرة، وبعضهم يسكنون عزابا في بيوت لا تتسع لغيرهم. فكرت أن ألتحق بأكثر من واحد منهم ، لكنني أتراجع عن الفكرة سريعا حين أتذكر ما رأيته من ضيق سعة بيوت العزاب وأثاثها الخرب ، حتى يخيل إلي أن الفئران تنفر من المبيت في بيوتهم. لكن الحل جاءني سريعا حين رددت الدعاء الذهبي ، دعاء أمي ، ياربي ياسيدي تحقق مرادي وتأخر ميعادي ، وما أن أكملت الدعاء حتى تذكرت (سلوى ) بائعة العرق التي تعيش في طرف الحي. تذكرت بيتها الواسع نسبيا، وشجرتي النيم القائمتين في قلب الحوش المفروش بالرمل ، والأسرّة الموزعة تحتهما ، فيجلس زوّار سلوى وسط ظلٍ يكاد لا ينقطع . سلوى امرأة رائعة ، ترحب بزائريها ، وتقوم على كل طلباتهم ، وتوفر لهم كل أسباب السرور والبهجة ، ولا يزعجها وجودي ولو طالت الجلسة . كم مرة جلسنا هناك، ورفعنا أصواتنا بالغناء على نغمات العود ، وتناولنا المزة ، ووجبات اللحم والكوارع ، وكبدة الإبل النيئة . وكم مرة تركنا عندها بعض أفراد الشلة يقضون باقي ليلتهم نياما هناك بعد أن يكونوا قد أفرطوا في الكحول وغرقوا فيه ، فيأخذهم النوم العميق ولا يستطيعون وقوفا أو حركة . قلت في نفسي أن سلوى صديقة وفية لن تطردني إن طلبت المبيت عندها حتى الصباح ، أو ربما أقضي معها بقية عمري ، لم لا ، خاصة وهي تعلم كل تفاصيل حياتي ، وما يدور بيني وبين أمي من خلافات . ونواصل
أخيرا ، وبعد طول انتظار ، بدأ الصبح يطل متثاقلا كأنه يأتيني تصدّقاً . نهضت من نومتي الخبيثة تلك ، وتوجهت مباشرةً إلى الحمام . أرخيت ستارة من الخيش كنا نجعلها ساتراً من المتطفلين والبرد، وجلست وسط الطست المصنوع من (التوتيا ) ، وسطل الماء البارد ينتطر أمامي كقدرٍ لا مفر منه ، فيمثل لي ، من شدة برودته ، نهراً من الثلج فُرض على أن أمشي فوقه . أخذت نفساً عميقاً ، ثم دلقت بعض الماء فوق رأسي ، فنزل على جسدي كسياط جلادٍ لا قلب له . لا أعلم لم تصر أمي علي أن أكون دائماً نظيف الجسد والثياب. ظلت تصفني بالقذارة وتقول لي أن القذارة من الشيطان ، وأنت الشيطان نفسه . فأرد عليها أن القذارة من الفقر ، ولا دخل للشيطان في ذلك ، والنظافة نوعٌ من الترف يمارسه الأغنياء . فهم أصلاً لا يعملون عملاً يتصبب منه العرق ، ولا يعرّضون أنفسهم للغبار والأتربة وأنفاس الناس ، وحماماتهم مغلقة ودافئة لا تدخل إليها الرياح الباردة من فرجات ستارة الخيش ، ويستمتعون بالماء الدافيء فلا يأخذون حماماً بارداً في فصل الشتاء . كانت زوجتي بعد أن أبلغها مبعوث أمي برغبتها في لقائي قد قضت جزءاً من الليل تعمل تفكيرها في ما يمكن أن يحدث بيني وبين أمي ، أهي معركةٌ جديدة ، أم أنه عفو رغبت أمي أن تمنحني إياه بعد أن تعدى عمرها الثمانين وأحست أنها ربما تنتقل إلى الرفيق الأعلى في أي لحظة . ثم قامت تعالج جلبابي الذي تصدق به علي جار ثري، يحبني ويحب أسرتي ويستمتع بالتصدق علينا، فخاطت زرائره ، وغسلته ، وكوته ، فأصبح ملبساً جاهزا يليق بمن تستضيفهم أمي في بيتها. وأمي تكره سلوى ، وتكره زوجتي أيضا ، وتكره أولادنا ، ولا تود أن تسمع عنهم خيرا. لا شيء يربط أمي بسلوى أو ابنتها التي هي زوجتي ، فهن لا يتواصلن معها ولا يلتقينها إلا صدفةً فتهرب منهما ويهربن منها ، فلا هي تبادلهن نوعا من المودة أو المجاملة ، ولا هن يتزلفنها أو ينافقنها. وهي قد علمت أن سلوى احتضنتني وأسكنتني في بيتها ، ثم قدمت لي كل ما تستطيع من عون ، ثم جعلت لي عطاء شهريا باعتبار أن وجودي في البيت يؤمّن لها نوعاً من الحراسة وتوفير الأمن خاصة وأن المتربصين ببيتها كثر. وما كنت أجد حاجة للخروج من بيت سلوى لأي مكانٍ آخر ، فهو مكان عملي وسكني ، مكان بذلي وراحتى ، وقد توفر لي كل شيءٍ هناك ، حتى الأصدقاء يأتون طوعاً واختياراً ليقضوا أمسياتهم السعيدة في بيت سلوى . فظللت أمضي نهاري تحت ظل شجرة النيم ، أراقب الداخلين والخارجين ، ولم أكن في حاجة لاستعمال القوة أو الفظاظة في وجه الداخلين الذين يسعون للتطفل وإطالة اللسان ، فكان مجرد وجودي كافيا لردع كل من أراد شراً بسلوى أو بناتها أو بيتها . وسلوى لم يكن لها حظٌ من الزواج ، بالرغم من أنها كانت امرأةً وسيمةً وطيبة ولماحة ، فلم تتزوج قط ، لكنها لا شك كانت تعاشر الرجال ممن تثق بهم، وتخص بعضهم بحنانها ورقة روحها فتشاركهم متعة الفراش ، يستمتعون ببعضهم خارج الدوائر الرسمية بأطرها التي يتهيبونها ويعدونها معقّدةً أكثر مما يلزم . رزقت سلوى من مغامراتها تلك بنتين جميلتين كانتا غاية في الأدب والتهذيب، وقامت على تربيتهما ، واهتمت بتعليمهما ، فأخرجتهما إلى الدنيا نساءً كاملات الدسم. ولما طلبت منها أن تزوجني ابنتها الكبرى لم تتردد ، فقد اطمأنت لحسن تعاملي معها ومع بنتيها على امتداد السنوات التي قضيتها معهن . وبالرغم من أننا لم نلتق أنا وأمي وجهاً لوجه منذ فراقنا ذاك يوم طردتني من بيتها ، إلا أنها كما يبدو كانت تطارد أخباري وتعرف الكثير من تفاصيل حياتي، وهي باستمرار ظلت تعدّني جزءاً من أسرة سلوى، وتصب كراهيتها على سلوى وبنتيها ، وتمددها لتصلني أنا أيضا ، ثم تشمل أولادي. لم تكن أمي ترجو لي أن أجد بيتا يضمني، بل كانت تريدني أن أتذوق طعم التشرد، والجوع ، فأعود إلى بيتها منهزما، منكسرا وتائبا من كل ما يضايقها مني. وهي تنظر إلى سلوى التي أنقذتني من هذا الانكسار واحتضنتني فأصبحت فردا من أسرتها ، فتظل تصب غضبها دون هوادة على سلوى. وأنا أعود بعد انقضاء أمسية دعيت إليها في بيت أصدقائي العزاب ، لم أكن أعلم شيئا عن مجيء زائر إلى بيتي ، حتى فاجأتني زوجتي بأن أمي تطلب مقابلتي في صباح اليوم التالي وقد أرسلت إلينا من أوصل هذه الرسالة ، لكن مندوب أمي لم يستطع توضيح الأمر فيما يتعلق بطلب أمي ، لكنه أكّد لزوجتي أن الأمر ضروري ، وأن أمي ترجوني أن لا أتأخر . وحين بلغني الخبر كنت كمن يدخل إلى غيبوبة فجائية لا يستطيع معها حراكا ، فقامت زوجتي وأبدلت لي ثيابي بملابس نوم مناسبة ، ثم أرقدتني على السرير وكأنني ميت مبتديء يودّع الحياة وينتقل إلى الموت ، وينتظر الغسل والكفن . ودخلنا في ليلنا ذاك الطويل الذي تباعد صبحه وتمدد ظلامه ، فكان ثقيلا علينا تماما كليل امرؤ القيس ، وأسئلة كثيرة حائرة تدور في أذهاننا ، فلم نكن نعلم لم طلبتني أمي بعد هذه السنين من القطيعة الكاملة. ولا ندري، أشرا أرادات بنا ، ونحن الذين ظللنا نتحاشى حتى ذكر اسمها، أم أنها أرادت بنا خيرا لم نتوقعه ولم ننتظره منها. زوجتي كانت تسرح وتؤمّل، وتغرق في التفاؤل، وأنا كنت على النقيض من ذلك . فما زلت أذكر حدّتها يوم أن صاحت بي : "اخرج من بيتي أيها القذر ، فمثلك لا يستحق أن يطلق عليه صفة ابن آدم . أنت دميم النفس والخلقة ولا أريدك في بيتي أبدا . اخرج ولا تعد إلى البيت مجددا . سكّير أنت ، وقليل الأدب ، خنزير أنت ونجس ، لا يجب أن تعيش وسط أسرة محترمة."
01-03-2016, 06:03 PM
ودقاسم
ودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146
وكان زوجها الأخير يسمع ويرى ذلك كله ، لكنه لم يكن يجرؤ على منعها أو إثنائها عن طلبها ، فلم ينطق ببنت شفة ، فقد كان مجرد لعبة في يديها تحركه كيف تشاء. كان انتهازيا متميزا ، يتزلف أمي، ويتملقها، ويمارس الكذب علنا دون حياء. وكان وجود هذا الزوج في بيت أمي وقبولها به زوجا ، يقنع الكثيرين ويكفي لإثبات أن الأسرة كلها ليست محترمة. ومما لا شك فيه أنه تزوجها ليتمكن من الانتقال من مذلة الفقر إلى ساحات الغنى، فيرتاح من التعب والضنك اللذان كانا يظللان حياته السابقة. وأنا ألقي عليه نظرات احتقاري ، بدا لي سعيدا بخروجي من بيت أمي كهمٍ انزاح عن صدره، أو كأنه كان ينتظر مثل هذا اليوم في أحلامه ، ليغرق في الشماتة ، لكن ذلك تأخر ، ولم يتحقق إلا في ذلك التوقيت . وهذا وحده كان يفسر لي سعادتي الغامرة يوم سمعت نبأ وفاته، فأقمت احتفالا بدلا عن سرادق العزاء ، فشربت ، وغنيت ، وطربت حتى بُعيد منتصف الليل في زمرة من أصدقائي. حين نهرتني أمي، وطردتني من بيتها كان المساء قد أرخى سدوله ، فخرجت أبحث عن ملجأ أقضي فيه ليلتي تلك ، ثم أتدبر أمري حين يطل الصباح. لم يكن ذاك المساء حزينا ولم يكن داكنا أو حالك السواد، رغم أن الصدمة كانت قاسية، لكني ما كنت أعلم أن تلك اللحظة ستكون مفصلية في حياتي ، وأنني يمكن أن أمضي بقية عمري بعيدا عن بيتٍ ولدت ونشأت فيه . أمور كثيرة كانت تمر بذاكرتي التي أنهكها الفقر والكحول، وأهملتها أمي، بعد أن شحنتها بالآلام والمآسي، فكانت تحتقرني دون سبب ظاهر، وتزيد في استفزازي حتى أفقد أعصابي وأنفعل في وجهها، فتكيل لي السباب، وتنهرني وتهددني بالضرب، والطرد من المنزل. لم تختزن ذاكرتي أبدا حدثا طيبا مما كان يجري بيني وبين أمي. كنا نمضي الحياة كلها مشاحنات وشد وجذب، وتهديد ووعيد، وكنت دائما أخرج من معركتي مع أمي مهزوما مهموما، لكني لم أتنازل لها يوما لتحقق ما تريد من إذلالي وإهانتي. ثم جاء أولادي، من بعد أمي، فتمردوا علي وتناسوا أبوتي، وكأنهم يقولون لي : كما تدين تدان. وكادوا يصدرون فتوى بتحريم العيش معي في بيت واحد. كنت أقلّب كل ذلك ، وتستعيد ذاكرتي مقاطع منه ، وكأنني أعيش كابوسا مستمرا ، فلم يكن نومي هادئا تلك الليلة ، ولم يكن باستطاعتي تقدير ما يمكن أن يحدث لي وأنا أقف أمام أمي في صباح اليوم التالي. ولا أعلم ما الذي منعني وألجمني من ترديد دعاء أمي في تلك االليلة، لم أتذكره أبدا بالرغم من حاجتي الملحة له. سنوات طويلة مرت دون أن أرى وجه أمي، أو أسمع صوتها، ولم ينقل لي أحد طيلة هذه السنين أنها كانت تشتاق لرؤيتي، أو تتوق إليها، ولم ينتابني مطلقا إحساس بفقدها، فقد عشت بدونها كأنني أصلا لم أخرج من رحم أم. لذا عندما أدخلوني إليها، ذلك الصباح، وقفت أمامها كمن يقف أمام جمادٍ لا قلب له، ولا دم يجري في عروقه. وكعادتي معها لم أخف منها، ولم يحتويني شعور بعطف أو حنان، وكأنني كنت أنام معها في غرفة واحدة، فلم أبادرها بالسلام، ولم أرتمي في أحضانها، بل كنت أنظر إليها ببلاهة وبرود غريب، وما زلت أتساءل أي طارئ طرأ عليها فطلبت حضوري بعد هذه الجفوة العميقة المزمنة. ابتسمت أمي ابتسامة أعرفها تماما، فمن تحت تلك الابتسامة خرجت كتل الاستفزاز، والاحتقار ، وكتائب الطغيان. أشارت أمي علي بالجلوس إلى جانبها، فلم أتردد، بل جلست تلقائيا قبل أن تكمل إشارتها. وبدا لي أن أمي رددت دعاءها ذاك مئات المرات قبل أن ترى وجهي، وهاهي ذي يتحقق لها ما تريد، فأنا الآن واقف أمامها مستجيبا لأمرها تماما كما استجبت من قبل حين خرجت من البيت. ولست واثقا أن الله يتقبل دعاءها، لكني أميل إلى أن شياطينها هم الذين يسدون لها الخدمات ويطيعونها، وينفذون توجيهاتها. جلست إلى جوارها كأنني أجلس أمام دمية كبيرة وضعت أمام طفل صغير لا يعلم ماذا يمكن أن يفعل بها، بل ربما يفكر أن يركلها بقدمه ليبحث عن دمية أخرى تناسبه. كنا كندّين ولدا في يوم واحد ، بالرغم من أنها تكبرني بعشرين عاما، لكنني أمضيت عمري أتقلب في مضاجع الفقر، بينما كانت هي تتقلب في مضاجع الثراء، وربما بدا لبعض مجالسيها أنني أكبر منها. مدت ذراعها فوق كتفي من خلفي محاولة أن تضفي على المشهد شكلا من الحنان فتُكسب الموقف بعض المرونة وتطييب الخواطر، ثم خاطبتني : أأنت ما زلت غاضبا مني ؟ تجاهلت سؤالها كأنها لم توجهه إلي، فلم أجبها بكلمة ، لكنها أحست بنظراتي ودواخلي تقول : نعم. يبدو أن أمي كانت تعلم جيدا أنني لن أتجاوب معها بسهولة، فلم أكن يوما طائعا أو مرنا في التعامل معها، لكنها كعادتها لا تهتم لمشاعر مجالسيها، فهي تنفذ مباشرة لما تريد، فلم تهتم بصمتي، ولم يزعجها سكوني. قالت أنها تثق تماما أنني لا أكرهها، وتؤكد لي أنها تحبني، وأن قلب الأم لا يمكن أن يتخلى عن الحب يوما. ثم انطلقت تحكي لي حكاية طويلة عن والدي الذي بلغها خبر (بيانه) في قبره ، حيث بانت لحيته خارج القبر لساعات في منتصف نهار، بشهادة عدد من الناس، ثم عاد القبر سيرته الأولى بعد أن رفع المادحون والذاكرون أصواتهم بالذكر على ضربات ( النوبة ) والطار ، وأرسلت النساء الزغاريد ، وبكى بعض العارفين بأفضال والدي ، وردد الناس الصلاة على النبي. كل هذا جعل أمي تعتقد في صلاح أبي ، وترى استحقاقه لمشيخة باسمه يكون مركزها هنا في بيتها. وقالت أنها ستتولى إقامة ( حولية ) لوالدي مثله مثل كل الشيوخ الصالحين ، وتريد أن تخصص لي جزءا من البيت وتجلسني خليفة لوالدي . وقالت أنها لثقتها في ابنها - الذي هو أنا – فهي تضمن عودته إلى البيت، وقبوله بالدور الذي قررت إسناده إليه، وأنه لن يرفض لها طلبا . وأضافت أنها وجهت الدعوة لعدد من المشايخ والذاكرين والدراويش، وعامة الناس لتشريفها ، وتشريف ابنها الخليفة على الغداء اليوم ، وإقامة ليلة ذكرٍ مشهودة في المساء . حين افترق والدي ووالدتي لم أكن أعلم عن والدي شيئا من الصلاح ، بل لم يكن متدينا بأي مستوى يميزه عن الآخرين. كان حليق الذقن، كثيف شعر الرأس، يهتم كثيرا بنظافة جسده وثيابه، ويظهر مفتونا بشبابه. لم يقتن مسبحة قط ، وليست له مصلاة خاصة به، ولا إبريق للوضوء، ولا شيء مما اتصف به أهل الصلاح . لكنه كان رجلا شديد الزهد ، مترفعا عما في أيدي الناس ، ولا يعجبه الكثير من تصرفات الغنى التي تصدر عن أمي. كان صامتا أغلب وقته ، يحدّث أمي بصوت منخفض ، ويختلف معها كثيرا حول تربيتنا، ويطلب منها أن تولينا اهتماما ورعاية ، وينصحها أن لا تتركنا نخرج إلى الدنيا من باب الصدفة، إلا أنها لم تكن تتقبل منه نصحا، ولا تنفذ له طلبا. ويوم تركها وودعنا ، كانت أول مرة في حياتي رأيت فيها أمي تبكي بكاء حقيقيا ، انسحب بهدوء وتركها تذرف دمعها، ثم لم يعد بعدها أبدا . وبقينا نحن نعيش في كنف أمي التي لم تتردد في إبداله بزوج جديد ، تماما كما تبدل زوجا من الأحذية. ولم نسمعها أبدا تذكره بخير منذ أن فارقها. ولا أعلم لم اختارت أبي ليلعب هذا الدور من دون ثلاثة رجال تزوجتهم فطلقتهم وماتوا جميعا . نواصل
01-05-2016, 07:42 AM
ودقاسم
ودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146
قلت لأمي لماذا لا نسافر إلى البلدة التي شهدت حدث بيان والدي ونتحقق من الأمر، ونتعرف على تفاصيل حياته في الفترة الأخيرة التي عاشها هناك، فربما أن الرجل قد تغير عما كان عليه هنا، فارتقى ذاكرا وعابدا وسائحا، وسلك طريق القوم العارفين بالله. وربما نجد له هناك أبناء أكثر مني جاهزية وتأهيلا لدور الخلافة لأنه ربّاهم على الزهد والذكر والأدب، يعرفون طريقته ، وأوراده ، وبعض مريديه ، فنسند إليهم دور الخلافة هذا ، وسيقومون به أفضل قيام. لكن أمي لم يعجبها هذا الاقتراح ، فصكت وجهها ، وتمطت ، وتثاءبت ، ورددت دعاءها المأثور ، ثم نهضت واقفة ومدت يدها وأمسكت بيدي ، ففهمت أنها تريدني أن أقف وأرافقها إلى وجهة أرادتها . فأطعتها دون أدنى مقاومة، ودون أن أسألها عن وجهتها، فخرجت بي إلى الصالون الكبير في بيتها وهو مضيَفة متسعة ربما يعدّها بعض الناس بيتا كبيرا منفصلا إن توفرت لهم . مكان نظيف معطر يفوح برائحة الند والصندل ، وقد فرشت أرضيته بالسجاد العجمي الذي ظلت تحتفظ به منذ أن أحضرته معها وهي عائدة من رحلتها للحج قبل سنوات عديدة . وقد أعدت مجلسا وثيرا للخليفة هناك، تحيط به مقاعد لخاصته والمقربين منه . قادتني أمي إلى هذا المكان الذي لم أره من قبل في منزلها، وأجلستني على مجلس قالت إنه مجلس الخلافة ، ثم وضعت عباءة مذهّبة فوق أكتافي، ثم أمرت النساء فأطلقن الزغاريد، وانهالت التهاني من الحاضرين، وكان البيت أصلا يعج بمن يعد وجبة الغداء للمدعوين. وتجمّع جيران أمي وقدموا التهاني لي ولأمي، وبدت على وجوههم فرحة غريبة لم استطع إدراك معناها أو مصدر انطلاقها. إذن السيناريو كان معدا وجاهزا، فلم تكن أمي تقوم بخطواتها تلك بتردد أو بإعادة تفكير، بل كانت تنتقل من خطوة إلى أخرى بسلاسة غريبة ، وكأنها تردد نشيدا حفظته منذ المدرسة الابتدائية. ووسط كل ما يجري حولي كنت صامتا ، لا أكلم أحدا ، ولا أرد على تهانيهم، ولا أبتسم في وجوهم، فظللت جالسا ملتصقا بمجلس الخلافة، لا أتململ، ولا يصيبني اهتزاز. كنت فقط أمد يدي للناس بتلقائية غريبة، وهم يقبّلونها، ويتزاحمون عليها، ويتمنون لي التوفيق ، ويتمنون لأنفسهم النفع بجاهي . يا لبساطة هؤلاء القوم ، إنهم ينقادون لرغبات أمي وكأنها تسحر عيونهم وتسلبهم عقولهم فيتصرفون دون وعي منهم. بعضهم كان يدخل علي منحنيا، وبعضهم ينزل عمامته من رأسه ، ولا أحد منهم يجرؤ على الدخول منتعلا. رأيت من بينهم من هم أكبر مني سنّا، يشاركون في مباركة الحدث، رأيت المتعلمين، ومرسلي اللحي، والنساء والرجال، والشيب والشباب ، والوجهاء ، والبسطاء والسذج ، كلهم يدخلون علي، كثيرون منهم يسعون لنيل البركة، وقليل منهم متطفلون يدفعهم حب الاستطلاع والرغبة في ملء الفراغ. وانتصبت أمي واقفة في مدخل الدار ترحب بالداخلين ، وتودع الخارجين، تشكر لهم مسعاهم، وتؤكد عليهم جميعا الحضور للغداء، والمشاركة في إحياء ليلة الذكر. كانت أمي تدعو لهم بتحقيق مرادهم في زيارة النبي عليه الصلاة والسلام ، وتقول لكل واحد منهم ، قدمك لأبي ابراهيم . وأنا أعيش حالة من تكلس المشاعر أمام المشهد كله، وتتملكني الدهشة وأتساءل كيف استطاعت أمي تمويل كل هذا الذي تقوم به . ولا أعرف كيف أتصرف مع كل هذه التفاصيل ، وما الذي يمكن أن أقوله في مثل هذه المواقف التي لم تخطر لي على بال. لكني كنت متيقنا من مقدرتي على ضبط أعصابي وإخفاء مشاعري الحقيقية، وعدم الكشف عن مدي اقتناعي وإيماني بالدور الذي أقوم به. كان البيت قد تحول كله إلى مسرح كبير يقوم الممثلون فيه بإتقان أدوارهم وإجادتها كأنهم قد تدربوا عليها خلال عدد من البروفات ، وتعلموها على يد أمهر المخرجين. وقد لبسوا جميعا أزياء تناسب أدوارهم التي أسندت إليهم . وكنت أحس أن العرض كله معدٌ ومنتجٌ لصالح أمي ، لكني ما كنت أفهم مراميها ومقاصدها وتفاصيل حساباتها، إلا أنني كنت متأكدا أنها لن تفعل شيئا أو تتصرف تصرفا يكلفها آلاف الجنيهات مالم تكن قد عرفت تماما نصيبها المادي منه. تجمع حولي عدد من الدراويش في جلابيبهم الملونة ، كل الألوان تجتمع هنا ، وبعضهم أرسلوا شعورهم، وبعضهم جعلوا من شعرهم جدائل ، وكلهم متمنطقين بأحزمة ملونة تتطابق او تتنافر مع الجلابيب، لكنها في مجموعها تمثل لوحة زاهية الألوان بصرف النظر عن عمق معانيها أو سطحيتها. لا أعلم من حضّر لهم تلك الأزياء وبهذه السرعة، أم أنّ أمي كانت ترسم خطتها وتنفذها منذ فترة ليست بالقصيرة فأعدت لكل شيء عدته؟ لا أرى أحدا يندهش أو يتفاجأ بوجودي على مقعد الخلافة، وأنا النافر عن الدين وتفاصيله طيلة العمر. ولا أحد يسأل عن مصداقية حكاية والدي الذي اكتشف الناس صلاحه بعد موته ببضع سنين ، وليس هناك من يريد أن يشغل باله، فهم فقط يرون ما تحت أرجلهم. هم الآن يهتزون بعنف في حلقة الذكر، يكبرون، ويهللون، ويتمايلون طربا حتى يتصبب منهم العرق. وأنا جالس في منتصف الحلقة كمركزٍ قابضٍ يحرك أطرافا بعيدة بإشارة منه، والناس يطوفون من حولي يضربون النوبة والطار والرق ويهزون الكشاكيش، فتخرج النغمات مرتبة ترتيبا يهتز له حتى من لا قلب له. والغبار يتطاير حتى يغطي المصابيح المعلقة في الأعمدة التي تم توزيعها بعناية فائقة، فيقع ما ينفذ من ضوئها على رؤوس الذاكرين فترى ظلالهم وكأنها شجر يتحرك ويتمايل بفعل ريح عاتية . لا أعلم كم مر من الليل، وأنا ما زلت متماسكا، أحافظ على صمتي، وأحبس ابتسامتي، مصطنعا جدية لم أعهدها في حياتي كلها. وكانت النساء أيضا حاضرات ، حضورا كاملا ، وقد وقفن في الجانب الغربي من الحلقة، فطربن بالقصيد، واهتزت أجسادهن لضربات النوبة، وقد تبينت بينهن بصعوبة زوجتي وأمها. ومن المؤكد أنهن لا يصدقن أكاذيب أمي، ولم يأتين للسلام علي أو للتهنئة ، لكن ربما جئن إلى هنا بدافع حب الاستطلاع ، ولمعرفة الذي يدور هنا وأنا جزء منه. ولم أكن أعلم لم صمودي حتى الآن على موقف هزيل مثل هذا لم أكن سأقتنع به لو أنه طرح في حوار جاد ، فبقيت في صمتي ذاك أسخر من نفسي ، وأستغرب طول صبري. إلا أني كنت مقتنعا أنني لا أستطيع أن أنهي المسرحية كيف ومتى أردت ، وكنت أخشى عيون أمي التي بثتها في كل أرجاء البيت ، كما خشيت من انهيار أمر خططت له أمي طويلا دون أن أفهم حقيقة جدواه ومراميه وأبعاده .
01-05-2016, 10:08 AM
ابو جهينة
ابو جهينة
تاريخ التسجيل: 05-20-2003
مجموع المشاركات: 22761
فمددت حبال الصبر طوالا حتى جاءتني أمي تشير علي بالانصراف ، وهي توجه كلاما للناس أتت به من عندها وحدها. كانت تقول لهم : تعب الشيخ وأرهقه الجلوس الطويل ، ولابد أن يرتاح قليلا ليتهيأ لقيام الليل وليكون حاضرا في صلاة الفجر، ثم نادت على أحد الدراويش وأمرته أن يدعو للحضور. هذه المرأة تتمتع بمقدرة عالية على نسج الأحاديث والروايات وابتدار الكلام ، ولو أنها استغلت هذه القدرات استغلالا حسنا لأصبحت من أكثر كتّاب القصص والروايات خيالا وإبداعا، لكنها ، وهي التي ظلت تفعل كل هذه الأفاعيل ، وتخرج كل هذه الأقوال ، إلا أنها مع ذلك كله تجهل تماما هذه المقدرات ولا تستطيع لها تطويرا، إنما تستغلها فقط في توليد المال . طلبت من أمي أن تسمح لي بالذهاب لأقضي بقية الليل هناك مع زوجتي في بيت أمها ، لكن كما يبدو كان ظن أمي قد ذهب إلى أنني استوعبت الدور تماما، واستطعت أن أؤديه وأنا مستمتع به. ففوجئت بطلبي هذا ، واستغربت أمي كيف يتنازل شخص مثلي عاش حياته كلها في الفقر، عن دور مثل هذا ربما يفتح عليه أبوابا واسعة تكيل المال كيلا ، وطلبت مني أن لا أغلق بابا فتحه الله لي للتوبة والغنى والصيت. لكن إصراري جعل أمي ترتب أمر إعادتي لبيت سلوى بعربة قالت لي بعد أن ركبتها أنها أهدتها لي وطلبت مني أن أدعو لها حتى تعمها بركاتي وتنتفع بجاهي. غريب أمر هؤلاء الناس ، أمي نفسها تقول هذا، وترفع صوتها ليسمعها الآخرون. وهكذا، مثل حكايات أشعب القديمة ، يكذبون على الناس وعلى أنفسهم ، ثم يصدقون الكذبة ويحاولون اللحاق ببعض ما تأتي به من ثمار ، إن كان للكذب ثمار . وكنت قد رأيت أمي تجمع أموالا كان يضعها الذاكرون أمامي ، وتوزعها على المادحين وضاربي النوبة ، وبعض الفقراء الذين اعتادوا على عطائها ، ولم تدخل في جيبها فلسا واحدا منها في تلك الليلة . وكدت أمام تصرفها هذا أصدّق أحابيلها ، وأعتبرها نصيرة للفقراء ، غير أنه فجأة قفز في ذهني صديقي أبرهة ، هكذا كنا نناديه ونحوّر اسمه من إبراهيم إلى أبرهة . كان أبرهة رجلا عميق الفهم دؤوب السعي على إعانة الفقراء ، وهو دائما يردد : الفقر لا يأتي من الله ، بل هو عمل وقح يقوم به الأغنياء بدأب شديد، فهو ليس فعلا عابرا يولد صدفة ، أو يختفي صدفة ، بل هو نتاج عمل طويل يخطط له الأغنياء بفهم استراتيجي طويل المدى ، وعندما يتمكن الفقر من غالبية الناس ، يظل مسيطرا عليهم بقية عمرهم، ويظل الأغنياء على غناهم ، بل يزدادون غنى، لأنهم ببساطة أخذوا نصيبهم واستحوزوا على نصيب غيرهم . إذن ، أمي تسعى لإقامة مشروع ديني يدر دخلا ماديا ضخما تتوقع أن لا ينقطع أبدا ، لكنها تريد أن تجعل مني حصان طروادة لتبلغ أهدافها ، وأنا لم يبق من عمري الكثير لأمنحه لأمي لتصنع منه مجدا لا تستحقه ، ولم تبذل جهدها يوما معي ولا مع أبي ليكون لها شرف الوراثة . عندما طردتني أمي من بيتها وأنا شاب أتحسس طريقي للمستقبل ، كانت تنظر إلي أنني لن أصبح رجلا ذو فائدة في يوم من الأيام . كانت تتصرف تصرفها ذاك بحساباتها هي ، ولا تحسب حسابا للزمن، ولا تنتظر أن يأتي الله بما يغير أحوال عباده. وهي الآن حين تراجع مكتسباتها المادية تجد أنها قد حققت نجاحا كبيرا ، وتؤكد لنفسها أنها تصرفت في السابق بحنكة وحكمة حين قامت بطردي من البيت ، فقد تكاثرت ثرواتها ، واتسع بيتها، وأصبح لها خدم وحشم ، وأناس يدخلون عليها يتزلفونها ويطلبون عطاءها ، ويكيلون لها المدح والثناء. وحققت لنفسها ومن حولها من أبنائها وأحفادها سعادة كبيرة ، فدللتهم وأطلقت أيديهم ليخربوا بها مستقبلهم وكلهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا . ثم أنها طلبت عودتي إلى البيت تماما في وقت حاجتها، وفي مرحلة جديدة تحسب أنها ستكون مسك الختام في حياتها اللاهثة خلف الغنى، إنها تفتح بابا واسعا يبقى مفتوحا حتى للورثاء . وقد أدركت - بحساباتها أيضا - أنني سأكون مفتاحا لهذا الغنى إن تمكنت من استغلالي على الوجه الذي تتوقعه ، وما أنا إلا بداية لخلافة تمتد بعدي لأجيال من أحفاد أمي ، وهي تعلم أنها ستبذل صبرا طويلا لإدراك غايتها ، لكنها – كما تظن – ستجد ضالتها في نهاية الأمر . عندما دخلت بيت سلوى ، كان الليل في منتصفه، لكن أناسا عديدين كانوا هناك . حسبت ان أحدا من أهل البيت قد أصابه مرض أو وعكة في منتصف الليل ، فاجتمع حوله الجيران يقدمون الدعم والعلاج والعون . لكني سرعان ما اكتشفت أنه تجمّع تلقائي يهدف لتقديم التهاني لزوجتي وأمها بانتهاء المشيخة إلي ، فلما دخلت عليهم انهال الناس يقبلون يدي ويرجون بركاتي ويتدافعون للقائي. إذن هذا الكابوس يتمدد حتى يصل إلى هذا البيت الذي شهد الكثير من الجدل حول ضرورة محاربة الدجل والكذب والنفاق ، وكثيرا ما نادى الذين سهروا فيه واستمتعوا بليالي الأنس هنا برغبتهم في محاربة الفقر ومسبباته ، وإضعاف سطوة الأغنياء وكسر سلطانهم ، وفك قيود الفقراء وانطلاقة الثورة . لكن هذه الأفكار ظلت حبيسة في صدور دعاتها ، وبين حوائط البيوت التي تدار فيها هذه الحوارات . والآن تنتشر نيران الدجل وأخباره لتملأ المدينة كلها ، وتنتقل بواسطة الضحايا أنفسهم من بيت إلى بيت وفي سرعة خرافية لتطفئ كل بقعة ضوء تسعى لنشر الوعي والاستنارة . ولما تيقنت من هدف القوم انفجرت في وجوههم دونما مقدمات ، وصحت بهم أن اخرجوا من هذه الدار. لا أريد أحدا هنا غير أهل البيت . لست دجالا ولا منافقا، ولم يتغير شيء في حياتي فأنا الذي ذهبت منكم بالأمس وأعود إليكم اليوم دون أن يمس حياتي أمر جوهري ، ولم تكونوا من قبل من زوار هذا البيت.
نواصل
01-10-2016, 12:57 PM
ودقاسم
ودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146
لكن الناس ظلوا يتقاطرون على بيت سلوى بشكل يومي ، وبعضهم لا ينصرف مطلقا بل يظل مرابطا يقضي الساعات الطوال ينتقل من ظل إلى ظل ، وكلهم ينتظرونني لأخرج إليهم، أو أدخلهم علي، وأنا لا أستطيع أن أنفي صلاحا لم أدّعيه لأن الآخرين هم الذين فرضوه علي ، ولا قدرة لي على إثباته لأني أصلا لم تكن لي علاقة بصلاح في الدين. قلت في نفسي أنني لابد أن أستعين بصديقي أبرهة، فهو أقدر مني كثيرا في إداراة الحوارات وإقناع الناس ، وهي فرصة له ليستمتع بالحوار مع كل الذين يمكن أن يدخلوا إلى بيت سلوى من مستويات مختلفة من الناس يبحثون عن البركة والنفع بالجاه ، فهو أصلا محب للحوار وله سعة بالٍ وأفق . اتصلت بأبرهة عند منتصف النهار فوجدته قد صحا من نومته التي عادة تمتد لأكثر من ذلك . وعاجلني بالسؤال: أين كنت البارحة يا رجل ؟ بحثنا عنك في كل مكان فلم نعثر عليك حتى ظننا أن الأرض قد ابتلعتك. فطمأنته علي ، وقلت له أنني أحتاجه في أمر هام وعاجل ، وطلبت منه أن يمر علي في البيت، فلم يتردد في قبول طلبي ، واختتم بقوله : ظننتك مت ياصديقي، إن الكلاب طويلة الأعمار. لكني كنت أتوقع أن يكون قد بلغه خبر مشيختي الذي ذاع وتلقفته الصحف في صباح اليوم التالي، فوجدت أبرهة لا يعلم شيئا عن الأمر. كان أبرهة يتمتع بمقدرة فائقة في تبسيط الحوار لكثير من الناس الذين ظلوا يترددون علي في بيت سلوى ، يحدث الناس بلغتهم ولا يتعالى على أحد، يتناول الأمثال ، يرتب حديثه جملة جملة ، فقرة فقرة، ويجيد استخدام المترادفات ، وتبدو عليه جدية تجذب الآخر. وكانت أمي في الناحية الأخرى تعد الناس وتطمئنهم بأنني سأعود بعد سفر لزيارة قبر أبي . تقول ذلك وهي تعلم تماما أنني متمترس ببيت سلوى ، بل وتعلم أن أناسا كثيرين يأتون للسلام علي هنا، فيحدثونني وأحدثهم ، ويستمعون إلى أبرهة وأفكاره حول الفقر والغنى ، وكثير منهم يصبح جزءا من مجلس أبرهة اليومي، وبعضهم ما يزال يعتقد بصلاحي وبركاتي وينتظر مني المدد. وقد بلغ الأمر ببعض الناس أنهم ادّعوا الشفاء من أمراض مزمنة بمجرد زيارتهم لي وتقبيلهم يدي ، فانتشرت الأخبار وذاع صيتٌ كاذب عن قدراتي الخارقة للعادة . لكن المجموعة التي تنضم إلى فريق أبرهة كانت أكبر، فكثيرون جذبتهم أقواله ، وشدتهم طريقته في الحوار ولباقته وبساطته ، لكن ليس مقارنة بفريق أمي ، فذاك فريق قوي لا يتزعزع، فهو مدعوم بتمويل مالي كبير جعل منه مؤسسة اقتصادية ضخمة لا تتأثر بفكر أبرهة وأمثاله. ولا يملك أبرهة حيال هذا الفريق إلا أن يردد : رأيت الناس قد مالوا إلى من عنده المال . عاش أبرهة حياته ببساطة دون تكلف أو تصنّع، وأنا أعدّه من أزهد الناس وأعفّهم ، لا يبغض الناس، ولا يحسدهم ، ولا يجر نفسه إلى المنافسة فيما لا يستحق المنافسة، ولا يتكالب على أمر مادي يتعارض مع مبادئه. كان يقضي وقتا طويلا في القراءة، يتنقل بين الكتب والمجلات والصحف، ويحمل جملة من المبادئ الرفيعة، يؤمن بها إيمانا قاطعا فلا يحيد عنها قولا ولا فعلا، وبحسب ما يرى هو، فإن أقواله ، وأفعاله ، مطابقة لتعاليم السماء. كان يريد للإنسان أن يكون عزيز النفس، ساعيا إلى الخير، نفورا من الشر والعنف ، صادقا مع نفسه والناس من حوله، مطمئنا لعلاقته مع ربه. لكنه كان يشكو من عنت الناس، وشدة خوفهم وجزعهم من ضعف الأرزاق، وتبريرهم لما هم فيه من الضعف بقلة الحيلة، فكان يصر على من يلقاهم ويحدثهم أنهم أقوياء ، أسوياء ، كاملي العقول، يمكنهم أن يمدوا آمالهم وتطلعاتهم الإنسانية لتبلغ الثريا . وسلوى التي عاشت عمرها كله تصنع العرق وتبيعه وتعيش مما يدر عليها من دخل، دخلت علي وقبلت يدي، وأقسمت أمامي أنها لن تبيع الخمر بعد هذا اليوم. قالت أنها ستبحث عن نشاط آخر حتى لا يقول الناس أن زوج ابنتها – الشيخ – يقتات من العمل الحرام. ولكي أكون صريحا، فقد خفت وارتجفت لقرار سلوى، فأنا وزوجتي وأولادي تربينا مما كانت تقوم به سلوى من عمل وتجارة، وتعلّم أولادي مما صرفته عليهم سلوى، بالرغم من أنهم نسوا ذلك كله بعد أن أصبحوا رجالا منتجين وسافروا ليعملوا في البلدان الغنية، فتنكروا لي ولأمهم ولجدتهم، وقالوا صراحة أن كل البيت يعيش على الحرام وهم يعدون أنفسهم براء من ذلك. وسلوى امرأة حساسة ونبيلة ، قريبة مني، تحب زوجتي وتحب أولادي رغما عن كل ما فعلوه معها. أحست سلوى بخوفي، وأشفقت علي منه، فقالت لي دون مقدمات: منذ اليوم سيكون هذا البيت بيتك أنت، لن أقبل أن يقول الناس عليه بيت سلوى، هو لك ولضيوفك وزوارك ومريديك. ولو كنت شخصا مجهولا أو جديدا على سلوى لوجدت لها العذر، لكنها تعرفني جيدا، وتعرف تفاصيل حياتي وتاريخي، مما جعلني أزداد دهشة، وخوفا وأتساءل في نفسي : ما الذي جعل امرأة مثل سلوى تتخذ قرارات مثل هذه، وما الذي جعلها تصدّق أنني شيخ أستحق أن يتبعني الناس، ويكون لي حواريين ومريدين، وأُصبح فجأة مصدرا للبركة والنفع ؟
01-07-2016, 09:33 AM
ودقاسم
ودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146
صديقي أبوجهينة لك التحية والمودة الثرثرة جزء من مكوننا الشخصي .. وأحيانا نجد الفرصة للكتابة .. وسودانيزاونلاين أتاحت لنا فرصة أكبر شكرا لمتابعتك واصل معاي فرأيك يهمني
01-06-2016, 12:26 PM
ودقاسم
ودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146
Quote: ذن هذا الكابوس يتمدد حتى يصل إلى هذا البيت الذي شهد الكثير من الجدل حول ضرورة محاربة الدجل والكذب والنفاق ، وكثيرا ما نادى الذين سهروا فيه واستمتعوا بليالي الأنس هنا برغبتهم في محاربة الفقر ومسبباته ، وإضعاف سطوة الأغنياء وكسر سلطانهم ، وفك قيود الفقراء وانطلاقة الثورة . لكن هذه الأفكار ظلت حبيسة في صدور دعاتها ، وبين حوائط البيوت التي تدار فيها هذه الحوارات . والآن تنتشر نيران الدجل وأخباره لتملأ المدينة كلها ، وتنتقل بواسطة الضحايا أنفسهم من بيت إلى بيت وفي سرعة خرافية لتطفئ كل بقعة ضوء تسعى لنشر الوعي والاستنارة .
01-10-2016, 02:20 PM
doma
doma
تاريخ التسجيل: 02-04-2002
مجموع المشاركات: 15970
Quote: ذن هذا الكابوس يتمدد حتى يصل إلى هذا البيت الذي شهد الكثير من الجدل حول ضرورة محاربة الدجل والكذب والنفاق ، وكثيرا ما نادى الذين سهروا فيه واستمتعوا بليالي الأنس هنا برغبتهم في محاربة الفقر ومسبباته ، وإضعاف سطوة الأغنياء وكسر سلطانهم ، وفك قيود الفقراء وانطلاقة الثورة . لكن هذه الأفكار ظلت حبيسة في صدور دعاتها ، وبين حوائط البيوت التي تدار فيها هذه الحوارات . والآن تنتشر نيران الدجل وأخباره لتملأ المدينة كلها ، وتنتقل بواسطة الضحايا أنفسهم من بيت إلى بيت وفي سرعة خرافية لتطفئ كل بقعة ضوء تسعى لنشر الوعي والاستنارة .
01-11-2016, 05:31 AM
ودقاسم
ودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146
جاءت أمي بنفسها إلى بيت سلوى ، وذلك بعد أن استمر غيابي عن بيتها أسبوعا كاملا ، فطرقت بابنا ، واستُقبلت أحسن استقبال من جانب سلوى وبناتها. شربت العصير، ورشفت الشاي، وتحدثت إلى بلطف لا يدانيه لطف في هذه الدنيا. قالت لي أنها تقدّر أحوال الناسكين والعبّاد من أمثالي، وأنها تعلم أحوال القوم السالكين طريق الحق، فهم دائما يميلون إلى العزلة والخلوة حتى يتفرغون للذكر، وأنها تعلم أن تدافع الناس علي في بيتها يزعجني، ولا يمنحني الفرصة لخلوة الذكر والعبادة ومناجاة الخالق. وهي تعتذر عن الإعلان الواسع الذي قامت به وأعلنت فيه للناس ولايتي وصلاحي، فتنادى الناس من كل حدب وصوب يباركون ويهنئون ويرجون البركات. وهي الآن جاءت لتطلب مني أن أعطي مجلس الخلافة ومركزها حقه، ولأنّ المريدين ينتظرونني على أحر من الجمر، فلابد أن أعود إليهم خاصة وأنّ بعضهم من ذوي الحاجات، وهي تراني من الذين يقضون حاجات الناس. لم أرد على ترهات أمي أكثر من تبسمي في وجهها بسخرية قاسية، غير أنها لم تكن تهتم بسخريتي، فهي الآن تعدني من أهل الباطن، وتعتبرني الكنز الذي ما يزال مختبئا في مكان آمن، وهي الوحيدة التي تمتلك مفاتيحه، وتعرف كيف تخرجه وتسبر أغواره فيعود عليها مالا وفيرا وجاها وسلطانا. تريدني أن أهجر مجالس الغناء والطرب، وأغيب عن مجالسة الشعراء والأدباء والناشطين ، فتغيب بهجة روحي، ويتقطب جبيني، وأدخل إلى عوالم لا دراية لي بها. ظلت أمي جالسة أمامي تبذل الرجاء تلو الرجاء، تتوسلني ، وتطلب عودتي إلى البيت ، وترجوني أن لا أتأخر، ثم أضافت أنها مستعدة لاستقبال زوجتي وأمها أيضا بمنزلها، وأثنت عليهما ثناء حسنا، ونسيت كل الصلف والتعالي الذي كانت تواجههن به في الماضي، واعتبرتهما قد حفظتا الأمانة حتى حان موعد القطاف، ولم تنس أن تذكّرهما أنه قد آن موعد رد الأمانة إلى أهلها. وهكذا وجدت نفسي في حيرة ممتدة تلتف حولي كدائرة خبيثة لا أرى منها فكاكا ، فإصرار أمي لا يتوقف عند حد، ورجاءاتها لا تنقطع ، وأنا لا قدرة لي على قبول ما تطلبه مني ، ولا أستطيع أن أمثّل هذا الدور أكثر من ذلك ، والناس من حولي يجتمعون وينفضون ، ويحاولون أن يخلقوا مني صنما يعبدونه . وأمي تريد أن تأخذني من زوجتي وأمها وبيتهما الذي ضمني حين شردتني هي ، وتريد أن تفرق بيني وبين أصدقائي الذين شكلوا وجداني وأصبحوا جزءا من تفاصيلي . لكني رغما عن خوفي وحيرتي وصمتي ، فإني أتمتع بعزيمة لا تلين، ولن أدع لهم سبيلا ليتمكنوا من هزيمتي، فأنا متمردٌ، ونافرٌ أصلا عن مثل هذه المفاهيم، مترفع عن مثل هذا العبث ، لكني لم أستطع بكل محاولاتي نفي صلاحي، وانعدام البركة في شخصي، ولم أتمكن من انفضاض الناس من حولي حتى لو بذلت من فظاظة القلب وغلظته ما لم يستطعه الأوائل . وبدا لي الناس من حولي كأنهم من نسل آل فرعون، يسومهم سوء العذاب وهم يتبعونه ، ويؤلهونه ، حتى تكبّر وعلا في الأرض فقال لهم أنا ربكم الأعلى. هؤلاء الناس البسطاء يعيشون الحياة في أضيق هوامشها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، تعصرهم الحياة عصرا فيلوذون بالأوهام ، يبحثون عن أي خيط يعتبرونه منجيا من كل أو بعض منغصات حياتهم ، يبحثون عن العلاج والغذاء والكساء، ولا يبالون أي وسيلة يستخدمون. يظنون أن الأشياء يمكن أن تأتيهم طوعا دون أن يسعون إليها ، ويرون أن بعض البشر يمتلكون قوة خارقة تجعل الحياة أكثر يسرا بمجرد رفع أكفهم إلى السماء. وهاأنذا يتم اختياري ضمن فريق الخارقين، فتصرف أمي أموالا كثيرة في يوم تنصيبي خليفة لوالدي، ويبذل الناس جهدا كبيرا للقائي، يضيعون وقتا ثمينا في لاشيء، ولو أنهم جميعا بذلوا هذا المال وهذا الجهد في أمر يفيدهم، واستثمروا وقتهم الذي يضيعونه معي ومع غيري ممن يعتقدون صلاحهم، لجنوا ثماره عملا وإنتاجا ووفرة. لكن أمي ظلت تسعى لاستدراج السذج والبسطاء والفقراء، تبذل لهم المال والوعود، وهم لا يعلمون أنها تنتظر أن تجني أرباحا طائلة من هذا العمل، وتؤمّن لأحفادها مصدرا للرزق لا يجف ولا ينقص. فيكتشفون بعد حين أنهم كانوا ينظرون فقط تحت أرجلهم، وأنها كانت تنظر بعيدا لتحصد المستقبل. غاب عني أبرهة دون أن أعلم أين ذهب ، ولم غاب، وهو يعلم أنني أحتاجه بشدة ولا أتوقع منه أن يغيب في هذا الظرف، فأنا أحتاج إليه في كل لحظة. ولو أن أبرهة كان معي لدخل في حوار مع أمي، وربما أقنعها بعدم جدوى مشروعها، وعدم قانونيته، وانعدام البعد الإنساني فيه. لكن هل كانت أمي ستقتنع برؤية أبرهة رغم أنها مبنية على المنطق والحيثيات الصادقة، وهل هي أصلا تصدّق زعمها بأنني شيخ عارف بالله أمد البركة والنفع لمن يطلبهما؟ لا أعتقد أن أمي ساذجة لهذا الحد، لكنها تنشيء مشروعا اقتصاديا لا مشروعا دينيا، مشروعا يقوم على استغلال البسطاء وتقريب حاجتهم إليهم ، وهم يرونها كسراب بقيعة، دون أن تصل أيديهم لتلامس هذه الحاجة. مجرد الترغيب، واللعب على عقول الناس، وتخديرهم . ولو أن أبرهة كان موجودا إلى جانبي لواجه أمي بهذا الحديث دون مواربة، ولشرح لها تفصيليا سوء فكرة الاستغلال البشعة والتي تستهدف أناسا ضعفاء لا حيلة لهم، ولا يعون مصالحهم، ولا يعلمون كيف يمكن أن يغيروا ما بأنفسهم ليغير الله ما بهم. أبرهة يفهم جيدا سلوك الأغنياء، يفهم كيف يبنون سلطانهم، ويدرك معنى وحدود كرمهم وتصدّقهم، ويحيط بالكثير من معاني الدين ومقاصده. والناس يجلسون خارج البيت، وتحت ظلال شجرتي النيم، ينتظرون الدخول علي لنيل البركات، وقضاء الحاجات، وأمي جالسة أمامي تستخدم كل الحيل والأساليب لتأخذني معها إلى مركز الخلافة في بيتها حيث ينتظرني أناس كثر هناك . وأنا أتردد بين حيرتي وصمتي، أحدث نفسي بالهرب من هذه الدوامة القاتلة، أو الانفجار في وجه أمي وتابعيها، والشيطان يوسوس لي أن أقبل بعرض أمي وأواصل تمثيل الدور حتى النهاية. دخلت علينا زوجتى بوجه متهلل أحسست منه الرضا والانتصار.هذه المرأة دائما تمنحني الأمل، وتحمل إلي البشريات، وتقف إلى جانبي في كل تفاصيل المحن، وتجعل من لسعات الحياة المرة عذوبة لا مثيل لها. اقتربت مني، مالت قليلا حتى لامستني، ثم حدثتني في أذني، وقالت، أن أبرهة ينتظر بالباب لكنه لا يستطيع الدخول من شدة الزحام . ونواصل
01-13-2016, 07:46 AM
ودقاسم
ودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146
لم أكن أعرف أن أبرهة قد سافر سفرا بعيدا ليزور قبر أبي ويتعرف على تفاصيل ولايته وحكاية البيان المزعوم إلا بعد أن أخبرني هو بذلك . قال إن أبي مكث في غيابه عشرين عاما، تزوج، وأنجب، لكن ذريته تبعته إلى الدار الآخرة وهم في سن الشباب، ماتوا بالفقر والجوع والمرض حين لم يجدوا عائلا يعولهم. ثم ماتت زوجته التي عانت كثيرا من مرض السل. وقال أهلها لأبرهة أن أبي عاش بينهم فقيرا معدما ورحل من الدنيا معدما، لم يترك مالا ولا متاعا هناك، ولم يترك بيتا، فقد كان يقيم مع أصهاره حتى توفاه الله، فرحل ولم يترك شيئا يذكر، وانقطعت ذريته بالموت. وقد عرفت من أبرهة أنه جمع تكاليف السفر من بعض الأصدقاء، واصطحب أحدهم إلى هناك. لكنه لم يجد أثرا أو خبرا عن حكاية (البيان ) التي نسجت أمي حولها كل آمالها وأحلامها، وبنت عليها مستقبلا في الهواء، وحلمت بالجاه والثروة الآتية من ورثة أبي الذي صوّرته شيخا يتبين ويُخرج من قبره جزءا من جسده، وهذا استدلال على الصلاح والبركة ومدعاة لإقامة الحولية، والخلافة لهذا الولي الصالح ، والتي يستحقها أبناؤه من بعده. ثم تستمر الخلافة متنقلة إلى الأحفاد، وتصبح حقا دينيا للأسرة إلى يوم الساعة. قال أبرهة أنه سأل أهل القرية االتي عاش ومات فيها أبي فلم يجد أحدا رأى أو سمع بخبر البيان، وأفادوه أن أبي عاش حياة عادية وسط الناس، ولم يكن متدينا أو عالما بأمر الدين، أو فقيها، إلا أنه كان رجلا مسكينا، عاش بين الناس بنفس طيبة، وروح سمح. لكنهم الآن لا يعرفون قبره من بين بقية المقابر، وليس بين المقبرة كلها أموات متميزين، وقد أتاهم سيل قبل بضعة أعوام فساوى كل المقابر بالأرض، فلم يعودوا يميزون مقابر أمواتهم. كانت أمي تستمع لرواية أبرهة باهتمام كبير، لكنها بدت ممتعضة من تطفله وقيامه بهذه الزيارة دون إذن من الخليفة وأسرته. وقد وقع الخبر عليها وقع الصاعقة، فهو خبر ينسف الفكرة من أساسها، ولا يترك فرصة لأحلام أمي وتطلعاتها غير المشروعة. تقطّب وجه أمي، واحمرّت عيناها حتى ظننتهما تقدحان شررا، وارتجفت أطرافها حتى خفت عليها من الانهيار التام، أو الموت الفجائي في تلك اللحظة. هي لا تعرف أبرهة ولم تره قبل هذا اليوم، وهو أيضا لم يكن يعلم أن المرأة الجالسة أمامي هي أمي، وقد قصدت أن لا أعرّفهما على بعضهما تحاشيا لأي صدام ينتج عن التنافر الحاد في الأفكار والمباديء. لكن يبدو أن أبرهة قد عرف يقينا أن هذه أمي، وتلمّس غضبها واستنكارها لروايته، وصمتت هي عن الكلام، لكن جسدها ينتفض انتفاضة خفيفة كمن به رعشة برد ناتجة عن الحمّى. وظلت هي وأبرهة يتحاشيان بعضهما ويتبادلان النظر لبعضهما خفية ، كل واحد ينظر إلى الآخر دون أن يشعره بنظرته، ثم يشيح بوجهه بعيدا حتى لا يمكّن الآخر من قراءة مشاعره . أمسكت بيد أمي بحنو بالغ، وقدتها نحو الباب وأخرجتها من الغرفة التي شهدت رواية أبرهة عن والدي. وطلبت من الجالسين بالخارج أن ينفضوا ويأتوني غدا، ووعدتهم أنني سأتفرغ لهم كليا. ثم اختليت بأمي في فسحة الحوش المفروشة بالرمل. أجلستها فوق السرير تحت شجرة النيم، ثم قبّلت جبينها، وشعرت لأول مرة بإحساس الانتماء إليها ومسحت الماضي كله وجعلته خلفي، ثم أُلهمت في تلك اللحظة أن أقرا سورة الفاتحة واتفل عليها تماما كما يفعل الشيخ المعالج. قامت أمي منتفضةً، معتدلة الجسد كأنها بنت عشرين، واختفت الرجفة في أطرافها وعادت سليمة نشطة كما كانت ليلة إجلاسي على مقعد الخلافة المزعوم، وحضنتني إليها، وظلت تربت على كتفي، ودخلنا أنا وهي في نوبة بكاء هيستيري فبقينا كتوأمين سياميين ملتصقين من جهة القلب لا يستطيع أمهر الأطباء فصلهما. لأول مرة أحس أن لي أم، وأنني خرجت من رحمٍ، وأن أمي أيضا تحمل كبدا رطبة، وقلبا ينبض بالحب، وأيقنت أنها قد فعلت معي كل الذي فعلته لأنها كانت تحبني وتحب لي الخير، لكن على طريقتها هي. لو أن أمي لم تكن مطلقة من أبي لكانت أورثت نفسها الخلافة، ولربما دخلت موسوعة قينيس كإمرأة رائدة باعتبارها أول امرأة في الإسلام تتقلد الخلافة، لذا فهي رأت أن تنقلها إلي، وأن تبذل جهدا ومالا لتجعلني خليفة لأبي الذي رمته زورا وبهتانا بتهمة المشيخة، وهذا خير لها من أن تتركها لأبناء زوجته الأخرى. لا أعلم من نقل خبر البيان لأمي ، وكيف تأكدت هي من صحة الخبر لتعلنه على الملأ وتخلق منه حدثا يشغل المدينة كلها. أم أنه جهد خيالها وإخراجها زيّنه لها شيطان المال فلقّنها الدور كاملا، ووعدها بانسياب الرزق والبركة دون جهد. سمع أبرهة وزوجتي وأمها بكاءنا أنا وأمي فخرجوا إلينا دفعة واحدة ، ثم ما لبثوا أن اشتبكوا معنا في بكائنا وتلاصقنا، دون أن يعلموا بما حدث أو يعرفوا شيئا عن ما دار بيني وبين أمي. ثم بدأ المنتظرون خارج البيت في الدخول، يدخلون علينا فرادى وجماعات، ثم يدخلون تلقائيا في نوبة البكاء الهيستيري. فاجتمع البشر في حوش سلمى ومن حوله كما لم يجتمعوا من قبل في أي مكان من هذه المدينة، ومعظم هؤلاء كان يبكي بصوت عالي وبدأ بعضهم بالتهليل والتكبير. وأتى ضاربي النوبة والطار والمادحين من كل صوب، وقامت ليلة ذكر لم يخطط لها أحد، ولم يُقم لها أحد وليمة، وجلسنا انا وأمي وأبرهة وزوجتي وأمها على السرائر، جلسنا كأننا ارتضينا لأنفسنا أن نكون مجلس الخلافة، وظل بقية الناس يدورون ويتمايلون ويهتزون من أثر ضربات النوبة ومعاني القصيد. وقامت سلوى وأخرجت تمرا كانت في الماضي تدخره لتصنع منه العرق، والآن لا تجد له حاجة، فوضعته أمامي في طبق كبير لأنثره وسط الحلقة وفوق رؤوس الحضور ليأكلوا منه رزقا وبركة . وقبيل الفجر قامت أمي ترسم سيناريو انتهاء حلقة الذكر، فطلبت من الذاكرين مدحة الختام، فأدوها بشكل جماعي، وكأنهم كورال تم تدريبه جيدا، فكان أداؤهم رائعا ما يزال صداه يتردد في أذني. ولما انتهوا من قصيدهم، رفعت يدي تلقائيا بالفاتحة وأُلهمت دعاء أبكاهم جميعا، وانصرفوا إلى بيوتهم مهللين مكبرين بعد أن تناولوا تلك الشحنة الروحية التي ظننتها ستكفيهم شهرا يبتعدون فيه عني وعن بيت سلوى . ونواصل
01-18-2016, 07:22 AM
ودقاسم
ودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146
لا أجد وقتا للراحة، فأصبح وقتي موزعا، حيث اتفق أبرهة – الذي أصبح مديرا لأعمالي- وأمي على تقاسم زمني بين بيت أمي وبيت سلوى. وتقاربت العلاقة بين أمي وسلوى حتى بلغت مرحلة الحميمية، ودخل أبرهة وأمي في علاقة يمكن أن نسميها نوعا من الصداقة الحذرة، وبدت أفكارهما تتسق وتتوافق، لا يخالفها الرأي ولا يعصي لها أمرا. كان هو ينفذ توجيهاتها بفهمها هي، ثم يأتيني ويشرح لي ما يقوم به بفهمه هو، ثم يتمم حديثه دائما بقوله: أليست الأعمال بالنيات يا صديقي ؟ وهنا وهناك يجتمع الناس دون نداء، ويطيلون الجلوس والانتظار، وبعضهم ينام في أي ركن من أركان البيت. كلهم ينادونني بإسم ( الخليفة )، حتى أن بعض أصدقائي والمقربين نسوا اسمي الحقيقي، وأصبحت الآن شخصا مختلفا تماما عما كنت عليه من قبل. نسيت الخمر والغناء والعزف على العود، وبالطبع لم أعد أعيش حياة الفقر، بل أصبت بالتخمة من كثرة ما أكلت من الفتة واللحم وشرب الماء البارد. كانوا يقدمون لي أكلا خاصا بي لا يشاركني فيه إلا أبرهة والمقربون من الشلة، وأصبحت أمي ترسل كميات كبيرة من الأكل الجاهز لبيت سلوى، يأكل منه أهل البيت، والضيوف المنتظرون. ولا علم لي من أين يأتي هذا الأكل الذي يكفي كل هؤلاء الناس المجتمعين في البيتين، ولا أعلم من يطبخه، ومن يقدمه لهذه الأعداد الغفيرة من البشر الذين تعطلوا من أعمالهم وهجروا القدر القليل من الإنتاج الذي كانوا يسهمون به ، حتى أن أبرهة دخل علي يوما وهو يضحك ويقول لي أن السلطات ستحاكمني يوما ما على تعطيل معاش الناس وتحويلهم إلى عاطلين عن العمل. وأن ديوان الضرائب سيأتيني بمطالبات ضخمة باعتباري أحد أغنى الناس لدرجة أنني أقدم الأكل المجاني يوميا لمئات الناس ، وربما تحتج مطاعم المدينة أيضا لأنها أصيبت بالركود. وقد اخافني كلام أبرهة فاختليت به وسألته عن حقيقة هذه الكميات الضخمة من الطعام، ما مصدرها ؟ فضحك أبرهة حتى استلقى على ظهره، وعاد سيرته الأولى في السخرية وإطلاق القفشات، وقال مستهزئا : أنت يا صديقي، أنت الشيخ، وأنت الخليفة، وأنت البركة، أنسيت نفسك ياشيخنا ؟ لكني لم أشارك أبرهة ضحكه واستهزاءه، بل سألته بصورة حازمة كيف تحول بهذه البساطة من شخص جاد، إلى آخر انتهازي ووصولي. فوجدها أبرهة فرصة طيبة ليقدم لي محاضرة من نوع محاضراته التي كنت أسمعها في بيت سلوى وكنت أظنها ناتجة عن أثر الخمر، لكنه الآن يتحدث بصدق خارج تأثير الكحول. يقول أبرهة أنّ الفقراء تم تسخيرهم للإنتاج وحُرموا المشاركة في عائداته، وسُلبت كل مقدراتهم، وصودرت إمكانياتهم لصالح الطبقة الغنية، لكن كما يقول الفقراء دائما، أن الله لا ينسى عبده، ففتح لهم بابا واسعا من أبواب ( مال الجاحدين يأكله واحدين ). والآن يستعيد الفقراء جزءا مما قدموه، والأغنياء يظنون أنهم يمارسون كرما يثابون عليه، لكنهم لا يعلمون أنهم يفعلون هذا غصبا عنهم وهم لا يشعرون. ولو أن الفقراء اجتهدوا وبذلوا كل طاقاتهم فإن ذلك لا يوفر لهم لحما وأرزا وخبزا وفاكهة كما هو متوفر لهؤلاء، لكنهم الآن لا يعملون شيئا ولا يبذلون طاقة ولا جهدا ، وهم يأكلون كل ذلك دون أن يدفعوا مليما واحدا، ثم ينهضون يتراقصون ويتمايلون على كلمات القصيد وضربات النوبة. إنهم الآن سعداء، يأتيهم رزقهم وهم جالسون تحت ظلال الأشجار، هذه جنة الفقراء في الأرض يا صديقي. وأنت تقود كل هذا بتسخير من الله وعون منه، وأنا أدير أعمالك وأساعدك من أجل هؤلاء المعذبين في الأرض. وفي هذا كله انتصار للفقراء والبسطاء على الذين ظلوا يمتصون جهدهم وعرقهم ويصادرون طاقاتهم. ولنتوسع في مشروعنا، نفتح أبوابا للتعليم فنرفع الوعي ، ونفتح العيادات الخيرية، ونسعى لتوزيع الدواء مجانا. ويمكننا مستقبلا أن نهتم بتطوير قدرات هؤلاء البسطاء، ونجلب لهم من يدربهم على كثير من الأعمال اليدوية والمهارات الانتاجية. والفقراء حين يتعلمون أعمالا يدوية أو يتقنون صناعة أو أي مهنة أخرى فإنهم يستعيدون عزة أنفسهم، وينخرطون في العملية الإنتاجية من جديد إذا توفر لهم التمويل اللازم ، وهو ما سنتمكن منه مستقبلا . بدا لي أن ابرهة قد استمرأ هذا الوضع، وأصبح ينسج المبررات الوهمية ليقنع نفسه بالاستمرار في عمله الجديد، لكن ما يدهشني حقا أن أبرهة حتى اليوم لا يطلب مني ولا من أمي قرشا واحدا. فقد ظل يبذل كل مجهوداته متطوعا دون أن يطلب راتبا أو حتى عطاء أو صدقة مما تمنحه أمي للفقراء يوميا. وقد تميز أبرهة بالنشاط وعلو الهمة، وظل متقد الذهن، لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا واهتم بها، يعرف كل من يدخل البيت ، ويخاطبهم بأسمائهم، ولا يهمل حاجة أحد منهم. جمع أبرهة عددا من الضعفاء والمشردين والمتسولين، ووفر لهم سكنا مؤقتا في طرف من أطراف البيت، وظل عددهم يزداد باستمرار، فأصبحوا جزءا لا يتجزأ من البيت، وقد دخلوا جميعا فيما نحن فيه من الذكر والصلوات وحفظ القرآن. وتحول البيت كله إلى مؤسسة ضخمة تظل أبوابها مفتوحة كأنها تقوم بعملها طيلة ساعات اليوم، وانتفت من البيت الخصوصية، إلا من مجلس الخلافة والجزء المعد لي، فلا يجرؤ أحد على الدخول إليهما دون ونواصل
01-20-2016, 12:46 PM
ودقاسم
ودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146
بدا لي أن ابرهة قد استمرأ هذا الوضع، وأصبح ينسج المبررات الوهمية ليقنع نفسه بالاستمرار في عمله الجديد، لكن ما يدهشني حقا أن أبرهة حتى اليوم لا يطلب مني ولا من أمي قرشا واحدا. فقد ظل يبذل كل مجهوداته متطوعا دون أن يطلب راتبا أو حتى عطاء أو صدقة مما تمنحه أمي للفقراء يوميا. وقد تميز أبرهة بالنشاط وعلو الهمة، وظل متقد الذهن، لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا واهتم بها، يعرف كل من يدخل البيت ، ويخاطبهم بأسمائهم، ولا يهمل حاجة أحد منهم. جمع أبرهة عددا من الضعفاء والمشردين والمتسولين، ووفر لهم سكنا مؤقتا في طرف من أطراف البيت، وظل عددهم يزداد باستمرار، فأصبحوا جزءا لا يتجزأ من البيت، وقد دخلوا جميعا فيما نحن فيه من الذكر والصلوات وحفظ القرآن. وتحول البيت كله إلى مؤسسة ضخمة تظل أبوابها مفتوحة كأنها تقوم بعملها طيلة ساعات اليوم، وانتفت من البيت الخصوصية، إلا من مجلس الخلافة والجزء المعد لي، فلا يجرؤ أحد على الدخول إليهما دون أن يمر بكثير من التعقيدات. وقد عدّ كثير من الذين يترددون علينا وعلى البيت هنا أو هناك، عدّوا أبرهة واحدا من كراماتي، وأن الله سخره لي ليخدم المريدين، ويكون مساعدا لي في بذل الصدقات والعطاء للضعفاء والمساكين. وأنا أصلا لم أكن أعرف شيئا عن المال الذي يتم صرفه ولا ذاك الذي يتم جمعه، لكني أرى الكثير من الشاحنات تدخل إلى البيت وتفرغ حمولتها في مخازن أعدتها أمي ويشرف عليها أبرهة بمساعدة آخرين، وقد رأيت الكثير من الأغنياء والأثرياء يناولون أبرهة رزما من المال يقولون أنهم يستهدفون بها خدمة المسيد، وزواره، والمقيمين فيه، كما اعتدت على رؤية بعض من يأتون محملين سياراتهم بالأكل المطبوخ يقدمونه صدقة لميت ويطلبون من مريدينا الترحم على روحه، أو الدعاء لمريض يرجون شفاءه. والمؤسسة تسير بلا انقطاع، وبانتظام ودقة دون أن يضع لها أحدٌ من الناس نظاما أو لائحة أو دستورا. يصحو الناس من نومهم عند الفجر، يؤدون الصلاة جماعة، ويبدأ كل واحد منهم عمله دون أن ينتظر توجيها من أحد، هؤلاء يعدون الشاي أو القهوة، وآخرون يملأون خزانات ماء الشرب، وبعضهم يملأ أباريق الوضوء، وبعض آخر ربما يبدأ على الفور في إعداد الإفطار وغسل الأواني وترتيبها وإعدادها ليوم جديد. وهناك من يهتم بالنظافة وترتيب الأسرة والألحفة والأغطية، ولا أعلم من يدفع لكل هؤلاء، أم أنهم كلهم يعملون كمتطوعين انتظارا للبركات والنفع بالجاه، أو ربما هم يتبعون منهج أبرهة في مساعدة المساكين على استرجاع بعض ما سرقه منهم الأغنياء. أما أبرهة فقد كان رجلا كحزمة رجال، هجر نوم الضحى، والاسترخاء، وانتقل من مرحلة التنظير إلى مرحلة العمل الجاد. كان يقوم بالكثير من أجل الناس، بل ويكرس لهم كل وقته وطاقته، وفي كثير من الأحيان لم يكن يجد وقتا ليحكي لي بعضا من أعماله وإنجازاته. لكنه حين يجد فراغا ولو قليلا يدخل علي ويحدثني بأمور لم أكن أتصور حدوثها يوما، فقد حكى لي مرة أن بعض النساء اللاتي عانين من العقم يأتين ويطلبن الذرية، فيُجلس الواحدة منهن ، ثم يغيب عنها لدقائق، ويعود إليها ليقول لها أن الشيخ أمرك أن تقابلي الدكتور فلان، ويرتب لها هذه المقابلة ، ويسدد الفواتير ، فتحمل المرأة وتنجب بعون الله ، حتى أنه قال لي أن واحدة منهن اضطررنا أن نرتب لها مع الطبيب برنامجا لطفل أنابيب، وأن العملية تكللت بالنجاح . والكثير من المرضى كان أبرهة يحولهم للأطباء ويقول لهم أن الشيخ أمر بذلك، فينالون الشفاء، ويسدد أبرهة فواتير علاجهم . وعرفت أن الكثير من النساء يتحدثن عن أنّ الشيخ يمنح الذرية، وأن المرضى يرون ان بركات الشيخ كانت سببا في شفائهم، وأن الأطباء لم يكونوا إلا وسيلة استخدمها الشيخ بعلم وإذن من الله . وأنا لا علم لي بكل ما يحدث ، فكثيرون لا يصلون إلي ، ولم أكن أتدخل في شيء ، إلا أن يطلب مني أن أرفع يدي إلى السماء داعيا الله أن يمنح عباده الخير كله، أو أجلس وسط حلقة الذاكرين وأدعو لهم في نهاية الليلة بالغفران والصحة والعافية . الغريب أنني أصبحت جزءا من المسرحية ، بالرغم من تراجع دوري لما بعد دور أمي وأبرهة وسلوى ، لكني كنت المركز الخفي الذي تدور حوله الأحداث كلها ، وكأنني ممثل أسند إليه دور يؤديه خلف الكواليس ، فلا يظهر أمام الجمهور إلا نادرا ، لكنه عند ظهوره يخطف الأضواء ، ويشد الجمهور ، فيصعد بلا منافسٍ إلى دور البطولة ، ثم يتراجع تاركا المسرح لمساعديه ، فيعود إليهم بريقهم المنزوي بتوقيت غريب لا يجيده إلا مخرج متميز. إنه تبادل أدوار غريب ومحكم، لم نخطط له ولم نتفق عليه لكنه يحدث ويتكرر دون خلل أو ارتباك . وجمهوري ينتظر الساعات الطويلة أمام شباك التذاكر ، وهو جمهور شره متعطش لا يمل ما نقدمه له من أعمال. وقد أصبح الجمهور نفسه جزءا من المسرحية، يسايرها باتساق تام ، ويقوم بدوره بكورالية متقنة، فيظن من يراه أنه قد تم تدريبه في معاهد متخصصة في التمثيل والإخراج . وجميع الممثلين منضبطين غاية الانضباط ، لا يتغيبون، ولا يتأخرون، ولا يفترون، فتجدهم يقومون بأدوارهم بتلقائية غريبة، وبهمة عالية، يؤدون ما أسند إليهم كأنهم في مهمة مقدسة لا تحتمل تسويفات البشر وتراخيهم . ونواصل
01-22-2016, 06:59 AM
ودقاسم
ودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146
مرت سنوات وأنا والناس من حولي على هذا الحال، يتقدم بهم العمر لكن السنين لا تضيف لهم شيئا، يمضون أوقاتهم وهم يدورون دورة الحياة نفسها في تكرار لا يملّونه . والحياة من حولهم تتسع فكرا وعملا، لكنهم يتمترسون خلف ضيق الجهل وظلام العتمة ، ومن يرتفع منهم في وعيه تجده يقترب من منهج أبرهة ، فيهادن أمي ليجعلها تتلطف أكثر بالفقراء ، لكن دون أن يسعى للتأثير على المؤسسة كلها أو يعمل على إلغائها . ومن ينجرف ناحية منهج أمي يرى نفسه أكثر صلاحا وقربا من أهل الله ، لكنه يظل مطحونا برحى الجهل والاستغلال ، وهو مغيّب وعيه وإحساسه بالظلم وضياع الحقوق . وأنا المتفرج الأكبر في هذا العرض المسرحي الذي لا يبدو أنه يتجه إلى نهاية ، فظللت أكثر وقتي صامتا ، لا أوجه ، ولا أمنح ، ولا أمنع . تركت كل ذلك لأبرهة وأمي والمقربين إلى كل منهما ، يديرون عملا ضخما أطلقوا عليه اسمي دون أن يملكونني منه قيراطا من مسئولية . فظللت مثل هبل في جاهلية العرب ، يدورون حوله ، يقربون له القرابين ، لكنه لا يستطيع أن يمنعهم ، ولا يملك لهم نفعا ولا ضرا ، ولا يجد منهم فكاكا. ورغما عن وضوح الرؤيا لكن الملل لم يتسرب إلي، ولم أجعل له علي سبيلا ، فكنت أغلب وقتي أبدو سعيدا بما أنا فيه ، وتغلب علي نظرة أبرهة للموضوع كله ، فأعدّه موضوعا مسليا ، كونه أخرجني من حالة تدمير الذات التي كانت تتملكني، إلى حالة أشعر فيها بأنني ألعب دورا إيجابيا تجاه قطاع لا بأس به من مجتمع الفقراء . لكني ظللت أحاور نفسي ، وأكثر التأمل ، وأثير التساؤلات لأتمكن بالخروج بنظرية أو عمل كبير يصلح شأني وشأن الناس من حولي ، أو يغير الله ما بنا إلى حال نتمكن فيه من قهر الجهل والفقر وما يتبعهما من مآلات . وتصورت نفسي مثل موسى أتطلع إلى النار لأعود منها بقبس أو أجد عليها هدى ، وأعلم أن موسى رأى النار في رحابة الأفق، فخاطبها وانتصر ، وأنا ظللت أبحث عنها في آفاقي المحدودة فلم أجدها. وكنت - طبقا لبعض ظنوني- أعتقد أن أمي هي القادر على إخراجي من هذا الحال المتأرجح بين أفكارها وأفكار أبرهة، فأمي هي التي أتت بكل هذا ، وأشادت بنيانه حقا أو باطلا ، وهي الوحيدة القادرة على محوه أو تطويره . وأمي هي التي أخرجتني إلى الدنيا، ثم أغرقتني في أوحالها ، فمرغتني فوق رماد الفقر ، ثم أعادتني إليها لتجعلني صنما تهدف للوصول به إلى أقصى درجات الغنى ، وغطتني بظلماته ، وأحاطت كل أفعالها بمسوح الدين وأوهام الكرم وادّعاء النبل . أراها قادرة على كثير مما يعجز عنه الآخرون ، تدير الكثير من أمورها بالإشارة ، فيهب المتعطشون لعطائها ويفعلون ما تأمرهم . لكني لا أراها قادرة على هزيمة دواخلها لتكتب بنفسها نهاية لهذه المهزلة التي صنعتها وجعلتني جزءا منها . والعمر يتقدم بأمي ، وأحسبها ستبدأ في التراجع عن بعض ما ظلت تعتبره عقيدة لديها . وانتظرت نوعا من العد التنازلي وارتخاء المسكة الحديدية في كثير من أمور المال ، وما يتبعه من التسلط والجبروت . وحين مرضت أمي مرضا ألزمها الفراش شهرا أو يزيد، ظننت أن المرض سيهزمها، وأحسست منها في لحظة ضعف رغبة في الاعتراف بكل أخطائها ، لكنّ ما حدث كان مفاجأة لي ولكل الذين اعتادوا أن يكونوا من حولها . كانت أمي تأمرني أن أدعو لها بالشفاء التام، وتطلب مني أن أضع يدي فوق رأسها ، وأقرأ عليها، وأتبع ذلك بتفلة . وكانت تسر للمقربين منها أن ذلك يفيدها فتشعر بشيء من الصحة والعافية فتمتليء بالأمل والرغبة في البقاء. قامت أمي من مرضها ذاك وهي أكثر رغبة في تقوية سلطانها ومركزها المالي ، فخرجت إلينا بمشروع جديد يضيف ويقوي من مشروعها السابق، بل ويعتبر امتدادا له . أصبت بكثير من الأسى ، والقرف من مشروع أمي الجديد حين طرحته علي ، فدخلا علي هي وأبرهة كشريكين رأسماليين يخططان سويا لبناء الشراكة وتقويتها. يبدو أن أمي كانت لا تزال منهكة مما أصابها، لكنها بدت متماسكة كعادتها، وأمرت أبرهة فبدأ بالحديث عن فكرة لم تخطر لي على بال . وعجبت كيف أن أبرهة أصبح مساعدا لأمي حتى أنه أصبح يتعرف على كل خططها قبل أن تكلمني عنها ، وكيف أنه أصبح أمينا على أسرارها لدرجة أنه لم يعد يطلعني على ما تسر به إليه. وهما الآن لا يدخلان إلي لعرض المشروع علي لأوافق عليه أو أرفضه ، بل أرادا تزويدي بالمعلومات حتى لا أكون مغيبا عن عمل كبير يعتبر من صميم أعمال الخليفة . إذن فخطط المشروع معدة وجاهزة ، ولا تحتاج مني إضافة أو تعديلا ، ولا اعتمادا ، بل سيبدأ التنفيذ فورا دون تأخير ، ولن ينتظر أبرهة وأمي أن يتسرب الخبر ، وقد تم تكليف تيم من عشرة أشخاص دون أن يشرح لهم أحد تفاصيل المشروع. كان أبرهة يتحدث بثقة كبيرة ، ولعله كان مستمتعا بما حمل لي من أخبار ومعلومات ، فحبك القصة بلغته التي أعرفها ، لكنه أضاف الكثير من المحسّنات يستجدي بها التشويق وشد الانتباه ، فكنت فعلا أتشوق لمعرفة التفاصيل رغما عن إحساسي بالقرف من الموضوع كله .
04-04-2016, 06:40 PM
ودقاسم
ودقاسم
تاريخ التسجيل: 07-07-2003
مجموع المشاركات: 11146
وفي صباح اليوم التالي بدأت الشاحنات تنزل الطوب والأسمنت والحديد في الزاوية الجنوبية الغربية من بيت أمي . كميات كبيرة من مواد البناء ، وعدد كبير من العمال ، وجموع من المتطوعين والذاكرين والمتطفلين ، كلهم جاءوا لحضور الاحتفال بوضع حجر الأساس للقبة التي ستضم رفاة أبي، ثم تتسع من بعد لتدفن فيها أمي، ويتبعها ابنها الخليفة . هكذا خططت أمي، ووافقها أبرهة، ونقل إلي فكرتها في نقل رفاة أبي من مقبرته التي دفن فيها لنواريه هنا داخل قبة ضخمة تقام داخل حدود بيت أمي ، مقاما طيبا يضم جسدا طاهرا، ومن ثم تصبح مزارا لكل القاصدين والمريدين. ومن قال أننا سنفارق الدنيا بهذا التوالي الذي حدده أبي وصدقته أمي، وهاهي الآن تضع له خطته فتحدد من سيموت قبل من ، وأين ستتم مواراة جثمانه، وتفترض صلاحه وطهارته، وتطلق على الموقع كله هذا الكم من القداسة، ثم تفرضه على الناس مزارا . كان أبرهة، وهو يحدثني عن رؤيا أمي في المنام، يبدو مصدقا لهذا الحديث بكل تفاصيله، ينقله إلي بجدية ليقنعني بصحة ما رأته أمي في حلمها ذااك. لم ترده نظرات الاستخفاف التي صدرت مني، ولا يبدو أن هناك أملا في تراجعه عما يراه دعما للفقراء، فهو الآن ينظر للمشروع أنه ينمو ويكبر ، وأنه سيلبي حاجة أعداد إضافية من المحتاجين . يستمر أبرهة في نفس جديته في مواجهة ذهولي ، كمن ينقل خبرا أتاه من السماء ، فيقول أن أبي زار أمي في المنام ، فجلسا متواجهين على مسافة قريبة، وخاطبها كزوجة لا كمطلقة ، فتوجست منه خيفة ، وبكت بحرقة حتى سُمعت عبرتها . ثم أمرها أمرها أن ترسل من يأتيها برفاته ، لتقوم بدفنها هنا في الطرف الجنوبي الغربي من البيت حيث كانت تقوم غرفته. وقال لها أنها ستكون أول من يلحق به ، وأن ابنها الخليفة سيأتي بعدها ، وأنه يترك لهم أمر اختيار الخليفة الثاني ومن يليه ، يختارونه من أصلح وأتقى أبناء الأسرة من ذريته ، فإن انقطعت ذريته تنتقل الخلافة لأبناء أمي من أزواجها الآخرين أو أحفادهم . وكما حكى أبرهة فإن أمي قالت له أنها ألجمت في جلستها مع أبي، فظلت صامتة لم تنطق بكلمة في مواجهة أبي وأوامره ، كانت تستمع إليه فقط ، لكنها قررت فور انقطاع الحلم أنها لن تتوانى ولن تتردد في تنفيذ التوجيهات التي صدرت إليها من الرجل الصالح . يكاد عقلي ينفجر، أكاد أطلق ساقي للريح وأهرب إلى ما لاحدود، فلا قدرة لي على استيعاب هرطقات أمي وأبرهة، ولا قدرة لي على مواجهتهما بالحقيقة، أو نفي ما أجمعا عليه ، أو إنكاره . وبدا لي أن أمي استمرأت صمتي وبدأت تتدرج في مشروعها، وتنقله من مرحلة إلى مرحلة ، وأنا أنظر إليه كوليد شيطاني ينمو ويكبر تحت رعايتي. كانت أمي تبدأ كل مرحلة بمفاجأة لا نستطيع لها صدّا ، ولا نعلم كيف نواجهها أو ندفع عن أنفسنا شرورها. وظلّ أبرهة يقول نعم لكل باطل تأتي به أمي حتى بدا لي أنه سيقول لها إنني آمنت بك نبية. وأنا الضحية التي يقوم عليها المشروع كله ، وقد دخلت في صراع نفسي داخلي بسبب انتهازية أبرهة، فقد عرفته من قبل مقتنعا بالثورة التي تنتصر للفقراء، لكن أن تأتي هذه الثورة عبر بعض التصرفات الانتهازية فهذا أمر لا يقنعني. ثم أن الفقراء الذين تصرف عليهم أمي ويحتضنهم أبرهة داخل بيتنا لم يكونوا يعملون شيئا ولا يبذلون جهدا، ولم يكونوا مستغلين اقتصاديا ، بل كانوا مستلبين اجتماعيا ودينيا لصالح مشروع أمي الذي جذب تبرعات الأغنياء حد الترف تحت ستار ديني كثيف وهي تمنحهم نصيبا طيبا من عائدات المشروع . لم أعد أنظر لهؤلاء الفقراء نظرتي القديمة ، بل أراهم الآن منعمين يتقلبون في النعمة أكلا وشربا ولباسا ، وأرى كل حاجاتهم تقضى لهم دون أدنى تعب . وكلهم ينظرون إلي أنني الرمز الذي لا يصل إليه الشك ، وأنني الشيخ المبارك الصالح الخارق للعادة ، والذي أكرمه الله بكل هذا . لكن من المؤكد أن أمي وأبرهة يعلمان حقيقة الأمر ، ويخططان - كل على حدة - لاستكمال المشروع، وكل واحد منهما يستهدف ثمره . وكنت أقول في نفسي أن نهاية المشروع قريبة ، لكن من الواضح أنه يتمدد كليلي ذاك يوم نادتني أمي إلى بيتها ، فأتيتها ككبش الأضحية ، يهيأ له مكان بالبيت ، ويحتفى به ، ويعلف ويسقى ، ثم يساق إلى حتفه في يوم فرحة الناس بالعيد. كانت أمي فرحة غاية الفرح باكتمال بناء القبة التي حوت رفاة أبي، وزغردت بنفسها وتبعتها النساء بالزغاريد، يوم نقل إليها الرفاة المزعوم . لم أر أمي من قبل في مثل هذه الفرحة ، كانت ممتلئة بالسعادة والهمة كبنت عشرين في يوم زفافها. احتضنت القبر ، واختلط الفرح بالنحيب، وشمّر ضاربي النوبة، فأنّت نوبتهم ورنّت ، وارفضّت هديرا ثم جنّت. وحملت سلوى البخور تطوف به حول القبر تنثر دخانه فوق رؤوس الحاضرين، فيستنشقونه، ويستعذبون عطره ، فتمتليء رئاتهم بالبركات والنفع بالجاه ، كما يهيأ لهم، فيبرأ مريضهم ، ويشبع جائعهم ، وتغشى السكينة قلوب الخائفين منهم. أطلقوا الكذبة بأنفسهم، ثم صدقوها، وجاءوا يطلبون ثمارها. ولما سألت أبرهة هل تمكنوا فعلا من تحديد قبر أبي ؟ ردّ بكل بساطة: وهل هناك فرق بين رفاة الأموات يا صديقي ؟ سألنا الناس تكرارا ، فقابلوا سؤالنا بالدهشة واللامبالاة ، لكن عجوزا منهم دلنا على قبر من وسط القبور ، ففتحناه وأخرجنا الرفاة ولم يعترض أحد ، فجئنا بها إلى هنا. ثم أضاف ضاحكا : تسخير يا خليفة، تسخير ، وكله من بركاتك، ولو نقلنا رفاة كل الأموات لما اعترض أحد من سكان القرية ، فنحن نترك لهم مساحة يوارون فيها ميتا آخر ، وكلهم انتهازيون يا صديقي.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة