لقد اخترت بإرادتي الحرة أن يكون ميدان عملي وفاعليتي الوطنية هو المساهمة في بلورة وعي فكري وسياسي يعزز فرص انعتاق السودان من إسار التخلف عبر مشروع وطني تقدمي أركانه السلام المستدام والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة وحقوق الإنسان كما عرفتها المواثيق الدولية،في ظل دولة علمانية ديمقراطية ذات كفاءة في إدارة التنوع، وهذا الخيار بقدر ما يستوجب التفكير النقدي في كل مفردات الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية في البلاد منذ استقلالها، يستوجب كذلك من أمثالنا – المنشغلين والمنشغلات بنقد أنظمة الحكم، ونقد المعارضة، ونقد مظاهر التخلف في المجتمع- يستوجب المراجعات النقدية المستمرة لكيفية تفاعلهم او انفعالهم بهذه القضايا، ففي ميدان التواصي بالوطنية الراشدة يجب ان نتواطأ جميعا على قبول الفحص الدوري لموقفنا وأفكارنا تحت مجهر النقد!
وفي هذا السياق أجد نفسي مطالبة بنقد المواطنة السودانية رشا عوض في قضيتين، أحس بأنهما تحكمان قبضتهما حول عنقي كلما رأيت مشاهد الرعب والموت والدمار تعصف بدولة جنوب السودان، كما تعصف بأطراف ما تبقى من السودان(دارفور، جنوب كردفان، النيل الأزرق).
القضية الأولى: وحدة السودان
لقد كان الموقف الصحيح فكريا وسياسيا وأخلاقيا هو الانحياز لوحدة السودان، وهذا يعني بالضرورة معارضة الانفصال علنا وبلا مواربة وتنوير الرأي العام الشمالي والجنوبي بمخاطره، وبذل أقصى جهد ممكن لرفع صوت الوحدة عاليا وتشجيع الأصوات الجنوبية الوحدوية(على قلتها) التي تم إرهابها بخطاب التخوين، هذا هو الموقف المطلوب لإبراء الذمة أمام الوطن ،جنوبه قبل شماله،
صحيح لم يكن اتخاذ مثل هذا الموقف ذا تأثير على أرض الواقع، لأن طبخة الانفصال حينها نضجت داخليا وخارجيا، والشارع السياسي الجنوبي تعبأ للانفصال لدرجة ان مجرد إعلان رأي إيجابي في الوحدة كان كفيلا بإشعال نيران غضبه، ولكن رشا عوض ككاتبة يحتم عليها الواجب الجهر بكلمة الحق، وقول ما يجب قوله لا سيما في مثل هذه المحكات التاريخية، فمن تتصدى للمشاركة في قيادة الرأي العام يجب ان لا تستسلم للواقع بل تشهر في وجهه سلاحها الوحيد ممثلا في الكلمة! وأن لا تنساق لما يرضي العواطف العامة مهما كانت جارفة، بل يجب عليها محاولة حشد عقول الناس وقلوبهم حول الخيار الصحيح موضوعيا ولو بأضعف الإيمان.
بكل أسف أخطأت رشا عوض عندما اختزلت موقفها الوحدوي في بكائيات وحداد وعويل ، دون أن تفعل ما كان يجب ان تفعله لترجمة انحيازها الفكري والسياسي والوجداني لوحدة السودان إلى موقف متكامل أركانه: تعرية خيار الانفصال والتنوير بالمشاكل المترتبة عليه وشرح الصعوبات الموضوعية لإقامة دولة مستقرة في جنوب السودان، إدانة الحركة الشعبية التي نكصت عن مشروع السودان الجديد وانهمكت في الأجندة الانفصالية، إدانة الممارسات اللاديمقراطية في الاستفتاء على تقرير المصير وعلى رأسها خنق ومحاربة وإرهاب اي صوت جنوبي وحدوي، بل انحدار قادة الحركة الشعبية بمن فيهم أولاد قرنق إلى مستنقع “التطرف الانفصالي” الذي عبرت عنه نتيجة الاستفتاء التي قاربت ال 100%!! هذه النتيجة تدل على أن الاستفتاء غير مستوفٍ لأدنى شروط النزاهة والديمقراطية!
لو صوت 51% أو 55% او 70% مثلا للانفصال لكان ذلك كافيا لاستقلال الجنوب بدولته فلماذا الإصرار على هذه النسبة المضحكة الشبيهة بنسبة فوز عمر البشير في آخر مسرحية انتخابية! هذا هو السؤال الذي كان يجب ان تطرحه رشا غداة إعلان نتيجة الاستفتاء في فبراير 2011 وليس الآن! لأن دورها ككاتبة صحفية هو تسليط الأضواء الكاشفة على أي اخلال بقيم الديمقراطية والنزاهة.
ربما يتساءل البعض ما قيمة مثل هذا الحديث الآن وقد انفصل الجنوب قبل خمس سنوات وعودته الى الشمال في حكم المستحيل؟ وقد يصل سوء الظن بالبعض إلى تفسير هذه المراجعات المحددة بالتراجع عن الإيمان بعدالة قضية الجنوب وكل أقاليم السودان المهمشة!
حاشا وكلا! هذه المراجعات من وجهة نظري ضرورية لضبط البوصلة السياسية فيما تبقى من السودان بشكل صحيح، فما زالت تشتعل الحرب الأهلية في ثلاثة أقاليم تشكل “الجنوب الجديد”! ومع وجود عصابة المؤتمر الوطني في السلطة من المرجح ان تطل علينا صفقات انفصالية جديدة! ومن المرجح ان تنجح ما لم نستعد لها بمشروع وطني وحدوي، لا ينظر إلى وحدة السودان باعتبارها مكافأة للنظام الحاكم وللمواطنين السودانيين في الشمال والوسط ،وعقوبة للمواطنين السودانيين في “الأقاليم المهمشة”! بل ينظر إلى الوحدة كخيار استراتيجي يجب ان يعمل على تحقيقه جميع السودانيين يدا بيد! وهذا بدوره يتطلب وجود حركات سياسية ناضجة تدرك ان حل قضايا “الأقاليم المهمشة” لن يتم عبر تقسيم البلاد على أسس اثنية وانخراط المواطنين في مفاصلات عرقية وجهوية فيما بينهم، بل يتم عبر مشاريع فكرية وسياسية تحمل قيما جديدة وبرامج جديدة منحازة بصدق للإنسان في تلك الأقاليم، وأن المفاصلة يجب ان تكون بين “أصحاب المصلحة في التغيير” بمن فيهم اهل الشمال والوسط والنظام الاستبدادي الفاسد في الخرطوم المستعد لتوجيه الرصاص الى قلب كل من يعارضه سواء من الشمال أو الوسط أو الشرق أو الغرب.
نعم عصابة المؤتمر الوطني تتحمل القسط الأكبر من المسؤولية عن تقسيم البلاد، ولكن لماذا لم يتصدى “الوحدويون” للعصابة كما يجب؟
القضية الثانية:الموقف من الحركة الشعبية لتحرير السودان
بمراجعة أرشيف رشا عوض في الصحف من 2005 إلى 2011 أي سنوات الفترة الانتقالية يتبين أن موقف الكاتبة من الحركة الشعبية اتسم بقدر كبير من التعاطف، أدى إلى غض الطرف عن أخطائها الاستراتيجية، والتواطؤ معها بالصمت عن طرح بل تصعيد أسئلة المرحلة التاريخية في وجهها، مثل سؤال “وحدة السودان” وأسئلة الفساد والمحسوبية و سياسات”التهميش” التي لازمت تجربة حكمها لجنوب السودان أثناء الفترة الانتقالية، وأسئلة الحياة المترفة جدا لقادة “السودان الجديد” فيما يموت المواطنون الجنوبيون جوعا، واستباحتهم للمال العام شأنهم شأن قادة”المشروع الحضاري” وغياب المؤسسية والديمقراطية عن الحركة وأبلغ تجلياتها مهزلة مؤتمرها العام في جوبا عام 2008 الذي انعقد تحت حصار مليشيات مشار!! وأخيرا مهزلة انتخابات 2010 !
في كل هذه القضايا لم تكتب رشا عوض ما كان يجب عليها كتابته إبراء للذمة وشهادة بالحق! لماذا؟ لأنها كانت أسيرة لفكرة أن الحركة الشعبية لتحرير السودان هي الممثل الشرعي لقضية شعب الجنوب المظلوم تاريخيا في الدولة السودانية وبالتالي فإن مدى التعاطف معها هو معيار لقياس درجة الالتزام بواجب الانحياز لشعب الجنوب في قضاياه العادلة، بل إن الطريق إلى قلوب المهمشين لا بد أن يمر بتمجيد الحركة الشعبية! ولأنها كانت تفترض أن قيام تحالف بين الحركة الشعبية وقوى المعارضة الشمالية هو أفضل طريقة للضغط على المؤتمر الوطني في قضية التحول الديمقراطي، وهو افتراض يستبطن فكرة افترشت العقل الباطن لكثير من المعارضين الذين ظنوا وبعض الظن إثم أن الحركة الشعبية مستعدة للاستبسال في محاربة المؤتمر الوطني انتصارا لأجندة الديمقراطية في الشمال!!
لقد كان واجب رشا نقد الحركة الشعبية بذات الصرامة التي تنتقد بها المؤتمر الوطني، وتحدي “الفكرة الإرهابية التبسيطية” التي تدمغ أي نقد للحركة الشعبية بأنه مساندة للمؤتمر الوطني وانحياز ضد المهمشين واصطفاف خلف دعاة العنصرية!
من أجل النهوض بمستوى الوعي السياسي في البلاد لا بد من مواجهة الحركة الشعبية وكل الحركات المسلحة بنقد مختلف عن تهريج اسحاق أحمد فضل الله وعنصرية الطيب مصطفى وانتهازية من يتوسلون بنقدها إلى خزائن المؤتمر الوطني! نقد من مواقع الانحياز للمهمشين ومن منصة الديمقراطية وحقوق الإنسان وقيم الحكم الراشد! ومن منصة “عقلنة الفعل السياسي”
وفي هذا السياق كان من واجب رشا عندما كتبت عن انتخابات 2010 ان لا تكتفي بمقالة “إسقاط البشير واجب المرحلة” –(وهي مقالة ما زلت وسأظل متمسكة بكل حرف فيها) بل كان عليها إلى جانب ذلك أن تفند الطريقة التهريجية المرتبكة التي تعاملت بها القوى السياسية المختلفة وعلى رأسها الحركة الشعبية مع الانتخابات!
لماذا لم تكتب رشا في تعرية عبث الحركة الشعبية بملف الانتخابات؟ يعلنون مشاركتهم، ثم ينسحبون جزئيا وبصورة مفصلة على أجندة الانفصال: ينسحب عرمان من انتخابات رئاسة الجمهورية لأن ضمانات النزاهة والحرية غير متوفرة! وهل كانت متوفرة عندما ترشح؟
أما في الجنوب فتخوض الحركة الانتخابات في كل المستويات وتحت إشراف ذات المفوضية الفاسدة المتهمة بعدم النزاهة في الشمال! وفي الوقت الذي بررت فيه الحركة الشعبية مقاطعتها للانتخابات في الولايات الشمالية بانعدام شروط الحرية والنزاهة استثنت ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق من المقاطعة بحجة المشورة الشعبية! ولم تخبرنا الحركة الشعبية ما هو المنطق في ان تكون هاتان الولايتان جزرا من النزاهة والحرية دونا عن كل السودان؟ هل لأن الجيش الشعبي موجود هناك وبإمكانه منع التزوير بالقوة؟ وهل هذا منطق ديمقراطي؟ وما هي ضمانات النزاهة للقوى السياسية الأخرى التي لا جيوش لها؟
وهل قيم النزاهة والحرية تتجزأ؟ العقل والمنطق يقول: إما ان تكون هناك بيئة سياسية وقانونية مواتية لإجراء انتخابات حرة نزيهة في كل البلاد وفي هذه الحالة تتم المشاركة فيها، وإما أن يكون العكس وتكون الانتخابات عملية زائفة ومزورة وفي هذه الحالة تجب مقاطعتها، وأي مشاركة فيها معناها القبول الضمني بالتزوير بل المشاركة فيه!
انتهت تلك المهزلة باشتعال الحرب الدائرة حاليا في جنوب كردفان والنيل الأزرق، إذ خسر رهان الحركة على جيشها في أن يفرض نزاهة الانتخابات، أو بالأحرى ينتزع فوزا بالقوة من المؤتمر الوطني في جنوب كردفان، لأن “نزاهة الانتخابات” ليست إلا تتويجا لعملية تحول ديمقراطي جادة، وقد أدارت الحركة الشعبية ظهرها لهذه العملية، وفي 2010شاركت المؤتمر الوطني في “ابتذال” الانتخابات!
كل من تواطأ بالصمت على تلك المهازل من الكتاب مدين لقرائه باعتذار! فسامحوني قرائي الأعزاء.
تحذير:
أرجو أن لا تنشر أي صحيفة من الصحف الورقية في الخرطوم مقالتي هذه
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة