منذ أن قرأت للكاتب النوبي إدريس علي تكون لدي مفهوم بأن هناك أدب نوبي زماناً ومكاناً ( زمكانية) ولكن التعبير باللغة العربية سواء كان ( شعراً أو قصة أو نثر أو خاطرة ..إلخ ) مع بعض المفردات النوبية التي لها دلالات ورمزيات موغلة في عمق الموروث السوداني .. مثل أدوات الزراعة والساقية والصفات والمسميات مثل ( تنقاري ، أورباب ، كدكول ، كوسكول ، كمليكول ، كاكول ، كلونكاكول .. إلخ ) وقد برع أهلنا الشايقية في إستخدام هذه المفردات وأصبحت أشعار حاج الماحي وحميد وإسماعيل وفاطمة بت حمد وغيرهم مرجعية لنا لأخذ المفردات والرموز التي إنقرضت بالنسبة للجيل الحالي .. وهي تميل للنوبية الدنقلاوية لأنها الاقرب جغرافياً لأهلنا الشايقية .. هذه مقدمة مختصرة جداً .. لنواصل مع شاعرنا سيف الدين ..
02-07-2017, 04:09 PM
علي عبدالوهاب عثمان علي عبدالوهاب عثمان
تاريخ التسجيل: 01-17-2013
مجموع المشاركات: 12483
وقصيدة الشاعر والاديب سيف الدين عيسى تدخل في نطاق الأدب النوبي.. وقد كتبت عن هذه القصيدة وسكبت الكثير من المداد في ( منتدى دنقلا الاصالة والتاريخ ) ودار في خلدي أن أنقل هذه القصيدة بحواشيها إلى حوشنا العامر هنا لتكون في متناول من لهم إهتمام بالتراث والبحث في عمق هذا التراث .. ( بعدين سودانيز علاقته جميلة مع عمنا القوقل) ..
سوف أقوم بإنزال مقطع من القصيدة والتعليق عليه .. والقصيدة تخاطب أمينة مختار وهي جدة سيف الدين رحمها الله ( حاج نسي ) بالعربية ( حفيدة الحاج ) :
نواصل
02-07-2017, 04:11 PM
علي عبدالوهاب عثمان علي عبدالوهاب عثمان
تاريخ التسجيل: 01-17-2013
مجموع المشاركات: 12483
يا حليلة كانت من زمان تحلم بالولاد .. أمينة بت حاج نسى والصاغ الزعيم.. أخت العمدة والكوسكول الجبرة العديل نتل الشتل بالأيد والأرض العزيزة ما أنبتت ليهم خدار والدنيا الأبت.. تديهم العز والفخار أو حبة نضار.. فانشروا في بطن العمار الا أمينة والحوش القديم فضلو ماسكين العقاب والزمن استدار
هي أخت ( العمدة والكوسكول) .. عبارة مغولة في العمق وهي مصطلحات الفخر بالصفات التي كانت تتمتع بها بعض الشخصيات في ذلك الزمان وعبارة ( كوس) واحدة من المصطلحات التي تحمل في مضمونها قيمة لا تخلو من المرؤة والكرم وسعة الدار ولتقريب المضمون والصورة يمكن أن نأتي بحاتم الطائي كنموذج من الشعر الجاهلي .. أصل كلمة ( كوس ) هو ( الوعاء ) الذي يتم تناول الطعام فيه فكان مصنوعاً الخشب ومزين بزخارف وتشكيلات محفورة على جوانبه هذا هو المعنى الحرفي ولا يمكن أن نسقط عليه وصف صحن أو إسم صحن لأن لفظ صحن سوف يخرج بالرمز من المعنى التراثي العميق إلى صورة السائدة اليوم للصحن وهي صورة بدون عمق او رمزية .. (كوسكول ) كان يطلق على الكريم والشهم وصاحب المقام والمكان ، حتى المكان كان مميزاً بشجرة ظليلة .. أو برمزية اللبخ الضخم الذي كان يظلل أكثر من نصف فدان تقريباً والمناطق المشمسه منها كانت تظلل بأسقف جريد النخيل ولا يعبر هذه الحاضنة من راجلاً او راكباً إلا وتناول شيئاً ما حتى لو كان ماءاً بارداً مع حبات من التمر إذا الوقت خارج مواعيد الوجبات حتى مربط الحمير كان مجاوراً لهذه الحاضنة حتى لا يتعذر الشخص بأي سبب أو تبرير ..
02-07-2017, 04:29 PM
علي عبدالوهاب عثمان علي عبدالوهاب عثمان
تاريخ التسجيل: 01-17-2013
مجموع المشاركات: 12483
وأحسب أن ( كوس ) شكله مستوحاة من ظهر ( السلحفاة) لأن النوبيين كان لهم من العمق والفن الذي يمكن معه إستنساخ المعينات الحياتية والادوات الزراعية من تقليد الطبيعة من حولهم وهذا هو التأمل والابداع .. وهكذا تتوالى المصطلحات النوبية في فضاءات القيم الانسانية ( كدكول ) ودخلت إلى العامية السودانية تحت مسمى ( أبوكساوي) ، و ( أمبوكول) صاحب الجنائن النخيل والظلال الوارفة (همبوكول) صاحب غابات الدوم ولكن ثقافة الدوم ليست محببه في الموروث النوبي لأن ريعها لست ذات جدوى بالنسبة لأهلنا وربما تجد شجرة أو شجرتين من الدوم في منطقة بأكملها بغرض الاستفادة من فوائدها المحدودة .. مثل أستخدام سعفها في نسج البروش وصناعة ( السوليل) أو المعلاق وإستخدام ثمرها في العلاج ولب الثمرة ( كوديه ) في ممارسة نوع من الألعاب النوبية وتسمى ( كوديه ) ففضل أهلنا النخلة لتميزها شكلاً وريعاً .. فأشجار الدوم لها تأصيل وتأثير في بعض المناطق بأقصى شمال دنقلا .. ثم ( كرمكول) وأحسب أن المقصود هو( كورميه ) وهي من النباتات التي تنبت في الجروف فقط وبمحاذاة النيل وتعتبر طفيلية في بعض الاحيان ومهمة في بعض الاستعمالات الهامشية للمزارع .. ورمزية (كرمكول) هي من لديه أملاك على الجروف وعلى طول النهر لأن ( الكورميه ) يتم تركها أحياناً لتشكل حائلاً دون نزول البهائم إلى النيل ولتحديد أماكن السقاية ، ومن أجود أنواعها ( القووا qowaa ) وحسب إجتهادي هي (البوص) بالعربية ولها حضور كثيف في التراث النوبي وفي الجداريات النوبية .. وكانت تصنع منها أقلام الدواية لكتابة الألواح .. وكذلك ( القيي gyee ) الطوف ويستخدم في كزوارق للتنقل في النيل .. ولا بد من عدم الخلط بين ( كول) و( كوول) كما في (كانديكوول) وهي من الصفات المذمومة ويوصف به الشخص المؤذي والذي يستخدم السلاح أو يشهره في وجه الاخرين وهي من الصفات المستهجنة في التراث النوبي .فالكرم كان من الممارسات الفطرية لدى النوبيين لأن البيئة الزراعية ووفرة الانتاج والقيم والموروثات جعلت الكرم من ثوابت الشخصية النوبية .. وأستحضر هنا لبخ العمدة ولبخ سيدي الحسن الادريسي تلك الشجرة الضخمة التي لم تكن تخلو ظلالها من الموائد طوال الوقت .. وكانت تذخر بفيض من الطيبات خاصة عندما تكون هناك زيارات لضيوف من خارج جزيرتنا مثل الوفود الحكومية القادمة من المجلس الريفي أو المديرية وكانت بمثابة مطعم لممرض الشفخانة أو المعلمين العزاب ..ولتأصيل إسم ( كوس) نرجع إلى الزمن البعيد حيث كانت آلة الكسر ( الطنبور) يصنع من ظهر السلحفاة ( القدح) .. ثم بعد ذلك اصبح يصنع من القدح الخشبي (كوس) .. وأصبحت رمزية ( كوسكول) مستخدمة في كل ارجاء الوطن وبترحمة حرفية ( سيد القدح ) وتسربت هذه القيمة كالرمزية صارخة للكرم في أعماق أغاني الحماسة والفخر ورثاء الموتى وتعداد مناقبهم وقد وردت هذه العبارة وبنفس المفهوم في الاغنية التراثية ( الكان داكا ) : أبوي وينو البعصر جنايا أبوي وينو كاسي العرايا أبوي وينو سيد القدح البجر سيد الساقية البتخر سيد الحلقة البكر
نواصل في المقطع الثاني من قصيدة سيف الدين
02-08-2017, 06:48 AM
علي عبدالوهاب عثمان علي عبدالوهاب عثمان
تاريخ التسجيل: 01-17-2013
مجموع المشاركات: 12483
وبالرجوع إلى مرثية شاعرنا سيف الدين : والحوش الممدد.. من الطرمبة للنيمة والجرف جفّا والتمر قفّا والزير النشّف مسامو والشاعر هنا كأنه يقف على الأطلال ويرسم لنا صورة حزينة لهذا المكان يعبر من خلالها عن رحيل كل معاني الحياة مع وفاة هذه الأم .. فالحوش الذي كان يراه محدوداً وضيقاً بفعل الحركة والنشاط الذي كان يدب في منزل (حبوبة) لأن كل الاحفاد كانوا يركضون نحو تلك الدار مع شروق الشمس فكان متكظاً بالحركة لا فرق في المسافات بين النيمة والطرمبة حتى ذلك الزير جف مسامه لترسب الأملاح من جراء عدم السقيا لأن لا حياة هناك ولأنها ذهبت بذهاب الحاجة ( أمينة ) والزير الناشف منظر في غاية في الكآبة لأن أنسداد مسماته يعني إحالته للتقاعد وترحيله إلى داخل المستودع (آرين كا) فتغير إسمه من ( فوكا ) إلى (قالو) لأن الزير الذي يستخدم لتبريد المياه هو (فوكا) وفي حالة الاستغناء عنه كما وصفنا أعلاه يسمى (قالو) ويستخدم في تخزين ( البقوليات ) وأحياناً لصنع الدكاي والنبيذ لأن مساماته مغلقة ولا تسرب المياه ..
للحديث بقية .....
02-08-2017, 01:03 PM
الفاتح ميرغني الفاتح ميرغني
تاريخ التسجيل: 03-01-2007
مجموع المشاركات: 7488
Quote: لأن النوبيين كان لهم من العمق والفن الذي يمكن معه إستنساخ المعينات الحياتية والادوات الزراعية من تقليد الطبيعة من حولهم وهذا هو التأمل والابداع ..
حبيبنا علي عبد الوهاب عثمان. مشكور على هذا السرد الجميل، وهذه الإضاءات الثقافية المبهرة . لو اكتفيتم فقط برفد السودان بخليل الفرح الخرافي، لكفاكم ذلك فخراً وزهواً. متابعين معك هذا الحكي الجميل.
محبتي
02-08-2017, 08:05 PM
محمد على طه الملك محمد على طه الملك
تاريخ التسجيل: 03-14-2007
مجموع المشاركات: 10624
أستاذ علي عبد الوهاب .. إن حال مندى .. الشكر لك وللأديب سيف على هذه المرثية التي فتحت في خواطرك كوة تداعىت من خلالها هذه المعاني الترائية .. وأخرجت للقراء مكنونات معارفك من محبسها إلى حيز التوثيق بلغة منغمة سلسة حنينة .. لك وله التحية متابع معاك. يا جميل.
02-09-2017, 07:01 AM
علي عبدالوهاب عثمان علي عبدالوهاب عثمان
تاريخ التسجيل: 01-17-2013
مجموع المشاركات: 12483
حبيبنا علي عبد الوهاب عثمان. مشكور على هذا السرد الجميل، وهذه الإضاءات الثقافية المبهرة . لو اكتفيتم فقط برفد السودان بخليل الفرح الخرافي، لكفاكم ذلك فخراً وزهواً. متابعين معك هذا الحكي الجميل. ===============
حبيبنا الاعلامي المبدع الفاتح ميرغني .. مودتي شكراً لحروفك الجميلة .. لأنك صاحب دواخل جميلة صدقني الحبيب الفاتح .. مناطق آمنة ومترعة بالتاريخ والحضارة وجمال الطبيعة النخيل والنيل أنا كنت في البلد قبل فترة بسيطة مع بداية الشتاء مئات الخواجات لزيارة الاثارات وحضارة كوش يتجولون بكل أمن وأمان .. حريم رجال وسط حفاوة من أهل من البلد مودتي المبدع الفاتح ..
02-09-2017, 07:06 AM
علي عبدالوهاب عثمان علي عبدالوهاب عثمان
تاريخ التسجيل: 01-17-2013
مجموع المشاركات: 12483
إن حال مندى .. الشكر لك وللأديب سيف على هذه المرثية التي فتحت في خواطرك كوة تداعىت من خلالها هذه المعاني الترائية .. وأخرجت للقراء مكنونات معارفك من محبسها إلى حيز التوثيق بلغة منغمة سلسة حنينة .. لك وله التحية متابع معاك. يا جميل.
=====================
وأورنتود .. ود الملوك إرسيه .. سيف الدين طبعاً له صلة بالملوك .. فيكم مجموعة مبدعة .. حمزة الملك على رأسهم .. وإنت ما بعيد عنهم .. القصيدة أعجبت بها وكانت منشورة منذ زمن في منتديات دنقلا الاصالة والتاريخ أحبب نقلها الى هنا للتوثيق .. شكراً كثير على أنغام الحبيب سوركتي
أصيل حبيبنا الملك ..
02-09-2017, 07:54 AM
علي عبدالوهاب عثمان علي عبدالوهاب عثمان
تاريخ التسجيل: 01-17-2013
مجموع المشاركات: 12483
طين الدميرة اللكة والعطرون يا حليل زمن الصبا النقاع زمن الأسدة والقنديل والكوز المبخر مستكة والهمبريب والعنقريب والسخينة رشوش يوم عشا الميتين والشفع كتار.. يوم الوقفة والهيوب والعرسان كتار والرملوها كتار بعد إستحضار المكان عمد شاعرنا إلى نقل صور موغلة في ذلك الماضي الذي كان له لون وطعم ورائحة .. يوم (عشا الميتين) بالدنقلاوية ( ديلين أشاء ) كانت من المناسبات التي يتنظرها أهلنا لتكريم الاموات ليس بالبكاء والعويل ولطم ولكن بالفرحة والعطاء والجمال وحلو الطعام كما ورد في القصيدة ( السخينة ) وإذا قصد الشاعر ذلك ( المرشوش) الذي كان يقدم لأطفال يوم ( عشاء الميتين ) فهو مختلف عن (الفتة) وبالدنقلاوية ( سووراد SOORAD ) بطعمها التقليدي لأن ما كان يقدم في ذلك يوم طمعه أجمل ومميز لأن الفتة غير مستساغة للأطفال فكان يضاف بعض الصلصة حمراء إلى سليق اللحم فيكون الطعم مميزاً وبالدنقلاوية ( أومبود نسي ombood nessi ) وهي أقرب إلى طبيخ الدمعة المخففة .. وفي منظر بهي فيه حركة وحيوية يركض الاطفال من بيت إلى آخر يرددون عبارات ( سالمي سلميروا .. قايب قي أرحميرو) وهي كلمات عربية منغمة بالنوبية والمجموعة كانت عبارة عن خليط من بنات والاولاد صغار السن .. وكان يدهن شعر البنات بالزيت بعد الانتهاء من تناول الطعام .. وهكذا إلى آخر بيت في القرية ..
استاذنا علي عبد الوهاب انت تنثر الجمال دائما في هذا المنبر العام وتنشر الروائع حيثما ذهبت واردنا فقط هنا ان نعبر لك عن اعجابنا لكل التراث الجميل الذي تسرده عن النوبة ولان اميرة بت مصطفى السيد طلبت منا ان ننسخ لها كل ما تكتبه عن النوبة والنوبيين والتراث النوبي لانها تعشق القراءة وعندها مكتبة ضخمة من الكتب ...وكذلك كل مل يكتبه محمد النور كبر وثلاثة كتاب اخرين لانها تركت عضوية سودانيز اون لاين للابد .... نراك تعشق قريتك وتحب ان تكتب الروائع عن تراثكم الجميل ..وهذا شئ رائع وجميل ونرجو ان لا تحرمنا من متعة قراءة هذا السرد الرائع...فانت تعيد البسمة في وجوهنا بحكاويك الشيقة...كما يمتعنا ايضا ناس البوادي والريف اهلنا الطيبين ود البوش وود الطيب واسحق بلة ،،،،الله يطراهو بالخير ،،،فقد ابتعد هو الاخر عن البورد. واود ان اشكرك ايضا استاذنا علي على كلماتك الرقيقة عن عطبرة في بوست ود الشغيل ودمت بالف خير وصحة وعافية
02-09-2017, 10:03 AM
علي عبدالوهاب عثمان علي عبدالوهاب عثمان
تاريخ التسجيل: 01-17-2013
مجموع المشاركات: 12483
بنتنا الاميرة بسمات .. التحية .. بالنسبة لي لا فرق عندي بين الاميرات .. فمداخلتك هذه أشعر فيها حروف الاميرة سبحان الذي جمع في قلوبكن وحدة الاحساس والحروف والمودة ( شكرا بناتي ) هذه القصيدة من شاعرنا الاديب سيف الدين عيسى وهو عضو في المنبر ولكن إعتزل عنه منذ فترة طويلة وهي تصور ما آلت إليه بعض القرى النوبية من جراء الهجرة .. فحب المكان والوفاء للحاضنة وأنتم نموذج لذلك في بوست عطبرة هذه الممارسة فيها نوع الرجوع إلى ذات وأحترامه وقد يسمو الانسان في هذا الحب إلى درجات من العشق والبسط .. ويكون واقعاً معايشاً للانسان مهما سافر وإبتعد عن تلك البقعة ..
والشاعر رجع من غربته ووجد الديار قفراً وتبدلت الاحوال إلا تلك الحبوبة القابعة في ركن العنقريب وتجول بني الرموز والشواهد
التحية للاميرات .. وإلى آفاق بعيدة ..
02-12-2017, 06:54 AM
علي عبدالوهاب عثمان علي عبدالوهاب عثمان
تاريخ التسجيل: 01-17-2013
مجموع المشاركات: 12483
الى المقطع الأخير من القصيدة .. يرسم الشاعر صورة أكثر كآبة : ========== وفي الآخر كمان فضلت براها مع العقاب بين الضوة بت عجبان والمكية عز الدين وأمباب شي والجدعوها حجار.. ورغم الظروف الصعبة والحال العكس مسكينة فضلت في العقاب بين الدكنة والنيمة وراها الماضي والأطلال وقدامها البحر شيمة.. وضاعت لمة الأطفال وغنت في الخراب بومة.. أمينة شدت للرحال واسدلت الستار غيمة وسلمت العقاب أمانة للبحر المكاجر ودبعة للولد المهاجر يمكن يعود في حلم باكر وأمينة من غيابها تعود في بحر ذكري أو بهو خاطر
يعرف شاعرنا تماماً أن نموذج الحبوبة ( امينة ) صورة مكررة في كل البيوت عبر مناطقنا وتتجلى هذه الصورة وتنطبق تماماً على كل الحالات التي عايشناها وجاءت واضحة وجلية من خلال عمق هذه الابيات : مسكينة فضلت في العقاب بين الدكنة والنيمة وراها الماضي والأطلال وقدامها البحر شيمة.. نعم هي في الظاهر تستحق العطف (مسكينة) ولكن في دواخلها تحمل الكثير من الجمال وذكريات ذلك الماضي تليد .. ومن تجربتي الشخصية كنت أظن أنهن يعانين من ضعف الجسد والذاكرة والاحساس ولكني عايشت تجربة مشابهة مع جدتي من أبي (فافا) وكنت أيامها معلم ومقيم في البلد كنت أحاول أن أقنعها لتعيش معنا ولكنها رفضت رفضاً قاطعاً وأقسمت ألا تفارق بيتها ( بيت الجد ) إلا إلى المقابر .. ثم لاحظت أنها متعلقة ببعض المقتنيات التي تركها جدي رحمه الله .. عندها تأكدت أنها تستحضر زمنها الجميل وكل اللحظات الجميلة لأنها تبستم أحياناً وتتجهم في أحيان أخرى ولها إركان وأماكن مقدسة داخل البيت حتى لا تترك الدجاجة تتطأ هذه الاماكن .. دعنى هنا أترك ( النيمة ) وأذهب الى ذلك الرمز العتيق ( الدكنه dokkna ) إن رمزية الدكنة لها أبعاد ووقع في النفس .. لمن لا يعرفون النخيل جيداً تجدهم لا يتحدثون إلا عن البركاوي ( إبيتا) نعم لاشك أن البركاوي مفيد ولكن في الشق التجاري فقط وليس في طمعه أو مدلوله لدى الآخرين .. لأن مثل ( الدوكنا ، والاسدة ، والقفا ... الخ ) من النخيل النادرة التي لا تتكرر فهي ليست للبيع ولكنها للاقتناء فقط كما يقتني بعض الاثرياء اليوم ماركات السيارات المميزة ويتركوها أمام منازلهم .. فهذه الأنواع من النخيل تجسد الانتماء وتنشط الذاكرة ومعها يمكن ان تستحضر الاجداد وهؤلاء الكرام الذين مضوا .. فمن منا في تلك السواقي المهجورة وتلك الإطلال المترعة بالفخر والاعزار لا يقف موقف شاعرنا ويتأمل في خراب الحاضر ويغوص وسط هذا الركام ليخرج بمثل هذه الدرر واللاليء وأحسبه عندما كان ممسكاً بجريد النخل ( الدوكنا ) في حاور صامت كان في لحظة سمو ورقي خارج إطار هذا الوجود كما ( البسط ) لدى الصوفية وهو نفس الموقف الذي أتعجل إليه عند إجازاتي إلى البلد فبعد السلام والمجالات إتجه إلى حيث غرس أجدادي من النخيل ( النوري قفا) وهي غرس الجيل الرابع من الاجداد أقف عندها وأغوص في عمق الخيال لاستحضر هؤلاء الذين غرسوا أصولنا في هذه الأرض عندها تغسل هموم الدنيا وتكون متسامحاً مع نفسك عزيزاً .. فهذا النوع من النخيل له صدى في نفس هي النخلة التي تحمل الاسم العائلة ويقرن بها الأصل والفصل .. فهذه كانت تذكر عن في سيرة العريس نحو بيت العروس كفخر وإعزاز وعند موت الاقارب كرثاء ( كلقييه ) إمعاناً في الإجلال والانتماء بل وكان جريدها يغطى بها الجنازة .. لهذه الاسباب كان شاعر موفقاً عندما إختار مثل هذه المفردات ..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
علي عبدالوهاب عثمان
الفاتح ميرغني
محمد على طه الملك
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست