الثنائي عمر وعادل جمعهما الحي والعمل. عمر أخذ المسطرين عن أبيه، أما عادل فإنه أتى متأخرًا إلى ميدانها ومازالت رتبته رتبة المساعد. صديقان مثلما يحبان كسب المال بعرقهما يحبان كسب المعرفة بالقراءة والسمع والبصر، ولا تنقصهما حلية الشهادة وإن تواضعت بعين الغرور. ويتكشف الاهتمام لكليهما حديثًا أثناء أداء العمل مما يخفف من ثقله عليهما. وبعد ركود أثقل من عبء شاق، حصلا بحسن طالع على فرصة لتبديل بلاط قديم بآخر جديد في بعض فِناء قصر رئيس من رؤساء المال بوقت تلا مقدم زيت خام تدفق جاريًا كما يجري النيل، وفاضت عوائده بغزارة فخاض الناس بها، ثم انصرف وخلَّف أثرًا بالغًا في القسمة والجمع والطرح والضرب. فنصحهما ناصح أن يذهبا دون اتفاق على الأجر إعدادًا لمساومة لا شك قادمة فاستحسنا ذلك وتوكلا على الله. ولما وصلا إلى القصر دخلا بخطوات مسها التردد تجس الأرض جسًّا كأنما كانت على صرح ممرد من قوارير. يقودهما الدهش والاستغراب والاستنكار؛ الدهش مما رأيا ، والاستغراب من هذا التميز الذي لم يألفاه، والاستنكار من صدى سؤال من أين لك هذا. البؤس الذي عاشاه بحياتهما يدفعهما دفعًا إلى التفكر، فمهما بلغ المرء عندهما من العظمة فإنه لا يفوت حدود علمهما بزينة الدنيا، فانتقلا من عالم مشهود إلى عالم قد غاب عنهم. وهما يعملان بكل همة، سقتهما خادمة مشروبًا من الفاكهة الطبيعية سبحت فيه قطع من مكعبات الثلج فكان أن سبح ماء أبيض بَرَد على ماء أصفر بارد كأن بينهما برزخ فلا يبغيان عند الشراب سراعا. وتملكتهما الحيرة من كؤوس فتاة جميلة وهما اللذان إذا شربا في حر ظمأ الكد لا يكترثان لحبات التراب الساقطة على الماء. ينظران إلى تصميم البناء وجماله خطفًا، ويرتفع نظرهما بحياء ليشاهدا علوه الشاهق ونوافذه وشرفاته، وكذلك يجمح النظر إلى الباب اختلاسًا عند دخول وخروج من عبر لرؤية المناظر التحفية التي تداعب خيالهما. فما انفكا من وقع المفاجأة حتى توقفت عربة أمام المدخل. نزل سائقها وفتح عربته وبدأ بمساعدة رجل آخر وخادمة أخرى يخرجون بعناية محيطة برفق أطعمة مصنوعة مجلوبة من مكان ما حملوها إلى باب جانبي يبدو أنه أُسس لمثل هذا الغرض، فسأل عادل ببراءة : - ما هذا؟. فأجاب عمر لاذعًا : - إن أعجزك عمى طاريء ألا تشتم. - حسبتها مائدة نزلت من السماء على رجل صالح. - لا معجزات بلا أنبياء. - ما أكثر أنبياء عصرنا بيد أنهم كذبة فجرة. - لذلك لا يصدقهم أحد. - ولكن يتبعهم أناس كثر. - لأن المصالح هي رسالاتهم. مد عادل حزمة من البلاط وقال مادحًا : - للأطعمة المغلفة هيبة وبهاء. فقال عمر مستلهمًا الماضي : - شعور نبع من تجليد الكتب والكراسات. - لا أجد مظاهر عرس. - هكذا نحن لا نحفل إلا بالأحداث الكبيرة. - أثارني هذا المشهد. - أما أنا فقد رأيت مثيله من قبل. - متى وأين؟. - منذ سنوات خلت بعيدًا عن بلدنا. - لعًا لمن فك وثاقه وعاد فتكبل. - نعم عدت وليس بيدي. وقال عادل ساخرًا : - أما أنا فالآن مغتربي وبيني وبين عودتي مسافة قصيرة. فشبه عمر الحد بين حالهم وحال مخدميهم فقال : - صراط كالشعرة بين الجنة والنار. وشُغلا بالتركيب والتمهيد والتسوية وانتظام الميول وعلى وقع نقرات المسطرين قال عمر بدعم إشارة صدرت من يده : - لابد أن يدفعوا بسخاء. فتساءل عادل : - ألأنهم أغنياء؟. - كلا. - هل تعني أنهم حصلوا على أموالهم بسخاء؟. - قل رضعوا بسخاء. ضحك عادل وراعى سلامة البلاط في سكرة الضحكة العفوية، وسأل : - ما هذا اللبن الذي لا يُشبع منه؟!. فقال عمر بلسان ثائر : - إنهم يكرهون الفطام. - وهل من رضيع يحب الفطام؟. - العجب ألا يحبه الكبار. - ماداموا رضعًا فهم صغار. وأجرى عمر الميزان وقال : - بئس الرضيع من يرضع من ثدي أمته. فتهكم عادل قائلاً : - كفى حولين لمن أراد أن يتم الرضاعة. فأنشد عمر بإلقاء : - إذا بلغ الرضيع لنا فطامًا، وسكت ولم يكمل. فسأل عادل باسمًا : - ماذا سيحدث؟. - لا شيء، وإياك أن تظن أن أحدًا سيخر له، فلتنبذ كل وهم جاهلي قديم. استغرقا بحوارهما فانتبه عادل حذرًا وقال : - مهلاً، لا يسمعونا فيرمونا بالحسد. فرفع عمر بصره وقال : - حجة أنا محسود حجة بالية. وصب عادل قدرًا من المونة وقال : - سياسة تجريم الضحايا. فاستطرد عمر بقوله : - وأيضًا حجة إنما أُتيته على علم عندي. ماذا يفعل هؤلاء؟! لا ألمح انعكاسًا منهم علينا خلا سوء يزيد. وتنفس وأضاف : - لا عين تسهر على مال سائب. فوافقه عادل وقال : - نام الحراس. - حراس سنار؟. - ذكرتني، هل فُتِحت أبوابها أم لا؟. - لقد فُتِحت خزائنها. - وتركوا الأبواب مشرعة؟!. - نزلوا إلى الكنوز. - كم ضيع الطمع!. - حتى ضاعت المفاتيح. لم يمر عليهما عمل انتهى سهلاً وزمن مضى عجلاً مثل الذي انقضى بهذا القصر، فقبضا عزيز الجنيهات مستبشرين وافترقا على أمل لقاء جديد في حظ جديد مع رئيس مال جديد.
عبدالرحمن احمد السعادة لقداوصلتني حد السعادة حتي كدت ان اتبلد ولم افهم حرفا مما كتبت شكر وانت تنشر السعادة باسلوب يكاديصل بنا مرحلة الاعجاز اللغوى ملكة من الكتابة جل ما تجد الشبيه لها بارك الله فيك وفي قلمك الذى ينثرالروائع
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة