|
Re: في إطار الدعوة للتدوين: وعظتنا النملة في � (Re: محمد عبد الله الحسين)
|
عرفتُ ذات مرة على سيدة جميلة، كانت تعاني من اكتئاب فنصحَتها صديقتها بالذهاب إلى "الكوافير" لقص شعرها، قابلتها بعد فترة في نفس صالون التجميل، وكانت قد أصبحت زبونة دائمة وتخلصت من ثلاثة أرباع شعرها، في مقابل حصولها كل مرة على "لوك" جديد كانت تحظى بالصديقات والحكايات، العلاج الذي كان ناجعاً للدرجة التي باتت حاجتها إليه مشابهة لإدمان المهدئات.
سألتها ما الذي ستفعله عندما لا يعود هناك ما تقصه؟ قالت بوهن: حسناً! سآتي لأتحدث إليكن عن رغبتي في إطالته مجدداً. ضحكتُ من أعماقي، وتعسّست مركز الرغبة في الثرثرة القابع في مكان ما داخل جمجمة كل منا.
أنا بدوري أحبُّ صالونات التجميل كثيراً؛ ففي جنة النساء هذه أراقب الحياة عن كثب، أرصدها فتصبح صغيرة ومكثفة وقريبة، الغرائب والحِكَم التي أجدها في حكاية كل امرأة لا تعوض.
في صالونات التجميل تأتي النساء ليطلبن شيئاً واحداً، الجمال، فيحصلن على ما هو أعمق منه: الثرثرة! أشَبّه هذه الأماكن التي أعودها حين شعوري بالاكتئاب بالـ"مشاتل" ليس فقط لأنها الأماكن الملائمة ليزهر الجمال، ولكنها أيضاً المناسبة لتتلاقح الحكايات والأسرار الصغيرة.
كنا ذات مرة مجموعة نساء في صالون التجميل، وكان الجو محتدماً بنقاشات نسوية خلاّقة.. أحاديث عن الجمال والصحة والعلاقات الإنسانية، كانت هناك امرأة ثلاثينية تُبدي رأيها في كل أمر، حتى بدا وكأن كل شيء في هذه الدنيا قد مرَّ عليها، اختبرته، قرأت عنه، تكلمت عنه مع فلان، تتحدث على طريقة "لسَّه كنت امبارح بقول لأحمد نفس الكلام".. "لسَّه من فترة حطيت الكلام ده في الفيس بتاعي".. "أصل انتي مش عارفة حاجة لو قريتي الكتاب الفلاني هتعرفي"..وكلما اشتكت واحدة من أمر، ردت: "أنا كمان حصل لي كده".
كانت تحدث الحامل التي تجلس بجانبها وتعطيها نصائحها اللذيذة عن الحمل، والذي يجب أن تعمله ولا تعمله بناء على خلفيتها الغزيرة في هذا الشأن، كانت التي بجانبها تجاريها في كل كلمة وتهز لها رأسها، وتبدي لها إعجابها الشديد وتشجعها على الحديث وتعدها أنها ستتبع رأيها.. ظلت نصف ساعة تحشوها بالنصائح، والأخرى وديعة ومستمتعة إلى الحد الأقصى.. وحينما همَّت بالمغادرة أعطت ناصحتها الثرثارة "كارت" مسجلاً فيه عناوين التواصل، وتعجبت السيدة، ومن ثَم كل مَن في المكان من أن تلك التي كانت تتلقى نصائح الحمل هي في الأصل طبيبة نساء وتوليد.
هذه السيدة التي لم ألتقِها مجدداً علَّمتني درساً لن أنساه، كما في مقولة بنجامين فرانكلين: "وعظتنا النملة دون أن تنبس بكلمة"؛ إذ قد يمضي الموقف اعتيادياً لكنه أفطنني إلى أنه مهما كان مستوى معرفتي واطلاعي بأمر أن لا أخسر حماسةَ متحدثٍ عنه أمامي، ألَّا أتبجح بعلمٍ أو معرفة، ألَّا أزاحم أحداً في شكواه، أن أترك كل إنسان يعيش لحظته أمامي، ويكون نجمها الوحيد.. تعلمتُ منذ حينها أنه من كمال المعرفة وحقها على العارف أن يستكين في حضرة الجموع، تعلمتُ أن أتفاجأ وأندهش لكل حقيقة تسطع أمامي، أن أجدد حماستي بما أعرفه قبل الذي لا أعرفه، تعلمت أن أبتسم للكذبات، وألَّا أعرّي متجملاً بها عند أحد، تعلمتُ بمرور الوقت وبترويض الذات أنه إن كان للبوح أحياناً لذة، فللصمت دائماً لذَّات، وإن كان الحديث فناً، فإن الإنصات هو أبو الفنون.
| |
|
|
|
|