الجفاف يصيب حلقي .. لا أجد إلا هواء ساخنا كالسموم يلفح حرّه وجه الماء .. والماء نفسه شحيح ، متسخ ، وراكد .. لا أجد أحدا أكلمه أو أبثه الشكوى ، الحوائط تخنقني ، والنوافذ محكمة الإغلاق ، شديدة العتمة . ما بالها جارتي لم تعد تناجيني . كانت إطلالتها الصباحية تمنحني جرعة يوم كامل أعيشه على أكوام من الآمالٍ ، أنسجها في خيالي فتكون هي بطلتها المنتصرة دوما . يبدو أن مانعا قد منعها فلم تعد تسترق النظرات من شباك بيتهم العالي فتحدثني بلغة لا يفهمها غيرنا .. قلت لها مرة أنني ساخرج من سباتي الطويل وأقطع نوبات تثاؤبي لأبث السعادة في جنبات قلبها .. وكانت تقول لي : إنها وعود الرجال للنساء عبر التاريخ وبسببها تحولن إلى ضحايا واستسلمن لسلطة الرجل . في البداية كانت صغيرة لا تحسن الغزل ، لكنها تعلمت بسرعة مذهله فبزّتني ، وجعلتني أصغي إليها أكثر مما أتحدث .. كانت تقول كلاما معسولا ، ومغسولا ،شعرأ ، نثرا ، أو رجزا ، وأنا كعادتي لا أبقي من عسل صاحبي شيئا . فتجدني متسمرا الساعات الطوال أمام النافذة ، أراقب بثها ، ويسترق سمعي كلماتها ، وأسرح في فيض من الأماني المتمددة ، والتي لا تنتهي ولا تتحقق . قالت أمي مرة أن جارتنا - أم صاحبتي – امرأة قاسية ، شديدة ، وعنيدة . وأنا لم أكن اتقبل هذا من أمي ، حيث أن حدسي الاستراتيجي يقول لي أن المرأة ستكون حماتي يوما ما . وأنها ستناديني وتدللني بكلمة ( ولدي ) ، وستطبخ لي أطيب ما عرفت من الطبخ لتمكنني من إسعاد ابنتها .. وستوثر لي في المرقد ، وتطيل أمد حنة زوجتي فلا تجعلها تغسل الأواني أو الملابس ، وستهييء لها ( حفرة الدخان ) لتطبق البوخة .. وستهدهد أولادي وتحضنهم أكثر مما حضنت أولادها . قلت أن أمي ستصبح صديقة لها يوما ما ، وسيكون الأولاد أحفادا لهذه وأحفادا لتلك .. وهكذا تكون الدنيا ، تسير سيرها العادي في خطوط متشابكة لتهزم التناقضات المقيمة وتخرج من بطنها تناقضات جديدة تتأسس عليها الحياة القادمة .. وفي ضحي ذلك اليوم ، دفعت المرأة باب بيتنا عنوة ، لم تطرق الباب ، ولم تستأذن أحدا من أهل البيت .. دخلت كما تدخل صواريخ الظلم وقنابله إلى دارٍ أهلها نيام ، فتحيل البيت كله إلى ركام ، وتعود الطائرات التي حملتها منتشية بلا إحساس من ضمير أو أسىً في القلب . رأيتها تدخل بيتنا فبدت لي من بعيدٍ ككتلة من لهب ، تسير نحو هدف محدد بسرعة عالية ..حاولت أمي إيقافها ، لكنها دفعتها بقوة فأسقطتها بعيدا عن مسارها الذي أرادت . ولما وصلتني أمسكت بذراعي ، وجذبتني إليها ، ثم دفعتني للخلف . كنت كالكرة في رجل لاعب حاذق ، ماهر ، لا يخطيء الهدف . ألقتني صريعا كمن ينام مستويا على ظهره .. ثم مدت يدها إلى منتصف فخذي ، وبأصعين من يدها أمسكت لحم فخذي ، وفركته بين أصبعيها .. قامت وكأنها تقول في نفسها : لقد أنجزت مهمتي ، وأنا راضية عن نفسي كل الرضا. نقلتني أمي إلى المستشفى وأنا في حالة أقرب إلى الموت . لا أعلم إن كانت ابنة الجيران قد رأت شيئا من ذلك أم لا . وبعد أسبوع من الحادثة خرجت إلى بيتنا وقد بترت رجلي من منتصف الفخذ .. قال الطبيب وهو يوجه رسالته لأمي : إنها الغرغرينا ،فلا تقسو أم على ولدها حتى توصله لهذا الحال . ثم أوصاها بعمل طرف صناعي بديل للجزء المبتور حتى أتمكن من مواصلة حياتي بشكل أقرب إلى الطبيعي .. لكني منذ ذلك الحين لم أخرج من غرفتي ، ولم أفتح النافذة الوحيدة التي تطل على بيت الجيران ..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة