دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
سلام ابو الجعافر عزيز طوكيو كما يقول الصديق الفاتح ميرغني ده حيكون شغل جميل جدا من شخصك الكريم أتمنى أن يكلل بإفاداتك وشهاداتك الشخصية خاصة وانك صاحب ذكريات لاتقل عن ذكريات السفير (م) محجوب الباشا لطول اقامتك في اليابان وشغلك في نفسك المجال أذكر لما طالعت إلبوم الصور الخاص بك في منزلك العامر في طوكيو كنت اقترحت عليك أن تكتب عن مناسبة صورك مع المخاليق المشاهير في دنيا الادب والدبلوماسية امثال جمال محمد احمد وعلي المك وغيرهم. اسأل الله أن يمتعك بكمالات الصحة والعافية ويديك مزاج الكتابة عن تجربتك الشخصية أيضا
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
سلام و تحية لصاحب البوست ، ، ،
شكراً علي هذا البوست المتميز ، ، ،
Quote: الغريب في الأمر أن اليابانيين يطلقون على الولايات المتحدة الأمريكية اسم "بيكوكو" وهي كلمة تتكون من مقطعين الأول "Bei" وتعني في اللغة اليابانية أرز والثانية كوكو التي أشرنا لها أعلاه بمعنى بلاد. أثار دهشتي إطلاق اليابانيين على الولايات المتحدة اسم بلاد الأرز بالرغم من أنها اشتهرت بغيره من المحاصيل. وأحد التفسيرات ربما تزيل هذه الدهشة حيث تقول أن كلمة أميركا عندما تكتب كاملة بحروف "الكانجي" وهي الرسومات الصينية التي يستعملها اليابانيون تشتمل على رسمة تنطق “mei” في اللغة الصينية وذلك في موقع “me” من كلمة أميركا وهي تعني "الأرز" و تنطق في اليابانية “bei” والله أعلم. |
الولايات المتحدة الأميركية في اللغة الصينية تكتب بالـــ هان زِ [ 美国 ] و تنطق ( meiguo - مييقوا) و تعني البلاد الجميلة و ليس بلاد الأرز. و في اللغة اليابانية تكتب بالــــ كان جِ [ 米国 ] و تنطق ( بيكوكو - beikoko ) و تعني بلاد الأرز كما جاء في الكتاب. الشاهد أن الولايات المتحدة يطلق عليها ( مييقوا - البلاد الجميلة ) في اللغة الصينية القديمة و المعاصرة و لكنها مرت بتغيرات كثيرة حتي إستقرت علي (بلاد الأرز) في اللغة اليابانية.
تحياتي و إحترامي ، ، ،
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
مشكور أستاذنا جعفر على هذا الجهد المعلوماتي القيم .. أثمن فكرة الكتاب لما يوفره من إزجاء للمعارف والخبرات بين الأجيال.. بل سوف يصبح مرجعا يسعى لاقتنائه كل من ياتي سائحا أو عاملا باليابان .. أسأل الله أن يمتعك بالصحة .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
ول ابا استاذنا وصديقنا جعفر..حبابك كتر خيرك على اشراكنا في القراءة هنا.. نحن عندنا مشكلة مع صادرات المكتبة السودانية ، لأنها نادرا ما تصلنا..! الشوف بقي طشاش يا قريبي ، يا ريت تكبر حجم الخط شوية..! المساهمات السابقة ، قاعد انسخها في فايل..واكبر الخط شوية..وبعد داك اقراها..!! ياريت تضع الحكاية في الإعتبار..!! طبعا مكابرة كده ، لسع الواحد ما مقتنع بحكاية النضاره..!! التحية عبر لأستاذنا محجوب.. كبر
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Kabar)
|
أخي الحبيب وصديقي العزيز الأستاذ ول أبا كبر تقبل عميق شكري على الطلة البهية ، وإن شاء الله أسعى لحل مشكلة تكبير الخط ، ويبدو أنه عندي مشكلة حقيقية مع تحديد الخط فعندما اجعله (5) يبدو كبيرا اكثر من اللازم وعندما أجعله (4) او (3) يبدو صغيرا كما هو الحال الآن . تقبل تحياتي ووافر احترامي
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
أتيحت لي فرصة مشاهدة الحمم البركانية عن قرب عندما قمت بزيارة جزيرة هوكايدو وهي واحدة من الجزر الخمس الكبيرة التي يتكون منها الأرخبيل الياباني وتقع في أقصى شمال البلاد وتجاور جزر الكوريل المشهورة التي تتنازع حولها كل من روسيا واليابان منذ الحرب العالمية الثانية . وجزيرة هوكايدو أقل مناطق اليابان من حيث الكثافة السكانية بسبب طول فصل الشتاء وبردها الشديد . شهدت الحمم البركانية في منطقة يطلق عليها هناك اسم "وادي جهنم " ، وهي عبارة عن واد واسع تصل فيه حرارة الصخور البركانية درجة الغليان . والمشهد أشبه بالعصيدة وهي تغلي فوق النار وتتميز المنطقة حول الوادي بدرجات الحرارة المرتفعة ، إذ بالرغم من برودة الجو فإن الواقفين لمشاهدة المنظر العجيب كانوا يتصببون عرقا . وبإمكان الإنسان معرفة مدى ارتفاع درجات الحرارة بوضع يده على السور المضروب حول الوادي لحماية الزوار من الانزلاق داخل هذه العصيدة الصخرية المحمومة. من المشاهد الغريبة التي رأيتها في هوكايدو جبل يطلق عليه أهل البلاد اسم " جبل شووا الجديد " . و شووا هي حقبة حكم الإمبراطور هيروهيتو والد الإمبراطور الحالي . ويحكى أنه في إحدى الليالي في منتصف الأربعينات شعر أهل المنطقة بهزة أرضية وهو أمر لا يهتم له الناس كثيرا خاصة إذا كانت الهزة من النوع الخفيف . في صباح اليوم التالي كما تقول الرواية خرج أحد مزارعي القرية من داره مبكرا للذهاب لحقل الأرز الذي يمتلكه وهو يحدث النفس عن يوم آخر من الأيام المليئة بالروتين الذي يصبغ حياة الفلاحين عادة . وكم كانت دهشة الرجل بالغة عندما وجد أن جبلا يتصاعد منه الدخان قد انتصب في مكان الحقل الأخضر الذي اطمأن عليه قبل أن يعود إلى بيته في الليلة السابقة ، ولا بد أن الرجل قد فرك عينيه جيدا ليتأكد أن الذي يجري أمامه هو حقيقة وليس حلما إذ أنه لا يتوقع أحد أن تنبت حقول الأرز جبالا . قامت الحكومة فيما بعد بشراء الجبل من صاحبه لتحويله لمنطقة سياحية تدر عليها أرباحا طائلة . الغريب في الأمر أنني وجدت الدخان لا زال يتصاعد من أماكن متفرقة من الجبل عندما زرته بعد ما يربو عن الأربعين عاما بعد وقوع الحادثة العجيبة . تعرف اليابان كذلك بوجود عدد هائل من الينابيع الساخنة التي يغرم اليابانيون بزيارتها لإيمانهم بأن مياهها تساعد على شفاء الكثير من الأمراض وبصفة خاصة الرطوبة وبعض الأمراض الجلدية لما فيها من خواص كيميائية عديدة. وقريبا من العاصمة طوكيو توجد منطقة اشتهرت بوجود مثل هذه الينابيع تسمى هاكوني ويؤمها الكثير من الزوار ، ويمكن أكل البيض المسلوق في مياه هذه الينابيع التي تغلي باستمرار ويقول الباعة على سبيل الدعاية أن هذا البيض مفيد للصحة وإن كنت شخصيا أشك في ذلك. وتقوم حول الينابيع الساخنة في مختلف أنحاء البلاد الفنادق لاستقبال الزوار الذين يحبون الانغماس في المياه والاستفادة من خواصها العديدة. والأسلوب المتبع هو توصيل مياه الينابيع عبر أنابيب إلى داخل غرف نزلاء الفندق حيث يمكن للنزيل الاستمتاع بالاستحمام فيها ، كما تقوم بعض الفنادق ببناء أحواض واسعة في الحديقة الخلفية للفندق حيث يمكن للزوار الاسترخاء في الهواء الطلق وهم يستمتعون برؤية عناصر الطبيعة الأخرى من زهور وأشجار وطيور وغيرها. وكبار السن من اليابانيين مغرمون بهذا النوع من الحمامات خاصة إذا كانت في المناطق الباردة حيث يتساقط الجليد ويكون الإحساس بالاسترخاء في المياه الدافئة مضاعفا. ويبدو أن الأمر لا يقتصر فقط على بني البشر فقد شهدت في أحد الأفلام التوثيقية التي عرضتها إحدى القنوات اليابانية أن مجموعة من القرود تستمتع بالانغماس في هذه المياه الدافئة. وللذين تمنعهم ظروفهم من زيارة هذه المناطق للاسترخاء فإن بعض الحمامات العامة في المدن الكبيرة توفر المياه المستجلبة من الينابيع الحارة خصيصا لزوارها. وللذين لا يملكون الوقت أو الرغبة في زيارة الحمامات العامة فإن خلاصة المعادن الموجودة في الينابيع الحارة تباع في عبوات صغيرة في الحوانيت ، وبإضافة القليل منها لماء حوض الحمام المنزلي يمكن للإنسان أن يحصل على الأثر المطلوب. يهتم اليابانيون كثيرا بمسألة الاسترخاء نسبة للضغوط النفسية الهائلة التي يتعرضون لها بسبب الإيقاع السريع للحياة في مجتمعهم الاستهلاكي. لذلك فإن المنتجات التي تساعد على الاسترخاء كمياه الينابيع الحارة وأدوات التدليك تجد رواجا كبيرا في السوق اليابانية. ودخول الحمام في آخر الليل من أهم عناصر روتين العائلة اليابانية ، والغريب في الأمر أن الأب يدخل الحمام عادة مع أطفاله القصر بما في ذلك البنات اللاتي يداوم بعضهن على هذه العادة أحيانا حتى التحاقهن بالثانوي العام. بل إن بعض الآباء يصطحبون أطفالهم بما في ذلك البنات للحمامات العامة ، ورغم أن معظم هذه الحمامات لها أماكن منفصلة للجنسين إلا أن بعضها خاصة في الريف مشتركة. كانت تجربتي الأولى مع الحمام الياباني العام عندما حططت الرحال لأول مرة في فندق من الطراز الياباني ويسمونه " ريوكان" ، وبما أن كل نزلاء الفندق يدخلون الحمام على دفعات في المساء فقد رفضت الدخول وقررت أن أفعل ذلك في الصباح قبل أن يصحو بقية النزلاء من النوم . وكم كانت خيبة أملي عظيمة عندما أدركت أن المياه الدافئة لا تتوفر في الحمام وأنها قد فصلت بعد الاستعمال الجماعي في المساء توفيرا للنفقات ، لذلك فقد اضطررت للاستحمام بالماء البارد وكانت تجربة صعبة للغاية . في المرات القليلة التي اضطررت فيها للإقامة في فنادق على الطراز الياباني بعد ذلك كنت أدخل في مفاوضات مطولة مع إدارة الفندق للسماح لي باستعمال الحمام منفردا وهو أمر كانت إدارة الفندق توافق عليه على مضض مع ضرورة دخولي للحمام مبكرا بعض الشئ عن مواعيد النزلاء اليابانيين . والحمامات المشتركة أمر شائع في اليابان فقد كانت الشقق السكنية وحتى وقت قريب لا تحتوي على حمامات خاصة مما يضطر السكان إما لاستعمال الحمام العام في الحي أو حمام مشترك لمجموعة الشقق التي يقيمون بها ، إلا أن هذه الظاهرة اختفت تماما في الوقت الحاضر وأصبحت كل الشقق السكنية تحتوي على حمامات خاصة بها . يعاني كذلك الإخوة من السودانيين الذين كانت تضطرهم الظروف أحيانا للبقاء بالمستشفيات إذ أن الحمامات هناك مشتركة أيضا ، وقد قامت إحدى السيدات السودانيات بحل المشكلة بأنها كانت تقوم بدخول الحمام قبل الجميع وإغلاق بابه من الداخل بالمزلاج غير آبهة باحتجاجات المرضى الآخرين أو إدارة المستشفى حتى قبل الجميع بهذا الوضع في النهاية .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
اطلعت على مقال نشرته إحدى الصحف اليابانية لاحقا تتحدث فيه عن اهتمام الأباطرة بالشعر ، وقد أورد المقال أن بعض الأباطرة كانوا يتكسبون من الشعر عندما ساءت أحوالهم في عهود حكم الأُسَر. غير أن هؤلاء الأباطرة لم يكونوا يمدحون الحكام كما هو الحال بالنسبة لبعض شعرائنا العرب بل كان مساعدوهم ودون موافقتهم على حد قول المقال يقومون ببيع الرقاع التي كتب عليها هذا الشعر الرفيع بخط الامبراطور مما كان يدر دخلا كبيرا على القصر الامبراطوري . ويمضي المقال للقول أنه بالرغم من القدسية التي تحيط بهم فإن أوضاع الأباطرة لم تكن دائما على ما يرام فقد مرت عليهم عهودا تم فيها نقل العاصمة إلى مدن أخرى في مختلف أنحاء البلاد حيث الثقل السياسي وكان الأباطرة يقبعون في العاصمة الإمبراطورية كيوتو وهم في حالة من شظف العيش أحيانا . تقوم اليابان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على النظام الحزبي التعددي ، ونظامها يحتوي على كل العناصر الضرورية لقيام نظام ديمقراطي حديث من فصل تام بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وتوفير لجميع أنواع الحريات والحفاظ على حقوق الإنسان . غير أن لليابان كما هو متوقع تجربتها الديمقراطية الخاصة بها فهي دون غيرها من الديمقراطيات الغربية التي تعتبر إحداها ظلت تحت حكم حزب واحد لما يقارب الأربعين عاما هو الحزب الديمقراطي الحر الذي جاء نتيجة لاندماج بين الحزبين المحافظين الديمقراطي والحر في عام 1955 . كان الحزب الاشتراكي الياباني طوال هذه المدة هو حزب المعارضة الرئيس حتى أطلق عليه بعض المحللين الساخرين اسم " المعارضة الأزلية " ، وذهب الكثير للقول بأن تركيبة عقلية الحزب قامت على دوره كمعارض حتى إنه لم يكن يفكر طوال هذه المدة في الوصول للحكم بالرغم من أن تداول السلطة هو أساس الديمقراطية التعددية . في اليابان أسلوب غريب للدعاية الانتخابية فبينما يهتم المرشحون في الدول الديمقراطية بالحديث عن برنامجهم الانتخابي الذي يحتوي على الكثير من الوعود والتي عادة ما ينساها المرشح حال فوزه في الانتخابات ، فإن المرشح الياباني يردد عبر مكبرات الصوت اسمه وجملة واحدة فقط لا غير وهي " دوزو يوروشكو أو نيقاشمس " وهي تعني باختصار أرجوكم أن تصوتوا لصالحي . ورغم غرابة هذا الأسلوب فإنني أجده أفضل من الأسلوب الأول فالمرشح هنا ليس مضطرا للكذب على الأقل . يقف المرشح عادة أمام محطات المترو وتقاطع الطرق المزدحمة بالمواطنين على سيارة كبيرة مزينة بصوره وهو يردد دون ملل أو كلل الكلمة التي أشرنا لها أعلاه . ولك أن تتخيل كمية الإزعاج عندما يقرر مرشحان أو اكثر اختيار منطقة بعينها للممارسة الدعاية الانتخابية . غير أننا نادرا ما نشاهد الحملات الانتخابية داخل الأحياء السكنية ولا أدري إن كان هناك قانون يمنع ذلك ، أم أن المرشحين يخشون الأثر السلبي في حالة إزعاج الناس في بيوتهم . غير أن ذلك لا يمنع بعض العاملين في الحملات الانتخابية بالدعوة لمرشحهم في الأحياء ولكن بطريقة أكثر هدوءا من تلك التي نراها في الميادين أمام المحطات وفي الشوارع الكبيرة . لاحظت كذلك أن المرشحين والعاملين معهم - وهم عادة ما يكونون في نفس السيارة – يرتدون في أيديهم قفازات ناصعة البياض ، وعندما سألت أحد أصدقائي اليابانيين عن سر هذا القفاز الأبيض أفادني أن ذلك كناية عن طهارة اليد . وهي ابتكار ياباني عبقري آخر فالمرشح ليس عليه إلا أن يلبس مثل هذا القفاز ليؤكد أمانته وطهارة يده وهو صادق أيضا في ذلك فكلنا نعرف أن الشخص الذي يرتدي قفازا لا يخلف وراءه أي بصمات تؤكد عدم طهارة يده . ولأن المرشحين لا يتحدثون كثيرا فإن الناس لا يأبهون بوجودهم وتراهم مندفعين نحو مصالحهم دون حتى الالتفات لرؤية المرشح أو الفتيات الحسناوات اللاتي يكن ضمن حملته الانتخابية . غير أن الظهور المتكرر أمام الناخبين يؤتي أكله ففي منتصف التسعينات مثلا كان حاكمي أكبر مدينتين في البلاد وهما طوكيو وأوساكا من نجوم التلفزيون المشاهير . الغريبة أن كليهما كانا من الممثلين الهزليين و لا أدري إن كانت هذه رسالة من الناخبين للسياسيين المحترفين أم أنه أمر حدث بالصدفة . تعتبر العلاقات اليابانية الأمريكية هي حجر الأساس الذي تقوم عليه السياسة الخارجية ، ورغم أن الاعتقاد السائد وسط العديد من المحللين خاصة في بلادنا هو أن اليابان ما هي إلا مجرد تابع للولايات المتحدة فإن اليابان كغيرها من الدول تعمل في النهاية على تحقيق مصالحها . وهناك بعض الحالات التي اتخذت فيها اليابان مواقف مخالفة للموقف الأمريكي خاصة في الشرق الأوسط والصين حيث المصلحة اليابانية أوضح . غير أن اليابان تعمل على خلق توازن رائع يخدم مصالحها ويحفظ في نفس الوقت علاقتها الحميمة مع الولايات المتحدة وهو الأمر الذي لا شك أنه يتعرض لامتحان في ظل الهيمنة الأمريكية المتزايدة في السنوات الأخيرة . تمثل اتفاقية الدفاع المشترك بين البلدين حجر الأساس الذي تقوم عليه علاقاتهما وهو أمر طبيعي إذا ما عرفنا أن هناك حوالي الستين ألف جندي أمريكي يرابطون فوق الأراضي اليابانية . يوجد معارضون قليلون لاتفاقية الدفاع المشترك مع الولايات المتحدة وهم عادة من اليمينيين الذين يدعون لعودة اليابان لمجدها العسكري القديم والنظام الإمبراطوري السابق . منذ ثمانينات القرن بدأت الأصوات ترتفع داخل الحزب الحاكم والقوي اليمينية بضرورة أن تلعب اليابان على الساحة الدولية دورا يتناسب وحجمها الاقتصادي الذي يؤهلها لاحتلال الموقع الثاني بين الدول الغنية بعد الولايات المتحدة . يجد هذا الاتجاه تأييدا ودعما من جانب الحكومة الأمريكية التي كانت ولا زالت ترغب في أن تتحمل اليابان جزءا من العبء العسكري الذي تضطلع به الولايات المتحدة كشرطي للعالم . لكن الفقرة التاسعة من الدستور الياباني تحظر إرسال أي قوات يابانية إلى خارج البلاد ويتمسك المواطنون اليابانيون بهذه الفقرة ولا يرون داع لتعديلها ، كما تراقب الدول الأسيوية المجاورة بقلق شديد أي اتجاه نحو عودة الروح العسكرية في البلاد . يمثل هذا قيدا ثقيلا على الحزب الحاكم والمؤيدين لدور أكبر لليابان . برزت هذه المشكلة للوجود بعد حرب 1973 في الشرق الأوسط عندما طلب من اليابان إرسال قوات لهضبة الجولان السورية لمراقبة وقف إطلاق النار هناك ، ولكنها أخذت أبعادا أكبر عندما كانت الولايات المتحدة تعمل على إقامة التحالف الدولي ضد العراق خلال حرب الخليج الأولي في تسعينات القرن الماضي . فشلت الحكومة اليابانية وقتها في إقناع البرلمان والمواطنين بإرسال قوات للخليج فاضطرت لأن تتحمل جانبا كبيرا من تكلفة الحرب ، وهو الأمر الذي وضع الحكومة لاحقا في موقف حرج عندما فازت الدول الغربية كفرنسا وبريطانيا بأغلب مشاريع إعادة التعمير في الكويت والعراق . تعتبر الحرب العالمية الثانية نقطة تحول هامة في تاريخ اليابان السياسي فقد أدت هزيمة دول المحور إلى تحول اليابان إلى ديمقراطية غربية وعضو في التحالف الغربي أثناء الحرب الباردة التي شكلت العلاقات الدولية في فترة ما بعد الحرب . غير أن اليابان عانت في الحرب الأمرين حيث تم تدمير قوتها العسكرية والاقتصادية بصورة تامة كما تعرضت مدنها الكبرى وعلى رأسها العاصمة طوكيو لقصف جوي عنيف في المراحل الأخيرة من الحرب مما أدى إلى سقوط العديد من الضحايا وتدمير هذه المدن بصورة كبيرة . من الظواهر التي أثارت دهشة وغضب قوات الحلفاء في الفترة الأخيرة من الحرب ظهور فرق الطيارين الانتحارية التي كان اليابانيون يطلقون عليها اسم " كاميكازي " ، وهي كلمة يابانية تعني " الرياح المقدسة " . وفرق الكاميكازي تتكون من شباب الطيارين الانتحاريين في سلاح الجو الإمبراطوري والذين عرفوا بتدمير السفن الحربية الأمريكية في المحيط الهادي بتفجير طائراتهم على سطح هذه السفن . ولا بد أن الروح الانتحارية قد أزعجت الأمريكيين ، وهو ما عبر عنه الرئيس ريغان بعد ذلك باربعين عاما تقريبا بعد العملية الانتحارية التي تعرض لها جنود البحرية الأمريكية في العاصمة اللبنانية بيروت . روي عن الرئيس ريغان أنه قال عندما قرر سحب القوات الأمريكية من بيروت " لقد ذهبنا لنخيفهم بسلاح الموت ، فماذا نفعل مع أشخاص لا يخافون الموت " . تقول الروايات اليابانية أن هؤلاء الشباب كانوا يقومون بهذه العمليات الانتحارية دفاعا عن الامبراطور الذي كانوا يعتقدون أنه إله ، وعرف عنهم إقامة حفلات الوداع والتقاط الصور مع بقية زملائهم في الليلة السابقة لتنفيذ العملية الانتحارية . وقد تسببت هذه العمليات في خسائر كبيرة بين القوات الأمريكية ، وكانت أنباءها في ذلك القوت تستقبل بحماس شديد من جانب المواطنين اليابانيين . عندما كنت أدرس بالجامعة جمعتني جلسة مع بعض الطلاب اليابانيين الشباب وقد سألتهم عن رأيهم في الكاميكازي وهل يعتبرونهم شهداء في سبيل الوطن ، وهل يمكن لأي واحد منهم أن يقوم بما قام به هؤلاء الكاميكازي . كان الرد كما توقعت أن الكاميكازي ما هم إلا مجموعة من الشباب الذين تعرضوا لعمليات غسيل مخ بواسطة الحكومة العسكرية في ذلك الوقت وأنهم قد فقدوا أرواحهم بلا طائل . تساءلت بيني وبين نفسي ترى ماذا كان سيكون إحساس أولئك الانتحاريين لو سمعوا رأي هذا الجيل في العمليات التي قاموا بها بدافع حب الامبراطور والوطن . اعتقد أن موقف الطلاب الذين جمعتني بهم الجلسة عن الكاميكازي يعكس التحول الكبير الذي حدث في تركيبة الشخصية اليابانية منذ الحرب العالمية الثانية ، فالغالبية العظمى من الشعب الياباني تنظر الآن للأمريكيين بأنهم حداة تحرير اليابان واليابانيين من قبضة الجيش الإمبراطوري كما قال رئيس وزرائهم كوإيزومي في لقاء له بالرئيس الأمريكي بوش . لا أشك في أن علاقة المواطن الياباني بأمريكا معقدة للغاية وهي تتراوح بين الإعجاب الشديد بالقوة الأمريكية والرغبة في الانتصار على الولايات المتحدة وهو ما تسعى اليابان لتحقيقه على المستوى الاقتصادي . كلما فكرت في جلستي مع الطلاب الجامعيين أحاول أن أتخيل نظرة الأجيال العربية القادمة للولايات المتحدة وعملية احتلال أو تحرير العراق . تعود أصول كلمة " كاميكازي " أو الرياح المقدسة للقرن الثالث عشر الميلادي عندما تعرضت اليابان ولأول مرة في تاريخها لغزو أجنبي قاده المغول بعد أن دان لهم العالم الاسلامي والصين . قام المغول بإعداد أكبر أسطول بحري عرفه العالم حتى ذلك التاريخ لغزو اليابان في عام 1274 ومرة أخرى في عام 1281 . في الحالتين تعرضت الحملة المغولية لرياح عاتية في بحر اليابان مما رسخ عند اليابانيين فكرة حماية بلادهم عن طريق الآلهة إذ أن قوتهم لم تكن لتصمد أمام القوة المغولية فأطلقوا على هذه العواصف البحرية اسم الرياح المقدسة . رغم القصف المتواصل للمدن الكبرى في اليابان والذي راح ضحية له 670 ألفا من الضحايا كما تقول التقديرات فقد ظل الجيش الامبراطوري رافضا للاستسلام حتى قامت القوات الأمريكية ولأول مرة في التاريخ باستعمال السلاح الذري ضد مدن مأهولة بالسكان. وحتى بعد استعمال السلاح الذري فقد اضطر الإمبراطور للتدخل لإعلان الاستسلام في وجه معارضة شديدة من قيادات الجيش. يعتبر إلقاء القنبلتين الذريتين على مدينتي هيروشيما ونغازاكي في المراحل الأخيرة من الحرب أكثر الفصول مأساوية في الحرب العالمية الثانية على الاطلاق. ألقيت القنبلة الأولى على مدينة هيروشيما في يوم 6 أغسطس 1945 ، وألقيت الثانية بعد ثلاثة أيام على مدينة ناغازاكي. وتقول الروايات أن مدينة ناعازاكي كانت واحدة ضمن ثلاثة أهداف لإلقاء القنبلة وقد أدرك الطيار المكلف بالعملية استحالة إصابة الهدفين الأولين لأن الجو فوقهما كان ملبدا بالغيوم وعندما وصل إلى البديل الثالث وهو مدينة ناغازاكي وجد سماءها ملبدة بالغيوم أيضا فقرر أن يتجه نحو المحيط ويقوم بإلقاء القنبلة في البحر إذ لم يكن بإمكانه الهبوط بها في القاعدة الجوية الأمريكية التي انطلق منها حيث كان احتمال انفجارها عند الهبوط واردا. وفي الدورة الأخيرة قبل مغادرة مدينة ناغازاكي انكشفت الغيوم بالدرجة التي سمحت للطيار بإلقاء القنبلة المدمرة مما أدى إلى مقتل مئات الآلاف من المدنيين . تركت زيارتي إلى مدينة هيروشيما في نهاية عام 1978 آثارا قاسية للغاية على نفسي ، فالفيلم الذي شاهدته في سينما حديقة السلام والذي جرى تصويره بعد إلقاء القنبلة مباشرة كان محزنا للغاية خاصة مشاهد أهالي هيروشيما وهم يندفعون نحو النهر بعد أن سلخت جلودهم بسبب درجات الحرارة العالية التي خلفتها القنبلة. كما أن زيارة واحدة للمتحف الخاص بالقنبلة تكفي لترك آثار باقية في النفس عن بشاعة الجريمة ، كما قمت بزيارة اللوحة التي سجلت عليها أسماء مئات الآلاف من الضحايا الذين فقدوا حياتهم فور انفجار القنبلة ولعشرات السنين بعد ذلك. لم ينج من آثار القنبلة حتى الأجيال التي جاءت للدنيا بعد سنوات طويلة من نهاية الحرب بسبب الآثار البيئية المدمرة التي خلفها الانفجار مما زاد من نسبة الإصابة بمرض السرطان في المدينتين التعيستين. وتوضح القياسات التي تجريها وكالة البيئة اليابانية كل عام تقريبا أن نسبة الإشعاع الذري في هاتين المدينتين لا زالت تفوق بعشرات الأضعاف النسبة العادية. .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
لو كان غرض السلطات اليابانية هو زرع كراهية الحرب في من يقومون بزيارة هيروشيما فلا شك أنهم قد نجحوا نجاحا كبيرا ، إذ لا أعتقد أن أحدا يمكن أن يخرج من زيارة المدينة ومتحفها ألا وهو يكره الحروب وآثارها المدمرة. ربما كان من المناسب أن تقوم الحكومة السودانية بإقامة متحف للآثار المدمرة للحرب في جنوب السودان ، إذ أن ذلك سيكون في اعتقادي الخطوة الأولى نحو نشر ثقافة السلام. كان برنامج زيارتي يشمل الذهاب أيضا إلى مدينة ناغازاكي ولكني قررت إلغاء زيارتي للمدينة بعد التجربة المريرة التي عشتها في هيروشيما . هناك اعتقاد سائد – وهو صحيح في مجمله - بأن اليابان تمكنت خلال قرن واحد فقط من تحقيق معجزتين اقتصاديتين قل أن يجود الزمان بمثلهما. الأولى في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عندما انتقلت اليابان في ظرف ثلاثين عاما تقريبا من دولة إقطاعية زراعية متخلفة إلى دولة تعتبر في عداد الدول الصناعية الكبرى في ذلك الوقت ، وتحولت من دولة معزولة لما يزيد عن القرنين من الزمان إلى دولة استعمارية تنافس القوى الأوربية العظمى على اقتسام المستعمرات وبسط نفوذها على الشعوب الأخرى خاصة في آسيا . تمكنت اليابان خلال هذه الفترة من إلحاق الهزيمة العسكرية بأكبر دولتين مجاورتين لها وهما الصين والإمبراطورية الروسية ، كما أخضعت شبه الجزيرة الكورية لاستعمار طويل استمر منذ مطلع القرن العشرين وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية . وقد انفعل شاعر النيل حافظ إبراهيم بانتصار اليابان على الإمبراطورية الروسية باعتباره نصرا فريدا لأحدى الدول الصغيرة على واحدة من القوى العظمى في ذلك الزمان فنظم قصيدة رائعة تعكس الفرحة بهذا الانتصار . أما المعجزة الثانية فقد وقعت في أعقاب الحرب العالمية الثانية عندما استطاعت اليابان في أقل من عشرين عاما إعادة بناء اقتصادها الذي دمرته الحرب تماما ولحقت بركب القوى الاقتصادية العظمى بل تفوقت على دول عريقة مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا . وتشير بعض الإحصائيات إلى أن الدخل القومي الياباني يعادل حاليا اثني عشر ضعفا بالنسبة للدخل القومي لروسيا الاتحادية بالرغم من الفارق الكبير في المساحة والموارد الطبيعية . ولعل مما زاد قيمة المعجزة الثانية بصفة خاصة هو أن اليابان تعتبر من الدول الفقيرة في الموارد الطبيعية ، وأنها قد استطاعت تحقيق هذه المعجزة اعتمادا على الكفاءة الانتاجية العالية لقواها العاملة . ورغم أن هذه الإنجازات تستحق فعلا أن توصف بأنها معجزات إلا أن لها بالطبع كما لكل الأحداث التي يشهدها العالم قرائن ومسببات تقترن أساسا بطبيعة الشعب الياباني والنظام الإداري الذي كان سائدا في البلاد خلال الفترتين المذكورتين . في الفترة التي أطلق عليها في التاريخ الياباني اسم "عهد أيدو" نسبة للعاصمة التي تحول اسمها لاحقا إلى طوكيو والتي سيطرت فيها أسرة توكوغاوا على الحكم من منتصف القرن السابع عشر وحتى منتصف القرن التاسع عشر ، شهدت البلاد تطورات اقتصادية هامة قادت لهجرة واسعة نحو المدن مما أدى لزيادة كبيرة في سكان الحضر . وقد تبع ذلك كما هو الحال دائما تحول الاقتصاد من اقتصاد ريفي يقوم على الزراعة إلى اقتصاد حضري يقوم على تنوع النشاط من صناعة وخدمات واستثمار أموال . وقعت هذه التطورات الكبيرة في الوقت الذي كانت فيه اليابان تعيش عزلتها المجيدة بعيدا عن المراكز الاقتصادية الهامة في العالم . من ضمن ظواهر الشكل الجديد للاقتصاد نشوء نظام نقدي يقوم حول مكاتب تسليف الأموال ، وبحلول عام 1670 كانت هناك عشرة مكاتب لتسليف الأموال في مدينة أوساكا وحدها والتي كانت ولا زالت تعتبر العاصمة الاقتصادية للبلاد . وبما أن هذه المكاتب كانت تقوم بالدور الذي تقوم به المصارف في النظم الاقتصادية الحديثة فقد تطورت هذه المكاتب لاحقا لتصبح مصارف حديثة لعبت دورا هاما في الاقتصاد الياباني . بدأت الحياة في المدن تجذب المزيد من المهاجرين الذين ظلوا يفدون من الريف للبحث عن العمل في القطاعات الاقتصادية الحديثة ، كما ساعد توفر الخدمات المختلفة وانتشار الملاهي في أن تصبح الحياة في المدن أكثر راحة واستقطابا للشباب المنتج بصفة خاصة . برزت إلى الوجود منذ ذلك الوقت المبكر البيوتات التجارية الكبيرة أمثال ميتسوي وسوميتومو والتي لا زالت تلعب دورا هاما في الاقتصاد الياباني بعد أن ازداد حجمها بصورة كبيرة مع نمو الاقتصاد . مع منتصف القرن الثامن عشر الميلادي كانت نسبة سكان المدن في اليابان قد بلغت 10% من جملة سكان البلاد وهي نسبة كانت كفيلة بنمو الطبقة الوسطى التي تعتبر إحدى المقومات الأساسية لتحقيق النمو الاقتصادي في أي بلد . مع قيام حركة ميجي الإصلاحية في عام 1868 كانت اليابان تمتلك عددا من العوامل الضرورية لتحقيق الانطلاقة الاقتصادية ومن بينها نسبة التعليم العالية والتي بلغت أكثر من 40% من جملة سكان البلاد في ذلك الوقت المبكر من تاريخ اليابان ، والفائض الكبير في العمالة الزراعية بفضل الزيادة المستمرة في عدد السكان وإدخال تكنولوجيا أكثر تطورا في الأساليب الزراعية ، ومجتمع نقدي متطور تحت سيطرة طبقة تجارية تميزت بالغنى والمقدرات الاستثمارية العالية ، ووجود طبقة الساموراي التي كانت على درجة كبيرة من التعليم وتراكمت لديها خبرات على مدى مئات السنين مما جعلها في وضع مكنها من توفير القيادات الإدارية المطلوبة لإحداث الطفرة الاقتصادية . نفذت السلطات اليابانية وبناء على هذه الأرضية المتينة إصلاحات اقتصادية واسعة في مختلف القطاعات مما ساعد على تحقيق النهضة الاقتصادية المطلوبة . قامت الحكومة في البداية بإلغاء نظام العملة المعقد الذي كان سائدا واستبدلته بنظام جديد يقوم على النظام العشري المبسط ، كما أجرت تعديلات واسعة في قوانين البنوك والمؤسسات الاقتصادية . تم اقتباس النظام المصرفي المتبع في الولايات المتحدة في ذلك الوقت ، وأنشئ بنك اليابان المركزي في عام 1882 لتنظيم نشاط المصارف في البلاد . وفي عام 1897 تم افتتاح عدد من البنوك الخاصة التي أقيمت على القواعد العالمية الحديثة في النظام المصرفي بديلا لبيوت التسليف وارتفعت بصورة كبيرة نسبة الودائع عندما تمكنت البنوك من استقطاب وفورات المواطنين ، وقد تميز الاقتصاد الياباني دائما بنسبة عالية للتوفير مما أتاح فرصا واسعة للتمويل . كان تركيز الثروة في أيدي طبقة التجار الغنية ذات الإمكانيات الاقتصادية الكبيرة سببا في الاستثمار بصورة واسعة في المجال الصناعي حيث قام هؤلاء التجار باستثمار الفائض من أموالهم في شراء أحدث الماكينات التي توفرت عندئذ في السوق العالمية . لم تكتف اليابان بشراء التكنولوجيا الحديثة فقط من أوربا بل إنها بدأت ومنذ ذلك الوقت المبكر بابتعاث شبابها إلى تلك الدول لاكتساب الخبرات ، ويعرف الجميع القصة المتواترة عن الزعيم الياباني الذي قال إن أجمل الأصوات التي سمعها في حياته هو صوت الماكينة التي طورها مهندس ياباني درس الهندسة في إحدى الدول الأوربية . الغريب أن تركيز محمد علي باشا عند بداية اتصاله باوربا قبل ذلك الوقت بعشرات السنين كان على نقل التكنولوجيا الأوربية الحديثة للاستفادة منها في ترسيخ نفوذه في الشرق العربي ، ولكن لسبب ما تحول الدارسون المصريون في أوربا بعد ذلك إلى دراسة العلوم الإجتماعية بدلا من العلوم الطبيعية مما يشير إلى سوء التخطيط الاستراتيجي الذي أضاع فرصة نادرة على مصر والعالمين العربي والإسلامي . كانت صناعة النسيج هي الرائد في مجال الصناعة عموما في اليابان وذلك بسبب تشجيع الدولة لهذه الصناعة بناء على سياستها المعلنة للاكتفاء الذاتي في هذا المجال . وقد أتت السياسة أكلها فبحلول عام 1897 كانت اليابان من الدول المصدرة للنسيج بعد أن كانت من الدول المستوردة في السابق ، وقد ساعد توفر الأيدي العاملة الرخيصة المتمثلة أساسا في نساء الفلاحين إلى أن تتمكن اليابان من منافسة الدول الأخرى في هذا المجال والتفوق عليها . كانت القوة التنافسية اليابانية في هذا المجال كبيرة للغاية مما أزعج دولا ذات باع طويل في هذا المجال كالولايات المتحدة وبريطانيا حتى شاعت حينها القولة المشهورة " الخطر الأصفر " . انتعشت صناعة النسيج انتعاشا واسعا خلال الحرب العالمية الأولى عندما انشغلت الدول الأوربية بالحرب مما أتاح لليابان فرصة نادرة لغزو الأسواق الأسيوية ولعبت هذه الصناعة دورا هاما في قيادة النهضة الاقتصادية العامة للبلاد . وفي عام 1918 كانت باليابان ستة شركات كبيرة للنسيج لا تقل في حجمها عن معظم الشركات العالمية الكبرى عندئذ . كانت اليابان ترزح وقتها تحت ما سمي بالاتفاقيات غير المتكافئة التي أعطت اليابانيين الإحساس بالدونية وحفزتهم للمزيد من العمل الجاد من أجل اللحاق بالدول الغربية والتفوق عليها . لذلك فقد اتبعت الحكومة اليابانية منذ ذلك الوقت سياسة التركيز على أحد القطاعات الرائدة بغية أن يلعب هذا القطاع دوره في قيادة بقية القطاعات في نهضة صناعية واقتصادية شاملة وقد تم توجيه كل الإمكانيات لدعم الصناعات الرائدة التي يمكن أن تقود لتحقيق هذا الهدف . كانت الدول الكبرى تسعى حينها لامتلاك القوة التي تمكنها من توسيع الأسواق لمنتجاتها عن طريق بسط نفوذها على المستعمرات وقد آثرت اليابان ألا تتخلف في هذا المجال ، لذلك فقد وجدت صناعتا الحديد وبناء السفن تشجيعا من الحكومة التي دعمت القطاع الخاص وتدخلت بنفسها عن طريق الاستثمار المباشر في بعض الأحيان . تولدت عن هذا التعاون الوثيق ظاهرة تميز بها الاقتصاد الياباني إلى يومنا هذا وهي التنسيق الكامل بين الدولة والقطاع الخاص مما عرض اليابان لاحقا للكثير من الهجوم في الدوائر الغربية باعتبار أنها تتبع أساليب غير عادلة كالإغراق بخفض الأسعار بالنسبة لسلع التصدير ودعم صناعاتها حتى تتمكن من المنافسة في السوق العالمي .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
خلال عقدي العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي برزت للوجود الشركات التجارية الكبرى التي عرفت باسم " زايباتسو " وكانت تعمل في المجال التجاري بصفة أساسية إلا أن نشاطاتها الاقتصادية كانت متنوعة لتشمل التصنيع والمواصلات وغيرها من المجالات . كان لهذه الشركات دورا هاما في توسيع الأسواق اليابانية الخارجية وخاصة في الدول المجاورة والقارة الأسيوية عموما ، كما أن بعضها مثل ميتسوبيشي وكاواساكي وهيتاشي ارتادت مجال الصناعات الثقيلة وعلى رأسها صناعة السفن والتعدين . ويقول بعض المؤرخين أن هذه الشركات وفي سعيها لتوسيع أسواقها كانت تروج بصورة واضحة للأفكار الداعية للتوسع الاستعماري خاصة في الدول الأسيوية المجاورة . تصادفت هذه الرغبة لدى الشركات الكبيرة مع ظهور العديد من الجمعيات السرية خلال العقد الثالث من القرن العشرين والتي كانت تتسم بالتطرف الوطني وتدعو لاحتلال اليابان موقعها المستحق بين القوى العظمي عن طريق التوسع الاستعماري . بدأ التعاون بين هذه المجموعات والشركات الكبيرة عندما قامت الشركات بتمويل جمعيات الدراسة التي تروج لأفكار هذه المجموعات المتطرفة . أدت هذه الأجواء إلى وقوع ما عرف في التاريخ الياباني بحادثة منشوريا في عام 1931 عندما قام الجيش الياباني الموجود هناك ودون تعليمات من قيادته باحتلال مناطق واسعة من منشوريا وهي الحادثة التي قادت في النهاية للحرب اليابانية الصينية والتي استمرت لثماني سنوات من 1937 وحتى 1945 . أدت الحادثة والحرب التي أعقبتها إلى انتعاش مؤقت في الاقتصاد الياباني وخاصة بالنسبة للقطاع الزراعي الذي كان منوطا به توفير الغذاء للجيش الياباني المتعاظم في الصين ، وقد كان ترحيب القطاع الزراعي بهذه التطورات كبيرا إذ كان يعيش أزمة بسبب الركود الذي عانى منه خلال عقد العشرينات . غير ان الأحداث جرت اليابان بعد ذلك كما هو معروف إلى دخول الحرب العالمية الثانية إلى جانب دول المحور في عام 1941 مما عرضها في السنوات الأخيرة من الحرب إلى قصف متواصل أدى إلى دمار اقتصادها وانتشار المجاعة في ربوع البلاد . قمت يوما برفقة أحد الأخوان السودانيين وصديق ياباني من المتقدمين في السن بتناول وجبة الغداء في أحد المطاعم ، وقد عجبنا عندما سألنا الصديق الياباني إن كنا قد عشنا تجربة المجاعة من قبل . ورغم أننا استغربنا السؤال إلا أننا أجبنا بلسان واحد: "لا والحمد لله" فقال الرجل: "لقد سألتكما هذا السؤال عندما لاحظت أنكما قد تركتما كمية من الأرز على الصحون مما يدل بأنكما لم تعيشا هذه التجربة المريرة". ثم مضى الرجل ليحكي لنا أيام المجاعة في طفولته التي عاشها وقت الحرب وكيف أن والدته كانت تضربه ضربا شديدا إذا ألقى بحبة أرز على الأرض ، وتقوم بعد ذلك برفعها وغسلها ثم أكلها وقد تعود هو منذ ذلك الوقت ألا يترك حبة أرز واحدة على الصحن . ورغم مرور عشرات السنين والعيش الرغد الذي ينعم به المجتمع الياباني في الوقت الحاضر إلا أن الرجل قال أنه لا يزال يذكر تلك التجربة القاسية ويحس أحياناً أن النعمة قد تزول في أي وقت ويعود الحال لما كان عليه في السابق لذلك فإنه وعلى حد قوله يكره الحرب كراهية فائقة. ذكرني حديث الرجل برسالة كنت قد كتبتها لإحدى الصحف اليابانية أقارن فيها بين المجاعة التي يروح ضحية لها آلاف الأطفال في أفريقيا وبين خبر نشرته الصحيفة من أن محلية واحدة في جنوب اليابان تقوم بإلقاء ما يعادل ملايين الدولارات من بقايا الأكل في براميل الزبالة وهو أمر يتكرر وللأسف حتى في الدول التي يعاني بعض مواطنيها من المجاعة . وأذكر أن الصحيفة قد وجدت الرسالة مؤثرة للدرجة التي جعلتها تقوم بترجمتها للغة اليابانية ونشرها في نسختها اليابانية ليطلع عليها أكبر عدد من القراء ، والواضح أن الجيل الجديد من اليابانيين لا يشاطر صديقي العجوز تجربته . والمشاهد لبعض الأفلام الوثائقية عن اليابان بعد الحرب العالمية يدرك مدى الجهد الذي بذله اليابانيون من أجل الارتقاء ببلادهم ، تظهر تلك الأفلام الأطفال الهائمين في الشوارع وهم يستجدون السابلة من أجل لقمة العيش وهم يرتدون أسمالا بالية مما يذكر الإنسان بحال أطفال الشوارع في عدد من دول العالم الثالث ومن بينها بلادنا الحبيبة. كان للتقدم الاقتصادي السريع الذي حققته البلاد آثارا سلبية على بعض قطاعات الاقتصاد وبصفة خاصة على القطاع الزراعي الذي جاء تطوره أقل سرعة من القطاعات الأخرى ، مما جعل البلاد تعاني مما يعرف بالاقتصاد المزدوج حيث تسجل بعض القطاعات معدلات نمو عالية بينما تظل الأخرى في حالة من الركود أو النمو البطئ. وقد تبع هذه الظاهرة عدد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي برزت بصورة أكثر حدة خلال فترة النمو السريع التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية. شهدت فترة الحرب تحول الاقتصاد الياباني بأكمله إلى اقتصاد حرب ، وقد عانت البلاد كثيرا بسبب المقاطعة الاقتصادية الأمريكية بعد دخول الأخيرة الحرب ضد اليابان في أعقاب الهجوم المفاجئ على ميناء بيرل هاربر. تمكنت اليابان بعد احتلال بعض الدول الأسيوية من توفير المواد الخام في الفترة الأولى من الحرب إلا أن سنوات الحرب الأخيرة أوضحت بجلاء مواقع الضعف في الاقتصاد الياباني وبصفة خاصة النقص الكبير في المواد الخام وعجزه عن دعم حرب طويلة ضد القوى العظمى في العالم في ذلك الوقت. وقد اضطرت الحكومة إلى وضع يدها على كل ما هو متاح من مواد خام في البلاد وتوجيهها نحو التصنيع العسكري حتى إنها قامت بمصادرة عدد من التماثيل المقامة في الميادين العامة وصهرها ومن ثم استعمالها في الصناعات الحربية ، وهي التماثيل التي أعيد نصبها بعد الحرب بجهد شعبي في الغالب الأعم. ولعل الأثر الأكبر على القوة العسكرية اليابانية كان عجز الحكومة عن توفير المحروقات بسبب المقاطعة الأمريكية ولاضطراب الأحوال في المستعمرات اليابانية المنتجة للبترول في آسيا. خرجت اليابان مهزومة من الحرب العالمية الثانية بعد أن ألقيت على أراضيها ولأول مرة في تاريخ البشرية قنبلتان ذريتان ، كما أن القصف الأمريكي المتواصل في السنوات الأخيرة من الحرب ساهم في تدمير الاقتصاد الياباني بصورة تامة. كان الاقتصاد في السنوات الأولي التي أعقبت الحرب مشلولاً بصورة تامة وكانت البلاد تعاني من نقص حاد في الغذاء ، وارتفاع كبير في نسبة التضخم ، وسوق سوداء شملت كل السلع تقريبا. وقد ضاعف من حدة الأزمة عودة ستة ملايين ياباني كانوا يقيمون بالمستعمرات اليابانية في آسيا وهي المستعمرات التي فقدتها اليابان بسبب الهزيمة في الحرب. انضم الملايين الستة إلى كشف العاطلين عن العمل ، وللأفواه الجائعة التي يجب أن تطعم. كان هؤلاء العائدون عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد الياباني في السنوات التي أعقبت الحرب مباشرة ، ولكنهم بالإضافة للمسرحين من القوات المسلحة شكلوا القوى العاملة الرخيصة التي كان الاقتصاد يحتاجها عندما بدأ رحلة العوده لعهده السابق مع حلول عام 1951. وقعت اليابان بعد هزيمتها في الحرب تحت الاحتلال الأجنبي لأول مرة في تاريخها عندما تم تكوين إدارة اسمية للإحتلال من الحلفاء كانت في حقيقتها أمريكية فيما عدا تمثيل رمزي لبعض دول الحلفاء. جاءت سلطة الاحتلال تحت قيادة الجنرال الأمريكي الشهير دوغلاس ماك آرثر الذي أطلق عليه اليابانيون لقب " شوقن " وهو الاسم الذي كان يسمى به الحاكم العسكري تحت النظام الذي كان سائداً في اليابان قبل حركة الميجي الإصلاحية في القرن التاسع عشر. بالرغم من فقدان اليابان لسيادتها بسبب هذا الاحتلال إلا أن إعادة النظر في تلك الفترة تنبئ بأن بعض السياسات التي اتخذها الاحتلال كانت من ضمن الأسباب التي ساعدت على النهضة الاقتصادية السريعة التي شهدتها اليابان فيما تلى من سنوات. كان القرار بحل القوات المسلحة اليابانية وتضمين ذلك في الدستور سبباً في تخفيض الموارد الكبيرة التي كانت توجه نحو تجنيد القوات وتسليحها ، وقد أدى هذا إلى توفير موارد هائلة للاستثمار والانتاج. من ناحية أخرى ، فقد اتخذت سلطات الاحتلال بعض الخطوات الإصلاحية في مجال الاقتصاد كفك الاحتكار الذي كانت تمارسه الشركات الكبيرة والتي عرفت باسم "زايباتسو" مما أتاح فرصة واسعة للمنافسة وتحسين مستوى الأداء ، والاصلاح الزراعي الذي أنهى النظام الاقطاعي وقام بتمليك الأرض للمزارعين مما كان حافزاً للمزيد من الانتاج في هذا المجال المهم ، بالإضافة إلى السماح بحرية التنظيم النقابي مما وفر الأمن الوظيفي وساعد كثيراً في ارتفاع مرتبات العمال وبالتالي انتاجيتهم. ومع أن سلطات الاحتلال تراجعت بصورة جزئية عن بعض هذه الإصلاحات بسبب ظروف الحرب الباردة التي بدأت تطل برأسها في ذلك الوقت ، إلا أن ذلك لا ينفي أن الاصلاحات المذكورة ساعدت بصورة واضحة في النمو السريع للاقتصاد الياباني في السنوات التي تلت نهاية الحرب ، خاصة وأن ذلك توافق مع دعم أمريكي واسع للاقتصاد الياباني وتوسع في الاقتصاد العالمي ككل بسبب الموارد التي وجهت لإصلاح ما دمرته الحرب في أوربا ومناطق أخرى من العالم. انطلق الاقتصاد الياباني مع نهاية الاحتلال فشهدت الفترة من 1955 وحتى 1965 نسبة نمو بلغت 11% في العام في المتوسط ، وعند مقارنة ذلك مع نسبة 4.3% لألمانيا و 4% للولايات المتحدة في نفس الفترة فإنه يمكن إدراك السرعة الفائقة التي كان ينمو بها الاقتصاد الياباني. قام هذا النمو السريع على الاستثمار في السلع الرأسمالية وقد استفادت الشركات اليابانية من مقدرة المواطن الياباني العالية على الادخار مما أدى إلى إتاحة موارد هائلة بالإضافة للدعم الامريكي. من ناحية أخرى ، لعبت الحرب الكورية دوراً مهماً في نمو الاقتصاد الياباني حيث كانت الشركات اليابانية تمد الجيش الأمريكي بمعظم احتياجاته مما جعلها تعمل بطاقتها القصوى في مختلف المجالات. شجع هذا النمو الكبير الحكومة اليابانية للإعلان في عام 1960 عن خطتها الطموحة بمضاعفة الدخل القومي خلال عشرة سنوات ، وعملت الحكومة لتحقيق هذا الهدف بتشجيع الادخار والاستثمار ودعم المصانع التي تقود النمو والإرتقاء بقطاع التصدير. قامت اليابان كما هو متوقع بتحقيق هدفها بمضاعفة الدخل القومي قبل انقضاء السنوات العشرة التي حددت لذلك. قرأت كثيرا عن مقدرة المواطن الياباني الفائقة على الادخار مما كان له أكبر الأثر في توفير موارد مالية ضخمة للبنوك اليابانية والتي استغلتها في الاستثمار في مختلف النشاطات الاقتصادية ، غير أنني عرفت اهتمام اليابانيين بالمال مهما كان حجمه محدوداً من حادثتين. الأولى وقعت عقب وصولي لليابان مباشرة فبعد أن حاسبت إحدى الفتيات العاملات بأحد المحلات كان من المفروض أن تعيد لي مبلغ ثلاثة ينات ويعادل وقتها حوالي 15 مليما سودانيًا. وكعادة أهلنا في السودان قررت ألا أنتظر الفتاة حتى تعيد لي المبلغ إذ أنه أتفه من أن أنتظره. بعد أن خرجت من المتجر وقطعت مسافة حوالي مائة متر إذا بصوت الفتاة تناديني ، التفت ناحيتها ووجدتها تحمل صحنا صغيرا فيه 15 مليما وأنفاسها تتلاحق مما يؤكد أنها كانت تركض خلفي. مدت إلى الصحن قائلة "لقد نسيت الباقي" ، لم أحاول أن أشرح لها السبب وراء عدم انتظاري فقد قدرت أنها لن تفهم. وقعت الحادثة الثانية وأنا وقتها طالب في الجامعة. كان الاستاذ المشرف على بحثي قد كلف إحدى زميلاتي بمساعدتي في اللغة اليابانية ، وكانت هي في نفس الوقت تدرس اللغة العربية. في يوم من الأيام احتجت لمساعدتها واقترحت عليها أن نذهب للمقهي المجاور للجامعة بدلاً من الجلوس على كنبة في حديقة الجامعة حيث البرد الشديد. وبعد أن أجابت زميلتي على استفساراتي سألتني عن بعض المسائل الشائكة عليها في اللغة العربية. عند مغادرتنا المقهى دفعت الفاتورة فما كان منها إلا أن أخرجت المبلغ الذي يخصها وقدمته لي. رفضت أن أستلم المبلغ قائلاً لها بأنني سأتحمل الفاتورة كاملة ، اندهشت وعللت ضرورة دفع ما يخصها لأنها سألتني في اللغة العربية كما سألتها في اللغة اليابانية. ضحكت وقلت لها "ولكن أجري عن حصة اللغة العربية أعلى بكثير من ذلك" ، ثم تطوعت هذه المرة لأشرح أن عادتنا في السودان هي أن يدفع شخص واحد فاتورة المطعم أو المقهي مؤكداً لها أن من المناظر المألوفة عندنا أن ترى عددا من الأشخاص يتجادلون بأصوات مرتفعة وكل واحد منهم يصر على تسديد المبلغ. ظلت زميلتي تتحين الفرص حتى تمكنت من رد ما اعتبرته جميلاً في أحد الايام. أدركت وقتها معنى المثل الياباني الشهير الذي سمعته كثيرا والذي يقول بلغة القوم "تادا يوري تاكاكو ناي" ، وهو يعني باللغة العربية ليس هناك ما هو أغلى من المجان. تمكنت اليابان بحلول عام 1968 من القفز للمركز الثاني بعد الولايات المتحدة مباشرة من حيث حجم الدخل القومي متجاوزة بذلك دولاً كبريطانيا وفرنسا وألمانيا ، مما اعتبر معجزة كبيرة بالنسبة لدولة خرجت من الحرب العالمية الثانية وهي في حالة دمار شبه تام. غير أن هذا النجاح لم يكن بالطبع دون ثمن فقد رافقت النمو السريع للاقتصاد بعض الظواهر السلبية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
تعتبر اليابان من أكثر بلاد العالم تجانسا من الناحية العرقية في الوقت الحاضر ، إلا أنها كانت على مدى تاريخها الطويل موطنا للعديد من السلالات البشرية . تشير الحفريات إلى أن الإنسان قد عاش في اليابان منذ مائتي ألف عام تقريبا ، غير أن الهجرات التي كونت السلالة اليابانية الحالية قد توافقت كما يقول علماء التاريخ القديم مع الهجرات الواسعة التي بدأتها قبل حوالي عشرين ألف سنة الأجناس القوقازية والزنجية التي كانت تقطن آسيا الوسطى . يقول المؤرخون أن هذه الهجرات أخذت اتجاهين ، أحدهما إلى جنوب غرب آسيا واستراليا والآخر إلى شمال شرق آسيا . يرى بعض المؤرخين أن الجنس الذي سكن اليابان في البداية هو ما يعرف حاليا بقبائل الآينو وهي قبائل قوقازية تمت إزاحتها بواسطة الهجرات اللاحقة والقادمة من الجنوب حتى لم يبق منها إلا عدة آلاف في جزيرة هوكايدو في أقصى الشمال . تقول الدراسات التاريخية أن الآينو قد جاءوا أساسا من سيبيريا وأنهم استوطنوا في جزر سخالين الروسية والجزر اليابانية وأنهم يشكلون حاليا بقايا ما عرف بشعب "جومون" الذي استوطن اليابان قبل 13000 عام . تعرض الآينو للاضطهاد عبر تاريخهم الطويل من جانب الجنس المسيطر حاليا في اليابان ، وقد شهدت مناطقهم في جزيرة هوكايدو العديد من الانتفاضات ضد الحكومة المركزية غير أن أسلحتهم المتخلفة كانت تخسر دائما أمام أعدائهم الأكثر تطورا . منذ بداية عهد ميجي في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي أصدرت الحكومة اليابانية المركزية عددا من القوانين التي تنظم وجود الآينو ، وقد ساعدت هذه القوانين في دمجهم في المجتمع الياباني بعد أن حوربت لغتهم وثقافتهم حتى إنهم لا يستطيعون التسمي بأسماء أسلافهم إذ أن كل من يرغب في الحصول على الجنسية اليابانية لا بد له من التسمي باسم ياباني . وقد تزاوج الآينو بصورة واسعة مع اليابانيين ففقد الكثيرون منهم سماتهم المميزة كما إنهم اضطروا لهجر العديد من عاداتهم التي تختلف عن عادات الأغلبية . وبما أن الحكومة اليابانية لا تعترف بالآينو كأقلية فإنه لا توجد إحصائيات بأعدادهم وتختلف التقديرات بين 25 ألفا ومائة ألف استطاع الآينو عبر منظمات المجتمع المدني والدعم الذي وجدوه من بعض المنظمات الغربية الحصول على اعتراف الأمم المتحدة بهم كسكان أصليين لليابان وذلك بمناسبة عام السكان الأصليين في بداية التسعينات من القرن الماضي . يقيم ما تبقى من أفراد قبيلة الآينو حاليا في قرى أشبه بالمعسكرات التي يقيم بها الهنود الحمر في الولايات المتحدة بدعوى الحفاظ على هويتهم وثقافتهم . وقد شاء الله أن أقوم بزيارة إحدى هذه القرى عند زيارتي لهوكايدو في بداية الثمانينات من القرن الماضي ، وقد لاحظت أن سكان هذه القرية يختلفون شكلا عن اليابانيين إذ تظهر فيهم بوضوح الملامح القوقازية كما تختلف ثقافتهم وبصفة خاصة الدين عن الثقافة السائدة . ويقوم المواطنون في هذه القرى ببيع التحف التي تمثل ثقافة الآينو والتي تختلف عن الثقافة السائدة ، وقد علمت أنهم فقدوا مصادر عيشهم المتمثلة في صيد الأسماك وقطع الأخشاب بعد أن منعتهم القوانين اليابانية من ممارسة هذه المهن . العنصر الغالب في اليابان حاليا هو العنصر المنغولي إلا أن بعض علماء الأجناس يقولون بأن جوانب هامة من الثقافة اليابانية ومن بينها اللغة تؤكد أن هناك عنصر ماليزي قوي في التركيبة اليابانية . ويعتقد بعض المؤرخين أن اتساع الإمبراطورية الصينية في التاريخ القديم قد أدى لإزاحة العديد من الأجناس التي يعتقد أن بعضها ربما عبر إلى اليابان عن طريق أوكيناوا أو غيرها من الجزر الجنوبية . وتقول بعض النظريات أن الجزر اليابانية وخاصة الجنوبية منها قد شهدت عبر التاريخ القديم هجرات متواصلة من منطقة جنوب شرق آسيا وأن ثقافة أوكيناوا وبقية الجزر إلى الجنوب منها كانت شيئا واحدا إلى أن انفصلت إلى ثقافتين تختلفان عن بعضهما البعض قبل ألفي عام تقريبا ، مما قد يفسر العامل الماليزي في الثقافة اليابانية . أما بالنسبة للعنصر المنغولي الغالب فالاحتمال الأكبر أنه قد جاء عبر المضيق الذي يفصل بين اليابان وشبه الجزيرة الكورية . يقدر سكان اليابان في الوقت الحالي بحوالي مائة وعشرين مليون نسمة إلا أن نسبة النمو السكاني في البلاد تعتبر من أقل النسب في العالم وذلك بسبب عزوف النساء عن الزواج المبكر وتنظيم الأسرة . وبالرغم من أن الحكومة لا تتخذ سياسة رسمية لتحديد النسل كما هو الحال في الصين أو سنغافورة مثلا ، إلا أن حجم العائلة آخذ في التناقص عاما بعد عام . وتقول الإحصائيات أن متوسط عدد الأطفال بالنسبة للعائلة الواحدة يزيد قليلا عن طفل واحد ويقل عن الطفلين . وقد صدرت أخيرا بعض التقارير التي تشير إلى أن عدد سكان اليابان ربما ا يتقلص لأقل من خمسين مليونا بحلول منتصف القرن الحالي مما أثار قلق الحكومة التي بدأت في دراسة الخطط الكفيلة بتشجيع زيادة النسل . يقول بعض المحللين أن تناقص السكان سيؤثر حتما على الوضع الاقتصادي في البلاد ويتنبأ بعضهم بأن اليابان ربما تنضم إلى مجموعة ما يعرف بالدول النامية بحلول عام 2050 إذا استمر معدل التناقص على ما هو عليه الآن . تعاني اليابان من مشكلة أخرى تقلق مضاجع المسئولين وهي زيادة عدد المسنين بسبب العناية الطبية المتطورة والانخفاض في نسبة المواليد ، مما يعني أن القوة العاملة في البلاد تتناقص بصورة تؤثر سلبا على الاقتصاد في المدى البعيد . وتمثل برامج رعاية المسنين هاجسا للحكومة التي تسعى من عام لآخر لتقليل تكلفتها بتحميل المسنين بعضا منها ، إلا أن خطط الحكومة في هذا الصدد تواجه بالكثير من المعارضة . ومن الظواهر الملفتة للنظر تزايد أعداد المهاجرين من أرباب المعاشات خاصة لبعض دول الجوار في جنوب شرق آسيا حيث تكفي مدخراتهم لمقابلة تكاليف المعيشة التي تعتبر معقولة جدا بالمقارنة باليابان . وجدت بعض المحليات في الفلبين الفرصة سانحة فقامت ببناء القرى المجهزة بكل أسباب الراحة والعلاج في محاولة لاجتذاب مدخرات المسنين اليابانيين للاستفادة منها في تصريف أمور هذه المحليات ودعم الاقتصاد الفلبيني الذي يسجل معدلات عالية من النمو . ويبدو أن المسنين يعانون فعلا في اليابان إذ أن الإحصائيات تشير إلى أن نسبة الطلاق بينهم أعلى بكثير منها بين الشباب . ويعزي بعض المحللين الاجتماعيين ذلك إلى أن استقلال الأبناء بحياتهم الخاصة يجعل الكثير من المسنين الذين أبقوا على الرباط المقدس فقط من أجل سعادة الأبناء أكثر استعدادا لفصم عراه . ولعل مما يشير إلى تعاسة المسنين في اليابان كذلك ارتفاع نسبة الانتحار في أوساطهم وهو أمر ينسبه المحللون النفسيون للشعور بالإحباط بعد بلوغ هذه السن في بلاد تقدس الشخص المنتج ، كما أن تقدم السن يرتبط بانتشار الأمراض المزمنة التي تستعصي على العلاج . الغريب أيضا أن اليابان تملك أعلى نسبة انتحار بين الأطفال في العالم . ولعل مفهوم اليابانيين عموما عن فكرة الانتحار كما سنرى لاحقا واحد من الأسباب وراء ارتفاع نسبته في البلاد . يعتبر الابن الأكبر في التقاليد اليابانية هو المسئول عن والديه المسنين وهو أمر لا زال متبعا لدرجة ما في الريف ، غير أن الوضع في المدن مختلف حيث انتشرت دور العجزة والمسنين للقيام بهذا الدور . ويعتقد البعض أن إقامة المسنين في ملاجئ خاصة بهم أفضل إذ أنها تتيح لهم الفرصة للاختلاط بمن هم في سنهم خاصة وأن الأبناء والأحفاد في شغل عنهم . تقوم دور المسنين بإعداد البرامج المناسبة للترويح عن نزلائها كما أن عددا من المتطوعين يقدمون الخدمات الضرورية لهم ، وبالرغم من انتشار هذه الدور فإن هناك عددا من المسنين اليابانيين يعيشون بمفردهم في منازلهم التي هجرها الأبناء . وكثيرا ما تشاهد في الطريق سيدة عجوز وقد انحنى ظهرها حتى كاد وجهها أن يلامس الأرض وهي تحمل سلة في طريقها للبقالة لشراء حاجياتها . تخصص الحكومة اليابانية يوما وطنيا لاحترام المسنين يجري خلاله تكريم عدد منهم كما تقام البرامج الترفيهية التي تجمع بينهم وبين أفراد عائلاتهم . ولعل أهمية هذا اليوم تكمن في أنه المناسبة التي يتم خلالها تسليط الضوء على المشاكل التي يعاني منها المسنون والبحث عن حلول لها . إلا أنه بالرغم من هذا الجهد فإن الكثيرين يتحسرون على الأيام الماضية ويشكون من أن المجتمع الياباني يتراجع شيئا فشيئا عن عاداته الحميدة في التعامل مع كبار السن . ويقول بعض المعلقين الاجتماعيين أن كبار السن أقلية ذات مشاكل خاصة وأن التعامل معهم يجب أن يكون من هذا المنطلق فهم مثل المعاقين مثلا في حاجة إلى أن يلتفت المجتمع بصورة أكبر لمشاكلهم المتزايدة . بالرغم من التناغم العرقي في اليابان والذي أشرنا له سابقا فإن هناك بعض الأقليات العرقية التي تقيم في البلاد ، ولعل أهم هذه الأقليات من حيث العدد الأقلية الكورية التي يقدر عدد أفرادها بثلاثة أرباع المليون نسمة . جاء أغلب الكوريين لليابان في الفترة من 1910 وحتى 1945 عندما كانت بلادهم تحت الاستعمار الياباني . كانت للاستعمار الياباني في كوريا طبيعة خاصة إذ أن السلطات الاستعمارية كانت تهدف إلى إذابة الهوية الكورية تماما واتخذت في ذلك أساليب منها فرض اللغة اليابانية كلغة للتفاهم كما فرضت على الكوريين استخدام الأسماء اليابانية . لذلك فإن الكوريين الذين نزحوا لليابان في ذلك الزمن البعيد لم يكن أمامهم إلا الانصهار في المجتمع الياباني ، وقد نتج عن هؤلاء المهاجرين جيل جديد لا يتحدث إلا اللغة اليابانية ولا يعرف له وطنا سوى اليابان ولكنهم لا زالوا يعاملون كالأجانب . والجالية الكورية في اليابان جالية مؤثرة للغاية وتمتلك البنوك والمؤسسات الاقتصادية العملاقة ، بل والمدارس والجامعات الخاصة بها . والغريب في الأمر أن الجالية أكثر انحيازا لكوريا الشمالية ، وربما كان السبب وراء ذلك هو أن غالبية أعضائها قد نزحوا أصلا من الشق الشمالي من كوريا أو ربما لأن كوريا الشيوعية أكثر اهتماما بتنظيم الجالية . وقد ظلت تنظيمات الجالية تقوم بدور السفارة في ظل انقطاع العلاقات الرسمية بين البلدين . بالإضافة للأقلية الكورية وأقلية الآينو التي تناولناها سابقا ، فإن هناك أقلية ثالثة تعرف باسم " بوراكومين " وهي أقلية مضطهدة بالرغم من أنه لا يمكن التفريق من حيث الشكل بين أعضاء هذه الأقلية والعنصر الغالب في اليابان . ويبدو أن اضطهاد هذه الأقلية قد جاء من حقيقة مهنة الجزارة التي يمارسونها والتي كانت من المهن المضطهدة في العهد الإقطاعي . ولا زال اليابانيون يرفضون التزاوج مع أفراد هذه الأقلية ، كما إنهم لا يفضلون الحديث عن وجودها . وتتعامل الحكومة والشعب الياباني مع حقيقة وجود هذه الأقلية بالكثير من الحذر . ويبدو أن عزلة اليابانيين الطويلة في عهد توكوقاوا قد جعلتهم قليلي الخبرة في التعامل مع الأقليات ، فاليابان لا زالت من أقل الدول الصناعية استقبالا للطلاب الأجانب بالرغم من أنها ظلت الدولة الأكثر تقدما في محيطها الآسيوي مما يعني أنها كان من المفترض أن تكون القبلة لكل الدول المجاورة الباحثة عن التكنولوجيا الحديثة . ورغم أن الطلاب الآسيويين يمثلون أكثر من 90% من الطلاب الدارسين في اليابان ، إلا أن جملة الطلاب لا تقارن مع عدد الطلاب الأجانب الذين يدرسون في دول أوربية كفرنسا أو بريطانيا دع عنك الولايات المتحدة الأمريكية . تظهر عدم خبرة اليابانيين بوضوح في تعاملهم مع اللاجئين إذ أن قوانين اللجوء في اليابان تعتبر من أكثر القوانين تعقيدا وتعكس عدم ترحيب المجتمع الياباني باللاجئين . وقد عايشت في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات مأساة اللاجئين الفيتناميين الذي عرفوا في الصحافة باسم " أهل القوارب " ، وقد لجأ العديد من هؤلاء إلى الشواطئ الآسيوية بما فيها شواطئ اليابان بعد رحلات قاسية على قوارب صغيرة في عرض البحر أدت لوفاة العديد منهم . لم يتعرض اللاجئون الفيتناميون في اليابان لما تعرضوا له في هونغ كونغ مثلا من معاملة قاسية ، إلا أن البيئة في اليابان لم تكن مرحبة وكان المفهوم السائد هو أن اللاجئين سيظلون في البلاد إلى حين الحصول على ملجأ آخر في الولايات المتحدة أو أوروبا . لذلك فإن برامج الحكومة اليابانية لاستيعاب هؤلاء اللاجئين في المجتمع الياباني لم تكن جادة وقد اكتفت الحكومة بإنشاء المعسكرات المؤقتة مع تطبيق بعض برامج بدائية في اللغة اليابانية . لهذا السبب فإن اللاجئين الذين اضطرتهم ظروفهم للبقاء في اليابان ظلوا يعانون كثيرا وظهرت بين العديد منهم بعض الآثار النفسية السالبة ، بينما ارتحلت الغالبية العظمى للولايات المتحدة وأوروبا . في التسعينات من القرن الماضي وصلت مجموعات من المواطنين من أقطار العالم الثالث غير الآسيوية بحثا عن اللجوء في اليابان ومن بينهم عدد بسيط من السودانيين ، إلا أن حظهم لم يكن بأفضل من حظ اللاجئين الفيتناميين الذين سبقوهم . هناك بعض الهيئات والأفراد الذين يعملون بنشاط كبير لجعل اليابان أكثر ملائمة للعيش بالنسبة للأجنبي لاجئا كان أو غير ذلك إلا أن هناك الكثير من الخطوات التي لا بد من اتخاذها قبل أن تبلغ اليابان مصاف الدول الصناعية الأخرى في هذا المجال . اللغة هي من نعم الله على عباده فلولاها لما تمكن الناس من التواصل ولقل كثيرا كسبهم في مجالات الإبداع والعلوم ، ولكن اختلاف اللغات بالرغم من أنه من النعم الظاهرة أيضا إلا أنه يقف حجر عثرة في طريق التفاهم التام بين مختلف بني البشر. واللغة هي أول مظاهر الثقافة في أي بلد من البلاد يواجهها الشخص الزائر ، وكثيرا ما يجد الإنسان أن اللغة المستعملة في الدولة التي يزورها غريبة على مسامعه وكلما بعد البلد الذي يزوره كلما كانت لغته أكثر غرابة . وبالنسبة للغة اليابانية فإنها تبدو للوهلة الأولى غريبة وغير منطقية ، فبالإضافة لغرابة نطق الكلمات فإننا لم نعهد بالطبع شكل الحروف المختلفة التي تكتب بها . يستعمل اليابانيون لكتابة لغتهم الحروف الصينية والتي يطلقون عليها اسم "كانجي" بالإضافة لنوعين آخرين من الحروف الأبجدية تم استنباطها من الرسومات الصينية نفسها وهي "هيراغانا" و "كاتاغانا" . وتشتمل الجملة الواحدة من اللغة اليابانية في العادة على كل هذه الأنواع من الرسومات والحروف مجتمعة مما يجعل الأمر أكثر تعقيدا . .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
Skip to content instant Humour The best jokes and humor stuff on the net • ABOUT IH • CONTACT • • TOP JOKES When Mori Met Clinton POSTED ON BY ADMIN English is a difficult language ……. for some! This is a true story from the Japanese Embassy in US. A few years ago, Japanese Prime Minister Mori was given some basic English conversation training before he visited Washington and met President Bill Clinton. The instructor told Prime Minister Mori, “When you shake hands with President Clinton, please say ‘how are you’. Then Mr. Clinton will say, ‘I am fine, and you؟’ Now then you should say ‘me too’. Afterwards we, translators, will do the work for you.’ ” It looks quite simple, but the truth is… When Mori met Clinton , he mistakenly said ‘who are you؟’ (instead of ‘how are you؟’) Mr. Clinton was a bit shocked but still managed to react with humor: ‘Well, I’m Hillary’s husband, ha-ha…’ And Mori replied ‘me too, ha-ha.. .’ Then there was a long silence in the meeting room. POSTED IN FUNNY JOKES . ههههههههههههه
(عدل بواسطة Gaafar Ismail on 12-16-2016, 02:06 AM) (عدل بواسطة Gaafar Ismail on 12-16-2016, 02:08 AM)
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
لتجاوز مشكلة العجز في اللغة الإنجليزية فإن حركة واسعة للترجمة تنتظم اليابان في الاتجاهين وإن كانت الترجمة من اللغات الأخرى لليابانية تفوق كثيرا الترجمة من اليابانية للغات الأخرى . في فترة نقل التكنولوجيا والعلوم الغربية كانت بعض الجامعات تفرض على طلابها وأساتذتها ترجمة الأعمال الهامة في مجال تخصصهم وهو شئ أشبه ببيت الحكمة الذي أنشأه الخليفة العباسي المأمون لنقل علوم الحضارات القديمة للعربية . أما الآن وقد أصبحت مساهمات العلماء اليابانيين الأصلية في مجال العلوم والتكنولوجيا لا تقل أهمية عن مساهمات رصفائهم الغربيين فإن الترجمة من اليابانية إلى اللغات الأخرى تحتاج إلى مجهود حقيقي للاستفادة من هذا التراث الإنساني. الغريب في الأمر أن الترجمة في مجال الأدب الياباني تقدمت كثيرا حيث قام عدد من الأمريكيين والأوروبيين بترجمة الأعمال الأدبية اليابانية الراقية قديمها وحديثها للغات الأجنبية بصورة رائعة للغاية ، ولعل السبب وراء ذلك يكمن في فوز عدد من الأدباء اليابانيين بجائزة نوبل للآداب . في اليوم التالي لوصولي إلى طوكيو خرجت بصحبة أحد زملائي بالسفارة للتعرف على معالم المدينة . وبعد جولة حول بعض المعالم دلفنا لدخول أحد المقاهي لأخذ قسط من الراحة ومشروب ساخن يقينا البرد الشديد الذي كان يلف المدينة . ما إن فتح باب المقهى وقدمت رجلي إلى الداخل حتى تعالت أصوات كل العاملين بالمكان " إراشاي " ، فوجئت بهذا الصراخ فقفلت راجعا للخارج بصورة غريزية اعتقادا مني بأن خطأ ما قد وقع خاصة وأن المكان لم يبدو لناظري كالمقاهي التي تعودت عليها . ما كان من مرافقي إلا أن ضحك ملء شدقيه مشيرا إلى أن هذه هي طريقة اليابانيين للترحيب بالزبائن والكلمة تعني حرفيا مرحبا . تعودت على هذه الكلمة فيما بعد فهي تسمع في كل مكان مكتبا كان أو منزلا أو محلا تجاريا ، وهي من الكلمات المحببة التي تعكس مدى ترحيب الياباني بالزائر واستعداده لتقديم كل ما بإمكانه لإسعاد ضيفه . ومن الكلمات التي لا تخطئها أذن الزائر لليابان في الأيام الأولى كلمة " هي " بفتح الهاء وسكون الياء وتنطق أحيانا أطول قليلا " هاااي " وهي كلمة تحمل الكثير من المعاني اعتمادا على حالة الاستعمال فقد تعني نعم أو حاضر أو موافق أو مفهوم أو لمجرد الدعوة للاستمرار في الحديث لذلك فإنها أكثر الكلمات ورودا في أحاديث اليابانيين . يحس الأجنبي ما عدا أبناء الجنس الأصفر من الكوريين والصينيين بغربته طوال الأربعة وعشرين ساعة ما دام خارج منزله. فبينما يمكن للناس من كل جنس ولون التجول في طرقات أمريكا مثلاً دون أن يحس بهم أحد فإنه ما إن تطأ قدما الأجنبي أرض الشارع في أي مدينة يابانية إلا ويبدو كالغراب الأبيض واضحا لكل ذي عينين . ويبدو أن هذا الإحساس قد خلق ألفة بين الأجانب ، فقد لاحظت أنني عندما أسير في الطريق أتلقى التحايا والابتسامات من الأجانب بغض النظر عن جنسهم أو لونهم ودون سابق معرفة. ولعل الحائط السميك الذي يفصل بين اليابانيين وغيرهم والمسمى باللغة اليابانية يساعد في تأكيد الإلفة بين الأجانب في تلك البلاد. وكتأكيد لغربة الأجنبي فإنني لا زلت أذكر ذلك الكلب الصغير الذي ظل يلتفت بين الحين والآخر ليمعن في شخصي النظر بعد أن تقاطعت سبلنا في ذات ليلة صيف في إحدى مدن الريف الياباني ، فقد كاد الفضول أن يقتل ذلك الكلب فظل يقف مرة بعد أخرى ليعيد النظر في هذا الشخص الغريب بالرغم من محاولات صاحبته المستمرة لحثه على الإسراع في السير. لا غرو أن اليابانيين يستعملون كلمة "alien" التي تعطي الانطباع بالقدوم من كوكب آخر في وثائقهم الرسمية بدلا من كلمة "foreigner" الأكثر شيوعاً في الدول الأخرى . كنت في أيامي الأولى أقصد ما يسمى بصوالين التخاطب بالإنجليزية وهي عبارة عن مقاه يرتادها اليابانيون الذين تضطرهم ظروفهم العملية لاستعمال اللغة الإنجليزية ويرغبون في تقوية مهاراتهم التخاطبية بهذه اللغة. لاحظت بعد عدة زيارات أن أغلب رواد هذه المقاهي هم في الحقيقة من الأجانب الذين يتوقون للتحدث بلغة مفهومة ، ورغم أن الإنجليزية هي اللغة السائدة في هذه الأماكن إلا أن روادها يأتون من كل فج عميق. راقت لي فكرة هذه المقاهي فقد كانت مكانا حقيقيا للتعرف وتلاقح الأفكار وتمنيت لو أنها طبقت عندنا خاصة بعد التدني المريع في اللغة الإنجليزية بين طلاب المدارس والجامعات في بلادنا . بعد مرور شهر على إقامتي باليابان وقعت على سر كان له أثر كبير في تغيير مجرى حياتي بالبلاد . ففي الوقت الذي بدأت ألعن فيه حظي العاثر لعدم مقدرتي على الاتصال المباشر بأهل البلاد ، اكتشفت بمحض الصدفة أن القوم لا يجيدون الحديث بالإنجليزية إلا أن بالإمكان أن يتواصلوا عن طريقها كتابة . ومنذ ذلك اليوم كنت أتسلح دائما بدفتر وقلم للحديث تحريريا – إن صح التعبير – مع من التقي بهم من اليابانيين ، وكانت حيلتي في بداية الحديث هي ترديد جملة واحدة بلغة القوم توحي بأنني أتحدثها . ورغم أن هذه الجملة لم تكن تتعدى الثلاث كلمات إلا أنها كانت كافية لإذابة الجليد والبدء في حوار تحريري شيق . وقد احتفظت ببعض دفاتري لفترة من الزمن وكنت أجد متعة بالعودة إليها من وقت لآخر . تتباين معرفة اليابانيين بأحوال الدول والشعوب الأخرى بقدر أهميتها بالنسبة لهم ، فالولايات المتحدة والصين وكوريا مثلا من الدول التي يتابع اليابانيون التطورات فيها بشئ من الاهتمام أما أفريقيا والعالم العربي فإنهم يجهلون الكثير عنهما. وكم تكون دهشة الياباني كبيرة عندما يعلم أن أفريقيا ليست دولة واحدة بل هي قارة تضم أكثر من خمسين دولة ، ورغم أن الغالبية العظمي تعرف أبو الهول والأهرام إلا أن القليلين منهم يعرفون أين توجد هذه الآثار التاريخية الهامة. أما السودان فحدث ولا حرج وكنا دائما نصفه أحيانا بالبلاد التي تقع غرب إثيوبيا ، وقد اشتهرت إثيوبيا بين كبار السن من اليابانيين بسبب الأداء الرائع للعداء أبيبي بيكيلا في أولمبياد طوكيو في عام 1964 أما بالنسبة لصغار السن فقد عرفت إثيوبيا عن طريق ما نقله التلفزيون حول الجفاف والمجاعة التي ضربت البلاد في منتصف الثمانينات من القرن الماضي. ومن المقالات الطريفة التي نشرتها إحدى الصحف اليابانية ما كتبه أحد الإخوان من غانا يقول فيه أن أحد اليابانيين سأله إن كان صحيحاً أنهم يقيمون في الأشجار في أفريقيا ، فأجاب الغاني أي نعم وأن أكبر شجرة في عاصمة بلاده هي مقر رئيس الدولة أما الشجرة التي تليها في الحجم فهي منزل السفير الياباني . عايشت تجربة قريبة من تجربة الأخ الغاني المشار إليها أعلاه . قضيت السنوات الأولى من حياتي في طوكيو في منطقة تبعد قليلا عن المركز التجاري الكبير المعروف باسم شبويا . تميزت المنطقة بالهدوء وكنت أقضي جانبا من وقتي خاصة في عطلة نهاية الأسبوع في مقهى صغير قريب من المنزل الذي أقيم فيه تديره سيدة يبدو أنها في العقد السادس أو السابع من عمرها تسمى ناكامورا . كان الغرض من زيارة هذا المقهي هو تزجية وقت الفراغ ، وتناول كوب من القهوة ، ومحاولة الحديث باللغة اليابانية مع السيدة ناكامورا أو مع رواد المقهى وكنت قد بدأت وقتها دراسة اللغة التي استهوتني كثيرا . كنت مساء يوم في طريقي للبقالة لتناول بعض الأشياء ، وعندما تجاوزت المقهي سمعت صوتا يقول: " باشا سان ... باشا سان " وكلمة " سان " توازي كلمة سيد في اللغة العربية وهي الطريقة التي ينادي بها القوم بعضهم بعضا وتستعمل أيضا للسيدات . التفت فإذا السيدة ناكامورا عند باب المقهى . " كونبان وا ... " جاء صوتها وتعني مساء الخير " كونبان وا ... " كان ردي عليها ، واشارت إلى بالدخول إلى المقهى . عندما دخلت إلى المقهى أشارت السيدة ناكامورا للتلفزيون الذي كان يعرض برنامجا عن إحدى القبائل الأفريقية . كان معظم البرنامج عن الأبقار التي تمثل مركز حياة أفراد القبيلة على حد قول التعليق المرافق فقد كان الأطفال يمسحون أجسادهم النحيلة بالرماد ويتحركون برشاقة شديدة مع الأبقار من مكان لآخر . سألتني السيدة ناكامورا: " هل تعيش بهذه الصورة عندما تعود إلى بلادك ؟ " " هناك الكثير من الناس في بلادي يعيشون بهذه الصورة ، ولكن هناك من يعيشون في مدن مثل طوكيو حيث توجد المقاهي والبقالات وسبل الحياة الحديثة وهو أمر ينطبق على معظم دول القارة الأفريقية والعالم الثالث " كان ردي على السيدة ناكامورا . وقد اندهشت السيدة ناكامورا عندما قلت لها أنني أشاهد مثل هذه البرامج فقط عندما أكون في دول مثل اليابان رغم علمي بأن هذا النوع من الحياة يوجد في كل أنحاء بلادي ، فالمسئولون عن التلفزيون عندنا يرون في عرض مثل هذه الأفلام أمرا مخجلا لا يليق بدولة حديثة . انصب حديث السيدة ناكامورا بعد ذلك عن السعادة التي كانت تغمر وجوه الصبيان وتعاملهم الرقيق مع الحيوانات من حولهم وتناغمهم الكامل مع الطبيعة . لم تلاحظ السيدة ناكامورا الفقر الشديد للصبية وأجسادهم الناحلة ، كما إنها لم تلاحظ أنهم عراة من أي شئ يسترهم . قفزت إلى ذهني وقتها اجتماعات لسفراء الدول الأفريقية بطوكيو يتحدثون فيها دائما عن تقديم احتجاج لهذه القناة التلفزيونية أو تلك لأنها قدمت فيلما مهينا عن أفريقيا . كنت كلما حضرت مثل هذه الاجتماعات بعد ذلك حكيت تجربتي مع السيدة ناكامورا التي رأت في البرنامج أشياء تختلف تماما عما كنا نراه نحن في اجتماع مجلس السفراء . عندما كنت مسئولا عن الشئون الثقافية بالسفارة في مطلع الثمانينات من القرن الماضي أقامت إحدى الهيئات معرضا عن قبائل جبال النوبة أساسه عدد من الصور التقطتها إحدى المصورات الألمانيات في المنطقة. وقد ركزت المصورة على القبائل التي تسكن في مناطق نائية من الجبال وكان أفرادها حتى ذلك الوقت يعيشون على سجيتهم عراة دون أي لبس يسترهم خاصة فيما يتصل بالرجال منهم. اكتسب المعرض الذي عقد في واحد من أكبر المحلات التجارية في طوكيو شهرة واسعة ، مما حدا بواحدة من أشهر القنوات التلفزيونية للسعي نحونا في السفارة للحصول على إذن بتصوير فيلم عن هذه القبيلة وعرضه في التلفزيون الياباني. ولعلمي بأن الفريق التلفزيوني سيجد طريقة ما لتنفيذ الفيلم الذي يرغب في تصويره حتى إن لم نتعاون معه ، رتبت لقاء مع مخرج الفيلم ومنتجه وعرضت عليهم فكرة جديدة لسيناريو الفيلم تشمل تصوير المدن المعروفة في منطقة الجبال مثل كادوغلي والدلنج لعكس حياة الناس هناك كذلك ، إذ أن ذلك أدعى للمتعة بالنسبة للمشاهد كما إنه أكثر فائدة من الناحية التعليمية حيث يشير إلى التنوع في أساليب الحياة في المنطقة والتطور الذي تشهده . صدق حدسي فبعد عودة الفريق التلفزيوني من السودان أفادني أفراده بأن مرافقهم من وزارة الإعلام - وكان من أبناء جبال النوبة - منعهم من تصوير حياة القبائل المنعزلة ، إلا أنهم تمكنوا من خداعه وتصوير اللقطات التي كانوا يرغبون في تصويرها. واعتقادي أن الفيلم كان من أفضل الأفلام التي عرضت عن السودان على التلفزيون الياباني حيث لم يكتف بالتركيز على ما نسميه المناطق المتخلفة ولكنه تحدث بصورة مفصلة عن الحياة الاقتصادية والثقافية في منطقة جبال النوبة مما عكس صورة حقيقية لما كان يجري هناك.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
كان الانطباع الذي خرج به كل من شاهد المسلسل التلفزيوني الشهير "أوشين" أن اليابانيين قوم يعشقون العمل لدرجة الإدمان وهو أمر لا يجافي الحقيقة كثيراً. معروف عن الموظفين اليابانيين أنهم لا يعودون إلى منازلهم بعد انتهاء ساعات العمل مباشرة إذ أن أغلبهم يعملون ساعات إضافية ومن المألوف أن تجد بعضهم يعملون حتى ساعات متأخرة من الليل. غير أن عددا من الموظفين يبقون بالمكاتب دون عمل إضافي أو يمرون على مناطق اللهو قبل العودة لمنازلهم. وإذا عرف السبب زاد العجب ، فالزوجات اليابانيات على عكس رصيفاتهن في كل أنحاء العالم لا يحبذن عودة أزواجهن مبكراً من العمل إذ أن ذلك يقلل من قيمة الأزواج الاجتماعية باعتبار أن الوظائف التي يشغلونها ليست ذات أهمية. ويتأثر نمط حياة الأسرة اليابانية كثيراً بهذه الحقيقة ، فبسبب غياب الزوج المتواصل عن المنزل تقوم الزوجة بأغلب الواجبات الأسرية بما في ذلك إدارة ميزانية العائلة ومتابعة أداء الأبناء في المدارس. فالمرأة اليابانية هي أول من يصحو من بين أفراد العائلة في الصباح الباكر وهي آخر من يأوي للفراش في المساء ، وقد يعني ذلك أن على الأم أن تصحو قبل الخامسة صباحا ولا تخلد للنوم إلا بعد منتصف الليل. من الممارسات التي تسترعي الانتباه في المكاتب اليابانية أن الموظفات عليهن بالإضافة إلى أعمالهن الرسمية عبء إعداد الشاي والقهوة للعاملين الآخرين بالمكتب وتوزيعه عليهم مرتين أو ثلاث مرات أثناء اليوم ، هذا بالإضافة لخدمة الضيوف الذين يزورون المكتب. ولا يهم الدرجة الوظيفية للموظفة إذ أنها تعتبر هذا من واجباتها حتى إن كان من تخدمهم من الموظفين الرجال أصغر منها سنا وأقل درجة ، وتقوم موظفات المكتب بتوزيع هذا النوع من العمل بينهن على نظام النوبات. لا يوجد في المكاتب اليابانية سعاة أو حجاب أو عمال بوفيه يقومون بالتجول بين المكاتب كما هو الحال عندنا ، ويوجد في كل مكتب ركن صغير لإعداد الشاي والقهوة للعاملين وضيوفهم. ورغم أن كل الوزارات والشركات الكبيرة بها مطاعم مدعومة لخدمة الموظفين إلا أنهم يزورون هذه المطاعم لتناول وجبة الغداء في المواعيد المحددة لذلك فقط ، ويتناولون الشاي والقهوة في أوقات محددة خلال ساعات العمل داخل مكاتبهم وأثناء تأدية أعمالهم. ولا شك أن هذا يمثل نوعا من الانضباط المفروض على الموظفين في المكاتب حتى لا تصبح زيارة المطاعم والكافتيريات مدعاة للتسيب. مكاتب الموظفين في اليابان وبصفة خاصة في المصالح الحكومية والشركات الكبيرة هي عبارة عن صالة كبيرة تتصدرها المنضدة التي يجلس عليها الرئيس أو المدير وتتناثر مناضد العاملين حول رئيس المكتب الذي يمكنه مراقبة الجميع. وبالرغم من هذا المكتب المفتوح فإنك لا تسمع عندما تدخل إلا همساً حول موضوعات ترتبط بالعمل دون جلبة أو ضوضاء ولا تتبع نظرات الموظفين كل داخل للمكتب أو خارج منه فالكل منكب على أداء عمله. وفي كل مكتب عادة غرفة صغيرة أو ركن معزول لاستقبال الضيوف. ويبدو أن وجود الرئيس في نفس الصالة يتيح فرصة للرقابة اللصيقة على الموظفين ، كما يساعد هذا النظام على انسياب المكاتبات بين الموظفين دون الحاجة لسعاة. لا تخصص مكاتب منفصلة إلا لكبار الموظفين الذين عادة ما تكون لهم سكرتارية خاصة لتنظيم مقابلاتهم. يعرف عن اليابانيين حبهم الشديد للعمل وعدم الاستمتاع بإجازات طويلة ، وهو أمر يعود للسنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية عندما كان الهدف القومي الأسمى هو اللحاق بالدول الصناعية المتقدمة وتجاوزها في مجال التقدم الاقتصادي. ورغم أن شباب الجيل الجديد أكثر ميلاً من آبائهم للاستمتاع بمباهج الحياة إلا أن إجازات العاملين اليابانيين لا زالت قصيرة ، وهم عادة ما يقومون بتجزئتها للاستفادة بإضافة يومي السبت والأحد إجازة نهاية الأسبوع للاستفادة منها. كانت أول إجازة لي باليابان تبلغ تسعين يوما حسب لوائح الخدمة التي كانت سائدة عندئذ ، ولكن عندما سألني أحد الأصدقاء اليابانيين عنها أخفيت الحقيقة وذكرت له أنها ستكون شهرا واحدا. لاحظت علامات الدهشة تعلو وجه ذلك الصديق الذي قال: " إذا لا حاجة لتعيينك في هذا الموقع إن كان دولاب العمل سيسير دون وجودك طوال هذه المدة " ، ضحكت وأنا أتذكر القصة المتواترة عن رجل الأعمال السوداني الشهير. في بعض الشركات يقوم رئيس المكتب في الصباح بقيادة موظفي مكتبه قبل بدء العمل في أداء تمارين رياضية خفيفة أشبه بتلك التي يقوم بها اللاعبون قبل بدء المباريات. ويرى البعض أن مثل هذه التمارين تساعد في إعداد الموظف بدنياً ليوم طويل من العمل كما إنها تساهم في تخفيف الضغط النفسي بعد رحلة طويلة بالقطار إلى المكتب قد تفوق الساعتين أحياناً. والقطارات في اليابان مزدحمة للغاية حتى إن بعض موظفي الشركات التي تسير القطارات يقومون في المحطات الكبيرة بدفع الركاب إلى داخل القطار المزدحم حتى يمكن إغلاق الأبواب ، لا غرو إذن أن يصل الموظف إلى مكتبه مرهقاً وفي حاجة لرفع المعنويات. يرتبط الموظف الياباني ارتباطاً وثيقا بالشركة التي يعمل بها ونادراً ما يقوم بتغيير مكان عمله ، ورغم أن العمل في مختلف المواقع يعني اكتساب المزيد من الخبرات كما هو الحال في مختلف أنحاء العالم إلا أن اليابانيين ينظرون لذلك كنوع من عدم الاستقرار ، ولا يحبذون الموظف الذي يتنقل بين عدد من الوظائف وينطبق ذلك على أساتذة الجامعات على عكس ما نلاحظه في السودان إذ أن أستاذ الجامعة يحرص على إيراد أسماء كل الجامعات التي عمل بها أو تعاون معها في سيرته الذاتية. ويفسر البعض عدم حماس اليابانيين للعمل في الشركات الأجنبية أو الالتحاق بالمنظمات الدولية بعدم مقدرة العائدين بعد نهاية فترة عملهم على الالتحاق بالوظائف المناسبة نسبة للسبب الذي أوردنا أعلاه. تسعى الشركات خاصة الكبيرة منها لتهيئة كل أسباب الراحة للموظف توفيراً للجو المناسب لأداء واجبه وتحاول أن تجعله مرتبطاً بها بالصورة التي تجعل كل وقته للعمل. تقوم الشركات ببناء الداخليات للموظفين صغار السن حديثي التعيين وتقدم لهم الوجبات المدعومة في مطعم الشركة وتبيعهم السلع بأسعار معقولة في المتاجر التابعة لها. أما بالنسبة للموظفين القدامى فإن الشركات تقوم بتمليكهم الشقق السكنية بأسعار معتدلة وأقساط مريحة للغاية ، والمعروف إن من أهم ما يتمناه المواطن الياباني هو امتلاك مسكن خاص في بلاد بلغت فيه أسعار الأراضي مستوى لا يقارن بأي مكان آخر في العالم . تملك الشركات عادة منازل ريفية للراحة والاستجمام يمكن للموظفين استعمالها بالمجان أو بمقابل رمزي بسيط ، كما تمتلك الأندية الرياضية أو تشترك في أهمها بما يسمح لموظفيها بتزجية أوقات فراغهم وممارسة نوع الرياضة التي يفضلون . بل إن بعض الشركات تذهب لأبعد من ذلك عندما تقيم الوكالات المتخصصة لمساعدة موظفيها في إيجاد الشريك المناسب للزواج حبذا من العاملين بالشركة نفسها خاصة وإن معظم الشركات لا تنقل للعمل بفروعها بالخارج إلا الموظفين المتزوجين . خلاصة الأمر أن الشركة تسعى لتوفير كل حاجيات موظفيها وتكلأهم بالرعاية الأبوية وتعمل على راحتهم مما قد يفسر الولاء المطلق الذي يكنه الموظف لشركته. الوظيفة في اليابان ليست هي مجرد عقد للعمل مع الشركة أو المؤسسة بل هي وسيلة لتحديد الهوية ، ففي الوقت الذي نجد فيه الناس في مناطق أخرى من العالم يعرفون أنفسهم بأنهم مهندسون أو أطباء أو من قبيلة أو منطقة معينة فإن الياباني يقدم نفسه بأنه ينتمي للشركة أو المؤسسة الفلانية. لاحظت كذلك أن اليابانيين يتحدثون عن أسرارهم العائلية بصراحة شديدة قد تحرج المستمع أحيانا ، لكنني لم أصادف يابانيا واحدا يتحدث عن أسرار الشركة التي يعمل بها. ولليابانيين حكمة مؤداها أن الأولوية تكون للعمل وليس للأسرة. ومع أن الشباب الذين ولدوا في ظل دولة الرفاهية يبدون اهتماما أكبر بمباهج الحياة واكتراثا أقل بالعمل من الأجيال السابقة إلا أن الولاء للشركة لازال يحتل موقعا هاما في النفسية اليابانية. ولعل انتماء الياباني وإخلاصه الشديد للشركة ينبع من عقلية المجموعة التي تميز المجتمع الياباني ككل. ومع أن الانتماء للمجموعة تأكيدا للهوية هي غريزة إنسانية توجد في كل المجتمعات ، إلا أن الظاهرة تبدو أكثر وضوحا في اليابان. فاليابانيون ينظرون إلى بلادهم باعتبار أنها عائلة واحدة على رأسها الإمبراطور ، وهو السبب الذي جعلهم يتسمون بروح وطنية عالية تمثلت بصورة جلية في التضحيات الكبيرة التي قدموها لإعادة بناء بلادهم بعد الحرب العالمية الثانية. ويدرك الإنسان الذي له بعض الإلمام باللغة اليابانية أن القوم يستعملون كلمة " والد " لوصف رئيس المجموعة وكلمة " بيت " لوصف المجموعة عموماً.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
مبنى الجامعة صغير جدا ولا يتجاوز 10% تقريبا من مساحة جامعة الخرطوم ، إلا أن استغلال المساحة المتوفرة جعل الجامعة تستوعب أكثر من أربعة وعشرين ألف طالب وطالبة وبفضل التنظيم الدقيق لجداول المحاضرات - حيث تقوم الإدارة بنشر جدول يحدد المحاضرة المعينة والأستاذ الذي يقدمها والتوقيت ورقم الغرفة - فإن الطلاب يحضرون للجامعة فقط في الأوقات المخصصة لمحاضراتهم صباحا ومساء فلا يكون هناك ازدحام في حرم الجامعة. وربما يعود ذلك أيضا لعدة أسباب أخرى من بينها أن الجامعة ليس بها داخلية كما أن معظم النشاطات الثقافية والرياضية تتم خارج أسوار الجامعة هذا فضلا عن أن غالبية الطلاب يقومون بالعمل في أوقات فراغهم لتغطية تكاليف الدراسة. يحصل بعض الطلاب المتفوقين على منح من عدة جهات منها البلديات أو المؤسسات الاقتصادية أو الأكاديمية ذات الاهتمام بمجال دراسة الطلاب ، كما إن بعضهم يحصلون على قروض لتغطية تكاليف الدراسة. عندما قررت في عام 1983 مواصلة دراساتي فوق الجامعية باليابان كانت رغبتي الأولى هي الالتحاق بجامعة طوكيو الحكومية ، إلا أن الأستاذ الذي اتصلت به نصحني بعد أن حدثته عن الموضوع الذي أرغب في تحضير شهادة الماجستير حوله أن اتصل بالبروفيسور أودا هيديو بجامعة "كي أو". كان موضوع رسالة الماجستير عن اللاجئين الأفريقيين ، لذلك فقد كان اختيار البروفيسور أودا منطقيا باعتبار أنه من أشهر المتخصصين في الدراسات الأفريقية في اليابان في ذلك الوقت وقد كان عضوا بارزا في مجلس الخبراء المتعاونين مع وزارة الخارجية اليابانية. من جانب آخر فإن مكتبة جامعة طوكيو كانت تمتلك أكبر مجموعة من المراجع عن أفريقيا وتعتبر الجامعة نفسها مركزا مهماً للدراسات الأفريقية وكثيرا ما كانت الجمعية اليابانية للدراسات الأفريقية تعقد نشاطاتها في الجامعة. تعتبر مكتبة فرع جامعة " كي أو " في " ميتا " بالإضافة إلى مبناها الحديث الفخم من أكبر المكتبات في الجامعات اليابانية حيث أنها كانت تضم بين رفوفها في ذلك الوقت حوالي مليون ومائة ألف كتاب في مختلف أوجه المعرفة. احتوت المكتبة كذلك على قسم خاص بالكتب العربية يضم أغلب كتب التراث كما إنه يمثل مرجعا مهماً للعاملين في مجال الدراسات العربية ، وقد تعرفت في ذلك القسم على كتاب الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد الشهير " السودان: المأزق التاريخي وآفاق المستقبل " وكان ذلك في مطلع الثمانينات من القرن الماضي. ترتبط مكتبة الجامعة كذلك بالمكتبات اليابانية الأخرى عن طريق نظام يتيح للطالب أن يستعير أي كتاب يحتاج إليه من هذه المكتبات ، ويربط هذا النظام بين مكتبات الجامعة والمكتبات الشهيرة الأخرى كمكتبة البرلمان الياباني التي تعتبر أكبر المكتبات في البلاد. من ناحية أخرى ، فإن المكتبة تتيح للطلاب كذلك الاستفادة من ذخيرة المكتبات الكبيرة في الولايات لمتحدة وأوروبا عن طريق تصوير المراجع التي يحتاجها الطالب مقابل مبلغ بسيط. ولا أشك في أن دخول المكتبة عصر الانترنيت بعد تخرجي قد أتاح لطلابها آفاقاً أوسع للبحث العلمي. كانت فترة دراستي بالجامعة مليئة بالذكريات اللطيفة كما أنها كانت فرصة طيبة للاطلاع على حياة الطلاب وطريقة تفكيرهم. عند التحاقي بالجامعة كانت معرفتي باللغة اليابانية غير كافية ، ورغم أنني كنت أتابع المحاضرات بدرجة معقولة في المجالات المعروفة بالنسبة لي كالسياسة في الشرق الأوسط وأفريقيا إلا أنني كنت أعاني في متابعة المحاضرات التي تقدم في مجالات ليس لي بها كبير إلمام. كنت أعاني بصفة خاصة عند متابعة الحديث عن السياسة أو التاريخ الصيني ، والسبب في ذلك أن لليابانيين نطقهم الخاص للأسماء الصينية كما سبق أن أوردنا فإن اللغة اليابانية تكتب بالرسومات الصينية إلا أن لهذه الرسومات نطق مختلف جدا في بعض الأحيان. بعد أول سمنار حضرته في السياسة الصينية وكان عن تاريخ الثورة الشيوعية ، سألت زميلي الذي قدم السمنار كيف يمكن أن تتحدث عن الثورة الشيوعية في الصين دون أن تورد أسماء مثل ماوتسي تونغ وشوإن لاي أو لين بياو. اندهشت جدا عندما علمت أن كل هذه الأسماء قد وردت خلال المحاضرة ولكن بالنطق الياباني الذي لم أتمكن من تمييزه بالطبع. كانت خفايا اللغة بالنسبة لي مشكلة كبيرة في الأشهر الأولى فبينما كان حديثي مع الأساتذة يبدو مباشرا أكثر من اللازم لعجزي عن تغليف الألفاظ على الطريقة اليابانية ، فإن زملائي الطلاب كانوا يشعرون حيالي بحاجز نفسي إذ أن اللغة التي أتحدث بها معهم تبدو مهذبة أكثر من اللازم على حد قولهم. يختلف الأسلوب الذي يستعمل بين الأتراب عن ذلك الذي يستعمل مع من هم أكبر أو أصغر سنا ، ومن حسن الأدب في اليابان ألا يعبر الطالب عن رأيه بصورة مباشرة إن كان مخالفاً لرأي الأستاذ وأن عليه أن يقوم بالكثير من اللف والدوران قبل التصريح برأيه. ورغم أني بذلت جهداً كبيراً في هذا المجال فإن هذه المشكلة ظلت تلازمني طوال إقامتي بالبلاد ، وربما يعود السبب في ذلك لاختلاف الثقافات. ولا زلت أذكر برنامجا قدم في التلفزيون الياباني عن السودان ضم جلسة مشتركة لإحدى الأسر المحافظة – في اعتقادي – من منطقة رفاعة. لم أجد في البرنامج ما يدهش إلا أن الكثير من أصدقائي اليابانيين الذين شاهدوه أبدوا دهشتهم للحرية الشديدة التي تتحدث بها إحدى فتيات العائلة لوالدها وإبداءها لآرائها المخالفة لرأي والدها بصورة صريحة ومباشرة على حد تعبيرهم.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
تعتبر الديانة البوذية أكبر الديانات من حيث عدد الأتباع في اليابان حيث يدين بها حوالي 85% من الشعب الياباني وتقول الإحصائيات أن هناك ما يزيد عن 75000 معبد ومائتي ألف كاهن بوذي في البلاد. انتقلت البوذية لليابان أصلا حوالي القرن السادس الميلادي من الهند عن طريق الصين وشبه الجزيرة الكورية. أما ديانة "شنتو" فيعتقد أنها الديانة اليابانية الأصلية إذ أنها كانت سائدة قبل وصول البوذية. والشنتو ديانة وثنية يقوم خلالها اليابانيون بعبادة كل أنواع الأحياء والجمادات ، وقد كان تقديس الأسلاف في الشنتو هو الخاصية التي استغلها الحكام اليابانيون لترويج نظرية تأليه الإمبراطور خدمة لمصالحهم. دخلت المسيحية اليابان منذ عدة قرون إلا أنها حوربت بشدة كما أشرنا سابقا ولم تبدأ في الانتشار إلا بعد ثورة ميجي في منتصف القرن التاسع عشر. أما الإسلام فإنه أحدث الديانات السماوية وصولا لليابان ، إذ لم يدخل اليابان بصورة مؤثرة إلا مع وصول الأتراك المسلمين من مناطق آسيا الوسطي بعد قيام الثورة الشيوعية في الاتحاد السوفيتي. بالرغم من ارتباط المواطن الياباني بالآلهة للدرجة التي يشاهد فيها الإنسان في عديد من المنازل اليابانية التقليدية معبدا صغيرا ، إلا أن الدين لم يعد يحتل موقعا محوريا في حياة المواطن العادي وبصفة خاصة الشباب. ومع أن الدين كان في السابق مرتبطا بالحياة اليومية للياباني بصورة وثيقة إلا أن ما تبقي منه حاليا هو الأثر الواضح في بعض الطقوس التي تصحب بعض النشاطات كحفل الشاي الياباني المعروف ورياضة المصارعة اليابانية "سومو" . ونظرة اليابانيين للدين غريبة إذ أن أغلبهم يدينون بأكثر من ديانة واحدة في ذات الوقت ، فالياباني يمكن أن يتزوج في معبد الشنتو أو حتى الكنيسة ويدفن عند وفاته وفقا لطقوس الديانة البوذية. ينعكس هذا لانتماء المزدوج على الشخصية اليابانية التي اكتسبت صفتي الطهارة والإخلاص من ديانة الشنتو وصفتي العطف والتخلص من الرغبات الشخصية من البوذية والولاء المطلق للرؤساء وكبار السن من التعاليم الكونفوشية. غير أن هذه النظرة للدين تمثل عقبة كبيرة أمام العاملين في مجال الدعوة الإسلامية والأديان الأخرى إذ أنه يصعب على المواطن الياباني فهم فكرة الالتزام بدين واحد دون بقية الأديان . ولعل هذا يفسر قلة أتباع المسيحية بالرغم من الأموال الطائلة التي تصرفها الكنيسة والجهود الكبيرة التي قامت بها سلطات الاحتلال الأمريكي في أعقاب الحرب العالمية الثانية . كلمة " شنتو " تتكون من مقطعين هما " شن " وتعني إله و" تو " وتعني طريق لذلك فإن الترجمة الحرفية هي طريق الآلهة . وقد استطاع اليابانيون بمقدرتهم الفائقة على استيعاب الثقافات الوافدة من الدمج بين البوذية التي قدمت من آسيا والشنتو بحيث ظهرت نظريات فلسفية تتحدث عن آلهة الشنتو باعتبارها استنساخا لروح بوذا . غير أنه ظهرت من الحين للآخر دعوات للعودة للديانة القديمة وتطهيرها من الآثار الأجنبية ، إلا أن البوذية عادت في كل مرة أقوى مما كانت عليه . ولعل أشهر هذه الدعوات هو ما جرى في عهد الامبراطور ميجي (1868 – 1912 ) عندما أصبحت الشنتو الديانة الرسمية للبلاد وقامت مؤسسة المعبد الحكومي والمكاتب الحكومية الخاصة بالديانة كما تم كذلك تدريس الشنتو في المدارس حيث ارتبطت الديانة بالروح الوطنية المتطرفة التي سادت البلاد في ذلك الوقت . ولعل أهم ما يميز الشنتو كدين هو عملية التطهير التي تنقسم إلى قسمين أحدهما يتعلق بالتطهير من الاتصال بأشياء نجسة كالمرضى والموتى ، والآخر يتعلق بالتطهير من ممارسة الذنوب . ارتبط النوع الأول بالأسطورة التي تروى عن الإله إزاناغي الذي تبع زوجته المتوفاة إزانامي إلى عالم الظلام حيث شهد جسدها المتعفن مما اضطره عند العودة لعالم الضوء أن يتطهر في أحد الأنهار المقدسة . أما النوع الثاني من التطهير فقد ارتبط بالأسطورة التي تروى عن إله الأعاصير والعنف سوسانو ميكوتو الذي أجبر بعد هجومه على قصر أخته إلهة الشمس بأن يدفع فدية ويحلق ذقنه وتنزع أظافره . وقد تكون عملية التطهير قاسية أحيانا بحيث يقضي الإنسان شهرا كاملا لإكمال العملية بالابتعاد عن النظر إلى الموتى والمرضى والمرأة الحائض والأشخاص المعاقين وعن ممارسة الجنس أو أكل اللحوم . وهناك بعض العادات المرتبطة بعملية التطهير هذه ومنها تعليق الأوراق على الأشجار المقدسة وتقديم الهبات في شكل أرز أو ملح . ولعل من العادات الملاحظة في اليابان في الوقت الحاضر والمرتبطة بهذه العملية وضع كمية من الملح أمام أبواب البيوت أو المحال التجارية ، كما أن من أهم طقوس مصارعة السومو أن يقوم المصارع بإلقاء كمية من الملح على حلبة المصارعة قبل دخولها . دخلت المسيحية اليابان منذ القرون الوسطى عن طريق الآباء اليسوعيين في عهد توسع البرتغاليين والإسبانيين وقد سميت الفترة من 1540 وحتى 1640 بالقرن المسيحي في اليابان . استغل الأوربيون ضعف اليابان التي كانت تعاني من الحروب الأهلية فقاموا بعقد التحالفات مع الإقطاعيين الذين كانوا يرغبون في الحصول على التكنولوجيا الأوربية المتقدمة نسبيا خاصة في مجال التسليح . انتشرت المسيحية مع انتشار نفوذ الأوربيين واستغل المبشرون معرفتهم بالطب وغيره من العلوم الحديثة لنشر دعوتهم . ما إن توحدت اليابان تحت أسرة التوكوقاوا في بداية القرن السابع عشر حتى بدأ المبشرون وأتباعهم من اليابانيين يتعرضون للاضطهاد . ويبدو أن الطبقة الحاكمة اليابانية لم تستطع هضم الحقيقة التي كان يدعو لها المبشرون بأن كل الناس سواسية أمام الخالق ، خاصة وأن المجتمع الياباني تميز في ذلك الوقت بطبقية صارمة يعتبر فيها المواطن مخلوقا أقرب للحيوان ودون أي حقوق . من ناحية أخرى أدرك اليابانيون في ذلك الوقت المبكر أن الكنيسة لم تكن إلا ذريعة لاستعمار البلاد بواسطة الدول الأوربية ، وقد كانت اليابان حتى ذلك الوقت تفخر باستقلالها إذ لم تتمكن أي من القوى الخارجية السيطرة على البلاد خلال تاريخها الطويل ولم يحدث ذلك إلا بعد الحرب العالمية الثانية عندما وقعت البلاد تحت الاحتلال الأمريكي إثر هزيمتها في الحرب . قامت أسرة توكوقاوا الحاكمة كما أشرنا سابقا بفرض عزلة مجيدة على اليابان بإغلاق الحدود أمام الأجانب ، وقد أدى ذلك إلى انحسار المسيحية وحصرها فقط في المنطقة التي كان يسمح فيها بالاتصال بالأجانب في الجنوب الغربي للبلاد . عادت المسيحية مرة أخرى لليابان مع انفتاح البلاد على العالم الخارجي في منتصف القرن التاسع عشر . وبما أن الولايات المتحدة كانت هي المبادرة بالضغط على اليابان لفتح أبوابها أما العالم الغربي فقد تنامى نفوذ الكنيسة البروتستانتية بالمقارنة مع غيرها من الكنائس . كان للمسيحيين الجدد دور بارز في مجالي التعليم والعمل الإنساني كما ارتبطوا ارتباطا وثيقا بالفكر الاشتراكي ولا زالت آثارهم واضحة في الحركة الاشتراكية في اليابان إلى يومنا هذا . وبالرغم من قلة عدد المسيحيين في البلاد إذ لا يتجاوز عددهم الواحد بالمائة من مجموع السكان ، إلا أن أثرهم الثقافي والاجتماعي أكبر بكثير من حجمهم . ويبدو ذلك جليا لمن يزور اليابان في موسم عيد الميلاد السيد المسيح عليه السلام حيث تزدان الشوارع بأشجار الميلاد وتنطلق من المحلات التجارية الأغاني المرتبطة بهذه المناسبة . وقد يعود ذلك بالإضافة لأثر الثقافة الغربية إلى سعي الشركات الكبيرة لاغتنام مثل هذه المناسبات لتسويق منتجاتها ، ومن ضمن المناسبات التي تستغلها الشركات مناسبة عيد الحب أو ما يسمى عندهم بيوم القديس فالنتاين في فبراير من كل عام حيث ترتفع بصورة كبيرة مبيعات الشوكولاتة فقد جرت العادة أن تقوم الفتيات في ذلك اليوم بتقديم الحلوى كهدايا للفتيان . وبما أن اليوم لم يكن أصلا من الأعياد التقليدية للمسيحيين بمختلف طوائفهم فإن العامل التجاري واضح فيه وضوح الشمس حيث تتفنن شركات إنتاج الشوكولاته في الترويج للمناسبة . ويبدو أن العدوى قد انتقلت للعالم العربي حيث تبدي القنوات الفضائية العربية حاليا اهتماما بالمناسبة. بالرغم من وصول الإسلام حتى الصين ومناطق من جنوب شرق آسيا منذ صدر الخلافة الإسلامية ، إلا أنه يبدو أن اليابان كانت في معزل عن تأثيره . وصل الإسلام كما أشرنا سابقا إلى اليابان حديثا على أيدي الأتراك الذين هربوا من جحيم الثورة البلشفية في الاتحاد السوفيتي ، وقد ظل ارتباط الجالية التركية الصغيرة في اليابان بتركيا مستمرا حتى الآن . استطاعت الجالية التركية أن تقيم أول مسجد بالعاصمة اليابانية طوكيو في نهاية الثلاثينات من القرن العشرين ، وظلت وزارة الأوقاف التركية تعين إماما لهذا المسجد حتى نهاية السبعينات . أعقب ذلك تعيين إمام مصري من خريجي الأزهر الشريف بتعاقد مع المركز الإسلامي الياباني الذي نشط بصورة كبيرة في نهاية السبعينات وخلال عقد الثمانينات بفضل الدعم المادي والمعنوي الكبير الذي كان يتلقاه من المحسنين في المملكة العربية السعودية ودول الخليج بالإضافة لرابطة العالم الإسلامي . قامت السلطات اليابانية في منتصف الثمانينات بهدم المسجد الوحيد في العاصمة طوكيو بعد أن أصبح يمثل خطرا على المصلين بعد خمسين عاما من بناءه وصموده أمام العديد من الزلازل والعوارض الطبيعية الأخرى . وقد ظلت طوكيو دون مسجد جامع حتى قامت الحكومة السعودية ببناء مسجد في فناء المعهد العربي الإسلامي التابع لها ، كما علمت أن الحكومة التركية قد قامت مؤخرا بإعادة تشييد مسجد الجالية التركية على طراز جميل .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
تم إنشاء المركز الإسلامي الياباني في السبعينات على أيدي عدد من المبعوثين من الدول الإسلامية وقد ساهم المواطن السوداني موسى محمد عمر بدور كبير في إنشاءه ، كما كان لجهوده وجهود بعض الإخوان من الدول العربية الأخرى دورا بارزا في توفير الدعم للمركز واستمراره . وفي مطلع الثمانينات تم افتتاح مقر المركز ، وهو مبنى حديث تم إنشاؤه على أرض قام المركز بشرائها في موقع ممتاز مما جعل المبنى مركز إشعاع إسلامي في العاصمة اليابانية . وكانت أبرز النشاطات التي يقوم بها المركز هي توفير العلماء الذين يعلمون المسلمين من اليابانيين أمور دينهم بالاضافة للغة العربية ، هذ فضلا عن المحاضرات المتنوعة عن الثقافة الإسلامية والعربية . رغم أن للمركز مجلس إدارة وجمعية عمومية إلا أنه ظل يعتمد بصورة أساسية على بعض الشخصيات النشطة وقد أدى غياب هذه الشخصيات عن اليابان في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن العشرين إلى انحسار كبير في نشاط المركز بالرغم من الزيادة الكبيرة في عدد المسلمين الوافدين وزيادة عدد اليابانيين الذين اعتنقوا الدين الإسلامي . عندما عدت لليابان في منتصف التسعينات وجدت أن نشاط المركز قد انحصر بصورة أساسية على الدروس التي تقدم للمسلمين اليابانيين بمباني المركز ، إلا أن عودة بعض الناشطين الذين قام المركز على أكتافهم بعثت شيئا من التفاؤل آمل أن يكون قد ترجم إلى نهضة جديدة في نشاط المركز خاصة وأن اليابانيين أصبحوا يقبلون بصورة أكبر على الإسلام . وقد تأثر نشاط المركز كذلك بسبب انحسار الدعم الذي كان يصله من المحسنين في السعودية ودول الخليج العربي . ارتفع عدد المسلمين في اليابان بصورة ملحوظة في السنوات الأولي من عقد التسعين بسبب نزوح أعداد كبيرة منهم من باكستان والهند وجنوب شرق آسيا بحثا عن ظروف معيشية أفضل ، كما ازداد بصورة واضحة عدد النازحين من الدول العربية وإيران . ونسبة لعدم وجود مسجد جامع في العاصمة طوكيو في ذلك الوقت فقد قامت معظم هذه الجاليات بإيجار مبان في مناطق متفرقة من المدينة لإقامة صلاة الجمعة ، كما تساهم بعض السفارات الإسلامية الكبيرة كالسفارة الإندونيسية بتخصيص جزء من مبانيها لإقامة صلاة الجمعة . ظل أعضاء الجالية الإسلامية رغم ظروفهم المادية الصعبة يشكلون اللجان ويجمعون التبرعات من أجل إقامة مسجد جامع ، ولا شك إن إقامة مسجدين في المدينة خلال السنوات القليلة الماضية يعتبرا إنجازا عظيما يثلج صدور أبناء الجالية الإسلامية . وقد كانت الجالية تعاني كثيرا في إقامة صلاة العيدين فهي أحيانا تقام في قاعات بعض الفنادق الكبرى أو في الحدائق العامة ، وكثيرا ما يواجه المنظمون العديد من المشاكل قبل الحصول على المكان المناسب .
ازداد اهتمام اليابانيين عموما بالأديان في السنوات الأخيرة فكسب الدين الإسلامي عددا لا بأس به من الأنصار وخاصة في صفوف الشباب ، ويقول بعض علماء الاجتماع أنه بعد التقدم الاقتصادي والعلمي الكبير فإن الأديان اليابانية التقليدية لم تعد تستجيب لتطلعات الشباب الذين بدأوا يشعرون بشئ من الفراغ الروحي فاتجهوا للأديان الوافدة من الخارج . من جانب آخر فإن الدين الإسلامي قد جذب كذلك عددا من السيدات اللاتي تزوجن بالشباب النازحين من الدول الإسلامية وإن كانت بعض هذه الزيجات لا تقوم على أساس دعوي . سألت يوما أحد الدعاة الإسلاميين في اليابان وهو من أصل صيني عن أهم المشاكل التي تواجههم في مجال الدعوة فلم يتردد أن قال: " إن أم المشاكل بالنسبة لنا هي مسألة انعدام القدوة " ، ومضى شارحا ذلك بأن اليابانيين عندما يرون الاحتراب بين المسلمين والتخلف والجهل سائدين في البلاد الإسلامية أو عندما يرون بعض الشباب الإسلامي غير الملتزم فإنهم لا يجدون حافزا حقيقيا لاعتناق الدين الإسلامي .
كما تبدو لنا ممارسات اليابانيين وعاداتهم غريبة فإن عاداتنا وممارساتنا تبدو لهم أيضا غريبة ، وقد كان من تجربتي الشخصية أن ذلك أوضح ما يكون في مجال الدين . كنا أربعة سودانيين كما ذكرت في نفس الجامعة وكانت لنا مناضد خاصة للمذاكرة في الطابق المخصص لطلاب الدراسات العليا ، ولما كانت الصلوات تدركنا أحيانا ونحن في الجامعة فقد أحضرنا مصلاة كنا نستعملها لأداء صلواتنا . لاحظت في الأيام الأولى دهشة الطلاب اليابانيين عندما رأوني أؤدي صلواتي ، ولكن عندما أدركوا أهمية الصلاة بالنسبة لديننا فقد كانوا يظهرون الكثير من الاحترام لذلك فعندما يبدأ أحدنا بالصلاة يسود المكان سكون تام . تصادف أن التقيت أحد الطلاب اليابانيين في نهار رمضان وعندما طلب أن نتناول القهوة ذكرت له أنني صائم ، فسأل عن الصيام فأوضحت له أنه أحد واجباتنا الدينية التي فرضها علينا الله عز وجل ، وفاجأني الرجل قائلا: " ولكن الله موجود في السودان فلماذا تصوم وأنت بعيد هنا في اليابان ؟ " . وعندما شرحت له الفرق بين اعتقادنا في الله واعتقادهم في آلهتهم التي لا يعبدونها إلا عندما يرونها أمامهم أبدى تفهما ولكنه قال إلا أن فلانا مسلم أيضا ولكنه لا يصوم مثلك . أوضحت له باختصار شديد الرخص الممنوحة للمسلمين بشأن الصيام مشيرا إلى أن فلانا هذا ربما كانت له واحدة من هذه الرخص ، ولعل أكثر الأسئلة التي كانت تواجهنا وبصفة خاصة من البنات هي لماذا يسمح للرجل المسلم بزواج أربع نساء . الغريب أن مثل هذا السؤال يطرح في الوقت الذي لا ينظر فيه اليابانيون باستغراب لاحتفاظ الرجل بعشيقة لا يفرق بينها وبين الزوجة إلا عدم وجود عقد الزواج ، فالكثير من الأزواج اليابانيين القادرين يحتفظون سرا بشقة أخرى للعشيقة وبعضهم يعترفون بالأطفال من مثل هذه العلاقة ويورثونهم كما حدث بالنسبة لأحد رؤساء الوزارة المشهورين هناك .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
في ذات يوم من الأيام كنت أستمتع بكوب من الشاي في إحدى المقاهي بعد نزولي من القطار فتقدم نحوي - على غير عادة اليابانيين – شاب يحمل عددا من الكتب وعرفني بنفسه قائلا أنه ينتمي لطائفة سوكا غاكاي وهي من الطوائف البوذية المشهورة في اليابان وسألني عن ديني . عندما أجبته أبدى اهتماما وبدأ يسأل عن الإسلام ولم ينس بالطبع أن يدعوني للانتماء لطائفته ، ودعاني لزيارة منزله للحديث مع أفراد عائلته حول الإسلام والبوذية وقبلت الدعوة . وطائفة سوكا غاكاي هي من ضمن ما يعرف في اليابان بالأديان الجديدة وأغلب هذه الأديان تقوم على أساس خليط من البوذية والشنتو . وتدعى طائفة سوكا غاكاي أن أتباعها يقاربون العشرين مليونا من مختلف أنحاء العالم . تقيم الطائفة مؤتمرات سنوية وعدد من الأنشطة الثقافية والرياضية التي تصرف عليها ببذخ كما أن احتفالاتها تتسم بالفخامة البالغة مما يجذب لها العديد من الأتباع ، هذا فضلا عن أن البعض يعتقدون أن الأوراد التي يتلوها أفراد الطائفة لها فعل السحر في علاج الأمراض المستعصية . يقول بعض علماء الاجتماع أن نجاح مثل هذه الطوائف يعود في المقام لأنها تقدم للأشخاص الذين يعيشون على هامش المجتمع فرصة للانتماء في مجتمع يعتبر فيه الانتماء لأي مجموعة أساسا في تحديد هوية الإنسان . قمت بتلبية دعوة الرجل في اليوم المضروب وفوجئت عندما وصلت للمنزل بوجود عدد من أفراد عائلته وأصدقائه من أفراد نفس الطائفة وجرى بيننا حديث طيب عن الدين كان أشبه بالندوة . ولعلمي ببعض معتقدات البوذيين وإيمانهم بتناسخ الأرواح فقد سألتهم سؤالا مباشرا عن الجزاء والحساب عندهم وماذا يحدث للمذنب عندهم بعد الوفاة ، فأجابوني كما توقعت أن المذنب يبعث من جديد في شكل حيوان أو شخص شقي . قلت لهم أنني لا أذكر بتاتا ماذا كنت أنا في حياتي السابقة فهل فيكم من يذكر ذلك . وعندما أجابوا جميعا بالنفي ، قلت لهم إذا لماذا أعمل الصالحات ما دامت حياتي السابقة وحياتي اللاحقة منفصلتان تماما ، وأوضحت لهم أننا كمسلمين نؤمن بأن الإنسان يبعث وأمامه كتاب حياته كاملا ويذكر بكل أفعاله ثم يحاسب بعد ذلك فيعرف ماذا فعل من خير أو شر ولماذا حوسب على ذلك . وحار القوم جوابا فأمهلوني أسبوعا آخر ليسألوا أحد شيوخهم وعندما عدت لهم بعد أسبوع أفادوني بأن شيخهم لم يجد جوابا لسؤالي ولكنه طلب منهم عرض رغبة الطائفة في فتح فرع لها بالسودان واستطلاع رأيي في مبدأ التعاون معهم في ذلك . اعتذرت بالطبع وإن استمرت علاقتي بالشخص المذكور الذي يبدو أن الشك بدأ يساوره حول معتقداته وطلب كتبا عن الإسلام وقد قمت بتقديمه للمركز الإسلامي ، غادرت اليابان وكان الرجل لا يزال في مرحلة الشك وأسأل المولى عز وجل أن يكون قد اهتدى للسراط المستقيم . تمثل المهرجانات أهم الأساليب للتعبير عن الارتباط بالدين ، فما من معبد في اليابان إلا ويقيم عددا من المهرجانات في العام أهمها في الصيف والخريف بالإضافة للمهرجانات الكبيرة التي تقام بمناسبة حلول العام الجديد . يبدو أن هذه المهرجانات بدأت تاريخيا كنوع من الاحتفال لتقديم الشكر للآلهة في المناسبات المرتبطة بمختلف مراحل العملية الزراعية كبذر البذور أو الحصاد ، إلا أنها تحولت مع مرور الوقت إلى مناسبات للهو والتجارة . وما من معبد في اليابان سواء أن كان تابعا للبوذية أو الشنتو إلا ويقيم المهرجانات الكبيرة في مختلف مواسم العام . وهذه المهرجانات أشبه بموالد الأولياء والصالحين في مصر ، حيث يشدو المغنون بالأهازيج ويرقص الجميع على أنغامها وتقام الأكشاك التي تقدم مختلف أنواع الأطعمة والمشتريات الخفيفة . وفي فصل الصيف فإن كل حي من أحياء المدينة يقيم مثل هذه المهرجانات حيث ينضم كل سكان الحي نساؤهم ورجالهم ، شيبهم وشبابهم لساحات الرقص في الشوارع التي تغلق يومها أمام حركة المرور العادية . ويسير سكان الحي في موكب كبير يتقدمه هيكل خشبي – يسمونه ميكوجي – أشبه بالهودج عندنا ويحمله عدد من الشباب الأقوياء وعليه ضاربو الطبول الذين تهز ضرباتهم القوية أوتار القلوب والجميع يغنون ويرقصون . تقيم المدارس مهرجانات مشابهة إلا أن الميكوجي عندهم أصغر حجما ليناسب أحجام التلاميذ ، بينما يقوم ضاربو الطبول في هذه الحالة بممارسة عملهم وهم على الأرض . وضرب الطبول في اليابان عملية فنية تحتاج للكثير من التدريب ، وطبولهم كبيرة للغاية تفوق في ارتفاعها طول الشخص الضارب عليها وهي أشبه بالنحاس عندنا . وتحتاج عملية قرع الطبول إلى مقدرة جسدية عالية وعندما يرى المشاهد قارع الطبول والجزء الأعلى من جسده عار وهو يتصبب عرقا يعتقد أنه يشاهد عرضا من عروض كمال الأجسام . وتصدر الطبول إيقاعا عنيفا يتميز بالسرعة وارتفاع الصوت مع تهاوي العصي التي يستعملها القارعون على جلد الطبل المشدود . والطبل نفسه مصنوع من أجود أنواع الخشب ويهتم اليابانيون كثيرا بزركشته وتجميله ، ولا غرو فهو الآلة الأساسية في هذه المهرجانات . تستغل المعابد مناسبات المهرجانات للحصول على دعم مادي كبير من الزوار الذين يفدون بالآلاف للصلاة ودفع مبالغ في شكل " زيارة " كما هو الحال عندنا في السودان عند زيارة قبور وبيانات الأولياء والصالحين . وكلما كانت الرغبة أشد في تحقيق الغرض والاستجابة للدعاء كلما زاد المبلغ المالي الذي يدفعه المصلي ، فالآلهة اليابانية قد تأثرت هي أيضا بالرخاء الكبير الذي تحقق في البلاد . ومن أكثر المعابد جذبا للزوار خاصة في رأس السنة هو المعبد الذي يضم رفاة إمبراطور الميجي الذي يعود له الفضل في إدخال اليابان العصر الحديث عبر ما عرف في تاريخ اليابان باسم ثورة ميجي الإصلاحية والتي وقعت في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي . وتروج بصفة خاصة في مهرجان رأس السنة تجارة قراءة البخت التي تخصص لها المعابد مواقع بارزة ويؤمها العديد من الزبائن وعلى رأسهم الفتيات الباحثات عن الزواج ورجال الأعمال الراغبون في الربح السريع . وقد شهدت في معبد ميجي الشباب من الجنسين وهم يقومون بتعليق قصاصات من الأوراق على إحدى أشجار المعبد بعد كتابة الأمنيات التي يرغبون في تحقيقها خلال العام الجديد لاعتقادهم بأن الآلهة ستستجيب لرغباتهم بهذه الصورة . وتعتبر قراءة البخت واحدة من الممارسات التي تؤكد مقدرة اليابانيين الفائقة على المزج بين ثقافتهم المحلية والثقافات الواردة . فبالرغم من أن قراءة البخت التي تمثل موروثا يابانيا قد يبدو غاية في التخلف ، إلا أن اليابانيين استطاعوا إدخال التكنولوجيا الحديثة فيها حيث يتم حاليا قراءة الكف عن طريق الكمبيوتر كما يقوم الجهاز بدور الخاطبة بين الشباب الراغبين في الزواج . يتم إدخال المعلومات الضرورية في الجهاز الذي يقوم بتحليلها ومن ثم الخروج بنتائج عن مدى صلاحية المتقدمين كشركاء لبعضهم البعض . وقد شاهدت في أحد المعابد مواطنا يابانيا تمكن من تدريب العصفور الذي نطلق عليه في السودان اسم " ود أبرق " على الصلاة في معبد صغير خصص لذلك ثم سحب ورقة من مكان مخصص تحمل بخت الشخص المعني الذي يقوم بدفع المبلغ المطلوب عن طيب خاطر وهو يبتسم خاصة وأن العصفور السعيد يخرج عادة ببخت سعيد أو بكلام مبهم حمال أوجه . حكى لي أحد الأصدقاء السودانيين واقعة طريفة حدثت له في اليابان ، وذلك عندما جمعته مناسبة مع عدد من الفتيات اليابانيات كن يعتقدن أنه قادم من الهند أو بنغلاديش فطلبت إحداهن منه أن يقرأ لها بختها . ومن باب الدعابة قام ذلك الصديق بقراءة كف تلك الفتاة مدعيا لها أنها ستتزوج في المستقبل القريب . ضحكت الفتاة قائلة له أنها غير مخطوبة ومن المستحيل أن تتزوج كما يدعي وضحك الجميع بعد أن أكد لهم الصديق أنه لا علاقة له بالهند أو بنغلاديش أو قراءة البخت . يقول الصديق أنه بعد مرور شهر أو شهرين تلقى محادثة من واحدة من أولئك الفتيات تدعوه للقاء المجموعة ، ويمضي قائلا أنه اندهش أيما اندهاش عندما التقى بهن في أحد المقاهي إذ كانت كل واحدة منهن ترغب في أن يقرأ لها البخت بعد أن أ خبرنه بأن صديقتهن التي قرأ بختها سابقا قد تمت خطبتها وأنها ستتزوج في ظرف أسبوع . يقول الصديق أن واجه صعوبة بالغة في إقناع مجموعة الفتيات بأنه ليس من قراء البخت وأن ما حدث لا يعدو أن يكون ضربة لازب كما يقولون .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
هناك العديد من المهرجانات التي يقيمها اليابانيون في مختلف المناسبات الدينية وغيرها ، ومن هذه الاحتفالات ما يطلقون عليه اسم " ستسوبون " . تقوم ربات البيوت في هذه المناسبة بطرح حبات فول الصويا أو غيره من أنواع البقوليات على كل أرجاء المنزل أو المبنى وهم يغنون أغان بسيطة يعتقدون أنها تساعد على طرد الأرواح الشريرة وجلب الحظ . وكنت كلما أرى هذه الممارسة في الثالث أو الرابع من فبراير كل عام أتذكر أمهاتنا وهن يحملن المباخر في ليلة عيد الفطر وهن يجبن أرجاء المنزل لطرد الشياطين التي تطلق من أصفادها في تلك الليلة . ومن الاحتفالات الهامة أيضا ما يسميه اليابانيون " هينا ماتسوري " أي مهرجان العرائس وهو خاص بالبنات حيث يزين كل بيت فيه بنت بعدد هائل من العرائس المتقنة الصنع والتي تمثل الإمبراطور والإمبراطورة وأعضاء البلاط بالإضافة للموسيقيين وكلهم يرتدون الملابس التقليدية الزاهية التي يغلب عليها اللون الأحمر . ورغم أن هذا الاحتفال يكون عادة في الثالث من مارس إلا أن العرائس تستمر في موقعها لفترة طويلة حسب رغبة البنت في المنزل . وفي الخامس من مايو يحتفل اليابانيون بيوم الأطفال ويسمونه أحيانا " شجي قو سان " وهي تعني حرفيا " سبعة ، خمسة ، ثلاثة " حيث يقوم الأطفال في سن السابعة والخامسة والثالثة وهم يرتدون الملابس التقليدية المزركشة بزيارة المعابد مع أولياء أمورهم للصلاة والدعاء . وتذكرني البنات الصغيرات خاصة الأعياد عندنا فهن يلبسن الكيمونو والحذاء الخاص به ، ويصعب عليهن في العادة المشي بصورة طبيعية مما يعيد للذاكرة أيام العيد في السودان عندما ترتدي الفتيات الصغيرات الملابس المزركشة والأحذية الجلدية الجديدة وهن يمشين بصعوبة بالغة أحيانا . وتعتبر كل هذه المناسبات كما هو معروف فرصة للشركات لتسويق منتجاتها إذ تسبقها عادة مواسم للتسوق . من أهم المعابد في العاصمة طوكيو معبد ياسوكوني الذي يضم رفاة قتلى الحروب اليابانية المختلفة وهو يضم ضمن ما يضم رفاة قتلى الحرب العالمية الثانية ، لذلك فقد اكتسب المعبد أهمية سياسية خاصة . تمثل زيارة المسئولين الرسميين خاصة الوزراء ورئيس الحكومة لهذا المعبد من حين لآخر حساسيات بالغة بين اليابان والعديد من الدول الأسيوية وعلى رأسها جارتيها الصين وكوريا بشقيها . ترى هذه الدول في زيارة المسئولين للمعبد تكريما لبعض الأشخاص الذين قررت محكمة طوكيو لمجرمي الحرب إعدامهم ودفنت رفاتهم في المعبد ، وتربط عادة بين هذه الزيارات وعودة الروح العسكرية البغيضة لليابان . من المعابد الغريبة التي قدر لي أن أراها ذلك المعبد الذي يقع في مدينة ناقانو وسط اليابان والذي يقدس أتباعه العضو التناسلي للرجل وينصبون تمثالا كبيرا لمعبودهم عند مدخل المعبد . ولا يخلو تقديس هذا المعبود العجيب من جانب فلسفي إذ يرى أتباع الطائفة أنه يمثل مصدرا للحياة . وقد حدثني مرافقي أن أقل ما يمكن أن توصف به الأنشطة التي تقام خلال المهرجان السنوي لهذه الطائفة أنها تخدش الحياء فالرقص الذي يمارس خلال المهرجان والتحف التذكارية التي تباع في تلك المناسبة كلها تمجيد لهذا المعبود الغريب . تحتل المعابد الكبيرة مواقع ممتازة وتشغل مساحات واسعة في المدن وتحفها الخضرة الشديدة مما يعتبر متنفسا للأهالي في المدن الكبيرة كالعاصمة طوكيو ، أما في الريف فإن المعابد تبنى عادة في المرتفعات المطلة على القرى ويتطلب الصعود إليها مشقة لارتفاعها الشديد أحيانا . وتمتاز المعابد البوذية بالحدائق الرملية والصخرية التي تقام في فناء المعبد ويتم تزيينها بدقة فائقة وتوضع بعض الصخور في الميدان الرملي الذي ترسم عليه خطوط دائرية تعطي الانطباع باللانهائية . تستعمل هذه الحدائق في ممارسة رياضة التأمل الروحية وهي جزء هام للغاية من العبادة الخاصة المعروفة باسم " زازين " . تمكنت خلال زيارتي للعاصمة القديمة كيوتو من مشاهدة العديد من المعابد البوذية التي شيدت قبل مئات السنين ، ورغم أن هذه المعابد تبنى بالخشب فقط إلا أنها فخمة للغاية . وبما أن فن المعمار الياباني لم يكن قد عرف المسامير المعدنية في ذلك الوقت فقد ابتكر المهندسون اليابانيون نوعا من المسامير الخشبية التي يتم بواسطتها رفع السقوف وتركيب الأرضيات المعقدة . ومن عجائب ما شاهدت في أحد المباني الأثرية في كيوتو – وهو عبارة عن قصر قديم لأحد نبلاء العصور الوسطى – أرضية يطلق عليها اسم أرضية العندليب ، والسبب هو أنها تصدر أصواتا أشبه بغناء طائر العندليب عندما يمشي الإنسان عليها . وحسبما أفادنا المرشد السياحي المرافق فإن القصر قد تم بناؤه في وقت كانت اليابان تشهد فيه اضطرابات سياسية واسعة وأن الغرض من تصميم أرضية القصر بتلك الصورة هو تأمين صاحب المنزل ضد أي محاولة اغتيال قد يقوم بها أعداؤه ، خاصة وأن حوائط الغرف في القصر كانت من الورق كما أن الأبواب لم يكن بها أي وسائل تأمين كالأقفال وغيرها . ولا زالت عالقة بالذهن تلك الأصوات الجميلة التي كانت تصدر من تحت أقدام أفراد مجموعتنا السياحية وهم يتجولون في أرجاء القصر المختلفة . كلف البناء بالمواد الخشبية اليابان غاليا إذ أن الكثير من التراث المعماري قد ضاع بسبب النيران التي أتت على العديد من هذه المباني التاريخية . ولعل أشهر هذه الحرائق تلك التي قضت على أحد المباني الأثرية الهامة في مدينة كيوتو وهو المبنى المعروف باسم القصر الذهبي ، ويمثل القصر الذهبي الذي بني في العصور الوسطى توأما للقصر الفضي الذي يقع في الجانب الآخر من ذات المدينة . ومنظر البناء الذهبي اللون تحفه الخضرة الجميلة وهو ينعكس على البركة الصغيرة الواقعة أمامه يسلب الألباب ويعتبر من أجمل المناظر التي رأيتها في حياتي . تم إعادة بناء القصر بنفس المواصفات بعد أن التهمه الحريق وقد خلد الأديب الشهير يوكيو ميشيما قصة الحريق في أحد كتبه . من أشهر الآثار البوذية في اليابان تمثال بوذا العظيم في قرية كاماكورا التي تقع غير بعيد عن العاصمة طوكيو وكانت هي نفسها عاصمة للبلاد خلال ما عرف بالعصر الذي سمي باسمها واستمر من سنة 1185 وحتى سنة 1333 ميلادية . والتمثال ضخم للغاية ومصنوع من الحجر في شكل جلسة القرفصاء الشهيرة لبوذا التي يرفع فيها يده اليمنى ، وحول التمثال الذي يؤمه الكثير من السواح معبد أثري قديم منذ ذلك العهد . وفي العاصمة القديمة كيوتو يمكن زيارة المعبد الذي يضم أكثر من مائة تمثال لبوذا وهو أيضا من الآثار البوذية العظيمة التي تجذب السواح . وقد شاهدت في بانكوك عاصمة تايلاند تمثال بوذا النائم وهو تمثال خشبي ضخم يستلقي على جانبه الأيسر ، كما شاهدت تمثالا لبوذا من الذهب الخالص ذكر لنا مرافقنا السياحي أن 90 طنا من الذهب الخالص قد استعملت في صناعته . وفي كل معبد من المعابد البوذية في اليابان هناك ركن خاص مقدس يعتقد أن جزءا من رفاة بوذا مدفون فيه ، وإذا ما علمنا أن هناك أكثر من خمسة وسبعين ألف معبد بوذي في اليابان وحدها فلنا أن نعلم أن مثل هذا الحديث لا أساس له من الصحة . يهتم اليابانيون كثيرا بالمعابد وتزيينها واغلبها مبني من الخشب ويغلب عليها اللونان البني والأحمر ، وتزين جدران بعض هذه المعابد بالرسومات اليابانية القديمة التي تعكس جمال الطبيعة وبعض اللوحات منها تحكي أحداثا تاريخية وقد تمتد لعدد من الجدران المتصلة . وقد لاحظت في منطقة " نكو " التي يدفن فيها رفاة موحد اليابان ايياسو توكوقاوا أن صورة حيوان التنين الخرافي ترسم بألوان زاهية للغاية على سقوف المعابد هناك . وعندما سألت المرافق السياحي أفادني بأن اليابانيين يعتقدون أن التنين يحرس هذه المعابد من الحريق ، وعجبت فالفكرة السائدة عن التنين أنه حيوان يطلق اللهب المخيف من فمه أو هكذا صورته لنا القصص الخرافية . وكما هو الحال بالنسبة للفنانين الأوربيين في العصور الوسطى والذين تفننوا في تزيين الكنائس والكاتدرائيات القديمة في القارة الأوربية ، فإن أشهر الفنانين اليابانيين في العصور الماضية كانوا يتنافسون في تزيين المعابد مما ساعد على حفظ الكثير من التحف الفنية ومن بينها تحفة " القطة النائمة " التي ترقد على باب القاعة المسماة باسمها في أحد المعابد في منطقة " نكو " .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
الاعتقاد الشائع في مختلف أنحاء العالم بما في ذلك شرقنا العربي هو أن الزوج الياباني يسيطر سيطرة كاملة على شئون الأسرة وأن الزوجة هي مجرد تابع له. وربما نشأ هذا الاعتقاد من الاتصال الأول بين الغربيين واليابان في منتصف القرن التاسع عشر عندما كان النظام الاجتماعي في عصر التوكوقاوا يلغي تماما شخصية المرأة ويجعلها أشبه بالممتلكات التي يقتنيها الرجل. يقول الكاتب الأمريكي أدوين رايشاور – وهو من أشهر الكتاب الأجانب الذين كتبوا عن اليابان – أنه كان من الطبيعي في عشرينات القرن العشرين أن ترى المرأة اليابانية تحمل الأطفال والأحمال الثقيلة وهي تسير على بعد عدة خطوات خلف زوجها الذي يتبختر خالي اليدين ، وهو أمر كان سائدا في بلادنا كذلك حتى وقت قريب. أما اليوم فإن العكس هو الصحيح بالنسبة للأسرة اليابانية فالاحتمال الأكبر هو أن يكون الزوج محملا بأكياس المشتريات وربما الأطفال والزوجة تسير معه جنبا إلى جنب وهي تحمل فقط حقيبة يدها. ومن الظواهر التي تعكس التحول في الوضع الاجتماعي للمرأة اليابانية هو ازدياد عدد السيدات اللاتي يقدن السيارات بينما يكون الزوج جالسا على المقعد الآخر وهو أمر كان الأزواج يقاومونه بصورة كبيرة في الماضي. وربما كان هذا التقليد لا زال سائدا عندنا في السودان ، بل إن بعض الدول الإسلامية لا زالت تمنع قيادة المرأة للسيارة. والمرأة اليابانية هي المسئولة عن إدارة شئون الأسرة في الوقت الحاضر فهي التي تضع وتنفذ ميزانية الأسرة وهي المسئولة الأولى عن مشاريع الأسرة الكبيرة كشراء شقة للسكن أو خلافه كما إنها تمثل الأسرة عادة في مجلس الآباء في مدارس أبنائها وتراجع دروسهم. ولعل السبب وراء ذلك هو غياب الزوج المتواصل عن المنزل نتيجة لانشغاله الشديد وخروجه مع الأصدقاء. تهتم المرأة اليابانية كثيرا بأناقتها ومع تحول المرأة من الزي التقليدي وانتشار الملابس الغربية بعد الحرب العالمية اهتمت بيوت الأزياء اليابانية والأجنبية بتقديم منتجاتها بأسلوب ساحر وجذاب في السوق الياباني . وتعتبر عروض الأزياء من الأنشطة التي تجد إقبالا كبيرا في المجتمع الياباني كما اشتهر عدد من مصممي الأزياء اليابانيين مثل السيدة هاناي موري على المستوى العالمي ، وهناك بعض الأسواق المشهورة بعرض أحدث صيحات الموضة لمختلف الأجيال ومن بينها منطقة هاراجوكو الشهيرة في العاصمة طوكيو والتي عرفت بمحلات الأزياء للشباب . من أهم الأركان في الأماكن التجارية الكبيرة الركن الخاص بمستحضرات التجميل ، والغريب في ذلك أن هذه المنتجات لا تختص بالنساء فقط بل أن هناك منتجات تجميل للرجال أيضا إذ أن الشركات تهتم بمظهر موظفيها بصورة مبالغ فيها . هناك بعض البرامج التلفزيونية التي تعلم الرجال كيفية استعمال منتجات التجميل بالصورة التي تجعلهم يظهرون في أبهى صورهم وهم يتعاملون مع الزبائن . أذكر أن الصحف اليابانية اهتمت في بداية الثمانينات من القرن الماضي بقضية رفعها أحد الموظفين ضد الشركة السياحية التي كان يعمل بها بعد ان قامت بفصله بدعوى أن لحيته الكثة تنفر الزبائن . وتقول بعض الإحصائيات أن المجتمع الياباني يعتبر أكثر المجتمعات صرفا على مستحضرات التجميل في العالم إذ تبلغ جملة مبيعات هذه المنتجات حوالي 5,9 مليار دولار في العام بالمقارنة مع 5,7 مليار دولار بالنسبة للولايات المتحدة التي تحتل المركز الثاني ، بينما نجد حجم سوق مستحضرات التجميل في دولة مثل إسبانيا مثلا لا تتجاوز 520 مليون دولارا في العام . قضيت شهرا مع إحدى الأسر اليابانية ضمن برنامج تعلم اللغة اليابانية ولاحظت أن الزوج وهو يعمل أستاذا بإحدى الجامعات لا يعود إلا في المساء ليحضر مع العائلة وجبة العشاء وكثيرا ما يعتذر عن حضور العشاء ويعود متأخرا ، وكانت الأم هي المسئولة عن تربية طفليهما بالإضافة لأعبائها الأخرى . لاحظت أن ربة المنزل بالرغم من مسئولياتها العديدة تصر على ممارسة حياتها الاجتماعية فتشارك في الجمعيات النسائية المختلفة والأنشطة الثقافية التي تقام خلال ساعات النهار ، وقد ساعدها في ذلك أسلوب الحياة السهل في اليابان . أدى استعمال التكنولوجيا الحديثة لتسهيل الحياة كثيرا بالنسبة لربة المنزل كما قاد لتوفير الكثير من الوقت الذي كانت المرأة تحتاجه في الماضي للطبخ وتدبير المنزل وغسل وكي الملابس مما مكنها من أن تشغل وقت فراغها لممارسة هواياتها وحياتها الاجتماعية . كل ما يقوم به الزوج الياباني هو تسليم مرتبه كاملا لربة المنزل عند بداية كل شهر ويحصل على مصروفه اليومي مع الأطفال كل صباح ، وتنشر الصحف اليابانية من حين لآخر متوسط المصروف اليومي للموظفين والذي لا يتجاوز في العادة الألف ين وهو ما يعادل تقريبا ثمانية دولارات وكثيرا ما يشكو الأزواج من قلة المصروف في التحقيقات التي تنشرها الصحف حول هذا الموضوع . لا يستطيع الرجل الياباني أن يخدع زوجته بشأن المبلغ الذي يتقاضاه كمرتب كل شهر إذ من السهل جدا معرفة ذلك ، ولكن كثيرا من الرجال يخبئون عن زوجاتهم دخلهم الحقيقي من ساعات العمل الإضافية حتى يتسنى لهم الاستفادة من المبالغ التي يوفرونها نتيجة لذلك للخروج مع أصدقائهم إلى مجالس الشرب التي يحبها اليابانيون كثيرا أو ممارسة هواياتهم المفضلة . لا زالت الكثير من التقاليد القديمة التي تقوم أساسا على تعاليم كونفوشيوص تلقي بظلالها على أسلوب التربية في الأسرة اليابانية ، ومن بين هذه التقاليد تدريب الأولاد الذكور على عدم إظهار عواطفهم إذ أن ذلك يعتبر نوعا من الضعف وهو أمر خليق بالبنات فقط . وقد لاحظت خلال وجودي في اليابان أن البنات يبالغن فعلا في التعبير عن عواطفهن خاصة إذا كن يتصرفن كمجموعة في حالة الاستماع لفنانهن المفضل أو تشجيع فريقهن الرياضي ، وربما كانت تلك محاولة لإثبات أنوثتهن واختلافهن حقا عن الأولاد . ينعكس هذا الأسلوب التربوي على علاقة الرجل بزوجته إذ أن الرجال اليابانيين نادرا ما يظهرون عواطفهم تجاه زوجاتهم أمام الآخرين ، بل إن بعضهم ظل حتى وقت قريب يشير إلى زوجته عند الحديث عنها للآخرين بلفظة " زوجتي الحمقاء " . هذا بالطبع بالرغم من أن حب الزوج الياباني لزوجته لا يختلف عن حب رصفائه في أنحاء العالم الأخرى لزوجاتهم . وهنالك عبارة يابانية تقول " إن الأزواج اليابانيين يتعاركون أمام الآخرين ويقبلون بعضهم بعضا سرا ، بينما يقبل الأزواج الأمريكيون بعضهم بعضا أمام الآخرين ويتعاركون سرا " .لا يختلف تصرف الرجل الياباني في اعتقادي كثيرا عن تصرف رصيفه السوداني فلا زالت الغالبية العظمى من الرجال في السودان تعتبر أن إبداء العاطفة نحو الزوجة يحط من قدر الرجل ولا يفعلون ذلك أمام الآخرين حتى وإن كانوا أطفالهم .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
أسلوب اليابانيين في التحية غريب بالنسبة للأجانب فهم لا يتصافحون أو يحضنون بعضهم البعض كما تفعل معظم شعوب العالم بل يكتفون بالانحناء . وللتحية اليابانية أصول فيما يبدو فالشخص الأصغر سنا أو أقل مكانة يجب أن ينحني بصورة أكبر من الآخر ، كما أنه يجب ألا يرفع رأسه من وضع الانحناء إلا بعد أن يرفع الشخص الأعلى درجة أو أكبر سنا رأسه . وكثيرا ما تعرضت للحرج في الأيام الأولى فكنت أمد يدي للمصافحة فيهوي الشخص الذي أمامي لينحني على الطريقة اليابانية ، وعندما أتذكر ذلك وابدأ في الانحناء يكون هو قد بدأ في رفع رأسه وكنت أخشى في الكثير من الأحيان أن تصطدم الرؤوس في منتصف الطريق . من الطرائف التي تحكى في هذا المجال أن أحد الإخوة العرب كان في انتظار المرافق الياباني بالغرفة في الفندق ، وعندما وصل المرافق واتصل بالتلفون من الاستقبال كعادتهم طلب منه الأخ العربي الصعود وقرر في نفس الوقت أن يؤدي الصلاة فترك باب الغرفة مفتوحا . عندما وصل الياباني ووجد الأخ العربي في حالة ركوع ركع هو أيضا ، وعندما رفع الأخ العربي من الركوع رفع الياباني كذلك ، وعندها سجد العربي فما كان من الياباني إلا أن سجد هو الآخر فانفجر العربي ضاحكا وسأل الياباني: " لماذا تفعل ذلك ؟ " فرد الياباني : " أليس هذا هو أسلوب التحية في بلادكم ؟ " اختلاف العادات يقود كما هو معروف للكثير من المواقف الطريفة . لم يكن بالامكان شراء إبريق لاستعماله في الطهارة داخل الحمام لذلك فإنني كنت استعمل بعض زجاجات العصير . كانت هناك سيدة تحضر لنظافة المنزل مرة في الأسبوع بعد خروجي للمكتب وكنا لا نلتقي إلا عندما تحضر للحصول على أجرها كل شهر . لاحظت أن السيدة كلما جاءت لنظافة المنزل فإنها تقوم بنظافة الزجاجة الموجودة في الحمام وملئها بالماء ثم وضعها في الثلاجة ، وكنت في كل أسبوع أعيد الزجاجة إلى مكانها المعتاد . قررت ألا أحدث السيدة عن سر الزجاجة في الحمام ويبدو أنها آثرت ألا تسأل كذلك ، ولكني كنت دائما أتخيل دهشتها وهي تقول ولا شك: " كم من الوقت يا ترى يقضيه هذا الرجل في الحمام حتى يحتاج لشرب الماء ؟ " . يحتل الأطفال موقعا مميزا في المجتمع ويظهر اليابانيون خاصة النساء حبا مفرطا للأطفال ، ويبدأ الاحتفاء بهم بمجرد ميلادهم إذ يتقاطر أفراد الأسرة على المستشفي الذي يوضع به الطفل لإلقاء نظرة على المولود الجديد وهم يتفحصونه بدقة شديدة قد تجعل الأمهات عندنا في السودان يتمتمن بالتعويذات والدعوات . ولا يخفي اليابانيون إعجابهم بالوليد ويمطرونه بالإطراء عن حجمه ولونه وغزارة شعره وغيرها من الصفات الحميدة ، وبما أنني قد رزقت اثنين من بناتي في اليابان فقد كان الإطراء الذي أسمعه عنهن هو دائما عن عيونهن الكبيرة ولا غرو فإن أطفال اليابانيين يولدون بعيون لا تكاد تبين . وأكثر الملاحظات التي ترددت على سمعي من أفواه اليابانيين في مثل تلك المناسبات هي أن الطفل يشبه والده شبها شديدا رغم اعتقادي أنه من الصعوبة بمكان تحديد شبه الطفل في تلك السن المبكرة . وقد سمعت من أحد الأصدقاء اليابانيين الساخرين أن أهل الزوجة هم الأكثر تأكيدا لشبه المولود لوالده ربما لإثبات بنوته وإبعاد أي شك والله أعلم . كان المجتمع الياباني التقليدي يفضل المولود الذكر على الأنثى وذلك انطلاقا من تقاليد المجتمع الزراعي ، لذلك فقد كان على المرأة أن تعتذر لأهل الزوج إذا رزقت بعدد من الإناث حيث أنها كانت تتحمل وزر ولادة البنات . تغير هذا الوضع كثيرا بالطبع في المجتمع الياباني الحديث بعد أن تغير وضع المرأة عموما في المجتمع بعد الحرب العالمية الثانية . ونسبة للظروف الاقتصادية فإن أغلب العائلات أصبحت تكتفي عادة بطفلين فقط تفضل أن يكونا ولدا وبنتا . ونسبة لأن الإجهاض بموافقة الوالدين يعتبر عملا قانونيا في البلاد فإنه ليس من المستبعد أن يحدد الوالدان نوع المولودين اللذين يريدانهما عن طريق إجهاض الطفل غير المرغوب فيه . في نهاية الثمانينات توصل أحد العلماء اليابانيين لاستنباط أسلوب يحدد نوع الجنين قبل الحمل عن طريق تلقيح بويضة المرأة بالحيوانات المنوية للرجل التي ينتج عنها نوع المولود المطلوب خارج الرحم ، بيد أن هذه الطريقة لم تجد رواجا فيما يبدو رغم أنها أثبتت نجاحا كبيرا كما تقول التقارير في المراحل التجريبية ، ولا أدري إن كان عزوف الناس عن استعمالها بسبب التكلفة أم لأسباب أخرى . تهتم الدولة والقطاع الخاص في اليابان بالمنتجات الخاصة بالأطفال إذ أنها تحتل جانبا هاما من السوق اليابانية . ولعل مجالات الترفيه عن الأطفال هي أكثر المجالات جذبا للاستثمار ، وتنتشر في معظم أنحاء اليابان مدن الملاهي الكبيرة كما أن البلديات تهتم اهتماما خاصا بحدائق الأطفال التي تقام في عدة أماكن من كل حي . وقد أقامت شركة ديزني المشهورة أول مدينة ملاه لها خارج الولايات المتحدة في طوكيو في النصف الأول من عقد الثمانينات من القرن الماضي تحت اسم " ديزني لاند " . وقد ظلت مدينة الملاهي مزدحمة بالزوار لعدة سنوات حيث كانت زيارتها تقتضي الحجز قبل فترة طويلة ، كما إن على الإنسان أن يتخير الأيام المناسبة حتى يستمتع الأطفال بالألعاب المختلفة حيث يمكن أن يقضي الطفل أكثر من ساعتين انتظارا للاستمتاع ببعض الألعاب ذات الشعبية العالية . انتهزت العديد من الشركات السياحية الفرصة لإقامة عدد من الفنادق الفخمة قرب الحديقة لصالح المواطنين القادمين من مناطق بعيدة لعلمها بأنه لا يمكن تغطية كل أقسام الحديقة في يوم واحد مما يضطر بعض الأسر لقضاء يومين أو ثلاثة في الفندق . تعتبر تربية الأطفال وتوفير التعليم المناسب لهم الشغل الشاغل للأسرة اليابانية ، كما أن أصغر الأطفال يمثل عادة مركز اهتمام الأسرة ويخاطب الجميع بعضهم بعضا انطلاقا من موقعه ، فالأب والأم يناديهم جميع أفراد العائلة بابا وماما والأخ أو الأخت الكبرى يناديهم الجميع بما فيهم الوالدين أيضا بالأخ أو الأخت الكبرى . يهتم اليابانيون اهتماما خاصا بالترتيب العمري للأطفال ويندر أن يشير ياباني لأخيه أو أخته هكذا بصورة مجردة إذ لا بد أن يشير إن كان هو أكبر أو أصغر ، وحتى عندما يلعب الأطفال مع بعضهم فإنهم لا ينادون إخوانهم وأخواتهم بأسمائهم المجردة ولا يخاطبونهم إلا بهذه الألقاب . وفي حالة التوائم لا بد من تحديد أيهما قدم للدنيا قبل الآخر حتى يمكن مخاطبتهما باللقب المناسب ، وعندما كانت الأسر اليابانية كبيرة الحجم وبها أكثر من طفلين كما هو الحال في الوقت الحاضر فقد كان ترتيب الأطفال يتم حسب تاريخ ميلادهم ويعطى كل واحد منهم اللقب المناسب كما هو الحال بالنسبة لبعض قبائل الهوسا في نيجيريا .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
عرف عن اليابانيين حبهم الشديد للطبيعة ، لذلك فإنهم يبدون شغفا كبيرا بالحيوانات وبصفة خاصة القطط والكلاب وقد يبلغ هذا الحب حد الهوس كتلك الفنانة الشهيرة التي كانت تتصل تلفونيا من أي مكان في العالم لسماع صوت قططها التي يربو عددها عن العشرين . والمتجول في شوارع أي مدينة يابانية يلاحظ العدد الكبير من المواطنين الذين يقومون باصطحاب كلابهم في جولات يومية حتى لا يصاب الكلب بحالة من الاكتئاب لطول البقاء داخل المنزل ، وقد امتهن البعض مهنة ترتيب جولات للكلاب نيابة عن أصحابها الذين قد لا تسمح ظروفهم بذلك . من الأشياء الملفتة للنظر كذلك وجود فنادق خاصة بالحيوانات ، حيث يمكن لصاحب الحيوان في حالة سفره أن يتركه في أحد هذه الفنادق التي يشرف عليها أطباء بيطريون مقابل مبلغ معين من المال . يقوم الفندق برعاية الحيوان بما في ذلك الجولات اليومية وتفوق أسعار الغرف " الأقفاص " أحيانا أسعار الغرف في بعض الفنادق التي يقيم بها بنو البشر . وتختلف أنواع الكلاب كما هو معروف وأحجامها التي تتراوح من الحجم الكبير المماثل لحجم الحيوانات المفترسة كالأسد وغيره والذي يكلف صاحبه أموالا طائلة لإطعامه إلى الحجم الصغير الذي يكاد يكون أصغر من القطة . ومن الطرائف أن أحد الإخوان السودانيين كان يصطحب طفلته الصغيرة والتي لاحظت أن العديد من السيدات اليابانيات يحتضن في حنو شديد كلابا صغيرة وهن يسرن في الشوارع فما كان منها إلا أن سألت والدها ببراءة شديدة " بابا … هل تلد اليابانيات كلابا " . تتنوع الحيوانات التي يقوم اليابانيون بتربيتها بصورة كبيرة فهناك من يقومون بتربية الفئران والثعابين وهناك من يقومون بتربية النمور والأسود في الحدائق الخلفية لمنازلهم ، وتباع هذه الحيوانات وبصفة خاصة النادرة منها بأسعار مرتفعة للغاية وقد شهدت ببغاء أفريقيا نادرا يباع بسعر يفوق سعر السيارة الكريسيدا . أما الكلاب والقطط ذات الحسب والنسب فإن المشتري يحصل معها على شهادة هي عبارة عن شجرة العائلة التي تؤكد الأصل الكريم للحيوان . قد يكون هذا الحديث غريبا بالنسبة لمجتمعات كمجتمعنا ، إلا أنه يبدو أن تربية الحيوانات تشبع رغبة عاطفية عند القوم خاصة وأن بعضهم يعيشون حياة موحشة لا يؤنسها إلا وجود هذه الحيوانات . ويبدو أن بعض هذه الحيوانات تبادل الناس حبا بحب ، فقد وقعت حادثة مأساوية في منتصف الثمانينات تناولتها الصحافة اليابانية بتوسع واهتمت بها اهتماما كبيرا وذلك عندما قام كلب بقتل طفلة وليدة بدافع الغيرة حسبما يقول المحللون البيطريون النفسانيون ( إن كان هناك من يمكن أن نطلق عليهم مثل هذه الصفة ) وذلك عندما أحس الكلب بأن عاطفة ربة المنزل قد تحولت عنه نحو الطفلة الوليدة. من جانب آخر فإن جمعية الرفق بالحيوان كرمت كلبا قام بإنقاذ صاحبه الأعمى من موت محقق في حادث حركة مما أدى لأن يفقد الكلب ساقيه الخلفيين في هذه العملية الشهمة ، وقد كان من ضمن التكريم تزويد الكلب بعجلتين تعويضا عن الساقين المفقودين . ومن أشهر الميادين في العاصمة طوكيو ميدان يعرف باسم " هاجيكو " وهو اسم للكلب الذي يتوسط تمثاله الكبير الميدان الواقع أمام واحدة من أهم محطات القطارات ، وتقول الرواية أن الكلب كان يرافق صاحبه في الصباح للمحطة كل يوم ويستقبله عند العودة من المكتب ليرافقه للمنزل . وفي يوم من الأيام توفي الرجل في مكتبه وعندما جاء الكلب لمحطة القطار لم يعد صاحبه بالطبع ، ولم تجد كل المحاولات لإقناع الكلب بالعودة للمنزل وظل في مكانه إلى أن توفي انتظارا لصاحبه فأقام سكان المنطقة التمثال تخليدا للكلب الوفي . وفي سنوات الحرب العالمية الثانية عندما قررت الولايات المتحدة وقف تصدير المعادن لليابان قامت الحكومة اليابانية بمصادرة تمثال الكلب ضمن ما جمعت من مواد لصناعة الأسلحة ، غير أن سكان المنطقة قاموا بإعادة بناء التمثال بعد نهاية الحرب . والتمثال من المواقع المفضلة للقاء العشاق من الشباب ، ولا شك أن الرمزية واضحة هنا فالشاب أو الشابة يريدان أن يؤكدا للحبيب وفاءهما بالوقوف في ذات المكان الذي وقف فيه ذلك الكلب الوفي . يعتبر دب الباندا النادر والذي يعيش في الصين من أكثر الحيوانات التي تكتسب حب اليابانيين ويظل قفصه في حديقة الحيوانات في أوينو بالعاصمة طوكيو من أكثر المناطق ازدحاما بالحديقة ، وتتابع الصحافة أخبار هذا الحيوان باهتمام خاص إذا ما وضعت أنثاه مولودا جديدا وعادة ما تجري مسابقة بين الأطفال اليابانيين لاختيار اسم جديد للمولود . في نهاية السبعينات توفيت واحدة من إناث هذا الحيوان في الحديقة وقد كانت مناسبة حزينة للغاية بالنسبة للشعب الياباني والأطفال بصفة خاصة وقد ظلت أجهزة الإعلام تتابع الخبر بصفة مستمرة لعدة أيام . تصادفت وفاة الباندا مع وفاة رئيس الوزراء الياباني في نفس الفترة . ورغم أن وفاة رئيس الوزراء قد وجدت تغطية إعلامية واسعة خاصة وأنه توفي أثناء حملة انتخابية مصيرية بالنسبة لحزبه ، إلا أن الملاحظ هو أنه بينما اجتذبت جنازة رئيس الوزراء حوالي الثلاثمائة من المشيعين فإن جنازة الباندا اجتذبت حوالي الثلاثين ألفا ولم تفت المفارقة على أجهزة الإعلام التي تناولتها بالتعليق .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
قمت بزيارة لحديقة الحيوان في أوينو مع أحد الأصدقاء السودانيين وقد عجزنا حينها عن زيارة قفص الباندا الذي كانت تصطف أمامه صفوف الراغبين في مشاهدة الحيوان . ومن الطرائف أن تصادف وجود طفل في حوالي الرابعة من عمره أمام قفص الغوريلا عندما وصلنا إلى هناك ، وقد لاحظنا أن الطفل يمعن النظر في الغوريلا ثم يعود لينظر لي ولصديقي وقد كرر ذلك عدة مرات فقال الصديق: " لا بد انه وجد بعض أوجه الشبه " . الشباب الياباني كغيره من الشباب في أنحاء العالم الأخرى يتميز بالتمرد وحب المغامرة وإن كان الانطباع العام لكل من يزور اليابان أن شباب البلاد لا يقارن تمرده بما يحدث في الدول المتقدمة الأخرى ، فالتقاليد اليابانية المحافظة لا زالت تنعكس بصورة واضحة على الشباب . تقل الظواهر السالبة كإدمان المخدرات وما يتبعها من جريمة وسط الشباب الياباني بالمقارنة مع غيره من الشباب في دول العالم المتقدمة ، كما يبدو الشباب من الجنسين أكثر اهتماما بمظهره العام وأناقته وهناك بيوت أزياء خاصة لموضات الشباب . ولا زال الشباب يهتم بالروابط العائلية حيث يظل الأبناء في بيوت أسرهم إلى حين إكمال الدراسة الجامعية إلا إذا اقتضت الظروف إكمال الدراسة في مدينة أخرى ، ويظلون على صلة بأسرهم حتى بعد التخرج وتكون البنات عادة في بيت الأسرة إلى حين الزواج . إلا أن هذا لا يمنع بالطبع بروز بعض الظواهر التي ترافق عادة التقدم الصناعي وتحول المجتمع بصورة أكبر نحو الاقتصاد الاستهلاكي ، لذلك فإن بعض العائلات وبصفة خاصة في المناطق الحضرية بدأت تعاني من التفكك الأسري فقد أصبح الشباب أكثر رغبة في الانعتاق من قبضة الأسرة والاستقلال بحياتهم . ويتضح بين الشباب ضيقهم بنوع الحياة التي تلغي شخصية الفرد وتقوم بتذويبه تماما في الجماعة والتي كان آباؤهم قانعين بها . ويرى الكثير من علماء الاجتماع أن هذه الظاهرة في ازدياد وأنه قد لا يمضي وقت طويل قبل أن تظهر في اليابان نفس الظواهر الاجتماعية التي تشكو منها المجتمعات الصناعية الأخرى . بالرغم من الصورة العامة التي أشرنا إليها أعلاه إلا أن كبار السن في اليابان يرون أن الشباب أقل جدية منهم في التعامل مع الحياة وأكثر ميلا نحو الاستمتاع بمباهجها . ولعل ولع الشباب الشديد بالرقص والموسيقى يعتبر واحدة من الظواهر التي تشير للتحول الذي يحدث في المجتمع عموما . فبالإضافة للمراقص الكثيرة التي تشتهر بها بعض المناطق في العاصمة طوكيو والتي يؤمها الشباب صغار السن من طلاب الجامعات والمدارس الثانوية ، فإن هناك مهرجانا أسبوعيا للرقص يقام في واحد من أكبر الشوارع في منطقة " هاراجوكو " المعروفة بمحلاتها التي تخدم الشباب بصفة خاصة . يتجمع الشباب من الجنسين في هذه المنطقة منذ الصباح الباكر يوم الأحد من كل أسبوع في شكل مجموعات تستعمل كل واحدة منها مسجلا كبيرا تصدر منه أصوات الموسيقى الصاخبة . تتميز كل مجموعة بزي خاص ويقوم أفرادها من الأولاد والبنات بوضع مكياج خاص ويمارسون الرقص طول النهار بشكل جماعي ، وتسمى هذه المجموعات باسم " تاكي نو كو " . اشتهرت المنطقة حتى أصبحت من المناطق الجاذبة للسياح الذين يحضر معظمهم للفرجة ولكن بعضهم يشارك الشباب في الرقص والمرح . من الظواهر الشبابية السالبة أيضا الظاهرة التي يطلق عليها اسم "بوسوزوكو" وهي مجموعات من الشباب التي تستعمل الموتوسيكلات وتسبب الكثير من الإزعاج للسيارات والمارة خاصة في أوقات متأخرة من الليل في فترة إجازة الصيف . ورغم أن هذه المجموعات التي تتكون أحيانا من خمسين أو ستين موتوسيكلا قد تكتفي فقط بالمخالفات المرورية البسيطة كالسير في الاتجاه المعاكس من الطريق ، إلا أنها تصطدم أحيانا بأفراد الشرطة أو سائقي السيارات مما قد ينتج عنه بعض الإصابات . وواضح في تصرفات هذه المجموعات الأثر الغربي خاصة ما يشاهده هؤلاء الشباب في بعض الأفلام الأمريكية ، وتسبب الظاهرة إزعاجا كبيرا إلا أنها لم تتطور بعد لتشكل تهديدا للأمن كما هو الحال في بعض المدن الأمريكية أو المجتمعات الأوربية حيث ارتبطت الظاهرة أحيانا بالتعصب العرقي . نسبة الجريمة في اليابان عموما قليلة جدا أيضا بالمقارنة مع الدول الصناعية الكبيرة وبعض الدول النامية وربما يعود ذلك في جانب منه للوضع الاقتصادي المستقر حيث ظلت استطلاعات الرأي العام تظهر حتى بداية الثمانينات قناعة اليابانيين بأحوالهم الاقتصادية وثقتهم في المستقبل . بيد أن السنوات الأخيرة شهدت ارتفاعا في معدلات البطالة في البلاد ويتوقع بعض علماء الاجتماع أن يتبع ذلك بعض الظواهر الاجتماعية غير المرغوب فيها . تعتبر المدن اليابانية من أكثر المدن أمانا في العالم أجمع وكثيرا ما تجد النساء وهن عائدات إلى منازلهن في أوقات متأخرة من الليل دون خوف من أن يتعرض لهن شخص بأذى ، وتنحصر الجرائم الصغيرة كالنشل والسرقة في بعض المناطق المحدودة في العاصمة طوكيو . مع ذلك فإن باليابان وجودا بارزا للجريمة المنظمة والعصابات الكبيرة التي تعمل أحيانا خارج الحدود وتعرف باسم " ياكوزا " . وتتخذ الياكوزا عادة مكاتب مسجلة رسميا كغطاء لها وهي أشبه بعصابات المافيا المشهورة وتقول إحصائيات البوليس الياباني أن هناك أكثر من أربعة وعشرين عصابة من هذا النوع في البلاد ، ولعل أشهرها العصابة المعروفة باسم " ياماقوشي قومي " . تعمل هذه العصابات عادة في مجالات غير مشروعة كالدعارة وتهريب الأسلحة وغسيل الأموال ، ويرتبط أعضاء المجموعة بقسم يؤدونه من ضمن طقوسه قطع خنصر اليد اليسرى تأكيدا لتعميد هذا العهد بالدم . تتقاسم العصابات الكبيرة مناطق النفوذ في البلاد وتقع بين هذه العصابات معارك من حين لآخر يروح ضحيتها عدد من أفرادها إلا أنها نادرا ما تهاجم المواطنين العاديين ، غير أن بعض الأبرياء قد يصابون عندما يضعهم حظهم العاثر في وسط مثل هذه المعارك . وقد نقل التلفزيون الياباني على مدى عدة أيام نزاع بين عصابة ياماقوشي قومي وواحدة من العصابات المحلية في شمال البلاد عندما أصرت الأولى على فتح مكتب لها في الشمال . لم يتطور النزاع إلى صراع مسلح ، والعجيب في الأمر أن الشرطة تدخلت في النهاية لإنهائه بإقناع ياماقوشي قومي بالتراجع . تقول الاحصائيات أن 472 معركة قد وقعت بين أفراد هذه العصابات في فترة عشر أعوام من عام 1993 وحتى عام 2003 ، وتقول مصادر أمنية أن 85 من هذه الحوادث شملت بعض الأبرياء الذين تصادف وجودهم في مواقع هذه الحوادث . الغريب أن القانون الياباني لا يعوض مثل هؤلاء عن الأضرار التي وقعت بهم لأنهم يفشلون دائما في تحميل العصابة التي ينتمي لها الشخص الذي تسبب في الأذي المسئولية ، وذلك لسبب بسيط هو عجزهم عن إثبات أن الأوامر بإلحاق الأذى قد صدرت فعلا من رئيس العصابة . يسعى البرلمان الياباني حاليا لتعديل القانون بحيث يتحمل رئيس العصابة مسئولية تصرفات كل منسوبيه ، العجيب أن القانون الذي يحاكم مثل هذه الحالات هو قانون الأعمال الخاصة بالرغم من أن بعض المحامين الذين يرافعون عن العصابات يقولون بأن صفة " العمل الخاص " لا تنطبق على موكليهم . من المجالات التي تعمل فيها عصابات الياكوزا ما يعرف في اليابان باسم " ساراكين " وهو نظام ربوي يستدين بموجبه الموظفون وأعضاء الطبقة الوسطى بعض الأموال من العصابات لقضاء أمورهم وإعادتها فيما بعد بنسبة ربوية عالية ، ويقود النظام للعديد من المآسي من بينها انتحار أسر بأكملها إذ أن وفاة رب الأسرة لا تعفي الآخرين من تسديد الدين . وكم من حالة أوردتها الصحف تتحدث عن والدين قررا الانتحار وقاما بقتل أطفالهما الأبرياء خوفا من المستقبل . وتستعمل العصابات كما هو متوقع أساليب عنيفة لاسترداد أموالها ويتعرض غير القادرين على تسديد الديون لضغوط شديدة تقودهم للانتحار .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
تعتبر القطارات السطحية والمترو هي الوسيلة الأولى في اليابان للانتقال بين المنزل والمكتب وتوجد في العاصمة طوكيو أكثر من ستة عشرة شركة لتسيير قطارات النقل الداخلية . والشبكة الداخلية للقطارات كما هو الحال في معظم الدول المتقدمة محكمة للغاية بحيث يمكن للإنسان الانتقال من بيته إلى موقع عمله بسرعة فائقة ، بيد أن معرفة أقصر الطرق من مكان لمكان عن طريق استعمال تقاطع الخطوط يحتاج لمعرفة ودراية بخريطة تشابك هذه الخطوط . وترتبط بشبكة القطارات الداخلية شبكة أخرى للبصات التي تديرها الحكومات المحلية والشركات الخاصة وتقوم بنقل الركاب من المنازل إلى محطات السكك الحديدية حيث يمكن استغلال القطارات . ويستعمل الكثير من اليابانيين الدراجات الهوائية والبخارية للانتقال من المنزل إلى أقرب محطة للسكة حديد ، ويوجد أمام المحطات عادة مواقف واسعة للدراجات . والدراجات هي من الأشياء التي ينساها أو يتناساها الناس في مواقف المحطات مما يؤدي إلى مصادرتها بواسطة سلطات السكك الحديدية وبيعها في المزادات التي تقام للمهملات كل عام . وتضم هذه المزادات بصفة أساسية الشمسيات بالإضافة للعديد من المتعلقات الأخرى كالنظارات وغيرها. وقد أصابني العجب عندما علمت بمتابعتي لبرنامج توثيقي لهيئة الإذاعة البريطانية أن طقم الأسنان يحتل موقعا متقدما في المهملات التي تنسى في قطارات الأنفاق في بريطانيا . من الأشياء الغريبة التي يتناساها اليابانيون أحيانا في القطارات رماد الموتى بسبب التكلفة الباهظة لدفن هذا الرماد خاصة بالنسبة لذوي الدخل المحدود ، وإكراما للميت فإن الدولة تتكفل بدفن علب الرماد التي تنسى في القطارات ولا يحضر شخص لاستعادتها . دخلت السكك الحديدية اليابان لأول مرة في عام 1872 عندما تم بناء أول خط بين العاصمة طوكيو وميناء يوكوهاما المجاور . والطريف في الأمر هو أن المهندس الإنجليزي الذي قام ببناء هذا الخط هو ذات المهندس الذي قام ببناء أول خط للسكة حديد في السودان بعد سنوات قليلة من ذلك التاريخ . وفي الوقت الذي تطورت فيه السكك الحديدية اليابانية إلى حد جعلها من أحسن الخطوط في العالم فإن حال السكك الحديدية في السودان لا يخفى على أحد . ظلت الخطوط الوطنية اليابانية تمثل العمود الفقري بالنسبة للسكة حديد في اليابان حتى عام 1987 عندما تم تحويلها إلى ستة شركات شبه حكومية تغطي كل أنحاء اليابان . عانت السكك الحديدية اليابانية من المنافسة الحادة من جانب السيارات والنقل الجوي ، فقد ارتفعت نسبة ترحيل المسافرين بالسيارات الخاصة والبصات من 1% في عام 1950 إلى 66% في عام 1990 بسبب ازدياد استعمال السيارات الخاصة بصورة ملحوظة نتيجة للتقدم الاقتصادي الكبير الذي حققته البلاد . أما الخطوط الجوية فقد حققت ارتفاعا ملحوظا بالنسبة لنقل الركاب إلى الخارج حيث ارتفع عدد المسافرين على السفريات العالمية من 112 ألفا فقط في عام 1950 إلى 11,3 مليون راكب في عام 1990 ، غير أن نصيب الخطوط الجوية في نقل الركاب داخليا لا زال متواضعا بحيث لم يتجاوز 4% بالمقارنة إلى 30% يتم نقلهم عن طريق القطارات و66% عن طريق السيارات كما ذكرنا أعلاه . يعتبر القطار فائق السرعة المعروف باسم " شنكان سن " في اليابان من عجائب البلاد الحديثة حيث تبلغ السرعة القصوى للقطار مائتان وسبعون كيلومترا في الساعة . وقد أدى استقدام هذا النوع من القطارات في عام 1964 إلى انقلاب في أسلوب النقل بالسكة حديد في البلاد حيث اختصر مدة الرحلة بين العاصمة طوكيو ومدينة أوساكا التي تعتبر المركز التجاري الرئيس من ست ساعات ونصف إلى ساعتين ونصف فقط . وبالرغم من السرعة الفائقة فإن قطارات " شنكان سن " تتميز بالأمان الكامل إذ لم يحدث طوال هذه المدة أن تعرضت لأي حادث بالرغم من أن المناطق التي تجري فيها الخطوط تشهد الكثير من الهزات الأرضية حيث يتوقف القطار بصورة آلية . السفر على هذه القطارات السريعة يعتبر غاية في المتعة فبالرغم من أن السرعة تصل أحيانا أكثر من 250 كيلومترا في الساعة فإن كوب الماء الذي تضعه المضيفة أمامك لا يهتز إلا اهتزازا خفيفا للغاية دون أن يندلق ، وكم كنت أقارن بين هذه القطارات وقطاراتنا في السودان التي وصف درجتها الرابعة المونولوجست بلبل فقال : درجة رابعة تقول ترماي موية زيرها تحل الشاي لمن لاجت غادي وجاي نحن في أولى اترشينا ومن الملاحظ أن مواعيد القطارات تحدد بالدقيقة إمعانا في الدقة فهي عادة ما تغادر في الدقيقة الرابعة والعشرين أو السادسة والثلاثين ، ولا يقضي القطار أكثر من دقيقتين في أي محطة من المحطات . قد يبدو هذا غريبا بالنسبة لنا في السودان حيث يحتاج المسافر لربع ساعة على أقل تقدير لوضع حقائبه على القطار ، ولكن السرعة الفائقة للقطارات هناك أدت لتبسيط إجراءات السفر ، إذ أن القطار يمكن أن يقطع مسافة تبلغ طول المسافة بين الخرطوم وكسلا في ساعتين ونصف تقريبا . وبما أن الإنسان يمكن أن يسافر لكسلا أو بورتسودان ويعود في نفس اليوم فإنه لا يحتاج بالطبع لكل هذه الحقائب . تفتقر قطارات "شنكان سن" كذلك للمطاعم أو حجرات النوم التي تتميز بها القطارات البطيئة ، ورغم وجود مطعم صغير داخل القطار إلا أن أغلب المسافرين يعتمدون على ما يمكن شراءه من وجبات سريعة من الأكشاك المنتشرة في المحطات أو من المضيفات المتجولات داخل القطار. سافرت مرة في القطارات المخصصة للسفر بالليل وقد كنت وقتها أقصد منطقة في جنوب غرب جزيرة هونشو ، ولأن مسافة الطريقة تستغرق أكثر من ثمانية ساعات فقد اخترت القطار الليلي حتى أصل صباح اليوم التالي بعد أن أخذت قسطا من النوم في القطار . وغرف القطار الليلي مجهزة بكل أجهزة الراحة مثل السرائر الوثيرة والحمامات ، وفي الكابينة عادة اربعة سرائر اثنين فوق بعضهما البعض في كل جانب وقد كانت رحلة ممتعة لم يتوقف القطار خلالها كثيرا . ومن الرحلات المثيرة بالنسبة لي هي استغلال قطار " شنكان سن " من مدينة هيروشيما في جزيرة هونشو الرئيسية إلى مدينة فوكوأوكا في الجانب الآخر من البحر في جزيرة كيوشو . وبما أنه لم يكن هناك جسر يربط بين الجزيرتين لبعد المسافات فإن القطار يضطر للمرور عبر نفق تم حفره تحت البحر . وإحساس الإنسان بأنه يسافر تحت البحر إحساس غريب خاصة إذا كان من الذين لا يحسنون العوم من أمثالي وإن كنت أعتقد أني أي حادث في مثل هذا النفق يعني النهاية الحتمية للجميع . ترتبط الجزر اليابانية الأربع الكبيرة بأنفاق تحت البحر سواء أن كان ذلك عن طريق السكة حديد أو طرق المرور السريع ، إلا أن أوكيناوا ونسبة لبعدها الشديد عن بقية الجزر فإنه يمكن الوصول إليها فقط عن طريق الجو أو عبر البحر .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
يعتبر جسر " سيتو أوهاشي " الذي يربط بين جزيرتي هونشو وشيكوكو من أطول الجسور في العالم إن لم يكن أطولها على الإطلاق حيث أن امتداده فوق البحر يبلغ حوالي 9 كيلومترات ونصف الكيلومتر. يربط الجسر الذي تم افتتاحه في عام 1988 ويعتبر من عجائب المعمار في عالم اليوم بين مدينة "كوراشكي" في جزيرة هونشو الرئيسية ومدينة "ساكايدي" في جزيرة شيكوكو ، ويشتمل الجسر على ستة أجزاء طولية مستفيدا من الجزر الصغيرة التي تنتشر بين الجزيرتين الكبيرتين كنقاط ارتكاز. ورغم طول الجسر فإنه يتكون من طابقين بحيث تجري السيارات على الطابق الأعلى بينما يستعمل القطار الطابق السفلي . كلف بناء الجسر ما يقارب الثمانية مليارات من الدولارات وقد صمم لمقاومة الكوارث الطبيعية فهو يتحمل رياحا تبلغ سرعتها حوالي 235 كيلومترا في الساعة ، وزلزالا بقوة ثمان درجات ونصف الدرجة على مقياس ريختر. قل أن يوجد في اليابان من لا يمارس نوعا ما من أنواع الرياضة مهما كانت فئته العمرية ، ولا زلت أذكر أنني كنت في يوم من الأيام وبرفقة أحد الأصدقاء أمارس الرياضة في استاد طوكيو الأولمبي عندما رأينا شيخا عجوزا يجري حول ميدان الكرة وقد عجبنا لنشاطه وعندما سأله صديقي عن سنه أدهشنا عندما قال أنه قد بلغ من العمر أربعة وسبعين عاما. فبالإضافة لاهتمام اليابانيين البالغ بحالتهم الصحية وضرورة ممارسة الرياضة للحفاظ عليها فإنهم من الشعوب المغرمة بالرياضة بمختلف أنواعها ، ويوجد باليابان أنواع من الرياضة التقليدية كالسومو والجودو والمستوردة من الخارج ككرة القدم والبيسبول . تقوم الدولة والشركات الخاصة عادة بتوفير المنشآت التي تهيئ للراغبين ممارسة الرياضة في أوقات فراغهم وتعتبر رياضتا المشي والجري من اكثر أنواع الرياضة انتشارا نسبة لسهولة ممارستهما في الحدائق العامة والشوارع . ولعل من المناظر المألوفة في كل المدن اليابانية في الصباح الباكر أن تجد عددا كبيرا من المواطنين في الحدائق والميادين لعامة وقد تحلقوا حول جهاز الراديو وهم يؤدون الحركات الرياضية على أنغام الموسيقي مع برنامج الرياضة الصباحي الذي تبثه الإذاعة اليابانية يوميا . ويعتبر هذا البرنامج من أكثر البرامج شعبية وقد استمر بثه لأكثر من خمسين عاما . كما يشاهد المتجول في شوارع العاصمة اليابانية العديد من الرجال والنساء الذين تجاوزت أعمارهم الثمانين وهم يمارسون نوعا من الرياضة أشبه بلعبة البولو إلا أنهم لا يستعملون الجياد ، ويبدو أن هذه الرياضة تثير كبار السن كثيرا إذ ترتفع أصواتهم المرحة بصورة ملفتة للنظر وهم يتقاذفون الكرة الخشبية بالعصي في محاولة لإحراز الأهداف في المرمى صغير الحجم .
المصارعة اليابانية التقليدية المعروفة باسم السومو تعتبر من أنواع الرياضة ذات الشعبية الواسعة ، وتجذب المصارعة العديد من المشاهدين الأجانب المقيمين باليابان نسبة لسهولة قوانينها وبالتالي متابعتها. فالفكرة وراء الفوز في هذه الرياضة بسيطة للغاية وتكمن في مقدرة أحد المتصارعين على إسقاط الآخر على سطح الحلبة بعد الالتحام أو دفعه خارج الحلقة . ورغم أن هناك العديد من الحالات التي يصعب فيها تحديد الفائز إلا بعد اجتماع الحكام الجالسين حول الحلقة – وهم في العادة من مشاهير اللاعبين الذين اعتزلوا اللعب - والتشاور فيما بينهم إلا أن أغلب المباريات تحسم بوضوح ودون لبس. تنشأ المشكلة أحيانا عندما يشتبك المتصارعان ويسقطان على سطح الحلبة سويا مما يقتضي تحديد أيهما لمس سطح الحلبة بأي عضو من أعضاء جسمه قبل الآخر أو عندما يتدافع المصارعان ويصعب معه تحديد الذي خرجت رجله قبل الآخر من الحلبة . ومن النادر ألا يتفق الحكام وتنتهي المباراة بالتعادل ويجري في هذه الحالة إعادتها إذ لا بد من فوز أحد المتصارعين. تستمر مباريات الدورة لمدة أسبوعين ويحصل اكثر المصارعين فوزا في مباريات الدورة وعددها خمسة عشر على كأس البطولة ، وربما يتعادل مصارعان أو أكثر في النتيجة النهائية ولا بد في مثل هذه الحالة من إجراء مباريات فاصلة بين المتعادلين لحسم البطولة ويتم ذلك في اليوم الأخير من المنافسة. بما أنه يجري تقسيم المصارعين إلى عدة درجات فإن بعض المصارعين من ذوي الدرجات الدنيا قد لا تتاح لهم الفرصة للقاء بالمصارعين الكبار خلال الدورة . إلا أنه في حالة إحساس اللجنة المنظمة بأن أحد المصارعين الصغار ربما يكون منافسا على البطولة فإنه يجري ترتيب لقاءات له في الأيام الأخيرة مع كبار المصارعين ، وفي العادة فإن المصارع الصغير يفقد مبارياته مع الكبار مما يبعده عن المنافسة إلا أن بعضهم ربما أحدث مفاجآت ليست في الحسبان. لا يترك مصارع السومو لدى المشاهد إحساسا بأنه يتفرج على شاب رياضي ، فبدلا من العضلات المفتولة والقوام الممشوق فإن المصارع يتميز بحجم كبير وكرش بارز. وقد بلغ وزن أحد المصارعين خلال الثمانينات أكثر من مائتي كيلوجرام. نقلت الصحف في يناير من عام 2004 عن وزير الدولة بالخارجية الفرنسية أن السومو ليست رياضة للمثقفين ، وأنها مجرد معركة بين شخصين من ذوي الكروش الكبيرة والوزن الزائد وانه لا يمكن اعتبارها رياضة . لا شك أن مثل هذه التصريحات لا تجد هوى في نفوس اليابانيين الذين يعتبرون السومو جزءا من ثقافتهم وقد أشارت بعض الصحف لتصريحات الوزير الفرنسي بأنها نوع من التحامل المعتاد على اليابان . يساعد الوزن الثقيل على زيادة قوة المصارع مما يمكنه من دفع الخصوم خارج الحلبة بسهولة شديدة وإن كان يؤثر كثيرا كما هو متوقع في خفة حركته . يقوم المصارعون بتناول نوع معين من الطعام فيه الكثير من الأرز ويخلدون للنوم بعد تناول الطعام مباشرة مما يساعد على زيادة وزنهم . ورغم الوزن الثقيل للمصارعين فإن حكام الحلقة يكونون عادة من ذوي الوزن الخفيف والجسم الضئيل ، ويروى أن التحكيم يجري توارثه في عوائل معينة منذ مئات السنين . ومنظر الحكم ضئيل الحجم والذي يرتدي عادة ملابس تقليدية مزركشة بالقرب من المصارعين ذوي الحجم الكبير والذين يتصارعون وهم عراة إلا من حزام يغطي المناطق الحساسة يوحي بالإشفاق على هذا الشخص الهزيل ، وكثيرا ما كنت أتخيل ماذا يحدث لو هبطت أربعمائة كيلو جرام من الشحم واللحم على هذا الرجل المسكين . يكون الحكم أغلب الوقت قريبا جدا من المصارعين حتى يتمكن من تحديد الفائز منهما ، ولكني لاحظت أن هؤلاء الحكام رغم تقدمهم في السن فإنهم يتميزون بالرشاقة ويتحركون في الحلبة بخفة شديدة وربما كان ذلك ضرورة حتى يتفادوا الدهس بواسطة المصارعين. يقوم مصارع السومو قبل دخول الحلبة بتصفيف شعره بصورة معينة ولكل مصارع من المصارعين الكبار مصفف خاص يكون بجانبه لضمان شكل الشعر. وقد علمت أن عملية التصفيف هذه تأخذ وقتا طويلا وتقتضي أن يكون شعر المصارع طويلا . في تسعينات القرن الماضي حاول بعض المصارعين من السنغال الاشتراك في اتحاد السومو للمحترفين في اليابان إلا أن الاتحاد رفض ذلك لأن طبيعة شعرهم لا تمكن من تصفيفه بالصورة المطلوبة . رفض الاتحاد كذلك السماح للمصارعين السنغاليين استعمال الشعر المستعار كحل وسط مما حدا ببعض الكتاب الرياضيين لاتهام الاتحاد بالعنصرية ، غير أن الاتحاد أصدر بيانا نفى فيه هذه التهمة وموردا حالة لمصارع ياباني ممتاز أجبر على اعتزال اللعبة عندما أصيب بالصلع ولم يسمح له باستعمال الشعر المستعار . ولا شك في أن موقف الاتحاد يتسم بعدم المرونة وذلك في محاولة للحفاظ على تقاليد اللعبة التي تشبه طقوسها الطقوس الدينية ، ولكن لا بد من أن يأتي الوقت الذي تصل يد التحديث لهذه اللعبة التقليدية . ولا تخلو مجموعة اللاعبين المحترفين الذين يمارسون اللعبة من بعض اللاعبين الأجانب إلا أن أغلبهم يأتون من كوريا أو الصين أو هاواي . من المواقف المتشددة أيضا لاتحاد السومو رفضه لإقامة منافسات للسيدات على المستوى الرسمي باعتبار أن اللعبة هي للرجال فقط. يرتدي المصارع كما ذكرنا أعلاه حزاما يغطي المناطق الحساسة ، وهناك أشخاص متخصصون في ربط هذه الأحزمة إذ من المفروض أن يكون الحزام ملتصقا بالجسد بالصورة التي تمنع المصارع الآخر من إدخال يديه بين الحزام والجسد مما يؤدي لهزيمة المصارع خاصة إذا كان المنافس من الأقوياء مما يمكنه من رفع خصمه ودفعه إلى خارج الحلبة بسهولة . من ناحية أخرى ، فإن المسافة بين طبقات الحزام التي قد تبلغ ست أو سبع طبقات يجب أن تكون واسعة قليلا حتى تنفك من بعضها البعض بسهولة إذا حاول الخصم رفع المصارع عن طريق القبض عليها . لذلك فإن المصارعين يتوقفان أحيانا لفترة قد تطول في وسط الحلبة بينما يحاول كل منهما الحصول على قبضة تمكنه من رفع الخصم ودفعه للخارج . وكثيرا ما ينحل الحزام مما يضطر الحكم لإيقاف المباراة وإعادة ربط الحزام حتى لا تنكشف العورة المغلظة لأحد المصارعين. من الأشياء التي تثير حماس المشاهدين تبادل النظرات الحادة بين المصارعين قبل بدء الجولة بينهما حيث يحدق كل منهما في عيني الآخر ويستمر التحديق أحيانا لما يقرب من الدقيقة . يقول المتابعون للرياضة أن الهدف من التحديق هو كسر إرادة الخصم ، فالذي يحول عينيه أولا في مثل هذه المبارزة هو الأقرب للخسارة وإن لم يكن ذلك هو الحال دائما . تقابل مثل هذه المبارزة في التحديق بالتصفيق الحاد والهتاف من المشاهدين الذين يحيطون بحلقة المصارعة. قمت في منتصف الثمانينات ضمن مجموعة سياحية بزيارة معسكر تدريب لعدد من مصارعي السومو ولاحظت أنه بالرغم من انتهاء النظام الإقطاعي في اليابان منذ منتصف القرن الماضي إلا أن الحياة التي يمارسها المصارعون داخل المعسكر هي أقرب لذلك النوع من النظام . فالأسلوب الذي يتعامل به المدرب - وهو عادة من قدامى لاعبي السومو ويقوم بإدارة المعسكر بعد الحصول على رخصة خاصة من اتحاد السومو الياباني – يتسم بالكثير من القسوة إذ أن المدرب يقوم بضرب اللاعبين الصغار عندما يخطئوا بعصاة يحملها في يده طوال الوقت كما إنه يعاقبهم بتخفيض كمية الأرز المقرر تناولها بعد التمرين. يصحو المصارعون في الصباح الباكر عادة ، وبعد أن يقوموا بواجباتهم التي لا علاقة لها برياضة السومو كنظافة المكان وخدمة كبار المصارعين يتجهون إلى حلبة التدريب حوالي الساعة السابعة صباحا حيث يبدأون تدريباتهم اليومية التي تتسم بالعنف وتستمر عادة حتى الثانية عشرة ظهرا . يتناول اللاعبون بعد ذلك وجبتهم الرئيسة ثم يخلدون للنوم حتى الخامسة تقريبا حيث يقومون بجولة تدريبية قصيرة تعقبها فترة راحة ويمارس اللاعبون حياتهم الخاصة في الأمسيات . يعتبر الطبيخ من ضمن واجبات اللاعبين تحت إشراف زوجة صاحب المعسكر لذلك فإن بعض اللاعبين يقومون بافتتاح مطاعم بعد اعتزالهم اللعب ، ويقوم كبار اللاعبين بالمساعدة في تدريب زملائهم الأصغر سنا . قمت خلال زيارتي ضمن مجموعة من عشرة أشخاص بتناول طعام الغداء في المعسكر وقد فوجئنا عندما أخبرنا المرافق بأن الطعام الذي تناوله عشرتنا هو في الحقيقة ما يعادل نصيب مصارع واحد فقط من المصارعين الذي شهدنا تدريبهم ذلك اليوم ، لا غرو إذن أن يكون مصارع السومو بهذا الحجم المهول.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
ظلت البيسبول حتى منتصف التسعينات أكثر أنواع الرياضة شعبية في اليابان بالنسبة للحضور الجماهيري لمبارياتها. ولعبة البيسبول هي عبارة شكل متطور للعبة " التيوة " التي كان يمارسها أطفالنا في أنحاء مختلفة من السودان. اليابان هي من أول الدول التي نقلت لعبة البيسبول من الولايات المتحدة حيث اكتسبت اللعبة شعبيتها الواسعة وقد تم نقل اللعبة لليابان في سبعينات القرن التاسع عشر كهواية جاء بها الأمريكيون الذين وفدوا للبلاد بعد إنهاء عزلتها المجيدة في عام 1868. ويقول المحللون الاجتماعيون إن اليابانيين وجدوا في البيسبول مميزات تتسق ورغبتهم في تربية الأبدان وتعليم الصبر والمثابرة التي كانت أساس كل أنواع الفنون العسكرية التي أحبها اليابانيون كالجودو والكاراتيه … الخ . من ناحية أخرى فإن إتقان اللعبة كان يمثل كذلك جزءا من جهود اليابان للحاق بالمجتمع الغربي وقد نقلت للبلاد ضمن ما نقل من العديد من مظاهر ذلك المجتمع. مورست اللعبة في البداية كهواية في المدارس وأقيمت أول دورة مدرسية في عام 1915 وضمت فرق عدد من المدارس الثانوية . ولا زالت الدورة المدرسية للبيسبول أحد أهم النشاطات الرياضية في فترة إجازة الصيف وهي تتسم بالحماس الشديد الذي يميز الشباب عادة ويقوم التلفزيون القومي والقنوات الخاصة بنقل مبارياتها على مدار الأسبوعين اللذين تستغرقهما الدورة . ويشاهد الدورة بالإضافة للملايين عبر التلفزيون طلاب المدارس المشاركة وجماهير المدن التي تجري فيها المباريات . ومن الصعب الحصول على تذكرة دخول لهذه المباريات إذ يحرص الآباء والأمهات على حضور المباريات مع أبنائهم ، كما أن كل من تصادف وجوده في المدينة المعنية من خريجي المدارس المشاركة يقوم بحضور المباريات مهما بعد عهده بمدرسته أو تقدمت به السن . وهناك بعض المدارس التي اشتهرت فرقها على مدى التاريخ فأصبح كل من يرغب في احتراف اللعبة مستقبلا يسعى للدراسة بواحدة من هذه المدارس التي تخرج من بين صفوفها العديد من كبار اللاعبين في اليابان . ورغم أن دورات المدارس الثانوية تشمل كل الألعاب إلا أن البيسبول وكرة القدم تعتبران الأكثر شعبية بين هذه الدورات . وتعتبر الدورة المدرسية معمل التفريخ للاعبي البيسبول في اليابان ، وهناك دورة مشابهة للجامعات الكبيرة في مدينة طوكيو . بدأ دوري المحترفين بإنشاء رابطة البيسبول اليابانية في عام 1936 ونسبة للأثر الأمريكي الواضح فقد اتخذت فرق الرابطة وكان عددها ستة أسماء إنجليزية إلا أنه تم تعديل هذه الأسماء إلى اللغة اليابانية في فترة الحرب العالمية الثانية عندما شنت السلطات حربا على اللغة الإنجليزية ضمن سياستها الثقافية التي تهدف لإعلاء القيم والتقاليد اليابانية. ويبدو أن الفرق قد عادت لأسمائها الإنجليزية بعد نهاية الحرب العالمية إذ أن ذلك هو الحال في الوقت الحاضر . يوجد باليابان حاليا رابطتان للبيسبول هما الرابطة المركزية وهي الأقدم والرابطة الباسفيكية وقد أنشئت في مطلع الخمسينات وتضم كل منهما ستة فرق . وتجري في نهاية الموسم منافسة بين الفريقين الحائزين على البطولة في كل من الرابطتين لتحديد بطل اليابان ، وتتكون المنافسة من سبعة مباريات بحيث يعتبر الفائز في أربعة منها هو البطل المتوج للبلاد . وفي منتصف كل موسم تجري منافسة بين منتخبي الرابطتين من ثلاث مباريات وتجذب أعدادا كبيرة من المشاهدين . يتم تكوين فريق كل رابطة مناصفة بين الجمهور والمدربين حيث يجري انتخاب أكثر اللاعبين شعبية بواسطة الجمهور ويتم إكمال الفريق بلاعبين مهرة يختارهم المدرب المكلف بتدريب منتخب الرابطة المعنية . وكما هو متوقع فإن لاعبي الفرق الأكثر شعبية هم الأوفر حظا في المشاركة في مثل هذه المباريات ، وذلك لسببين هما حصول هؤلاء اللاعبين على أعلى الأصوات في الاقتراع الجماهيري وضرروة وجودهم ضمن المنتخب لضمان نجاح الدورة ماليا وجماهيريا . تستعين الفرق اليابانية بلاعبين محترفين من الولايات المتحدة مقابل الملايين من الدولارات للاعب الواحد في العام . ولا غرو أن تكون للاعبين الأمريكيين شعبية عارمة وسط مشجعي البيسبول اليابانيين فالدوري الأمريكي للعبة هو اشهر دوري للمحترفين في العالم . غير أن اللاعبين الأمريكيين يشكون أحيانا من المعاملة غير العادلة من جانب زملائهم اليابانيين ، وأذكر أن أحد هؤلاء اللاعبين يقول أنه قد حرم عن قصد بواسطة الرماة اليابانيين في الفرق الأخرى من تحطيم أحد الأرقام القياسية حتى لا يتفوق على اللاعب الياباني الذي كان الرقم مسجلا باسمه . شاءت الأقدار أن أكون في يوم من الأيام وبرفقة صديق سوداني بالقرب من استاد " كوشي إن " بمدينة أوساكا في غرب اليابان وهو الاستاد الخاص بفريق التايجرز ثاني الفرق شعبية في الدوري الياباني . ونسبة لأننا مررنا بالاستاد قبيل بداية إحدى المباريات فقد كانت الساحة حوله مزدحمة بالمشجعين وكثير منهم من الأطفال ، ويبدو أن بعض الأطفال عندما رأوني وصديقي ظنوا أننا من اللاعبين الأمريكيين المحترفين بالدوري الياباني وأننا في طريقنا للاستاد فتحلقوا حولنا وأخرج أحدهم مفكرة وقلما طالبا توقيعاتنا . بذلنا جهدا كبيرا بما توفر لنا من لغة القوم في ذلك الوقت لإقناع هؤلاء الأطفال بأننا لا نمت لهذه اللعبة بأي صلة . يقوم التلفزيون الياباني بمختلف قنواته وبصفة يومية تقريبا بنقل مباريات البيسبول خلال الموسم الذي يستمر منذ مارس وحتى نوفمبر تقريبا من كل عام . عجزت أول أيام وصولي لليابان عن متابعة هذه المباريات لعدم معرفتي بقوانين اللعبة مما اضطرني للجوء لدائرة المعارف البريطانية . بعد أن تعرفت على قوانين اللعبة أصبحت من المعجبين بها وكنت أتابعها باهتمام طوال إقامتي في اليابان ، كما قمت بشرح قوانينها لعدد من السودانيين المقيمين هناك والذين أصبحوا فيما بعد من المشجعين المتعصبين لعدد من الفرق . ولعل سر الإثارة في لعبة البيسبول يكمن في احتمال تغيير النتيجة في أي لحظة من لحظات الأشواط التسعة التي تستغرقها المباراة حتى وإن كان الفريق المنافس متقدما بعدد وافر من الأهداف ، لذلك فإن اللاعبين لا يعرفون اليأس ويظلون يحاولون تعديل النتيجة حتى آخر لحظة من المباراة . والسر وراء ذلك هو أن أحد الفريقين يكون مهاجما صرفا بينما يكون الآخر مدافعا وهو شئ أشبه بركلات الترجيح في كرة القدم ، ولا يتم تحديد الشوط بزمن معين ويمكن لكل فريق أن يلعب لأي مدة ممكنة ما دام في استطاعة لاعبيه البقاء في الهجوم وإحراز أي عدد من الأهداف . وفي حالة تعادل الفريقين في الأشواط التسعة فإن الأسلوب المتبع في اليابان هو تمديد المباراة لأشواط إضافية مع تحديد وقت انتهاء المباراة التي قد تنتهي بالتعادل ، وهو عكس الأسلوب المتبع في الولايات المتحدة حيث أن المباراة لا بد أن تنتهي بفوز أحد الفريقين لذلك فإنها تمتد إلى أن تحسم بصورة واضحة . حاولت من باب " العلم بالشئ " محاولة التعرف عن قرب على لعبة البيسبول مرتين ، الأولى عندما حاولت قياس مقدرتي على قذف كرة البيسبول بواسطة جهاز قياس صنع خصيصا لذلك الغرض . وقد كانت أفضل سرعة أحرزتها عندما قذفت الكرة بأقصى ما أستطيع من قوة هي 47 كيلومترا في الساعة ، ولك أن تقارن ذلك بالسرعة القصوى لبعض المحترفين الأمريكيين والتي تبلغ 150 كيلومترا في الساعة . أما المرة الثانية فقد كانت عندما شاركت بعض اليابانيين اللعب وحاولت أن أقبض على الكرة التي يقذف بها أحدهم بعد ارتداء قفاز خاص من الجلد المقوى . لا أدري كم كانت سرعة الكرة التي قذف بها الياباني ولكنني كدت أن أكسر أحد أصابعي بالرغم من أنني قد تمكنت من الإمساك بالكرة . المعروف أن كرة البيسبول تصنع من الخيوط التي يجري لفها بواسطة ماكينة خاصة ويتم بعد ذلك تغطيتها بطبقة من الجلد .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
تعتمد مسرحيات الكابوكي بصورة أساسية على الممثل ، لذلك فإن الممثلين كثيرا ما يخرجون عن النص لكسر الرتابة وضمان تفاعل الجمهور. ونسبة لأهمية الممثل فإنه يخضع لتمارين قاسية قد تستمر منذ الطفولة المبكرة وتركز بصورة أساسية على مهارات الرقص والغناء التي تعتبر أساس مسرح الكابوكي . هناك عائلات محددة اشتهرت في فن الكابوكي وعلى كل ممثل ناشئ أن ينضم لواحدة من هذه العائلات التي استمر بعضها لسبعة عشر جيلا من الممثلين حتى يضمن مكانه في عالم المسرح . ليس من الضرورة أن يكون الممثل من أفراد هذه العائلة ولكن إتقانه للمهارات الأساسية يمكن أن يكسبه اسم إحدى العائلات المحترمة في المجال . وعندما يرتقي الممثل سلم المجد في مسرح الكابوكي فبإمكانه الحصول على اسم جديد مطابق لاسم أحد الممثلين الذين ذاع صيتهم في الماضي ، ويتم ذلك عادة في احتفال صغير يقوم الممثل فيه بإلقاء كلمة يطلب فيها دعم وتأييد الجمهور . ولعل من أكثر الأسماء شهرة والتي يتمنى كل ممثل الحصول عليها هو اسم الممثل الشهير " إتشيكاوا دانجورو " وهو من الممثلين الذين اشتهروا في بداية ظهور الكابوكي كمسرح محترم يرتاده الكثير من المشاهدين . ولعل نفس الأسلوب متبع في مصارعة السومو وهي كما رأينا ضرب من ضروب الرياضة اليابانية التقليدية ، فهناك أيضا يكتسب اللاعب اسما من أسماء المشاهير كلما ارتقي في درجات المصارعة . لا يعتبر الكابوكي مجرد ضرب من الفن لكنه كان دائما الوسيلة التي تعكس الأوضاع الاجتماعية في اليابان . ففي عهد توكوقاوا الذي تميز بعلو منزلة المحاربين الساموراي ووقوع التجار والمواطنين العاديين في أدني السلم الاجتماعي كان الكابوكي هو الأسلوب الذي تعبر به هذه الطبقات المهمشة عن خبايا نفوسها. كانت طبقة التجار تملك المال بالرغم من موقعها المتدني في السلم الاجتماعي لذلك فإنها كانت تقوم برعاية مسرح الكابوكي وتجد في مسرحياته خاصة تلك التي تنتقد بعض المظاهر في الحياة المعاصرة سلوى لما تلاقيه من اضطهاد في المجتمع . ولا يزال مسرح الكابوكي يركز على نوعين من المسرحيات وهما القصص التاريخية التي تتناول بصورة أساسية بطولات الساموراي وما يسمى بالمسرحيات العائلية والتي تتناول موضوعات معاصرة تعكس معتقدات المجتمع . ولعل مما أكسب الكابوكي شعبية واسعة داخل اليابان وخارجها كذلك ذلك الإسراف في استعمال الألوان سواء أن كان في الملابس التي يرتديها الممثلون أو في الأصباغ التي يطلون بها وجوههم للأدوار المختلفة . ونسبة للإقبال الكبير على مسرحيات الكابوكي من قبل الأجانب فإن المسارح الكبيرة في العاصمة طوكيو تقوم بتوزيع ملخص للمسرحية باللغة الإنجليزية بل إن بعضها يقدم خدمة للترجمة الفورية . يعتبر المسرح الذي يطلق عليه اسم " نو " هو أقدم المسارح اليابانية على الإطلاق إذ أن أصوله تعود للقرن الرابع عشر الميلادي ، كما أن الميزة التي يتميز بها النو عن غيره من المسارح التقليدية هي أنه لا زال يحتفظ بالأثر الديني المتمثل في ارتباطه بالفكر البوذي . تبدا مسرحيات النو عادة بدخول الفرقة الموسيقية المكونة في الغالب من ثمانية عازفين ثم يتبعها الممثل الذي يلعب دور الشخصية المساعدة في زي الرهبان وفي النهاية يخرج من الظلام عبر الممر البادئ من طرف المسرح الشخصية الرئيسية وعادة ما يكون الممثل الذي يقوم بهذا الدور ملثما عند الدخول . اللغة المستعملة في هذا المسرح شعرية كما أن الخطوات التي يقوم بها الممثلون مدروسة بعناية وتنفذ بدقة وبطء وهي أقرب إلى الرقص منها للحركات العادية حيث تصاحبها عادة الموسيقى التعبيرية التي تقوم بعزفها الفرقة الموسيقية . ظهر مسرح النو كما ذكرنا في القرن الرابع عشر وكان مرتبطا بصورة أساسية بمعابد ديانة الشنتو والبوذية . كانت الفرق المسرحية تقوم بالأداء في المهرجانات التي كانت تقيمها هذه المعابد في المواسم وكانت مسرحياتها تؤدي غرضين هما الدعوة لأفكار هذه الديانات والترفيه عن المشاهدين . تعتمد مسرحيات النو المشهورة فلسفة " زن " وهي إحدى فروع الديانة البوذية والتي تمجد التقشف والاقتصاد في الحديث وتعتمد التعبير الرمزي لنقل المعاني . في العصر الإقطاعي وجد مسرح النو دعما مقدرا من الاقطاعيين الذين كانوا يتنافسون على دعم الفرق المسرحية الشهيرة ، إلا أن هؤلاء الإقطاعيين انشغلوا عن المسرح في الفترة من منتصف القرن الخامس عشر وحتى منتصف القرن السادس عشر عندما عاشت البلاد حربا أهلية عرفت في التاريخ الياباني بحرب الولايات . من ناحية أخرى فإن ظروف الحرب الضاغطة قادت المواطن العادي للاتجاه نحو المسرح بحثا عن الترفيه وللتعبير عن رفضه للحرب التي لم تكن له فيها مصلحة واضحة ، فازدهرت في ذلك الوقت فرق الهواة في مسرح النو كما انعكست الأحداث السياسية على محتوى المسرح نفسه . مع نهاية الحرب الأهلية عاد الحكام الإقطاعيون للاهتمام بمسرح النو إلا أنهم استغلوه هذه المرة للدعاية السياسية ورفع الروح المعنوية للجنود فظهرت المسرحيات التي تمجد الحكام المتنافسين للسيطرة على اليابان . مع انتصار أسرة التوكوقاوا وفرض سيطرتها على البلاد أصبح مسرح النو تحت الإشراف المباشر للحكومة العسكرية كما وضعت اللوائح والقوانين التي تنظمه ، وقد كان من بين هذه القوانين أن حرم هذا النوع من المسرح على العامة .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
أدرك أحد رجال الأعمال الأذكياء في غرب اليابان حب اليابانيين للغناء فاخترع ما يعرف الآن باسم "كاراوكي" وهي كلمة يابانية تعني حرفيا الأوركسترا الخالية ، والكلمة الأولي " كارا " تعني خالي وهي نفس الكلمة التي تكون الجزء الأول من كلمة " كاراتي " أما أوكي فهي تحريف لكلمة أركسترا الإنجليزية . والمقصود بذلك تسجيل شرائط موسيقية للأغاني المشهورة والمحبوبة مع حذف صوت المطرب الذي يؤدي الأغنية ، مما يتيح لأي شخص بواسطة جهاز خاص أداء الأغنية مع الموسيقى المسجلة . انتشرت الظاهرة بصورة كبيرة في العقدين الأخيرين من القرن الماضي وارتبطت بأماكن الشرب التي يرتادها الموظفون كل مساء والتي تضع لافتة واضحة على مدخل المكان تشير إلى إمكاية ممارسة الغناء بواسطة الرواد . ومع تقدم الزمن بدأت الظاهرة تكتسب المزيد من المعجبين فظهر ما يعرف بالصناديق وهي عبارة عن غرف يعزل فيها الصوت وتقام داخل المباني حيث يمكن لمن لا يريدون الذهاب إلى أماكن الشرب ممارسة الغناء فيها . وتؤم العديد من العائلات هذه الصناديق التي تتميز بالخصوصية وتتيح لأفراد العائلة التواصل عن طريق الغناء في وقت أضحى فيه التواصل عزيزا . زاد انتشار الظاهرة بصورة كبيرة حتى قامت شركات الأليكترونيات اليابانية بإنتاج أجهزة كاراوكي خاصة بالعائلات تمكنهم من الغناء داخل منازلهم بالرغم مما في ذلك من إزعاج بالنسبة للجيران أحيانا ، وقد ذهب بعض أصحاب التاكسي إلى وضع أجهزة داخل سياراتهم حتى لا يحس الراكب بالملل خاصة وأن المدن الكبيرة مثل طوكيو قد عرفت بازدحام شوارعها والفترات الطويلة التي يقضيها الإنسان في التحرك من مكان لآخر. يعزي بعض المحللين الاجتماعيين انتشار الظاهرة بهذه السرعة إلى الحالة النفسية التي يعاني منها اليابانيون بسبب ضغوط الحياة المتزايدة . وقد تجاوزت الظاهرة حدود اليابان فعمت دولا مثل الصين وكوريا ودول جنوب شرق آسيا بل إنها ظهرت كذلك في أوربا والولايات المتحدة . لعل أول ما يجذب المستمع السوداني في الغناء الياباني ما يعرفه القوم هناك باسم "إنكا" وهو نوع من الغناء تقول الوثائق التاريخية أنه بدأ في نهاية القرن التاسع عشر بواسطة الرواة المتجولين الذين كانوا يخلطون الروايات الشعبية بالغناء . والذي يجذب المستمع السوداني لهذا النوع من الغناء هو أنه يؤدى على السلم الخماسي وفيه الكثير من الألحان التي تشبه ميلودية الأغاني السودانية . كنت أتناول الغداء يوما في أحد المطاعم بمدينة طوكيو بعد وصولي إليها بأسابيع قليلة عندما استمعت فجأة للحن ياباني يشبه إلى حد بعيد أغنية " الوسيم " لفناننا الراحل أحمد المصطفى . عندما سألت أحد العاملين بالمطعم أفادني بأن الأغنية يابانية قديمة من نوع إنكا فقلت في نفسي سبحان الله من كان يتوقع أن يسمع هذا اللحن المحبب في أقاصي الدنيا . تتسم أغاني إنكا بالحزن الواضح إذ أنها تتناول عادة هجران الحبيب أو فراقه ، وبما أن هذا النوع من الأغاني يدعو للرضاء بالواقع فلا بد أن تكون كلماته وألحانه جميلة حتى تكون مقبولة للمستمع . ظلت هذه الأغاني سائدة حتى بداية عقد السبعينات من القرن الماضي الذي شهد العديد من التحولات الهامة في الأوضاع الاقتصادية والنمو الواضح في حجم الطبقة الوسطى في اليابان بالإضافة إلى ثورة الشباب العالمية التي نتج عنها نوع جديد من الغناء، وقد أدى ذلك إلى أن يبدأ الذوق الياباني في التحول نحو الموسيقى الغربية . لا زال كبار السن من المستمعين يستمتعون بأغاني الإنكا ولا زال التلفزيون يفرد لها مساحات مقدرة إلا أنها آخذة في الانحسار بصورة واضحة وقد حل مكانها الغناء الحديث المتأثر بالإيقاعات الغربية . واغاني الإنكا هي الأكثر في مقاهي حانات الكاراوكي لإن ألحانها اسهل بالنسبة للمواطن العادي الذي قد لا يستطيع أداء الأغاني ذات الألحان الغربية . ينعكس حب اليابانيين للجمال كذلك في اهتمامهم البالغ بالخضرة والزهور وقد سبق أن أشرنا إلى أن من أهم المهرجانات التي يحتفل بها الشعب الياباني مهرجان الربيع الذي يجري خلاله الاحتفاء بزهور الكرز في موسمها. وقد اشتهر اليابانيون بفن تنسيق الزهور ويطلق عليه اسم " اكيبانا " وهو الفن الذي انتشر بصورة كبيرة في مختلف أنحاء العالم في السنوات الأخيرة بعد ان أخذت الثقافة اليابانية تأخذ مكانها اللائق عالميا مع النهضة الاقتصادية للبلاد ويقال أن تنسيق الزهور بدأ في القرن السابع الميلادي كنوع من التقرب للآلهة في الديانة البوذية ، فقد كانت الزهرية واحدة من الأشياء الهامة توضع أمام تمثال البوذا عند التعبد بالإضافة إلى عود البخور والشمعة . تحولت عملية تنسيق الزهور إلى فن قائم بذاته في القرن الخامس عشر بعد أن ظهرت العديد من المدارس الفنية المتخصصة في هذا النوع من الفن. من ناحية أخرى ، فقد شهد القرن الخامس عشر بداية انتشار الفن على المستوى الشعبي وأصبح من الأشياء التي يجب على الفتاة اليابانية تعلمها لضمان الحصول على العريس المناسب ، وقد ارتبط هذا الفن لاحقا بفن ياباني آخر هو فن حفلات الشاي . ومع بداية القرن التاسع عشر تغيرت الأسس الفلسفية لفن تنسيق الزهور فبينما كانت الأنواع السابقة قد ارتبطت بالمنظر العام للطبيعة أو إبراز جمال الزهور نفسها فإن الفلسفة الجديدة اعتمدت على تصوير علاقة الإنسان بالسماء والأرض واختارت رموزا محددة للتعبير عن هذه الأشياء . كما أصبحت هناك قواعد محددة تتبع عند القيام بعملية تنسيق الزهور كتحديد نسبة أطوال الزهور والنباتات المستعملة في التنسيق لتعكس الرموز الخاصة بالأرض والإنسان والسماء . كان فن تنسيق الزهور حتى الثلاثينات من القرن الماضي مرتبطا بالعائلات الأرستقراطية التي تستقدم المعلمين الخاصين لأطفالها ، بيد أن الفن انتشر بصورة كبيرة بعد الحرب العالمية الثانية حيث فتحت المدارس أبوابها لكل أفراد المجتمع للممارسة الفن كهواية أو مهنة .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
من الفنون التي تؤكد حب اليابانيين للطبيعة فن تربية الأشجار المقزمة والذي يطلق عليه اليابانيون اسم "بونساي " ، وهو فن الاحتفاظ بحجم الأشجار صغيرا للغاية بحيث لا يتجاوز طول الشجرة أحيانا ثلاثين إلى خمسين سنتمترا مهما بلغت سنوات عمرها ومهما كان الحجم الطبيعي لذلك النوع من الأشجار . ظهر هذا النوع من الفن في الصين قبل ألف سنة تقريبا كما يقول المؤرخون ولكن اليابانيين استطاعوا عن طريق حسهم الفني من تطويره بصورة كبيرة حتى ارتبط الفن ارتباطا وثيقا بهم وببلادهم . ويعتمد هذا الفن على قص البراعم الجديدة للأشجار بصورة معينة وتغيير الإناء الذي توضع فيها الشجرة من حين لآخر. وبالرغم من أن جذور الشجرة لا يسمح لها بالاتصال بالأرض إلا أن الفن نفسه يعبر عن التواصل بين السماء والأرض والفنان. ولعل ذلك هو السبب الذي يجعل الفنانين يهتمون اهتماما خاصا بشكل ولون الإناء الذي تزرع فيه الشجرة حتى يتناسب مع الشجرة نفسها ، وكلما زاد عمر الشجرة مع صغر حجمها كلما زاد سعرها وقد شاهدت شجرة من هذا النوع في القصر الإمبراطوري أخبرني مرافقي بأن عمرها يزيد عن الثلاثمائة عام وأن أجيالاً متعاقبة من المختصين في مجال البستنة ظلت ترعاها طوال هذا الوقت. لاحظت أن معظم هذا النوع من الأشجار يوضع في طرف الإناء وليس وسطه وعلمت أن السبب وراء ذلك هو أن المنتصف هو موقع التقاء الأرض والسماء حسب الاعتقاد الياباني لذلك فليس من المقبول وضع شئ في ذلك المكان. وتقام من حين لآخر معارض لهذا النوع من الأشجار في المتاحف والفنادق المشهورة ، ويؤم هذه المعارض عادة عدد كبير من الزوار الذين يستمتعون بقراءة تاريخ أشجار البونساي المعروضة والذي يوجد عادة في المطبق الخاص بالمعرض أو يكتب أمام الشجرة نفسها. ويهتم رواد المعرض ببعض الأعمال ذات العمر الطويل والتي تكون قد تمت رعايتها بواسطة عدد من المشاهير في هذا المجال. ومن أجمل ما رأيت في هذا الصدد شجرة تفاح صغيرة الحجم لا يتجاور طولها نصف المتر وهي بالرغم من ذلك مليئة بالثمار حمراء اللون صغيرة الحجم. من المظاهر التي ارتبطت بالثقافة اليابانية جلسات شرب الشاي الأخضر وهي ممارسة لها العديد من الطقوس وقد ذكرتني عندما شاركت فيها للمرة الأولى مجالس شرب القهوة في شرق السودان . تقول الروايات أن جلسات شرب الشاي قد بدأت في الصين وأنها كغيرها من العديد من الممارسات اليابانية قد ارتبطت بالديانة البوذية فقد كان أساسها هو مساعدة مجموعات المصلين للانتباه وعدم النوم وهم يمارسون عبادة الـتأمل وهي واحدة من أركان الديانة البوذية . ورغم أن جلسات شرب الشاي قد أصبحت الآن واحدة من الممارسات التي تجذب السواح بصورة أساسية إلا أنها احتلت مكانا هاما في التاريخ الياباني في العصور السابقة . لذلك فإنه نادرا ما يدخل الشخص أحد قصور الأمراء والنبلاء القديمة إلا ويجد غرفة خاصة بشرب الشاي ينتقى لها عادة موقع يمتاز بجماله الطبيعي الأخاذ . قمت بعد وصولي لليابان بأسابيع قليلة بزيارة مكان عرف بممارسة شرب الشاي على الطريقة التقليدية وقد أدركت أن الطقوس الخاصة بالموضوع متعددة ومعقدة ولكل واحد منها معنى خاصا . بعد أن وصلنا للمكان جلسنا في غرفة خاصة دخلت علينا سيدة ترتدي الزي الياباني القديم وقدمت لنا ماء حارا في إناء من الفخار الجميل . أفادنا المرافق أن الغرض من الماء الحار هو أن نتذوق الماء الذي سيصنع منه الشاي والتأكد من جودته . بعد ذلك قادنا المرافق عبر ممر ضيق فيه صنبور مياه يصب في بركة صغيرة وعليه مغرفة خشبية أشبه ما تكون بما نسميه في السودان " الكمشة " طلب منا المرافق أن نتناول بعض الماء بهذه المغرفة بغرض تطهير أيدينا وأفواهنا قبل أن نبدأ جلسة شرب الشاي . الغرفة التي تمت فيها الجلسة كانت بسيطة للغاية وخالية تقريبا من الأثاث فيما عدا لوحة مكتوبة بالحروف الصينية على الحائط وإناء به زهور على المنضدة التي تحلقنا حولها . جلست قريبا منا سيدة أمامها إناء على النار وبه ماء يغلي وأوان فخارية بها شاي أخضر مسحون وقد لاحظت أن لون الشاي شديد الخضرة . بعد أن صبت السيدة الماء الساخن على الأواني بدأت في تحريك الشاي بسرعة بآلة مصنوعة بإتقان شديد من خشب القنا وأشبه بمضرب البيض حتى أصبح له زبد واضح، بعدها تناول كل منا كأس الشاي وطلب منا أن نقوم بإدارة الكأس من الشمال إلى اليمين ثلاث مرات قبل أن نأخذ أول رشفة من الشاي . وقد كانت المفاجأة الكبرى بالنسبة لي هو طعم الشاي المر للغاية لذلك فإنني لم أتردد عندما قدمت لنا السيدة نوعا من الحلوى اليابانية ، ولا أدري إن كانت عادة اليابانيين هي تناول مثل هذه الحلوى مع الشاي أم أن هذه معاملة خاصة لأمثالي من الأجانب الذين لم يتعودوا طعم الشاي الياباني . علمت من المرافق أن الطقوس التي شهدناها هي طقوس مختصرة للغاية وأن هناك العديد من الطقوس التي كانت تمارس في الماضي . خرجت بإحساس أن الغرض الأساسي من جلسة الشاي ربما كان هو عكس احترام المضيف لضيوفه كما لاحظت الاهتمام المفرط بالنظافة ، وربما كان هذا هو الأسلوب الذي يعكس به المضيف مدى رقي سيدات المنزل خاصة الفتيات في سن الزواج اللائي كان لا بد لهن من إتقان مراسيم جلسات الشاي كنوع من تأكيد حسن تربيتهن . أنواع الطعام في اليابان والأسلوب المتبع في تناول مختلف أنواع الأطعمة يعكس أيضا مدى تفرد الحضارة اليابانية حنى بالنسبة للدول المجاورة لها مثل كوريا والصين . عرف اليابانيون باهتمامهم البالغ بأسلوب عرض الطعام أمام الضيف ، وهو اهتمام يفوق في اعتقادي اهتمامهم بنوعية الأكل نفسه وطعمه . والطعام عندهم يتكون في الأساس من الأسماك والخضروات وبدرجة اقل الأنواع الأخرى من اللحوم . ولعل أكثر ما يلفت النظر في الطعام هو تناولهم للأسماك دون طهي أحيانا وهناك نوعان مشهوران من الأطباق هما السوشي والساشيمي . والسوشي هو عبارة عن سمك غير مطهو يجري تناوله مع قليل من الأرز والخل وبهار أشبه بالمستردة ولكنه أكثر حذاقة يسميه القوم " واسابي " بالإضافة إلى الصلصة المصنوعة من فول الصويا والتي يطلقون عليها اسم " شويو " . أما الساشيمي فهو أشبه بالسوشي ولكنه يؤكل دون إضافة الأرز . هناك مطاعم خاصة لهذا النوع من الوجبات ويتوجب على الشخص الذي يعمل بها أن يتحصل على ترخيص خاص وهناك معاهد خاصة لتعليم كيفية تحضير الساشيمي وهي عملية فنية معقدة بالرغم من أنها تبدو سهلة للغاية عندما ترى أحد الخبراء يقوم بها بسرعة فائقة ، وقد فشلت فشلا تاما عندما حاولت مرة تحضير السوشي حيث لم اتمكن من تكوير الأرز بالصورة المطلوبة فتفتت وأصبح من المستحيل تناوله . من أحب الأسماك لليابانيين ما يعرف باسم " فوغو " وهي نوع من سمك التانبيرة المعروفة عندنا في السودان ، غير أن هذا النوع سام ويجب أن يقطع بطريقة خاصة حتى لا تختلط السموم بلحم السمك ولا يسمح إلا لأشخاص معينين يحملون رخصة خاصة للتعامل مع هذا النوع من السمك . المطاعم ذات الشعبية التي تقدم الأسماك غير المطهوة هي تلك التي يمكن أن نسميها بمطاعم الوجبات السريعة وهي عبارة عن طاولة مستديرة حول مكان تقطيع الأسماك وإعدادها ، وأمام الزبون سير متحرك توضع فيه الصحون الصغيرة التي تحتوي على أنواع السمك المختلفة . على الزبون أن يتناول الصحن الذي يرغب فيه وفي النهاية يجري الحساب على أساس عدد الصحون التي تراكمت أمام الزبون أثناء الوجبة ، يحس بعض الزبائن بالخجل من عدد الصحون المتراكمة لذلك فإنهم يفضلون أخذها من أمامهم من فترة لأخرى . غير أن بعض الشباب ربما يتنافسون في عدد الصحون التي يتناولونها كنوع من المرح . بعض أنواع السمك نادرة وغالية الثمن لذلك فإنها قد لا تتوفر في كل المطاعم كما إن البعض يجري إعداده بطلب خاص .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
عندما تناولت أول وجبة من السمك غير المطهو لم أكن أعلم طبيعة ما قدم لي في تلك الأمسية . كانت المناسبة دعوة أقامتها إحدى الشركات لأعضاء السفارة وذلك بعد وصولي لليابان بأسبوع واحد تقريبا . لاحظت أن السمك قد قدم لنا في صحن من الفخار الجميل وقد كان السمك نفسه مقطعا في شكل شرائح شفافة وحوله كمية من أعشاب البحر ذات الألوان البديعة مما جعل الطبق يبدو كلوحة فنية رائعة متناسقة الأشكال والألوان . بعد أن تناولت ما شاء الله لي من السمك غير المطهو سألني أحد مضيفينا إن كنت أعلم ما هو الطعام الذي تناولته قبل قليل فقلت له وكلي ثقة " نعم … إنه سمك من النوع المدخن " فضحك وهو يقول " بل هو سمك غير مطهو " . عجبت إذ أنني لم أشم في السمك أي رائحة كما أن الطعم لم يوح لي بأن هذا السمك غير مطهو ، وعرفت فيما بعد إن ذلك يعود للطريقة التي يتم بها تجميد السمك قبل تناوله . أصبحت فيما بعد من عشاق تناول السمك غير المطهو ومن المشجعين على أكله لكل من زارنا من السودانيين وإن كانت الفكرة لا تروق للكثيرين منهم ، وللحقيقة فإن هذا النوع من السمك يبدو أجمل طعما من المرارة التي يعشق تناولها السودانيون . واليابانيون يتناولون كل أنواع الأسماك التي تعيش في البحر بالإضافة إلى الأعشاب البحرية التي يقولون أنها تساعد في تقوية جذور الشعر ، وربما كان هو السبب في أن الصلع ليس منتشرا بينهم . الشئ الوحيد الذي لم استسغه هو نوع من بيض السمك يؤكل على طريقة السوشي وطعمه أقرب إلى طعم زيت كبد السمك الذي كنا نجبر ونحن في سن الطفولة على تناوله لما فيه من فوائد صحية . حب اليابانيين الشديد لأكل سمك الحوت نيئا أورثهم الكثير من المشاكل مع منظمات حماية البيئة التي تسعي لحماية هذا النوع من السمك من الانقراض والدول التي تسن قوانين خاصة لحمايته . فكم سمعنا في الأخبار أن منظمات حماية البيئة قد قامت بقطع شباك الصيادين اليابانيين الذين يعملون في صيد هذا النوع من الأسماك ، كما أن اليابان تتعرض للهجوم باستمرار في المؤتمرات الدولية الخاصة بالصيد أو حماية البيئة إذ أن اليابانيين متهمون بالإسراف في صيد الحوت . وكثير من اليابانيين يعتقدون أن الهجوم عليهم هو نوع من النفاق والتفرقة العنصرية اللذين تمارسهما الدول الغربية ويقولون أنهم لن يتوقفوا قط عن تناول الوجبة الشهية التي تمثل عنصرا هاما في غذائهم . ولحم الحوت أشبه بلحم البقر من حيث اللون وشكل الألياف ، وعندما تناولته في أحد الأيام احترت في السبب الذي يجعل اليابانيين يواجهون العالم أجمع من أجل الاستمتاع بهذه الوجبة العادية . من أنواع الطعام المحببة لدى اليابانيين وجبة يطلقون عليها اسم " تمبورا " وهي عبارة عن نوع من السمك المقلي بعد مسحه بالعجين مضاف إليه كمية من الخضار المقلي أيضا ويتم تناوله مع الأرز . ويقول اليابانيون أن هذه الوجبة جاءتهم أصلا مع البرتغاليين عندما كانوا القوة البحرية الأولى في القرون الوسطى . لليابانيين كذلك وجبه تشتهر باسم " سوبا " وهي أشبه بالشعيرية عندنا إلا أنهم يطهونها مع الملح ونوع من الحساء . كما أنهم يأكلون نوعين من الأطباق التي يستعمل فيها لحم البقر وهي " شابو شابو " وهو عبارة عن لحم وخضار مطهوان في حساء ، و " سكي ياكي " وهو عبارة عن لحم مطهو في الزيت مع إضافة قليل من السكر ويؤكل مع الأرز . ويستعمل اليابانيون السكر في إعداد وجباتهم كبديل للبصل أحيانا ليعطي الطعام مذاقا متوازنا من الحلو والمالح ، ويباع في المحلات نوع من السكر خاص بالطهو وهو أقل سعرا من السكر العادي .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
مع الانفتاح على العالم بدأ اليابانيون في التخلص من عاداتهم المتحفظة في مجال الطعام واصبحوا يتذوقون بصورة أكبر أنواع الطعام التي اشتهرت بها الشعوب الأخرى . غني عن القول أن المطاعم الصينية والكورية هي الأكثر انتشارا بالرغم من الفارق الكبير بين مذاق الطعام الياباني ومذاق طعام جيرانهم الأسيويين . ويعود انتشار المطاعم الكورية واليابانية لعدة أسباب منها كبر حجم جاليات هاتين البلدين في اليابان وقرب موقعهما والأثر الثقافي الكبير المتبادل بين البلدان الثلاثة . في السنوات الأخيرة من القرن الماضي بدأت المطاعم التي تمثل مختلف أنواع الثقافات تفتح أبوابها في المدن اليابانية الكبيرة ، ومن الواضح أن المطاعم الهندية ومطاعم جنوب شرق آسيا تأتي في المقدمة . ومع ازدياد الجاليات الأجنبية بدأت المطاعم الأخرى في الانتشار فأنت تجد الآن في العاصمة طوكيو مطاعم إيرانية وعربية وأخرى تنتسب لبعض الدول الأفريقية . من الطبيعي ألا تجد في هذه البلاد القاسية الكثير من أنواع الطعام المحببة للسودانيين وقد عرفنا كيف نحتال أحيانا لسد النقص في هذا المجال الهام ، فدقيق الذرة الرفيعة غير موجود في اليابان رغم أن بعض الشركات كانت تستورد الفتريتة من السودان لصناعة العلف للأبقار . لذلك فقد كنا نستعمل الذرة الشامي لعمل الكسرة والعصيدة والمشكلة هي أن الكسرة المصنوعة من الذرة الشامي لا تلبث أن تصبح جافة إذا تركت لعدة ساعات . أما السمن فقد كنا نطبخ الزبادي مع الزبدة ثم نضيف أشياء مثل القرفة مثلا لإعطائه الرائحة الزكية ، وقد استفدنا من وجود طحينة السمسم التي يستعملها اليابانيون في بعض أنواع الأكل عندهم وكنا نخلطها بالعسل كنوع من التحلية اشبه بالطحنية . كانت سعادتنا بالغة عندما دلنا الإخوة المصريون على مكان يبيع الفول المصري الذي يتم استيراده من الصين ، ومن كثرة تعامل الإخوة العرب مع صاحب المحل الذي يبيعه عرف الرجل كلمة الفول باللغة العربية واصبح كلما يرى أحدنا يردد الكلمة . الغريبة أن اليابانيين يأكلون الفول المصري وهو أخضر وطعمه غريب ، وقد وجدت أن الإرتريين من أهل المرتفعات يمارسون هذه العادة كذلك . كنا نجد البامية في بعض المواسم واليابانيون يأكلونها كجزء من السلطة الخضراء وطعمها غير مستساغ دون طبيخ . ذهبت ذات يوم للسيدة التي تعودت أن أشتري منها البامية في الموسم ، لكنها قالت والأسى يملأ عينيها لقد حضر أخوانك قبل قليل وأخذوا كلما كان في المكان وعندما سألتها من هم أخواني قالت موظفي السفارة النيجيرية فعرفت أن منافسا جديدا قد ظهر في المنطقة فأصبحت منذ ذلك اليوم أبكر للحصول على ما أحتاجه منها . من الأطباق السودانية التي أعجبت اليابانيين بصورة كبيرة سلطة الزبادي وكان أصدقائي يطلبونها كلما دعوتهم لتناول الطعام عندي في المنزل . عندما كنت طالبا بالجامعة دخلت مع مجموعة من الأصدقاء من مختلف الدول في مسابقة إعداد أطباق وطنية ، وبما أنني فكرت في أسهل الأطباق التي يمكن إعدادها فقد قررت إعداد سلطة الزبادي . كانت سعادتي كبيرة عندما فاز الطبق بالجائزة الأولى وقد كان أغلب المشاركين في المسابقة من طلاب أمريكا الوسطى والجنوبية . اندهش الجميع لبساطة الطبق عندما أخبرتهم عن طريقة إعداده وقد أصر بعضهم على مشاهدتي وأنا أقوم بإعداده حتى يتعلموه ، ومن شدة حماسهم في ذلك اليوم فإنني لا أستبعد إن يصبح الطبق يوما ما مألوفا في مناطق كالمكسيك وكوستاريكا التي كان ينحدر منها أغلب المشاركين . اكتشف اليابانيون الملوخية فجأة بعد أن تمكن أحدهم من إحضار بذورها من مصر وزراعتها في اليابان ، وقد تكونت في الثمانينات من القرن الماضي جمعية أهلية يابانية عرفت باسم " جمعية آكلي الملوخية " . في بداية الترويج للملوخية كانت تباع في بعض المحلات في أكياس بلاستيكية ظريفة وقد كتب على الكيس من الخارج المكونات الغذائية التي تحتويها ويبدو أنها غنية فعلا بالمواد التي يحتاجها الجسم . بذلت " جمعية آكلي الملوخية " مجهودا كبيرا عن طريق الندوات والمقابلات التلفزيونية والكتابة في الصحف للترويج لها وقد نجحوا أيما نجاح في ذلك حتى أصبحت الملوخية جزءا من المائدة اليابانية . ابتكر اليابانيون كعادتهم الكثير من الأساليب لتناول الملوخية بما في ذلك انتاج بعض أنواع الطعام الياباني المصنع منها ، وقد علمت مؤخرا أنهم قد قامو ا بتسجيل حق اختراعها وهو ما لم يفكر فيه المصريون الذين ظلت الملوخية تمثل ركنا هاما في نظامهم الغذائي لآلاف السنين .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
من أنواع الطعام المفضلة لدى اليابانيين الأعضاء الداخلية للدجاج كالقلب والكبد والحوصلة ، ولكني لم أشاهد أبدا لا عند القصابين ولا في المطاعم كبدة الضأن المحبوبة للغاية في السودان . غير أنني لاحظت أن بعض المطاعم الكورية في طوكيو تقدم ضمن وجباتها " أم فتفت " ، وبما أنني لم أجرب هذا النوع من الطعام طوال حياتي فإنني لا أدري كان طعمها هو نفس طعم " أم فتفت " السودانية أم أنه يختلف . شعوب هذه المناطق بما فيهم الشعب الياباني يأكلون كل شئ متحرك في الأرض والبحر والجو فيما عدا السفن والسيارات والطائرات على حد قول الحكمة الشعبية التي يوصف بها الصينيون .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: غايكوكوجن - ذكريات من اليابان (Re: Gaafar Ismail)
|
خاتمــــــــــــة: لا بد من الإشارة مرة أخرى كما أشرت في المقدمة إلى أن هذه الخواطر عن اليابان جاءت نتيجة تجربة شخصية للغاية عن الفترة التي قضيتها في تلك البلاد المضيافة. وكما أشرت في المقدمة كذلك فإن التجربة ربما اختلفت لو أنني عشت في اليابان في فترة غير تلك التي غطتها الخواطر أو تحت ظروف مختلفة. لذلك لا أجدني في حاجة للإشارة إلى أن على من اطلع على هذه الخواطر ألا يعطيها أكثر من حجمها فيما يتصل بتقييم اليابان كدولة أو مجتمع. فبالرغم من إعجابي الشديد باليابان واليابانيين ، كما اتضح بين صفحات هذا الكتاب ، إلا أن التجربة تظل في النهاية تجربة شخصية لا يجب أن تبنى عليها أحكام عن البلاد أو شعبها. كانت فترة إقامتي باليابان من أغزر فترات حياتي من حيث التجربة التي اكتسبتها ، والسعادة التي عشتها والأشخاص الذين تعرفت عليهم يابانيين كانوا أو غيرهم وبصفة خاصة بالطبع الجالية السودانية الصغيرة والإخوة والأخوات الذين زاملتهم خلال فترة عملي هناك. انعكست كل هذه الأمور بالطبع على شكل ومحتوى تجربتي في تلك البلاد النائية ، واعتقادي أنها كانت السبب الأول وراء الرغبة في الكتابة عن اليابان. سعيت في كتابي هذا أن أعكس الحياة في اليابان من مختلف أوجهها على أمل أن يساعد ذلك القارئ على تصور المجتمع الياباني بالصورة التي رأيته بها. ولا بد أن القارئ قد لاحظ عزوفي عن تناول الجوانب السياسية في البلاد إلا من شذرات تناثرت هنا وهناك ، وقد كان ذلك لسببين هما أن السياسة على أهميتها لا تمثل في اليابان محوراً لمسيرة الحياة الاجتماعية والاقتصادية في البلاد ، فقد توصل الشعب الياباني بعد تجربة الحرب العالمية الثانية لمعادلة سياسية كانت سبباً وراء هذه التهضة الهائلة التي شهدتها البلاد. واعتقادي أن تلك المعلومات تقوم على قاعدة مهمة وهي أن الشعب الياباني لا يعطي للسياسة في حياته أكبر أو أصغر مما تستحقه ، وربما كان ذلك سبباً وراء ما يعرف بالمعجزة اليابانية. ذلك ، بالطبع ، أمر لا يقتصر على اليابان وحدها بل يشمل كل الدول الكبيرة والمتوسطة التي أستطاعت تحقيق طفرات اقتصادية واجتماعية مهمة خلال فترة زمنية محدودة. و كلي أمل أن يكون في ذلك عبرة للشعب السوداني وغيره من شعوب العالم الثالث حيث ساهم الشغف بالسياسة والاهتمام المبالغ فيه بأمورها إلى صرف أنظار المواطن عن قضايا أخرى مهمة خاصة في الجانب الثقافي كان بإمكانها أن تساعد على قيام نظام متكامل لا يقل قوة وتماسكاً عما نراه في الدول التي حققت جانباً كبيراً من النجاح ومن بينها بالطبع اليابان التي كانت مركز اهتمامنا في هذا الكتاب. وفي الختام كلي أمل في أن يكون القارئ قد وجد في هذه الخواطر ما رميت إليه من المتعة والإلمام بجوانب مهمة من تجربة اليابان وبصفة خاصة بعد الحرب العالمية الثانية ، واستخلاص العبر والدروس التي يمكن أن تساعد بلادنا للعبور إلى بر الأمان وتحقيق النهضة الاقتصادية والاجتماعية المرجوة.
| |
|
|
|
|
|
|
|