فى زمن لم يتوقعه احد من قبل، أصبح فيه الإفتاء بغير علم بضاعة رائجة، وتكاثرت فيه فضائيات متأسلمة تكاثر الذباب فى بلد غير نظيف ، وتسيد عالم الإفتاء جهلة كل بضاعتهم عمامة «مقلوظة» ولحية مزركشة وبضع جمل يحفظها أى مبتدئ. فى زمان الفتاوى الملغومة والمثيرة لسخرية العالم منا ومن ديننا مثل فتوى رضاع الكبير، وإفطار مستخدم شطاف دورة المياه إن أتاه وهو صائم، وتزويج الفتاه إن بلغت التاسعة من عمرها.. وفى زمن تعتبر فيه تحية العلم عبادة لصنم والوقوف للسلام الجمهورى شركا بالله. فى زمان كهذا كان لابد للكثيرين أن يتململوا، وان يسعى بعضهم إن كان يمتلك علماً ببعض الفلسفة ومعرفة بالمنطق وسرعة فى تقليب القواميس للبحث عن تعريفات أو تأويلات أو مرادفات تفيده فى احتدامات الجدل، وحبذا لو امتلك بعضاً من معرفة بالأبجديات القديمة فيستخدمها متعسفاً فى فهم النص القرآنى، ناسياً القرآن أتى عربياً بنصه وإعجازه، فيسعى إلى تقديم فهم أكثر رحابة ولنقل أكثر معقولية للنص القرآنى. ومن هؤلاء الباحثين الصادق النيهوم ليبى تخرج فى جامعة القاهرة، واعد رسالة دكتوراه بإشراف بنت الشاطئ عن «الأديان المقارنة» لكنه انتقل لألمانيا ليكمل الرسالة على يدى عدد من المستشرقين الألمان فى جامعة ميونيخ وهو يزهو بإجادته الألمانية والانجليزية والفرنسية ثم تعلم الفنلندية عندما قام بالتدريس فى جامعة هلسنكى بالإضافة إلى معرفة عابرة بالعبرية والآرامية والكلدانية.. وتخصص فى تدريس الأديان المقارنة فى عدة جامعات حتى رحل مبكراً. وتأملت محاولات النيهوم النهمة فى إفراغ معرفته فى تقديم فهم جديد للنص القرآنى ولعله تحايل عبره كى يجد سنداً لاستخدام العقل النقدى واستبعاد غباوات الإفتاء بغير علم أو استخدام الجهالة كسبيل لترويج فكر متخلف ورجعى يرتدى ثيابا دينية مهلهلة . وفى كتاب أثار كثيراً من الحيرة واستند فيه إلى إصداره محتمياً فى مجتمعات لا تعترف بتقييد الفكر أو حتى بإدانة شطحاته فى التعامل مع النص الدينى. وقد حاولت المطالعة فيه بحثاً عن فهم محتضر للنصوص الدينية. فى هذا الكتاب «إسلام ضد الإسلام» شريعة من ورق «قرأت على ظهر الغلاف عبارات تقول «الإسلام الذى ورثناه عن أسلافنا ليس هو الإسلام الذى بشر به القرآن، بل هو نسخة ناقصة ومشوهة صنعها الإقطاع على مقاسه، وقد لا يستقيم لنا سبيل الخروج منه إلا بجهد جماعى طويل النفس» ويكمل الناشر على ذات ظهر الغلاف» «وفى هذا الكتاب يواصل الصادق النيهوم نقده الجريء لكل الظواهر والأفكار السلفية ويدعو لإنقاذ الإسلام من عبودية التاريخ والفلسفة ليكسب المعركة الصعبة ضد الفكر الإقطاعى والأصولية» وفى فصل من هذا الكتاب استنكر النيهوم محاولات الفقه المتخلف للحط من شأن المرأة وكتب مقالا بعنوان «المسلمة لاجئة سياسية» يستنكر فيه التفسير الخاطئ لكلمة «واضربوهن» مستنداً إلى واقعة مثيرة للدهشة إذ قبلت الحكومة الكندية منح امرأة سعودية حق اللجوء السياسى باعتبار أن المرأة المسلمة مضطهدة لمجرد كونها فى مجتمع مسلم . وهكذا تحولت حوارات تتسم بالاجتهاد والافتعال إلى أزمة دولية.
وتكتب ردا على النيهوم الباحثة السورية «مها على» محاولة أن توضح معنى كلمة
وإضربوهن «معتمدة على كتاب» الكتاب والقرآن ـ قراءة معاصرة «لمحمد شحرور». واعترف أننى دهشت دهشة بالغة لتفسير كلمة «وإضربوهن» بغير ما اعتدنا عليه.. ونطالع لنوضح أولاً معنى كلمة الضرب . فعل «ضرب» فى اللسان العربى له أصل واحد ثم يستعار ويحمل عليه ، وأول معنى محمول عليه هو الضرب فى الأرض بغرض العمل والسفر كقوله تعالى «يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم فى سبيل الله فتبينوا» [النساء/94ٍ] وتعنى هنا الخروج فى سبيل الله. ثم تأتى بمعنى السفر «إذا ضربتم فى الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة» [النساء/101]. وهناك الآية «إن انتم ضربتم فى الأرض فأصابتكم مصيبة الموت» [المائدة/106] ثم تحمل الكلمة على معنى آخر كما فى الآية «وضربنا لكم الأمثال» [إبراهيم/45] والآية «وكلا ضربنا له الأمثال» [الفرقان/36] وثمة معنى آخر تحمل عليه ويقال «الضريبة» وهى ما يضرب على الإنسان من مال مقابل ما يحققه من أرباح، ويقال «ضرب فلان على يد فلان إذ حجر عليه». وهناك أيضاً الإضراب عن العمل وهو حجر النفس عن العمل، والإضراب عن الطعام وهو حجر النفس عن الطعام. أما الآية الكريمة «واللاتى تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن فى المضاجع واضربوهن» [النساء/34] فتكون البداية فى النشوز بالموعظة ثم الهجر فى المضاجع ، ثم «واضربوهن» وفعل الضرب هنا يحمل عليه كقوله تعالى «وضرب الله مثلاً» وليس بالضرب المتعارف عليه. ففى اللغة عندما يكون الضرب على الخد يسمى اللطم، فإن جاء على القفا يقال له الصفع وإذا كان الضرب بالرجل تستعمل كلمتى ركل أو رفس.. وعندما قتل موسى رجلاً قال تعالى «فوكزه موسى فقضى عليه» [القصص/15]. وفى مجال الاقتصاد.. هناك ضرب الأسعار والمضاربة. وبهذا تصل بنا «مها على» إلى القول بأن واضربوهن تحمل على معنى آخر غير اللطم أو الصفع أو الركل. وبهذا تفهم الكلمة فهماً أكثر جمالاً وأكثر احتراماً للمرأة.
.. وأنا لا أزعم معرفة عميقة بالفقه ولا اعرف موقف الفقهاء المتخصصين من هذا التأويل.
ولعل الذى ألجأ هؤلاء المثقفين إلى خوض مغامرات هذا الاجتهاد، هو الإصرار الغاشم والإفتاء غير المبصر أو المتبصر من مفتين تأتى فتاواهم لتسيء إلى الإسلام قبل أن تزلزل العقل فهناك مثلا فتوى من الحوينى أحد شيوخ السلفيين لا يتمسك فيها فقط «واضربوهن» بمعناها الدارج القاسى والمؤلم وإنما يضيف إليها واسجنوهن فيفتى بعدم جواز خروج المرأة من بيتها أصلا لا مع محرم ولا بغيره، ناسيا أنه أيضا يرفض أن يكشف طبيب حتى ولو كان من أتباعه على امرأة أو يجرى لها جراحة قيصرية مثلاً أو قلب مفتوح.. فإذا لم تخرج المرأة فمن أين تأتى الطبيبة والممرضة وبهذا فالحوينى المتعسف يضيف.. واقتلوهن. وليس أمامنا إلا أن نلجأ لإفتاء صحيح ونستبعد ذباب التأسلم، قبل أن نلوم الآخرين، هذا إن استحقوا اللوم.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة