رحيل الطيب صالح .... آهات حيرى! محمد التجاني عمر قش بقلم: علي الطاهر العباس [email protected] تأخر السائق الذي كان سينقله من مقر برنامج الخليج العربي للتنمية إلى فندق الرياض انتركونتيننتال. وكنت لحظتها أهم بالمغادرة، فاستوقفني وقال لي ستوصلني في طريقك! يا إلهي، ذلك شرف فوق ما كنت أطمع. وفي الطريق سألني من أين؟ فقلت من ود حامد نواحي شندي. قال: "أووه ود حامد دي لي معها مواقف كثيرة". قلت له لو زرتها لأيقنت أنك كنت تعنيها عندما كتبت "دومة ود حامد". كان كثيراً ما يزور برنامج الخليج العربي للتنمية، خلال زياراته المتعددة للرياض، بحكم موقعه في منظمة اليونسكو، وفي إطار مشاركاته في مهرجان الجنادرية السنوي. وكان يقضي وقتا طويلاً مع صديقه عز الدين شوكت، مدير إدارة الإعلام التي أعمل فيها. وبالطبع كنت أسعد كثيراً بزياراته تلك، وأشعر بالفخر وازداد اعتزازاً بالعلاقة التي تربطني بهذا العملاق، علاقة الانتماء إلى الوطن. كنت السوداني الوحيد في المنظمة، وكنت أحس بأن مجيئه إلينا يضفي علي هالة من الأهمية، فقد كان يلقى تقديرا واحتراما فائقا من كل منسوبي البرنامج. ذات مرة قال لي موظف السنترال، وهو مصري “يا أخي انتو ناس غريبين" قلت من نحن؟ قال السودانيين! قلت كيف؟ قال لي: قبل قليل كان الطيب صالح، يجلس إلى جواري على هذا الكرسي. قالها والدهشة تغمره، وهذه لا تحدث إلا عندكم، وعقد لي مقارنة بكثيرين لا يساوون قطرة في محيط الطيب صالح، يمرون به دون أن يلتفتوا إليه أو يلقوا عليه التحية. فعلمت أن مصدر استغرابه هو، كيف لأديب أو كيف يمكن لـ (عبقري الرواية العربية) الذي، ترجمت أعماله لأكثر من ستين لغة عالمية، وصنفت إحدى رواياته واحدة من أفضل مائة رواية في العالم، كيف له أن يجلس، بل ويتجاذب أطراف الحديث مع موظف صغير مثلي. قلت في نفسي، ذلك الطيب صالح الذي تكمن عظمته في قدرته على جلب السعادة للآخرين. وكيف لأفكاري بعدك أن تجتمع لتكتب عنك، ناهيك عن أن تصبح رواية مثلما كنت تفعل؟ لقد رثيتَ منسي ومن قبله رثيتَ أكرم صالح في حلقات نشرتها مجلة المجلة في ثمانينيات القرن الماضي، كانت “أجمل ما نشرته الصحافة العربية على الإطلاق"، كما صفها ناقد سوري، وسنقرأ الكثير في رثائك، ولكننا لن نقرأ مثلما كتبت أنت في منسي وأكرم صالح. يا ليت لي بالشام أدنى معيشة أصاحب قومي فاقد السمع والبصر ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر أحاول الكتابة وأستجدي قلمي فيأبى. كيف له أن يكتب وفي الذهن تلك الصور الرائعات التي رسمها قلمك؟ أكاد أسمع أقدام الطريفي ود بكري، وهو يجري صوب المدرسة ليزف خبر عرس الزين، بل حتى صوت الريح تسوق حبات الرمال فوق الكثبان عند طرف القرية حيث "عرب القيزان". رحل المجذوب وغاب صلاح وعلي المك وعبد الله الطيب ثم مصطفى سند وكثيرون غيرهم، كانوا نجوماً في سماواتنا. ولكن كان في وجودك بيننا عزاء ينسينا ما مسنا من ضر. فبمن يا ترى بعدك سنتأسى؟ كنا نستمتع بالسفر بين أحرف رواياتك، ونحس بك قريبا منا، وأنت تسوقنا إلى عالمك، يأتينا صوتك العميق عبر المسافات، نحسك معنا تحلق بنا في "آفاقك البعيدة". في يوم الجمعة الماضي تناولت "موسم الهجرة إلى الشمال"، فانتابني شعور غريب وأنا أهم بفتحه، تملكني نفس الإحساس الذي سيطر عليَّ وأنا ادخل منزل أخي "عمر" لأول مرة بعد رحيله. سيطرت على عواطفي وفتحت الكتاب، فقرأت أول ما قرأت هذا المقطع " نزل الظلام، كامل مستتب احتل الكون بأقطابه الأربعة، وأضاع مني الحزن والحياء الذي في عينيها. لم يبق إلا الصوت الذي دفأته الألفة والعطر الخفيف كينبوع قد يجف في أي لحظة. وفجأة قلت لها: "هل أحببت مصطفى سعيد؟" لم تجب، وظللت برهة انتظر ولكنها لم تجب. من يا ترى سيصوغ لنا مثل هذه الكلمات البسيطة العادية لتصبح أدبا يهز الوجدان في أقطاب الكون الأربعة؟ استمع في كثير من الأحيان إلى أحاديثك القليلة لأجهزة الإعلام، وأقول لنفسي هذا تواضع مُخِل! لماذا هذا الإصرار على أنك لم تفعل شيئا؟ وأنت الذي شغل إنتاجك العالم بأسره، ألِف الناس قهقه بت مجذوب وضحكات ود الريس، بل حتى طقطقة حبات مسبحة جدك، من بيرو وشيلي إلى نيو كاليدونيا وجزر الساموا، ومن كيب تاون إلى أصيلة وهلسنكي ولندن وباريس. "عدتُ إلى أهلي يا سادتي" كانت عودتك في تلك المرة صاخبة بمعنى الكلمة، استنطقت فيها كل الشخوص والأشياء، شجرة الطلح على ضفة النيل، سنابل القمح، حمارة عمك عبد الكريم، طرقات القرية، وجدران بيت جدك. لقد كنت صاخبا، صخبا ملأ الدنيا من أقصاها إلى أقصاها. ولكنك عدت يلفك علم السودان، وكنت أتمنى لو أنهم دفنوك في نفس المنطقة التي انطلقت منها حتى تكون مزارا لعشاق أدبك، ألا رحمك الله. تعليق ومضات: علي الطاهر العباس مثقف وشاعر ومترجم سوداني مقيم بالرياض.
08-28-2016, 08:43 AM
وائل حمزه الزبير
وائل حمزه الزبير
تاريخ التسجيل: 07-04-2014
مجموع المشاركات: 1769
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة