إن المدن تأخذ مساحتها فينا، تغوص عميقاً فينا، فنحس اللون بعبق الأشياء، الأشلاء، الأحداث و أشياء أخرى نجهلها، يمكن أن نقول مثلاً بأن الخرطوم مدينة صفراء، لتعلق الغبار فيها بالفراغ، لتتخلله خطوات الناس، وتقتسم الأجساد تلك الرمال الصغيرة، وتبقيها بين مسامها وخيوط ملابسها، وتمزجها بالعرق الخارج منها، لتبدو لائقة بفتور اليوم المنهك، والعمل الشاق، وجهد المشي على عتباتها الطويلة سادية هي، تلك تعشق أن ترى في عيون محبيها الألم..!! أي صمت تحتويه لحظات وداعي الأخير لها، كأنها تريد أن ترسم اللوحة في ذاكرتي بألوان زيتية رملية راسخة، كي لا أضيعها بين حطام أحمله في حقيبتي اليتيمة، و أتأملها دون صوت، ربما همساً لو شئت أتراها تعمدت إثارتي باللون الرمادي للأفق و بالخلخال الذي تلبسه على جسرها القديم، العتيق، بصفرة الذهب؟ يحرسها الجنود القادمون من سوادها الموحش و ليلها المطمئن خوفاً من قبلة خارجة مني، فمدينتنا تخشى القبلات و الأحضان الدافئة، على الأقل في العلن تعتبره فعلاً فاضحا، و خادشاً لحياء الشوارع المبتلة بماء المطر، ويمنع رقص الأشجار على نغمات الخليل، صوت العود وبكاء الكمان و عربدة الجيتار،نغمات رنين الخلخال الأول قبل الجسر تودعني، ومن ثم يودعني الجسر، ترسخ في ذاكرتي كصلصلة السيوف الهندية، صولة الفرسان فيها في مجد التأريخ الويل لمن تسكنه مدينة ..!! هكذا أخبرت نفسي، بكيت الشوق وأنا أرسم شوارعها في ذاكرتي، الممرات الضيقة التي تمشي عليها السيارات المتهالكة، الاتوز، التيكو، الكريسيدا، المارسيدس، الفيستو، الباجاج، السوزوكي، البكاسي، الحافلات التجارية الصغيرة، مشاريع الإعاشة المبتكرة لمن فقدوا وظائفهم ليعطوا الأدعياء مفاتيح المدينة التي تشبهنا أواني اللبن الضخمة وهي تترجرج في عربة يجرها حمار متعب، الأبواب تفتح بصرير عال، النساء يبرزن أنصافهن فقط، وينادين بائع اللبن، يأتي الصبي ليسكب لهن قدراً شحيحاً، يأخذنه راضيات، لا خوف ولا طمع الدراجات الهوائية والنارية، الأطفال الحفاة، الدكاكين، النقود المهترئة، المنسية في الجيوب البائسة والمغسولة أحياناً، الدفاتر التي يكتب عليها التاجر، لحين ميسرة، بقع الزيت المنتهية صلاحيته، ورائحة صابون الفنيك النفاذة، أثر الفحم الأسود على العراقي المتسخ، اللحى المستحية والرؤوس المحنية تنظر بخبث الى عورات النساء، الغافلات منهن وغير الغافلات، مقاعد العجائز وتحتها الراديو الذي يصدح بصوت غنوة قديمة ربما ليالي الأنس، والحسان والغناء الأصيل، والشراب المر الحلو و محرمات الجسد الشبق ربما الموت البهيج الذي يكون مناسبة للحديث عن كل شئ الا الموت نفسه كأن أهلها يحبون أن يشعر الموت بالضآلة والوضاعة، فهو لا يستحق حتى مشاطرتهم جلساتهم بعد زيارته لأحدهم يثرثرون هكذا كأن الدنيا لا تضع على كاهلهم عبئاً، يسترجعون أهداف مباريات كرة القدم الأخيرة، يتلعثم المهزومون بحثت كل هذا و غيره، لأعرف سبب إنجذابي للأشياء عبرها، فإني أرى كل العالم بزاوية مقدارها تلك المدينة، التي أحب، من جبالها، رماحها التي تشرعها نحو الأعلى، و سحر سمرتها، وضحكتها التي تشي بالونس وطيب المعشر، كثيراً ما عانيت من هروبي من هذا العشق، من ذكريات تلك الشوارع الضيقة، الأزقة التي تخبر بأن البيوت تأبى أن تبعد عن بعضها البعض، فالـ"النفافيج" تشهد حديث الجارات العابر وأسرارهن الليلية التي يقسمن على كتمانها، ثم يعلنها الصباح للعالم أجمع، الأطفال المتنقلون عبر البوابات المشرعة يحملون مواعين الطعام، لا يأكل الناس ما يطبخون في العادة، ولكنهم يأكلون ما طبخنه جميع نساء الحي، حتى أن سكان الحي باتوا يعرفون ما تبرع فيه كل واحدة من نساء الحي، نفيسة تبرع في صناعة المحشي، سليمى تبرع في صناعة العصيدة و ام الحسن لا تنافسها أي إمراءة في النعيمية، اما الجيل الجديد لبنات الحي فيبرعن في وجبات الحداثة التي خرقت عادة المائدة الكلاسيكية، مثل البيتزا والشاورما والبيرقر، والحلويات والمعجنات، التي غالباً ما يقابلها المحاربات القديمات بالإستهجان، ورغم ذلك يأكلن منه بشراهة ولا يبقين منه شئ، يتناول الرجال الطعام جميعهم في صالون أحدهم في الحي، أو أشتاتا، كيفما أتفق، لتبدأ العصر رحلة إعادة الآنية النحاسية والزجاجية الفخيمة، فالنساء يحافظن على آنيتهن بصورة مدهشة، ويحرصن على إقتناء المزيد والمباهاة بها، كماً و نوعاً، تنشط وقت الضحى تجارة معدات المطابخ، أطقم الشاي، الصحون، الملاعق، الصواني، برادات الشاي الذهبية المزدانة بالزركشة والرسومات الملكية الآسيوية الرائعة، الأكواب الزجاجية اللامعة بتشكيلاتها المبهرة وأحجامها المختلفة، كن يستبدلنها بملابس الرجال الغائبون في أعمالهم، هنالك بعض المحظوظون الذين يلحقوا بستراتهم أو سراويلهم قبل أن يغادر البائع مكان الصفقة المشبوهة، ليعيد ما نجا للخدمة، ويرقب بغل مكظوم زوجته اللامبالية وهي تمط شفتيها أسفاً على صفقة ضاعت، ولكن لايهم فهي ستعيد الكرة غداً مع نفس البائع، فهو سيأتي حاملاً نفس ما عرضه اليوم، قصص العلاقات الزوجية تذاع في مجالس النميمة في البيوت بين النساء نهاراً، ومنهن الى أزواجهم، الرجال لا يكترثون لهذه الحكايات ولا ينقلونها، فالأمر عندهم لا يعدو أن يكون "كلام نسوان" وأنا أرقب خطوات الناس، تهرول في الفراغ المملوء بالغبار والدخان العالق، بلا بداية ولا نهاية، شوارع الخرطوم تزدحم بالمارة، الخرطوم الإفتراضات بها أكثر من الموجودات بالفعل، الشوارع المحناة بالصبغ الأسفلتي الأسود، تمشي عليها المركبات المتهالكة، في تؤدؤة عجوز يتبختر في مشيته بكبرياء زائف ويستند على عكازه المأمون، ويحاول عبثاً مواراة عجزه عن الرؤية، في الضباب والأتربة الدائمة التي تميز الطقس الذي يعشق العتمة والظلمة، فهنا يلتقي العشاق ليتحدثوا عن أحلامهم بمدن يغشاها النعاس أمنة منها، مدن لا تعرف التخوين والتخويف وإستراق النظر الى الأبواب المغلقة، المدينة تعشق الشائعات، الأخبار المعلبة المصنوعة في البيوتات، الدكاكين، المقاهي، الغرف الطينية المعبقة برائحة البخور والمريسة، الأجساد المحمومة بالرغبة والموت الطري، دائماً يهرولون، أنفاسهم اللاهثة، نظراتهم الوجلة، عبارات السلام التي تملأ الفضاء بضحكات الشفاه السمر والأسنان البيضاء اللؤلؤية، تبادل التمباك، و إقتسام دخان السيجارة، ذاغ البصر وطغى، الشمس تبث حرارتها في الأجساد، ينهمر العرق غزيراً، تلمع حباته في الجباه السمر، يسيل على أودية الأكتاف، فتبدو السترات مبللة بعرق ممزوج بغبار الجو، مما يمنحها لوناً بنياً قذراً، أطفال، حفاة عراة، ثيابهم ممزقة، أحلامهم شحبت حتى تلاشت من وجوههم إحتمالات الإشراق، بائسون يجوبون بين الناس، يلمعون الأحذية، يبيعون الماء البارد، يحملون آنية من النيكل اللامع، مغسولة بعناية، ناديت على أحدهم: "يا بتاع الموية ..!!" جاء أطفأت عطشي، إستمتعت بدفع الماء الى حلقي دفعة واحدة، لأشعر ببرودة كهربية لذيذة، تتجشأت بعدها، منحت الصبي جنيهاً زائداً، فنظر إلي بإمتنان
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة