الشفيع خضر : أفكار حول التغيير في السودان

دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-14-2024, 04:24 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2016-2017م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
08-24-2016, 10:01 PM

Yasir Elsharif
<aYasir Elsharif
تاريخ التسجيل: 12-09-2002
مجموع المشاركات: 50065

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الشفيع خضر : أفكار حول التغيير في السودان

    11:01 PM August, 25 2016

    سودانيز اون لاين
    Yasir Elsharif-Germany
    مكتبتى
    رابط مختصر

    من حريات


    الشفيع خضر : أفكار حول التغيير في السودان
    August 23, 2016
    الدكتور الشفيع خضر (الشفيع خضر)
    أفكار حول التغيير في السودان
    (د. الشفيع خضر في ندوة صفحة حوارات في الفيسبوك)
    ستون عاماً من الاهوال
    في البدء لابد أن نصرخ جميعا، مثلما فعلها فولتير في زمن الحروب الطائفية في أوروبا عندما صرخ “إسحقوا العار”، ونحن نزيد على صرخته: أوقفوا الحرب..أوقفو الخطاب العنصري..ألجموا الهوس الديني…أجلسوا إلى طاولة المفاوضات وأحتكموا لصوت العقل! فعلا…. لقد وصلت الحد، ووقعت الكارثة!! ولا يمكن لأي سوداني عاقل أن يقبل بهذا الواقع الكريه. ليس من سبيل سوى الوقوف بكل قوة وصلابة، وبما تمليه علينا ضمائرنا وعقولنا وإنسانيتنا وسودانيتنا، موقفا أخلاقيا وعمليا ضد الحرب وهوس سفك الدماء. إننا في السودان، ومنذ فجر الاستقلال، لا نزال نقبع في حفرة تصادم رؤى النخب السياسية، مما جعل بلادنا في حالة أشبه بلعبة السلم والثعبان: ما أن نبدأ في تسلق سلم الديمقراطية نحو مخرج الأزمة، حتى يأتي ثعبان الانقلابات والسياسات الخاطئة ضيقة الأفق حد إشعال الحرب الأهلية، فيرجعنا إلى نقطة البداية. ومع ذلك، أبدا، لم يكن اليأس هو سيد الموقف، بل كانت هنالك ومضات في ظلام العتمة. فغالبية النخب تدرك جيدا أن التحول الديمقراطي الحقيقي وما يتيحه من حريات، هو المدخل الوحيد القادر على حل أكثر النزاعات تعقيدا، وإصلاح ما تخرب في السودان. أيضا، هناك أجيال سودانية سابقة لم تكن تمتلك ما نمتلكه اليوم من معارف وأدوات تعليم وحراك للمجتمع المدني وأدوات إتصال وربط معلوماتي…ألخ، ورغم ذلك استطاعت أن تضمن حدا معقولا من رضا معظم القبائل والاثنيات والمجموعات القومية لتمثيلهم في الجيش والشرطة ومؤسسات الحكم المختلفة. كما أن تجربتنا منذ الاستقلال، قدمت درسا سهل الفهم والاستيعاب، عندما أكدت بأن صراعات الهوية والموارد، والخلافات الناتجة من شعور طرف ما بالظلم والتهميش، مهما كان صغر حجمه وضعف قدراته وقوته، لا يمكن أن تحسم عسكريا. فالحرب الأهلية في جنوب السودان إستمرت نصف قرن من الزمان دون حسم، بل إن مراكمة المرارات الناتجة من أهوال وويلات الحرب، إضافة إلى السياسات الخاطئة بعد حلول السلام الهش، عمقت من مشاعر عدم الثقة وأفضت إلى تمزيق وحدة الوطن. صحيح أن تلك الصراعات تفاقمت جذورها السياسية والاقتصادية والثقافية إلى درجة لا يمكن تجاوزها أو تبسيطها. وصحيح أنها، أي الصرعات، تعكس خللا بينا في علاقة المركز المسيطر بالأطراف المهمشة يعبر عنها سياسيا بعدم التكافؤ وعدم المساواة وعدم العدالة في إقتسام السلطة والثروة. ولما كان المركز المسيطر، والآمن، تتمتع به مجموعات إثنية محددة، في حين أن الأطراف، مسارح العمليات الحربية ومحارق الحياة، تعاني فيها مجموعات إثنية أخرى مختلفة، كان الأحرى بأي قائد مسؤول في المركز أن يحسب حساسية هذا الوضع في كل خطوة يخطوها، إلا إذا كان ضعيف الإحساس أو غير مبالي، وفي الحالتين سيكون موقفه أقرب لموقف المتعصب الذي تفوح منه رائحة العنصرية النتنة. وعموما، لا يعقل ألا نستفيد من صدمات التاريخ، حين كانت الحروب العنصرية ينفذ فيها القتل والاعتقال والتنكيل وفق السحنة أو اللهجة أو البطاقة الشخصية..!! ولكن، يبدو أن عددا من المسؤولين لا يقرأون أو لا يفهمون التاريخ، يؤججون العصبوية والنعرات العنصرية لتلتقطها مستقبلات المشاعر الغرائزية البدائية عند المواطن البسيط فتهيئه لسفك دماء من ظل يلاطفه ويبتسم له ويقتسم معه المسكن والطعام! إنها اكتمال لحلقة الشر التي لابد من فكاك منها حتى ينجو هذا الشعب بأعراقه وثقافاته المتنوعة المتعددة، إلى حياة آمنة لا يعاب الفرد فيها إلا إذا استحقر الناس وضيق عليهم سبل العيش. نحن لسنا بصدد تفتيش ضمائر قادة البلد، رغم ممارستهم لهذا الإنتهاك فينا، ولكن إستنادا إلى تجربة ممارستهم السياسية في حكم البلاد طيلة أكثر من ربع قرن، نستطيع أن نطرح السؤال تلو السؤال، والتهمة وراء التهمة، وكل المبررات التي ستأتي من أهل الانقاذ لن تستطيع الصمود في مواجهة الشروخ العميقة، والدامية، التي أحدثوها على المستويين الرأسي والأفقي في السودان.
    وحتى على مستوى العلاقة مع دولة الجنوب، فيبدو أن الساسة الحكام إختاروا الرجوع إلى حقب بدائية سحيقة ليخفوا عجزهم عن مواجهة منعطفات ومنزلقات السياسة في عالم اليوم، والتي معظمها صنعتها أياديهم. وإلا فما الذي يدفع بدولتين مأزومتين إقتصاديا للوقوع في مصيدة آلة تحصد الأرواح حصدا؟ وللأسف، سيرتدع نفس هولاء الساسة عن الحرب، لا بسبب جثث الأطفال ولا مصير النساء ولا فظاعة موت الشباب، بل رضوخا لرغبة المستثمر الأكبر، وإستجابة لإغراءات المنح والإعفاءات والقروض ذات الدفع الآجل والبيع والشراء..!!
    (2)
    ضعف الاحزاب السياسيه
    نعم اتفق مع التشخيص بعجز الحركة السياسيةوبضعف الأحزاب، كل الأحزاب بلا إستثناء، وأن العقلية المسيطرة في معظم الأحزاب ترفض التجديد والإصلاح، ولكن هذا لا يعني إستحالتهما. صحيح أن الإصلاح الحزبي يصطدم بآليات مقاومة، ولكن هذا الإصطدام في حد ذاته ىسينتج واقعا جديدا، فإما رفض الإصلاح وما يتبع ذلك من أنزواء وتصاعد ظاهرة الإنشقاقات أو الخروج الجماعي من الحزب، أو الإستجابة مما يعني نجاح الإصلاح وتطور المنظومة الحزبية. أما معالجة هذا الضعف وإستعادة الأحزاب لبريقها، فهذه مسألة تتعلق بمراجعة تجربة كل حزب، وبالابتعاد عن الكسل الذهني والعقلية التبريرية، وبإستيعاب متغيرات العصر والواقع، وبالابتعاد عن الدوغما، وبتغيير القيادات وتمكين الشباب، وبالفن والابداع في إجتراح التاكتيكات الجديدة، وبالخطاب الجديد النابع من الواقع وليس من بطون الكتب… وتحديدا نحتاج أن نُعمل الفكر النقدي في طرائق تفكيرنا ومناهج عملنا التي كثيرا ما تقودنا من خطأ لآخر، وأن نتمسك بمبدأ النقد البناء للمفاهيم التي ظلت مطروحة منذ الأمس، وأن نختار مواجهة هذا العصر الرقمي بنفس طريقته التكنولوجية المتسارعة والمدهشة في إبتكار الجديد. فمن الواضح أن خطاب المعارضة، بكل أقسامها وفصائلها، أصبح يواجه معضلة في تثوير الأجيال الجديدة وإلهامها. وأعتقد أن ضربة البداية هي أن نستمع بتفهم وإستجابة إيجابية لكل لأصوات التي تنتقدنا، وتتهم المعارضة بالتوهان في متاهة الثنائيات العقيمة، والخادعة في نفس الوقت: سلمية/مسلحة، تغيير/إسقاط النظام، ومتاهة الخلط بين الهدف (إسقاط…تغييرالنظام) ووسائل تحقيقه (إنتفاضة…ثورة مسلحة…إنقلاب…حوار/تفاوض)، ومتاهة عدم إكتشاف سر المفارقة العجيبة، مفارقة الحرب الدائرة في كل مناطق الهامش تقريبا، والنظام المهترئ الذي لا يزال يحكم في المركز، ومتاهة المواثيق والهيكلة والفعالية لتحالفات المعارضة بعيدا عن إكتشاف كلمة السر الضرورية واللازمة لإحداث الحراك الشعبي الجماهيري. علينا أن نستمع إلى كل ذلك، ونتمثله بعقلية تتقن إستخدام منهج النقد والمراجعة وإعادة النظر، عقلية تقبل التعدد والإختلاف، فلا أحد يحتكر الحقيقة، ولا أحد أحق بالحرية والعدالة أكثر من سواه، ولا يمكننا المطالبة بالديمقراطية من غير الإنخراط في برامج عملية ملموسة لخلق مجتمع ديمقراطي، ولتسقط مفردات الأول/الفائز/ الغالب في العمل السياسي، والتي لم نحصد منها غير الحروب والدمار والأزمات المزمنة.
    (3)
    الشباب وإصلاح المنظومات السياسيه
    قلنا أن العقلية المسيطرة في معظم الأحزاب ترفض التجديد والإصلاح، وأنا أرى الا تظل الحركة الشبابية أسيرة هذه القيادات، بل تتجه إلى تأسيس منابرها الخاصة داخل أو خارج المؤسسات الحزبية. نتيجة ذلك ستكون واحد من إثنين: إما أن تنحني القيادات القديمة لعاصفة الشباب فتستجيب لدعاوى التجديد والإصلاح لمؤسساتها القديمة، أو تتكون مؤسسات جديدة كليا. النقطة الهامة هنا الا يكون هم المؤسسات الجديدة وشغلها الشاغل هو الحرب والتناطح مع المؤسسة القديمة، بل التعامل معها بكل احترام الإبن المهذب لأبيه مع تأكيد إختلافه معه، وعدم قبوله بسياساته.
    إن صراع المجايلة لا يسبب إنتكاسا، ولكن سوء إدارة هذا الصراع هي التي تسبب الانتكاسات. وأعتقد أن صراع المجايلة يمكن أن يكون صحيا ومثمرا إذا تم بطريقة موضوعية بعيدا عن محاولات خلق الفتنة بين جيل الشباب والأجيال السابقة، وبين الشباب والأحزاب، والتي تهدف إلى إحباط الحراك الشبابي في مهده، وإفراغه من محتواه، وإنكار تفاعل الشباب الحي مع الواقع، والسعي إلى تحويله، في النهاية، إلى مجرد أداة تنفيذية للقيادات السياسية المعمرة. من البديهيات إن الشباب والحركة الطلابية هم محركوا الثورات ومشعلوا شرارتها، بشهد بذلك تاريخ ثورة أكتوبر 1964 وإنتفاضة أبريل 1985. أما الجديد هذه المرة، فهو سعي الشباب لتنظيم أنفسهم في تكوينات مستقلة، عن الأحزاب أو داخل الأحزاب. وقطعا هذا الجديد سيرفد المشهد السياسي في السودان بتغير نوعي. وبالطبع نحن ندرك إحتمالات، وربما حتمية، نشوء صراعات متعددة بين جيل الشباب وجيل الآباء، في الإطار السياسي الكبير، حول كيفية إدارة القضايا الساخنة المتعلقة بمستقبل البلاد. لكن،هذه الصراعات، في نظري، مثمرة وبناءة. فيما عدا ذلك يكون الحديث عن هذا الصراعات محاولة فاشلة تستند على مغالطات أكل عليها الدهر وشرب، من نوع الشباب عديم الخبرة، أو ان جهات أجنبية تحرضه… هذا النوع من الأحاديث ينفي، بوعي أو بدونه، دور الشباب كمحرك أساسي للشارع، ويسعى لتحويلهم إلى مجرد لعبة في أيدي الآخرين.
    إن الشباب ليس نسيج وحده، فوعيه يتشكل من خلال حدة الصراع السياسي الاجتماعي في البلد، وحراك المجتمع المدني عموما بما في ذلك الاحزاب. لكن وجوده المستقل عن مواقع اتخاذ القرار ودوائر الحكم يسمح له بالرؤية الناقدة، كما إن تطلعه نحو المستقبل الأفضل يؤهله ليكون خالق البدائل الأكثر إنسجاما مع المستقبل. وحركة الشباب الثائرة، كما حدث في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين والسودان، تطرح بشدة قضايا إصلاح السياسة والمجتمع فتتبلور عندها شعارات الحرية والكرامة والتغيير، مجددة بثورية خلاقة وعي الأحزاب القائمة، وفي نفس الوقت مكتسبة وعي الحكمة من هذه الأحزاب، دافعة إما إلى تجدد هذه الاحزاب أو تخلق أحزاب جديدة.
    (4)
    سبتمبر 2013: الرغبة في تغيير الواقع… والصدمة
    بعد أحداث سبتمبر 2013 الدامية، حيث الجريمة النكراء التي لن تغتفر تجاه الشباب المنتفض، ومثلما كان أسلاف أولئك المنتفضين من شباب الستينات يضغم رؤيتة السياسية في شعار يكتبه على جداريات المنازل آنذاك، كتب هولاء الشباب اليفع في جداريات التغيير الجديدة “الفيسبوك”، فاتفقوا واختلفوا، ولكنهم اجمعوا على شيئ واحد: رفض الذل والمهانة، وأنهم لن يرضوا بغير الحياة الحرة الكريمة في وطن ديمقراطي يسع الجميع. هولاء الشباب، نموا وترعرعوا في ظل الإنقاذ، قاوموا غسيل المخ وكل محاولات الصبغ بلون واحد. وكانوا، كلما دوى إنفجار إحدى القنابل الموقوتة للحياة اليومية، يطيرون إلى الفضاء الاسفيري، يبنون ممالك للآخر وللرؤى المختلفة وللتعايش السلمي، يعبرون فيها عن كل تطلعاتهم المشروعة جدا، والتي نفسها هي التي نادتهم إلى النزول في شارع القصر عدة مرات، عزلا إلا من سلاح النوايا الطيبة والايمان بضرورة التغيير، والإعتقاد بأن الدستور يحميهم، ليواجهوا بعنف خائف مرتعب تماما، يطلق الرصاص على الجميع حتى الذين ظلوا يراقبون الأحداث من عتبات بيوتهم، وليحبطوا بغياب القيادة والتوجيه والحماية التي توسموها في قيادات الحركة السياسية!.
    وشباب السودان إجتاحتهم وجعة الجزء الذي انفصل من الوطن العزيز جنوبا، مثلما اجتاحتهم وجعة العيشة المزرية لأسرهم وهم يعانون الغلاء وتردي الخدمات، والفقر المدقع، ورغما عن ذلك تقتطع هذه الأسر من لحمها ودمها لتعليمهم وتوفير ضروريات الحياة لهم. وشبابنا، بإعتبارهم الشريحة الأكبر عددا في المجتمع، والأشد قلقا تجاه المستقبل، والأكثر نشاطا من أجل تغيير الواقع لصالح غد أفضل، هم دائما في عمق الحدث وفي قلب الثورات والإنتفاضات. لكنهم عندما تظاهروا عدة مرات في الشوارع، ومارسوا الإعتصام والإحتجاج في العاصمة ولقاوة وبورتسودان والقضارف والمناصير، يقدمون الشهيد تلو الشهيد..، لم يكن تحركهم بإسم الاحزاب السياسية، ولم يطالبوا بالمؤتمر الدستوري، وقطعا لم يكونوا طامعين في كراسي الحكم، ولكنهم رفعوا شعارات التغيير لأوضاع الشعب المزرية، وضرورة أن يخرج السودانن من خط الفقر ودائرة العنف السياسي والإثني، إلى رحاب الحياة الديمقراطية التي تقبل الجميع، كما عبروا عن مطالبهم في تنسم مناخ الحرية، وفي العيش والدراسة بكرامة وفي أجواء خالية من الوجل أو الخوف. ولما كان الواقع في السودان يحمل نذر البطالة والعطالة واحتكار الفرص في سوق العمل واحتمالات التهميش، فقد إنتبه الشباب إلى ضرورة العمل من أجل التغيير حتى لا يرهنوا حاضرهم ومستقبلهم لخيارات البحث عن المنافي أو المخدرات. ولا أعتقد أن الإرهاب والقمع وسفك الدماء سيضعف من عزيمة هولاء الشباب، ولكن هذا لا يعني أن ندعوهم للخروج إلى الشوارع دون أدنى إهتمام بمسألة حماية أرواحهم.
    أنظمة الفساد والإستبداد تسعى إلى أن يصبح الوطن حكرا فقط لشباب يصفق للحكومة. وهي تظل تخشى شريحة الشباب وتعمل على الحد من قدراتها، أو محاولة ترويضها، تارة عبر الرقابة البوليسية اللصيقة لسلوك وتصرفات هذه الشريحة، وكأن الأصل فيهم هو الإنحراف وغياب التربية الأسرية، وهذا غير صحيح. وتارة عبر خنق النشاط الطلابي في الجامعات، وتغذية عقول منسوبي الحكومة من الشباب والطلاب بضرورة التصدي بالعنف للمجموعات المعارضة، فتحولت الجامعات إلى مقاصل للرأي الآخر، مثلما تحولت المساجد في الجامعات إلى مخازن للسيخ والسلاح الأبيض! إن شبابنا ليسوا هم الغزاة الجدد للخرطوم، أعداء الوطن والشعب، وإنما هم فعلا نصف الحاضر وكل المستقبل. ومن حقهم أن يدافعوا عن مستقبلهم ومستقبل أسرهم. وهم يدركون، بكل وعي وإخلاص، أن الوطن يحتاج إلى قيادة حكيمة تراعي تنوعه وتباينه، وتفجر مساحات الأمل والمستقبل ليرتادها شباب السودان، وليساهموا بسواعدهم الفتية وعقولهم النيرة، في بناء الوطن. ومثلما، لا مستقبل لنظام حكم يخشى الحريات، فأيضا لا مستقبل لنظام حكم يخاف الشباب ويقتلهم.
    أما الذين يتحدثون عن إنعدام الخبرة في الشباب وعدم قدرتهم على تسنم القيادة، فهذا حديث لا علاقة له بالواقع الجديد في الدنيا، واقع متغيرات العصر والثورة التكنولوجية الرقمية المتقدمة، الواقع الذي فجر إنقلابا معرفيا Paradigm Shift في كل الميادين، بما فيها دور الشباب…نحن الآن نتحاور في تطبيق مذهل، الفيسبوك، إخترعه شاب في العشرينات.
    (5)
    منظمات المجتمع المدني والتغير
    أعتقد أن الحزب الذي يتهم منظمات العمل الطوعي بأنها تؤخر قيام الثورة، هو حزب مصاب بمرض العمى السياسي. بإختصار، تتلخص وجهة نظري حول منظمات العمل الطوعي في الآتي:
    أولا: أتفق مع الطرح القائل بأن التنظيمات التطوعية، غير الحكومية، تملأ المجال العام بين الأفراد والدولة، وهدفها هو تقديم خدمات للمواطنين أو تحقيق مصالحهم أو ممارسة أنشطة إنسانية مختلفة، لصالح الوطن والمواطن. وهذه المنظمات تملك من القدرات والإمكانات ما يؤهلها للعمل المباشر والملموس وسط القواعد الإجتماعية (social grassroots). صحيح أن هذه المنظمات انتشرت وتضاعفت أعداده في الآونة الأخيرة، لكنها ليست نبت شيطاني، أو بضاعة مستوردة، بل لديها جذورها الراسخة في المجتمع السوداني، ممثلة في الجمعيات الخيرية، مبادرات تأسيس المدارس الأهلية، وغير ذلك من المنظمات الإجتماعية الأخرى.
    ثانيا: يمثل المجتمع المدني، ومن ضمنه منظمات العمل الطوعي، ضلعا رئيسيا وأساسيا في بلورة وصياغة رؤى التغير وأهدافه الإستراتيجية، وفي كل آليات ووسائل التغيير السلمية. وإذ تتعامل منظمات المجتمع المدني السودانیة مع واقع الصراع المدني والمسلح من مبدأ الالتزام إزاء القطاعات المدنیة التي تعاني مباشرةً، ومن منطلق الضلوع المباشر في بلورة الرؤى للخروج بالبلاد من دائرة الأزمة، فيصبح في مقدمة أولويات مهامها التقدم برؤیة موحدة واضحة تساهم في تحقيق اختراق لمعالجة جذور الأزمة السودانیة. وهي تساهم بهذه الرؤية من موقعها المستقل، وبوصفها ضلعا أساسيا ورئيسيا، وليس مجرد تابع لأي طرف من الأطراف، كما أن مساهماتها لا تأتي بديلا لمساهمات الأطراف الأخرى، وإنما مكملة لها.
    ثالثا: ومن هنا، تشكل العلاقة التكاملية بين الحركة السياسية السودانية والمنظمات السودانية الطوعية غير الحكومية، بعدا هاما في السودان لا يمكن تجاوزه. فهذه المنظمات، وبحكم إنخراطها المباشر في النضال ضد البطالة والفقر ومن أجل حقوق الانسان ورفع الوعي والقدرات وحقوق المرأة…الخ، تساهم، بشكل أو بآخر، في التغيير الاجتماعي، وتحتل مساحة معتبرة في مفهوم التقدم وعملية إعادة بناء الوطن، مما يتطلب شكلا من اشكال الصلة المتنوعة بينها وبين الأحزاب وسائر مكونات الحركة السياسية السودانية.
    رابعا: واقع الأزمة الخانقة في البلاد حفر بصماته عميقا في المنظمات المدنية وفي وعي النشطاء العاملين فيها، وذلك من حيث تأثر هولاء العاملين وأسرهم، كمواطنين سودانيين ومثل كل المواطنين الآخرين، بالوضع المزري والمأساوي القابع بمخالبه على الوطن، ومن حيث المعوقات العديدة التي تفرضها السلطات على نشاط المنظمات حد مصادرتها وتعرض العاملين فيها للقمع، إعتقالا وتعذيبا. ومن هنا، وفي ارتباط مع ما تم ذكره أعلاه، كان لابد أن ينتقل نشاط ومجال عمل هذه المنظمات من جانبه التقليدي، أي التوعية والمناصرة وبناء القدرات…الخ (awareness, advocacy and capacity building…etc.)، إلى مجال أكثر ملامسة للنشاط السياسي المدني، من حيث المساهمة في مقاومة آلة القمع والحرب، والمساهمة في تقديم الرؤى للخروج من الأزمة، وكذلك المساهمة في رفع قدرات الحراك السياسي وقدرات تنظيماته.
    خامسا: هذا الإنتقال في طبيعة عمل منظمات المجتمع المدني، من جانبه التقليدي إلى الجانب الأكثر إقترابا من النشاط السياسي، هو عملية بعيدة عن أي رغبات أو شطحات ذاتية وسط هذه المنظمات ونشطائها. وهي عمليه موضوعيه، لها مقدماتها الكامنة في نشاط هذه المنظمات المتعلق بنشر الوعي وحماية حقوق الانسان ومقاومة الحرب ومحاربة الفساد…الخ، كما فرضها تطور الواقع الموضوعي في البلاد.
    سادسا: ملامسة منظمات المجتمع المدني للنشاط السياسي ليس بدعة، سواء على الصعيد المحلي أو إقليميا ودوليا. فكلنا لن ننسى دور منظمات المجتمع المدني في حملات رفض الحرب والمناداة بالسلام ومقاومة الرعب النووي، وحماية الأقليات…الخ، إضافة إلى مساهمتها في عمليات التغيير التي تمت في العديد من البلدان مثل بولندا وغانا ومصر، ومؤخرا تونس التي لعب فيها المجتمع المدني دورا محوريا ومفصليا في نزع فتيل الأزمة بعد ثورة الشعب التونسي. أعتقد أن تجربة تونس وكذلك تجربة “نداء السودان”، أكدتا قدرة منظمات المجتمع المدنى على ردم الهوة بين فرقاء السياسة وجمعهم حول الثوابت الوطنية، إذا ما توفرت لها فرص المشاركة، وفي بيئة تكفل حرية العمل والتفاعل مع مكونات المجتمع المختلفة دون حجر أو استثتاء. بل إن بعض منظمات المجتمع المدني فرض عليها واقع بلدانها أن تتحول إلى النشاط السياسي المباشر، مثل نقابة التضامن في بولندا التي قادت عملية التغيير وأصبح زعيمها رئيسا للجمهورية، ومنظمات الخضر في اوربا والتي تحولت إلى احزاب سياسية وشاركت في الحكم. وفي السودان كانت منظمات المجتمع المدني دائما موجودة، وبفعالية، سواء إبان معارك الإستقلال، أو عبر دورها الحاسم في ثورة أكتوبر 1964 وإنتفاضة أبريل 1985، ودورها الراهن والفعال في الدفاع عن حقوق الإنسان ومقاومة القمع والنضال ضد الحرب، إضافة إلى أنشتطها الإجتماعية ذات البعد السياسي، كما في حملات محو الأمية، أنشطتها وسط مزارعي الجزيرة وسط الشباب والنساء، دورها الملموس في مناطق الحرب..الخ.
    سابعا: وبالنظر إلى حالة توازن الضعف المتمكن من الحراك السياسي، حكومة ومعارضة، وأيضا بالنظر إلى غياب التنظيمات والإتحادات النقابية التي دمرت إستقلالها الحكومة وألحقتها قسرا كتابع للجهاز الحكومي، فإن منظمات المجتمع المدني السودانية، الحرة والمستقلة، ستظل تلعب دورا مباشرا وملموسا في تنشيط الحراك السياسي والدفع به نحو التغيير.
    (6)
    المجتمع الدولي والتغيير
    بالنسبة لدور المجتمع الدولي، فإن قناعتي الخاصة تتلخص في التالي: اولا: لا يمكن حل قضية شعب من خارجه وبالإنابة عنه. فالمجتمع الدولي قد يساعد في الحل، ولكنه أيضا قد يعيق هذا الحل. وأعتقد أن معظم الحلول التي ظل يقدمها المجتمع الدولي تركز على قضية إقتسام السلطة فقط، بعيدا عن المطالب الأصيلة والأساسية لأصحاب المصلحة الحقيقية من سكان الهامش والفقراء والشرائح الدنيا في المدينة والريف، والذين في الغالب لا يجدون سبيلا للمشاركة في الورش والمؤتمرات والسمنارات التي ينظمها المجتمع الدولي لصياغة سيناريوهات التغيير. لذلك، فإن الحلول التي يطرحها المجتمع الدولي دائما ما تكون جزئية وليس شاملة، مسكنة ومؤقتة وليس مستدامة، وهشة سريعة الإنهيار. لكن، وفي ذات الوقت، فإن حديثي هذا لا يحمل مثقال ذرة من الإستخفاف أو الإستنكار لأنشطة المجتمع الدولي هذه. ثانيا: لسنا بصدد إكتشاف مذهل إذا قلنا أن المجتمع الدولي يضع نصب عينيه أهدافه العامة ومصالحه الخاصة وهو يرعى التفاوض بين الأطراف المصطرعة، في السودان، أو في غيره من بلدان العالم. فهذا أمر طبيعي ومفهوم تماما في سياق لعبة المصالح، وفي سياق أن تلعب مكونات المجتمع الدولي لصالح مصالحها العليا أو الدنيا. أما من جانبنا، فأعتقد من الطبيعي أيضا تفهم أن الدافع الرئيس لحراك المجتمع الدولي يمكن أن يكون مصالحه الخاصة. لذلك، وبكل وضوح وبدون لف ودوران، نقول: لا إعتراض لدينا على ذلك ما دامت هذه المصالح لا تتم على حساب مصالحنا الوطنية. لكن، مساءلة مصالحهم ومصالحنا هذه، ليست بالمعادلة البسيطة والسهلة. وإنما هي معادلة صعبة يحتاج التعامل معها إلى قيادات وطنية حصيفة تعرف كيف تضع حدا بين مصالحهم والتغول على مصالحنا، وكيف تتمترس في الدفاع عن مصالح الوطن، دون أي إنحناءة أمام هجمة اليانكي.
    (7)
    حوار جاد أم عبثي؟
    هل يمكن أن ينطلق حوار جاد في البلد يفضي إلى تفاوض جاد بين سلطة المؤتمر الوطني ومعارضيها؟ سؤال يحتمل إجابتين، لكل منهما أنصارها ومنظروها ومدافعوها، بل ومتشنجوها. لكن، تظل الحقيقة القاطعة الواضحة دون لبس أو غموض: الوطن لم يعد يحتمل سوى إجابة واحدة! لكن، مالمقصود بالحوار الجاد؟ ونود التأكيد هنا على أننا، بهذا السؤال وإجاباته ومناقشاته، لا نسعى إلى نصب شباكات الثرثرة الأكاديمية، أو الغرق في مستنقعات السفسطة السياسية. فكل حرف نكتبه حول الحوار، ندعي أن له ذاكرة تختزن السؤال الرئيس: كيف نوقف إنهيار هذا البلد؟
    – عندما تبتدر السلطة والمعارضة حوارا لا يضع في الحسبان الحوارات والمفاوضات السابقة، والكثيرة، بينهما، فإن عدم الجدية تطل برأسها. لماذا فشلت المفاوضات السابقة، أو لماذا نجحت على الورق وفشلت على أرض الواقع؟ ونحن هنا لا نقصد أن يطرح هذا السؤال على طاولة التفاوض، وإن كان هذا مطلوبا وحضاريا، ولكنا نقصد بحثه أولا داخل ضمير الحزب المحاور أو المفاوض: لماذا أحاور وأفاوض الآخر، نفس الآخر، ولعدة مرات، دون حل للأزمة موضوع التفاوض؟ طرح هذا السؤال على الضمير الحي، أكرر الحي، سيحدث تغييرا إيجابيا في أي حوار جديد.
    – عندما تكون الإستراتيجية المهيمنة على الحوار هي كيفية إقتسام كراسي الحكم، فهذا حوار غير جاد.
    – عندما يشرع الحزب الحاكم في الحوار وفق رؤية إستراتيجية لا ترى في الحوار سوى بداية مرحلة جديدة لمشروعه الخاص، مشروع التمكين وبناء دولته، لا دولة الوطن، فهذا حوار غير جاد وغير حقيقي.
    – عندما يجلس الطرفان للحوار وذهن أي منهما يرفض تماما مبدأ التنازل، أو أن فكرة أحدهما هي إبتلاع الآخر، فهذا حوار غير جاد.
    – عندما تستخدم السلطة، كطرف محاور، سلاح الترغيب والتهديد تجاه الطرف الآخر، أو التلاعب في
    المخرجات، فهذا حوار غير جاد.
    – عندما تتحاور وتتفق السلطة مع واجهات وأسماء، إما هي أصلا ضعيفة أو السلطة هي التي صنعتها وربتها، فهذا حوار غير جاد أو هو حوار مع الذات، مجرد “مونولوج”.
    – عندما لا تتحدث السلطة بصوت واحد، وبعض دوائرها لا ترى ما تراه الدوائر الأخرى، أو عندما لا تبرز من داخل السلطة كتلة قوية ونافذة تؤمن حقا بالحل السياسي التفاوضي، فإن الحوار سيكون غير جاد.
    – وعندما لا تتوحد المعارضة ولا تتبنى موقفا تفاوضيا موحدا، سيكون الحوار غير جاد.
    – وعندما لايشمل الحوار كل القوى، وإنما بعضها، فهذا حوار غير جاد
    ومن وجهة نظرنا، ونحن هنا لا نعيد إكتشاف العجلة، وإنما نتبنى ما هو متعارف عليه في كل الدنيا، فإن الحوار الجاد، هو الذي:
    – يشارك فيه الكل.
    – يلتئم في أجواء الحرية والديمقراطية دون أي قوانين أو ممارسات تحد من ذلك.
    – ينبع جدول أعماله من القضايا المصيرية، قضايا الأزمة، وبإتفاق أطراف الحوار.
    – سيفضي إلى وضع إنتقالي يصفي القديم ويؤسس للجديد برضى كل الأطراف.
    – يكون في صدر أولوياته وقف الحرب وتبني موقف إعادة بناء الدولة والحفاظ عليها موحدة ﻋﻠﻰ ﺃساس العدالة والمساواة في المواطنة.
    – يقر مبدأ المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب وتحقيق رفع الظلم ورد الحقوق.
    – يرسي الأسس، التي سيجري تفصيلها لاحقا خلال الفترة الإنتقالية، لتحقيق التنمية المتوازنة والإقتسام العادل للسلطة والثروة، ليس بين النخب والقوى أطراف التفاوض، وإنما بين المكونات الإجتماعية والتكوينات القومية في البلد.
    – يلتزم الشفافية، ولا يدور في الظلام، بل ينطلق تحت أشعة ضوء عيون الشعب، مسجلا قطيعة تامة مع تاكتيكات المناورة والألاعيب والحيل بهدف الحفاظ على المكتسب “غير الحلال”.
    والآن هل يمكننا إعمال هذه المعايير لنرى إن كان ما يدور حوارا عبثيا أم وطنيا حقيقيا؟
    (8)
    التغيير :
    أعتقد أن الشعب يريد التغيير، ولكنه لايريده على الطريقة السورية أو الليبية… الشعب، وشخصيا أنا معه، يريد تغييرا سلميا، وقبل ذلك يريد وقف الحرب الأهلية الدائرة في البلاد.ومسألة بقاء حال السودان على ما هو عليه، والرضا بالترقيع غير وارد، لأن البلد تشهد أزمة خانقة ومستفحلة جعلتنا جميعا، البلد ونحن، على حافة الإنهيار الذي بدأ فعلا، ولا يحتاج مني إلى تعداد مظاهرة لأنها ملموسة، بل وما اجتمع إثنان وإلا كان ثالثهما السؤال حول البلد دي ماشة لي وين؟!
    حسب تقديري الخاص، في الفترة الماضية برز خلط واضح في خطاب المعارضة بين أهداف التغيير ووسائله، حيث أن بعض القوى تعبر عنهما، وكأنهما كتلة واحدة، في حين هما ليس كذلك، رغم إرتباطهما الوثيق جدليا.هذا الخلط، كثيرا ما يوقعنا في مصيدة الإلتباس مما يسبب صراعات جانبية لا طائل منها، ولا تنتج إلا إهدارا للجهد والطاقات وإضاعة للوقت، ونسف الوحدة وهذا هو الأهم. كلنا يتذكر المماحكات الطويلة بين قوى المعارضة، خاصة في تحالف قوى الإجماع، حول إسقاط النظام أم تغييره..! في حين من يتحدث عن إسقاط النظام لا يتحدث عن وسيلة بل عن هدف، بالطبع هو في حد ذاته وسيلة لتحقيق غاية أوسع وأكثر عمقا. أما الوسيلة فهي كيف نحقق وننجز عملية الإسقاط هذه. وعندما نتحدث عن التغيير الشامل فنحن نتحدث عن هدف وغاية، أما الوسيلة فهي كيفية إنجاز هذا التغيير. ومن زاوية أخرى، أعتقد أن التباين في التعامل مع المصطلح أو المفهوم السياسي، ينبع من حقيقة أن المصطلحات السياسية، عادة تخرج من رحم الإستراتيجيات التي يهدف إليها الناشطون في المجال المحدد، وترتبط بالتاكتيكات التي يتبعونها، وهو يتلون بالأدبيات المطروحة التي تغذي شعارات المرحلة، وتكون مصبوغة بصبغتها الآيديولوجية. مثلا، مصطلح أو مفهوم تغيير النظام بالنسبة لي يعني عملية مركبة تبدأ بإسقاط النظام كمدخل لإرساء بديل مغاير له، في حين هي، عند البعض، مجرد إجراء إصلاحات في النظام، وعند آخرين، المشاركة في النظام من أجل تغييره…وهكذا. ومن زاوية أخرى، نحن عندما نتحدث عن وسائل أو آليات التغيير، لا نتحدث عن مجرد عملية فنية وتقنية، وإنما نتحدث عن قضية سياسية وفكرية من الدرجة الأولى، تتضمن عددا من المفاهيم المستخلصة من التجارب الملموسة. وبالنسبة للحراك السياسي في السودان، هذه المفاهيم تشمل الإضراب السياسي والانتفاضة والعصيان المدني، والإنتفاضة المحمية، والعمل المسلح، والحصار الدبلوماسي والحل السلمي التفاوضي. أما أي الوسائل هي الانجع فهذه مناقشة مختلفة.
    هل سقط خيار الإنتفاضة في السودان؟
    النظرة الموضوعية، بعيدا عن حالات الإحباط المؤقت، لا يمكن أن تسقط خيار الإنتفاضة، مهما بدا على السطح من ركود الحركة وعدم تجاوبها العام مع هذه التظاهرة أو ذاك الحراك الجماهيري. وأعتقد أن عددا من العوامل هي وراء حالات الإحباط واليأس الذاتي التي تصيب البعض، أهمها: –
    1- الإصرار على تفكير بعينه حول التغيير، راسخ في أذهان العديد من القيادات، يفترض أن الانتفاضة والعصيان المدني سيتجسدان بنفس طريقة أكتوبر 1964 وأبريل 1985، فيصطدم هذا التفكير بحقيقة أن القوة الضاربة المنظمة التي حسمت معارك أكتوبر وأبريل، وفي مقدمتها النقابات والإتحادات المهنية والطلابية، هي اليوم إما غير موجودة أو ليست بتلك القوة التي كانت تتمتع بها آنذاك.
    2- عامل القمع غير المسبوق الذي يجابه به النظام التحركات السلمية، فاتكا بحياة المئات من الشباب والصبية، وفق خطة محكمة، (الخطة ب أو plan B)!!، كما حدث إبان مظاهرات سبتمبر 2013، وتأكيد إستعداده، أي النظام، على إستخدام مليشياته في ردع أي تحرك، جماهيري سلمي، بقوة الرصاص الحي مهما كانت شعارات هذا التحرك. وهو ما نشهده بالفعل في كل التحركات، حتى المطلبية منها مثل الإحتجات المتعلقة بغياب الخدمات أو ضد سلب ملكية الأراضي.
    3- لكن، من أهم العوامل المحبطة، في تقديري، غياب المركز المعارض الموحد والملهم، الذي يعي الواقع ويستلهم الدروس من تجاربنا وتجارب الآخرين، فيبدع مداخلا جديدة لحراك التغيير، ويخطط، ومن ثم يقود.
    صحيح أن واقعنا الراهن يعج بالكثير من المؤشرات السالبة. فالحزب الحاكم يمسك منفردا، وبقوة على كل المفاصل في السياسة والإقتصاد والمجتمع، مخلفا كبت الحريات، وإحتكار وسائل الإعلام والتعبير، ومحاولة التحكم في الانشطة الاجتماعية والثقافية والرياضية، وحتى في حياة الناس الخاصة…، سيطرة قلة من خلصائه على الأموال وحركة السوق، التدهور التنموي والخدمي، العطالة والإنهيار القيمي، هجرة الأدمغة وسواعد البناء…الخ. لكن، إذا أمعنا النظر في كل هذه المؤشرات السالبة، سنجدها في ذات الوقت هي أيضا مؤشرات وبواعث الحراك نحو التغيير. فقط، علينا إدراك عدد من الحقائق، لا حول الواقع المعاش ومؤشراته فحسب، بل وحول تاكتيكاتنا للتعامل معه.
    انظر مثلا، إلى واقع إنتقال قطاعات الشعب السوداني من مرحلة الاحتجاج الصامت إلى مرحلة إنتزاع الحق عبر الفعل الايجابي، المحدد والمنضبط، دون خوف أو وجل. وإذا إستذكرنا دروس التاريخ جيدا، سنجد هكذا تبدأ الثورات. فإذا كانت الجماهير الساخطة والمحتجة طلبا لماء الشرب أو الكهرباء أو حقها في الأرض أو العلاج أو الخبز أو مزيدا من الامان لأطفالها في طرق المرور السريع…الخ، إذا كانت هذه الجماهير، في هذه المرحلة من حراكها، تصر وتطالب بحضور المسئول أمامها ليستمع إلى مطالبها، فإنها، في المرحلة التالية، ومع إستمرار الغبن والعسف، ستطلب منه أن يرحل. إن هذا النوع من الاحتجاجات، في ظل حالة التآكل والانحلال التي تعيشها بنية نظام الإنقاذ، ومهما بدت وكأن هذه الإحتجاجات تبتعد عن السياسة، ستصطدم بالسياسة عاجلا، فارضة نفسها في قمة تاكتيكات العمل السياسي الهادفة لإنقاذ البلاد وحمايتها من السقوط في الهاوية.
    إن الوقائع اليومية في السودان تقول إن الشعب ليس في حالة يأس وإستسلام، بقدر ما هو في حالة غليان داخلي يتصاعد بالتدريج، وهو في حالته الراهنة، تمكن من تحقيق العديد من النجاحات. مثلا، إذا كان سقف مطالب أبناء الهامش في أزمان سابقة يتمثل في أن يكون الحاكم أو الوالي من أبناء المنطقة، وأن يتفضل المركز ببعض التحسينات والإصلاح في الخدمات المحلية، فإن سقف مطالبهم اليوم إرتفع لمناقشة إشتراكهم في حكم البلاد، وليس منطقتهم فقط، ومناقشة الاقتسام العادل للموارد والثروة. وهذا السقف الجديد، والعادل في نفس الوقت، ما كان من الممكن الوصول إليه لولا نضالات وتضحيات أبناء الهامش. وفي مناطق السدود، فرض أهل المنطقة أن يتم التفاوض مباشرة بينهم والحكومة، وذلك على أساس ما من قوة في الأرض يمكن أن تفرض قيام السد في منطقتهم دون موافقة جماهير المنطقة المتأثرة بالسد. وفي الخرطوم، ورغم ما ظل يواجهه الشباب من قمع لاحدود له، ورغم تجربة سبتمبر الدموية، فإن هولاء الشباب لا يتورعون عن معاودة الاحتشاد في وقفة احتجاجية لدعم هذه القضية أو تلك، حتى ولو كانت قضية تجفيف المستشفيات المركزية، أو قضية مصادرة المراكز الثقافية، أو حضور محاكمات قادة المعارضة. وهنا، لا يهمني أن يكون عدد الواقفين أكثر من ألف شخص أو أقل من عشرة أشخاص. فالمهم أن هناك جذوة متقدة ضد الظلم، والمهم هناك من يقف ويتصدى للدفاع عن قضايا الشعب بجسارة، والمهم إدراك أن الوصول بأي قضية إلى نهاياتها المنطقية، لن يتأتى من الضربة الأولى، وأنه رغم الهزائم والعثرات، سيتحقق فرض إرادة الشعب على الحكام. وهكذا، سيظل التحدي الرئيسي هو كيفية تفجير طاقات الحراك الجماهيري إنطلاقا من المعارك المطلبية الملموسة، لتطوير هذه المعارك وهذا الحراك، في خط تصاعدي يؤدي إلى تغيير ميزان القوى لصالح التحول الديمقراطي. وإذا كانت سلطة الانقاذ تعمل بكل وسعها على الإستفادة من تناقضات الواقع السياسي في البلاد، بما في ذلك محاولتها لإتقان لعبة الحرب والسلام، فعلينا نحن، في الضفة المقابلة، إتقان لعبة تعدد أوجه وأشكال المقاومة، بحيث نتجنب رمي كل جهودنا تجاه مسار واحد. لأنه في حالة عدم بلوغ هذا المسار غايات النجاح المرجوة، سنصاب بحالة الإحباط واليأس المضاعف.الشعب المصري، حجبت عنه، ولأكثر من أربعين عاما، إمكانية التغيير عبر المنافسة النزيهة الشريفة الشفافة في الانتخابات، فأصابه اليأس من هذه الإمكانية لكن لم يصبه اليأس من إمكانية التغيير حتى حققه وإنتصر له بإسلوب آخر. وفي نيكاراجوا، ذلك البلد الصغير في أمريكا الوسطى، كانت البلاد ترزح تحت نير حكم شمولي مطلق على رأسه الديكتاتور الدموي إنستازيو سوموزوا، ظل يذيق شعبه الويل والأمرين. وكانت الجماهير المسحوقة تسعى لإختراق جدار الشمولية عبر عدة محاولات، في حركة صعود وهبوط، حتى تمكنت من تنظيم تحالف جبهوي واسع بإسم جبهة ثوار الساندينستا. وخاضت جبهة الساندنيستا نضالا طويلا، سياسيا وعسكريا، حتى تمكنت من دحر الديكتاتورية ودخول عاصمة البلاد، ماناجوا في 19 يوليو 1979. وخرجت جموع الشعب النيكاراجوي معبرة عن فرحتها بإنتصار الثورة. لكن بعد أقل من عامين من إنتصار الثورة، إندلعت حرب أهلية في البلاد عندما شنت مجموعات الكونترا، أي تحالف فلول النظام القديم والمجموعات المتضررة من سياسات نظام الساندنيستا، مدعومة بقوة من الولايات المتحدة الأمركية التي قالت آنذاك أنها لن تسمح بقيام كوبا جديدة في المنطقة، شنت حربا ضروس ضد نظام الساندنستا الجديد، ولم تتوقف الحرب إلا بعد مفاوضات مضنية كللت بإتفاق وقع بين الأطراف المتحاربة في أواخر الثمانينات. وبموجب ذلك الإتفاق، أجريت إنتخابات حرة حقيقية في فبراير 1990، وخسرتها جبهة الساندنستا التي كانت في الحكم! لم يرفض الساندنستا نتيجة الانتخابات، ولم يقولوا نحن الذين دحرنا الديكتاتورية وقدنا ثورة الشعب حتى الانتصار وبذلك نحن الأحق بالحكم، ولم يعودوا إلى حرب العصابات، بل إستمروا في المعارضة ومراجعة نهجهم عندما كانوا في الحكم، وظلوا ينظمون الجماهير الشعبية، ويخوضون الانتخابات التالية، ويخسرون!! إلى أن جاء العام 2006 حيث إنتخبهم الشعب وتبوأ قائد الجبهة، دانيال أورتيقا، منصب رئيس الجمهورية.أريد أن أخلص لثلاث نقاط اساسيه:
    النقطة الأولى: من الضروري النظر إلى عمليات الإسقاط، التغيير، الحل التفاوضي، بإعتبارها كلها محاولات لصنع نصر يفتح بوابة عبور لإعادة بناء الدولة السودانية. ومحاولة وضع جدار عازلة بين كل عملية وأخرى يبعدنا أكثر من النصر، او يجعل النصر أمنية مستحيلة.
    النقطة الثانية: النظر الي المعارضة باعتبارها جهة خارج الشعب ومسؤولة عن إعلان بشارة، أراها نظرة غير منصفة. الواقع أن المعارضة في حركتها تحتاج لتوسيع دائرة قواعدها، وحينها لا يكون هناك حاجة للتبشير. فعدد كبير من الناس منخرط في مهام بهدف أحداث نصر لصالح وقف الحرب وبسط الحريات وإستعادة الحياة الكريمة.
    النقطة الثالثة: صحيح أن سنوات الظلام والدمارالتي نعيشها منذ 30 يونيو 1989، نالت من جسد الوطن وجسد الشعب، ورغم ذلك لم تنال من روحيهما. وهي أيضا نالت من النظام الذي اصبح الآن مكشوفا تماما. والإختبار الحقيقي للقوى السياسية والحراك الجماهيري، هو كيف نتعامل مع هذا الواقع وكيف نجابه خطط الانقاذ للبقاء والسيطرة، ونحدث التغيير.
    السؤال الرئيس هو: كيف يمكن إحداث التغيير؟…
    أولا: التغير لا نقصد به مجرد إسقاط النظام، وإنما الإسقاط وإرساء البديل الذي يمنع العودة إلى مربع الأزمة. لذلك، فالتغيير لن يتحقق بضربة واحدة، ضربة لازب، أو الضربة القاضية الفنية، وإنما سيتحقق عبر تنفيذ وإنجاز سلسلة من العمليات المركبة، متعددة الحلقات والمراحل (process). وهذه السلسلة، تتحكم فيها مجموعة من العوامل، أهمها ميزان القوى في الصراع السياسي الإجتماعي، وعامل آليات التغيير وكيفية تحقيق البديل.
    ثانيا: آلية التغيير هي المحدد الرئيسي لشكل ومحتوي البديل، فناتج التغيير عبر الإنتفاضة الشعبية، مثلا، سيكون مختلفا، وإلى حد كبير عن ناتج التغيير عبر ألية الحوار والتفاوض. والأمر صحيح بالنسبة للبديل الناتج عبر آليات التغيير العسكرية والعنيفة.
    ثالثا: السير في درب هذه الآلية أو تلك، لا يخضع للرغبات الذاتية أو لحالة سيطرة حماس الشعارات، وإنما تحدده الظروف الموضوعية في اللحظة المعينة، كما تحدده مناهج وأساليب تعامل الآخر وشحنتها القمعية، إضافة إلى العوامل الذاتية المتعلقة بموازين القوة وبالقدرة والإمكانيات، وأهم من ذلك كله، قناعة الجماهير في السير معك على هذا الدرب، وثقتها في أنك تقودها في الطريق الصحيح وعبر الآلية السليمة، وأن هذه الآلية ستحقق رغباتها وطموحاتها، دون أي توهم بأن كل هذه الطموحات ستتحقق ضحى الغد، ولكنها، ترى أن هذه الآلية تسير بثبات نحو تحقيق هذه الغاية.
    رابعا: الموائمة بين التكلفة والنتائج، وما إذا كان من الممكن الوصول إلى ذات النتيجة بأي من الآليات المطروحة. ولعل هذه النقطة هي من العوامل الأساسية المحددة لتبني آليات التغيير السلمية، إذ لا معنى لتغيير تكون نتيجته هدم المعبد على رؤؤس الجميع، وحصاده الأشلاء والأنقاض.
    خامسا: آليات التغيير المختلفة، إنتفاضية أو تفاوضية أو عسكرية، يمكن أن تتكامل وتتداخل فيما بينها، بحيث تمهد إحداها لحدوث الأخرى. فمثلا، من الممكن أن يفضي ناتج آلية التفاوض إلى تمهيد الطريق لآلية الإنتفاضة، وفي معظم الحالات تنتهي آلية التغيير العسكري بالتوافق على آلية التفاوض. ولعل المحك الأساسي هنا، هو إمتلاك القدرة، وقبل ذلك الخيال، لإغتنام الفرصة التاريخية لإختيار الآلية المناسبة في اللحظة المحددة، وكذلك القدرة والكفاءة في صنع التكامل بين هذه الآليات المختلفة، والتفنن في الإنتقال السلس من إحداها إلى الأخرى.
    سادسا: التغيير وتطور الثورة الاجتماعية في السودان، يرتبط بترسيخ مضامين الديمقراطية السياسية التعددية، وسيادة مفاهيم المجتمع المدني الديمقراطي. هذا التطور/التغيير لا يمكن أن ينجز بواسطة حزب واحد أو طبقة واحدة، بل هو يرتبط بالمشاركة الواسعة، بأوسع تحالف ممكن، بعدم إقصاء وإلغاء الآخر، وبتجذر ورسوخ مبدأ التداول السلمي الديمقراطي للسلطة.
    سابعا: لا يمكن أن يؤدي التغيير إلى كسر الحلقة الشريرة في السودان إلا إذا هز البناء السياسي والاجتماعي والاقتصادي في البلد، وأعاد تشكيله في ذات الوقت. بخلاف ذلك، سيظل التغيير مشوها وناقصا، ويحمل في طياته إمكانية الانتكاسة، وبالتالي سيفشل في كسر الحلقة الشريرة، بل سيجددها ويعيد دورانها. استكمال هذه العملية لن يتم بالرغبة الذاتية، وإنما عبر صراع إجتماعي طويل يفضي إلى إعادة اصطفاف القوى الإجتماعية المناط بها قيادة عملية التغيير. وهذا الإصطفاف يتم بالارتكاز على مجموعة من الأعمدة، تؤمن بها وتتبناها هذه القوى الإجتماعية. وعلى رأس هذه الأعمدة:
    1- ‌الطابع الجماهيري الواسع لعملية التغيير، أي الطابع الإنتفاضي، بعيدا عن الإنقلابات العسكرية وكل الأساليب والوسائل التآمرية، وبعيدا عن حصر المسألة في ردهات وأبراج الصفوة.
    2- التعددية بمفهومها الواسع والشامل، والتي تلبي وتستجيب لحقيقة الواقع السياسي والاجتماعي والعرقي والثقافي والديني.
    3- الديمقراطية الواسعة المرتبطة بواقع التعددية المشار إليه أعلاه، والتي تمارس وفق أرضية سودانية، لا أرضية وست منستر أو الغرب الليبرالي، والتي تلبي في الأساس الحاجات الرئيسية للمواطن، حاجات العيش الكريم بكل تفاصيله. فالدعوة إلى الديمقراطية بدون ربطها بتلبية وتوفير حاجات المواطن الأساسية، لقمة عيش وموية ومستشفى، هي مجرد ثرثرة مثقفاتية.
    4- لم يعد المركز وحده هو منصة إنطلاق حركة التغيير السياسي والإجتماعي في السودان. فنحن اليوم نشهد أيضا إنطلاق هذه الحركة، وبقوة، من الأطراف إلى المركز. أي أنها أصبحت تسير في اتجاهين. وهذا يعني أن تفجير التغيير الحقيقي في البلاد يتطلب، من ضمن متطاباته الأخرى، تمتين التحالف بين النشطاء من أجل التغيير في المركز والمدينة، والنشطاء في الأطراف ومناطق الهامش، الذين يناضلون من أجل حقوق مناطقهم وأهلهم في المشاركة العادلة في السلطة والتوزيع العادل للموارد والثروة، وذلك بهدف تفجير التغيير السياسي الاجتماعي للتصدي لعلاج المشكل السوداني ككل، حيث في إطار ذلك سيتم حل قضايا تلك الأطراف والمناطق التي عانت طويلا من التهميش والإهمال والظلم.
    5- في اللحظة المحددة الملموسة، فإن الشعار السليم ينبع من تعرجات الواقع الملموس، وليس من المفاهيم الآيديولوجية المجردة. وفي هذا السياق تأتي قضية التحالفات. فالتحالفات السياسية المفتقرة إلى القاعدة الاجتماعية، ستظل دائما هزيلة وقليلة القيمة ولا تستمر طويلاً. كما أن التحالفات لا تعني الخضوع لتاكتيكات هذا الفصيل أو ذاك، وإنما التوافق حول تاكتيكات مشتركة وهدف مشترك هو إنجاز التغيير.
    6- أهمية العلاقة التكاملية والصلة المتنوعة بين الحركة السياسية والمنظمات السودانية الطوعية غير الحكومية، والتي أضحت تشكل بعدا هاما في السودان، لا يمكن تجاوزه أو تجاهله. فهذه المنظمات، ومن خلال نضالها ضد البطالة والفقر ومن أجل حقوق الانسان ورفع الوعي والقدرات وحقوق المرأة…الخ تساهم بشكل أو بآخر في التغيير الاجتماعي، وبالتالي تحتل مساحة متقدمة في النضال من أجل كسر الحلقة الشريرة، كما فصنا سابقا.
    ثامنا: التغيير لا يعرف المستحيل…، هكذا يثبت التاريخ ويؤكد الحاضر. فمهما بلغت أنظمة الإستبداد من قوة البطش وإمكانية السيطرة على مفاتيح الحراك الشعبي، فإنها لن تمنع الإنفجار الذي هو الناتج الوحيد والحتمي للإنسداد. وهي أنظمة إذ ترتعب من شعوبها، وتتمزق داخليا بهذا الرعب، فإنها أعجز من أن تصمد أمام شعب كسر حاجز الخوف وأجمع على التغيير. بوابة التغيير ومدخله هو الإيمان المطلق بهذه الحقيقة، وذلك في مواجهة التخذيل والتيئيس وإفتراض الأفق المسدود ودعاوى المخارج الإنهزامية التي تعيد إنتاج الأزمة. هذا الإيمان المطلق ليس أعمى، وإنما تنير طريقه عدة قناديل، أهمها في نظري، رفض النمطية التي تعيش على إستدعاء تجارب الماضي، فتبحث عن كيفية تكرار ثورة اكتوبر 64 وإنتفاضة أبريل 85، في واقع يختلف عن واقع ستينات وثمانينات القرن الماضي، خاصة وأن من سيصنع التغيير الآتي ليس هو جيل أكتوبر أو أبريل. كسر صنم النمطية هذا سيفتح بوابات الخيال والإبتكار لإطلاق الشرارة التي ستوقظ الناس من سباتهم السياسي، ليختاروا الطريق الصحيح المفضي للتغيير، والذي يبدأ بطرح الشعارات الصحيحة في الوقت الصحيح، والتي تتجسد في مطالب ملموسة تنبع من الهموم اليومية للناس، وتلقى صدى واسعا في دواخلهم، وتتفجر بهم حراكا ملهما.
    تاسعا: في عالم اليوم نشهد طفرة هائلة في إنضاج العامل الذاتي للتغيير. فالثورة التقنية الحديثة، ثورة الإتصال والمعلومات، بقدر ما كسرت إحتكار أنظمة الإستبداد للمعلومة وقلصت قدرتها على المراقبة والتجسس والإختراق وشل الحركة بالإعتقال، بقدر ما كسرت أيضا العقلية النخبوية البيروقراطية للعمل المعارض، وخلقت مساحات وميادين ومنظمات إفتراضية لتوسيع أفاق العمل السياسي نحو أوسع صيغة من المشاركة والتفاعل، يمكن ترجمتها على أرض الواقع إلى قوة تغيير خارقة. ألم تلعب الثورة التقنية الحديثة دورا في إنتصار ثورات تونس ومصر أكبر بكثير من دور المؤسسات السياسية التقليدية؟. لكن أدوات ثورة الإتصال والمعلومات ستظل مجرد آلات صماء إذا لم تديرها عقول فعالة تحسن قراءة الواقع وتحولاته، وتترجم معطياته إلى مبادرات مبتكرة في كل المجالات السياسية والإقتصادية والثقافية والإجتماعية.
    عاشرا:المتغيرات على أرض الواقع تفرض، وبالفعل فرضت كما حدث في نموذج ثورات تونس ومصر وليبيا واليمن…، مجموعة من النقلات والإنتقالات، منها: الإنتقال من فكرة إنتظار الزعيم الكاريزما والبطل المنقذ، إلى فكرة القيادي والرئيس المسؤول وسط قيادة جماعية تتساوى في الواجبات والحقوق. والإنتقال من فكرة المناضل بالفهم القديم، الذي يحترف ويحتكر النضال، إلى فكرة الناشط الميداني، والذي هو ايضا مناضل ولكن بفهم حديث، إذ هو فرد يملك إستقلاليته ويفجر حيويته، مساهما في الميدان، مسؤولا ومشاركا، يبادر ويتحرك، يناقش وينتقد، يقترح وينفذ، يؤثر ويتأثر، زاده ووقوده هو الخلق والإبداع والإبتكار على نحو بناء لمنجزات العولمة والثورة التكنولوجية. والإنتقال من المنظومة الآيديولوجية المغلقة الصماء إلى رحاب الفضاء المفتوح للتداول والتفاعل، بحيث الجميع يتغير ويسهم في تغيير الآخر، وبحيث أن ثورة التغيير لم تعد ثورة الطلائع والتنظيمات المعلبة، بل هي ثورة الإنسان العادي الذي يدشن عهدا جديدا يتصرف فيه كمشارك في فعل التغيير، له كلمته ومساهمته ورأيه، بعد أن كان في الماضي مجرد متلقي في الحشد والندوات والليالي السياسية، يصفق ويهلل لبلاغة وخطابية الزعيم، بل وأحيانا يمارس طقوس التقديس والتعظيم لهذا الزعيم، القائد الملهم، ولمن يفكرون ويقررون بالإنابةعنه.
    صحيح أن السواد الأعظم من الشعب السوداني كره السياسة، لكنه كره السياسة بشكلها النمطي القديم والذي ظلت تمارسة أحزابنا، يسارا أو يمينا، وهو يبتدع فهما جديدا للسياسة عنوانه من الملموس نبدأ.
    إحدى عشر: صحيح أن نضوج البديل والإتفاق حوله سيسهم في إشعال شرارة التغيير، لكنه ليس شرطا، بدون توفره لن تشتعل الشرارة. فللتغيير ديناميكيته التي إما تفرز بدائلها الجديدة، أو تنفخ الروح في البدائل الموجودة. ودائما نتذكر، خرجت الملايين في تونس ومصر إلى الشوارع حتى سقط النظام دون أن يكون البديل جاهزا. وفي السودان، لم يكن البديل جاهزا، لا في إكتوبر ولا في أبريل، وأنتصرت الإنتفاضة. وأعتقد، مع إزدياد درجة تعقد وتشابك الواقع، وتسارع وتيرة تغيره مع متغيرات العصر العاصفة، فإن قضايا ومفاهيم البديل لم تعد تُفهم كما كانت تُفهم في الماضي، البعيد أو القريب، مما يتطلب تجديد الفكر والأفكار بإغناء العناوين القديمة، وفي ذات الوقت بإجتراح عناوين جديدة.
    إثنى عشر: نكرر مرة أخرى، التغيير الحقيقي والجذري يتفجر عند نقطة إلتقاء حركة المدينة مع حركة الهامش، ومن هنا أهمية التحالف المتين بين النشطاء من أجل التغيير في المدينة، في مناطق القوى الحديثة، والنشطاء في الأطراف ومناطق الهامش.
    ثالث عشر: وثورة التغيير هي ثورة سلمية بالكامل.
    رابع عشر: تاريخيا، كانت الحرب الأهلية في السودان عاملا مساعدا في سقوط وتغيير أنظمة الإستبداد، مثلما حدث في ثورة اكتوبر 1964 وإنتفاضة أبريل 1985. فمن جهة، تهلك الحرب النظام ذاتيا، ومن جهة أخرى يتعمق الشعور الوطني المعارض للحرب ليتجسد تعبئة شعبية ضد النظام. ورغم ذلك، نكرر ونؤكد رفضنا لأي إستنتاج يفترض ضرورة إستمرار الحرب حتى يحدث التغيير. ومن زاوية أخرى، يتجذر يوميا الوعي بضرورة مقاومة المشروع الأحادي المتناقض مع مهام تأسيس الوطن القائم على واقع التعدد والتنوع بكل ما تحمل الكلمتان من معان. وهذا الوعي المتجذر يشكل عاملا أساسيا وحاسما من عوامل التغيير.
    خامس عشر: عملية التغيير في السودان، لا تنحصر فقط في نوعية الوسيلة التي سيتم بها التغيير، بانتفاضة شعبية سلمية أو مسلحة، أوبالحوار والحل التفاوضي أو الوفاقي..الخ، وإنما تتمثل في محتوى التغيير نفسه ومحصلته النهائية التي ستنتج عنه، وما إذا كان سيتصدى للأزمة ويعالجها بما هو أعمق من سطحها السياسي. قولنا هذا لا يعني تجاهلنا لحقيقة أن محصلة التغيير ونتائجه ترتبط بالضرورة، وبهذا القدر أوذاك، بنوعية الوسيلة المستخدمة لتحقيقه. بالنسبة لنا، فإن النقطة المفتاحية والجوهرية في مسألة التغيير، هي طابعه الجماهيري الواسع، بإعتبار الجماهير هي حامل التغيير وزاده الدافع وضمان حقيقته وتحققه. ومن هنا رفضنا لآليات التآمر والانقلاب العسكري، مثلما نرفض صفقات التفاوض والحوار القائمة فقط على إقتسام كراسي السلطة، وتتجاهل القضايا الجوهرية المسببة للأزمة.
    سادس عشر: نحن مع آليات العمل السلمي الجماهيري. لكنا في نفس الوقت نقول بضرورة وموضوعية التكامل بين آليات التغيير المختلفة، وجدلية العلاقة بينها. بمعنى، من الصعب، بل ومن غير الممكن، مثلا طرح العلاقة بين العمل السلمي والعمل المسلح بطريقة “مع أو ضد”، أو “يا هذا يا ذاك”. فالقوى المصطرعة سياسيا، تسعى لحسم الصراع لصالحها، متبنية آليات عملها، في الغالب بحسب حدة الظلم والغبن الاجتماعي/الإثني، وبحسب الآلية التي يتبناها الآخرلمناهضتها، بما في ذلك آلية التجاهل المستمر وعدم الإعتراف. لذلك ليس غريبا أن يحمل أهل المناطق المهمشة السلاح، وأن يفترش أهل المناصير الأرض، ويلجأ ملاك الاراضي في الجزيرة للقضاء، ويتظاهر طلاب الجامعات. وأعتقد من الضروري ألا ننسى أن آلية العمل المسلح حققت اختراقا ملحوظا فى مسألة إعادة توزيع الثروة والسلطة في البلاد، رغم فداحة الثمن. ومن ناحية أخرى، ورغم ان آلية النضال المحددة تخضع لطبيعة الصراع فى المنطقة على أرض الواقع المعاش، فإن ردة الفعل الحكومى، عادة، لا تخضع لأى تقديرات. فهي عنيفة فى كل الاحوال، سواء تجاه الشهيد الطبيب علي فضل الذى ظل يقود نضالا سلميا حتى لحظة إستشهاده تحت التعذيب، أو الشهيد الطبيب خليل إبراهيم الذى كان يقود تمردا مسلحا حتى لحظة إستشهاده في الميدان. بالطبع، فى عالم السياسة، ليس بالضرورة أن 1+1 يساوي 2، لذلك، تابعنا حركات مسلحة تبطل آلية السلاح وتفعل آلية التفاوض لتدخل القصر الجمهوري، لتخرج منه بعد فترة مفعلة آلية السلاح المعارض مرة أخرى. وفي إعتقادي، إذا كان هناك فعل سياسي معارض حقيقي تحت مظلة أي آلية للتغيير، فإنه لن يصيب أي فعل آخر ينتج من آلية أخرى بالسكتة القلبية، بل من الممكن أن يدعمه ويفتح له فرصا جديدة. مثلا، أي تسوية سياسية يحدثها دعاة الاصلاحات، يمكن النظر إليها بإعتبارها خطوة جيدة في إتجاه خلخلة النظام. كما أننا لا نشكك في، أو نختلف على، جدوى أو أفضلية آلية الحوار والحل السياسي التفاوضي، ولكن، معيارنا هو ما ستفضي إليه هذه الآلية، ومدى إقترابه من الهدف الأساسي المتمثل في تفكيك النظام الشمولى ودولة الحزب الواحد لصالح دولة الوطن والمواطن. وهكذا، فإن التكامل بين آليات التغيير المختلفة، والذي قد يتم بترتيب أو بدونه، يستطيع أن ينعش ذاكرة الناس فتتعلق الاحلام اليومية من جديد بقيم الحرية والعدالة والمساواة والعيش الكريم، ويستطيع أن يدفع الناس إلى التحرك فى كل الإتجاهات، ليداهموا ما دنسته وخربته السلطة الشمولية، فيوسعونه نقدا وتعديلا، حتى تخرج المبادرة السياسية لتعلن عن إرادة شعبية قوية تشل حركة أي عائق للتعايش السلمى وللنماء والتقدم.
    سابع عشر:إن إبتكار آليات التغيير الحقيقي ليس وقفا على قوى بعينها، حركة أو حزب أو تيار، دونا عن الآخرين، مهما كانت ضخامة وإتساع القاعدة الجماهيرية لهذه القوى، ومهما بلغت من جسارة. ولما كان بناء دولة العدالة في المشاركة في السلطة وفي إقتسام الموارد، هو الهدف المشترك بين هذه الحركات والاحزاب والتيارات، فمن الطبيعي أن تتكامل أطروحاتها حول آليات التغيير حتى تنتج فعلا يخترق حاجز الإختلاف والتباين السطحي، ليعبر بنا الى فضاء فيه متسع وترحيب للجميع.
    ثامن عشر: الحراك الجماهيري ليس مجرد متلقي، أو سلعة تتنافس على شرائها الحكومة وقيادات المعارضة، وإنما هو الطرف الرئيس الذي يملك الحل الصحيح للمعادلة. فشعب السودان تخطى، ومنذ فترة طويلة، مرحلة أن يظل حبيس وعي الغناء للمطر حتى يهطل، والدق على الصفيح حتى تعدل الشمس عن كسوفها. الشعب أصبح واثقا من قدرته على فتح كل المنافذ، حتى يسود الوعي، مستخدما الشعار السليم والتحليل المنطقي، لرفع درجة الحساسية تجاه الآخر، وتجاه كل ما هو متعلق بالحرية والكرامة والحقوق، ومستنتجا الإجابات الصحيحة للأسئلة المثارة حول إستمرار الحرب الأهلية في البلاد ولماذا دائما تجهض إمكانيات إطفاء نيرانها، وهل الحوار والتفاوض سيقود إلى حلول جذرية أم سيكون مجرد قشرة تخفي تقيحا سيؤدي إلى تهلكة؟. أسئلة حول إدارة السياسة والإقتصاد، حول الفساد وضنك الغلابة، أسئلة عديدة يتخللها سؤال رئيس حول لماذا يصر قادة هذا الزمان على مقارعة شعوبهم ويرفضون التنحي الآمن؟. ولحظة أن يقرر الحسم وتغيير المشهد، سيفعلها الشعب السوداني، مثله مثل بقية الشعوب الأخرى، لن تعيقه أي من تلك الآليات، ولن يصيبه اليأس والإحباط من لحظة وصول ردة الفعل الجمعي التي تتوج الفعل السياسي وتعلن ميلاد إنتفاضة التغيير. وهي لحظة آتية لا ريب فيها، رغم أنه من غير الممكن، في كل الأحوال، تحديد تاريخ معين لميلادها.
    تاسع عشر: صحيح أن الحياة أصبحت لا تطاق تحت ظل نظام تحالف الفساد والإستبداد، وهذا الوضع في حد ذاته مدعاة للثورة عليه وتغييره. لكن، مسألة الثورة والتغيير هذه تتطلب توفر مجموعة من الشروط الأساسية والضرورية لدى فاعل التغيير وقواه، بمعنى لا يمكن إنجاز أي تغيير حقيقي، إلا عبر ثلاثية وحدة وتوحد قوى التغيير، وإمتلاكها للإرادة السياسية القوية، وتقديمها للقيادة الملهمة الموثوق بها لقيادة فعل التغيير. هذه الثلاثية، مجتمعة وليس مجزاءة، لا غنى عنها في التنظيم والتخطيط والتحريض والدعم والمساندة وصياغة التاكتيكات السياسية الملائمة، وكل ذلك وفق برنامج عمل ملموس يقدم دفعة قوية ومؤثرة لتفعيل آليات التغيير. وموضوع وحدة قوى التغيير لا يقصد به مجرد الإصطفاف التنظيمي البحت، وإنما التوحد حول عدد من القضايا الجوهرية المتعلقة بمسألتي التغيير والبديل، ومسألة تقديم القيادة الفاعلة الموثوق بها من قبل القواعد الجماهيرية.
    (9)
    نحو مشروع وطني نهضوي
    أعتقد أن المحددات التي يمكن الاسترشاد بها لبلورة موقف سياسي وطني يخرج بلادنا إلى بر الأمان، تبدأ وتنتهي عند ثلاثة نقاط محورية، هي:
    النقطة الأولى: إن الصراعات الدائرة اليوم في السودان، سواء ذلك الصراع الممتد على مساحة الوطن بين حكومة الإنقاذ ومعارضيها، أو الصراعات و”التمردات” التي تدو رحاها في هذا الإقليم أو ذاك، وما تفرزه من حروب أهلية في البلاد..، هي ليست مجرد صراعات حول السلطة بين المعارضة والحكومة ستنتهي بإسقاط النظام، كما لا يمكن حصرها في أنها معركة بين الحكومة المركزية والحركات المسلحة في الأطراف، مثلما لا يمكن توهم حلها بمجرد وقف القتال بين المتحاربين، أو بمجرد توقيع القوى المختلفة على ميثاق شامل، فضلا عن أنها لم تحسم ولم تنتهي بإنفصال الجنوب. هذه الصراعات، كلها، ترتبط، بهذا الشكل أو ذاك، بهذه الدرجة أو تلك، بمشكلة السودان ككل، بالأزمة العامة في السودان، بغياب المشروع القومي الذي يتصدي للمهام التأسيسية لبناء الدولة الوطنية الحديثة، والذي ظل غائبا منذ فجر الإستقلال وحتى اليوم. هذا هو جوهر الأزمة الوطنية في السودان.
    النقطة الثانية: هذا المشروع القومي هو خطاب، أو بوصلة، حراك الثورة الاجتماعية في السودان، أي التغيير المتوجه إلى كسر الحلقة الشريرة المستدامة في البلاد منذ فجر الإستقلال. وهو يرتبط بترسيخ مضامين الديمقراطية السياسية التعددية، وسيادة مفاهيم المجتمع المدني الديمقراطي.
    النقطة الثالثة: التغيير الحقيقي يعني التصدي لجوهر الأزمة الوطنية في السودان. هذا التصدي/التغيير لا يمكن أن ينجز بواسطة حزب واحد أو طبقة واحدة، أو وفق توجه آيديولوجي بعينه، بل هو يرتبط بالمشاركة الواسعة، بمساهمة الجميع، وفق مبدأ عدم إقصاء وإلغاء الآخر، ومبدأ المساومة والتنازل لصالح إعادة بناء الوطن.
    ومنطلقا من النقاط الثلاث هذه، أقول: لقد آن أوان مراجعة القناعات!.. فلقد ظلت النخب السودانية، ولأسباب سياسية واجتماعية وتاريخية وإقليمية…، تتخاصم وتتصارع حقبا طويلةمنذ فجر الإستقلال. لكنها الآن، ربما إقتنعت بان الوطن كله أصبح في مهب الريح، وان خطرا داهما يتهددها جميعا، وان التفكير السليم يقول بان ما يجمعها من مصالح، في الحد الأدنى الضروري للحياة، أقوى مما يفرقها، وأنه آن الأوان لكيما تلتقي بجدية واخلاص لصياغة واقع جديد في السودان.إن كل إثنيات وقبائل وثقافات السودان، تحتاج اليوم إلى بعضها البعض اقتصاديا وثقافيا وسياسيا، حتى يتحقق في السودان مستوى حياة متطابق مع المعايير والقيم الانسانية. وفي هذا مدعاة للتوافق بإمكانه تطوير النظام السياسي، بل وتطوير الديمقراطية السياسية نفسها فينتقل بها من المساواة الشكلية، أو اللفظية، في الحقوق والواجبات، إلى المساواة الفعلية في الواقع، حيث عند هذه النقطة فقط تتحقق العدالة. لذلك، ما نحتاجه اليوم قبل الغد، هو برنامج عمل، خارطة طريق، لصياغة مشروع وطني تجمع عليه القوى السودانية كافة، مشروع يضمن العدالة في توزيع السلطة وفي التنمية وفي اقتسام الثروة، مشروع يسعى لترسيخ هوية سودانية تجمع في تكامل بين الوحدة والتنوع وتتأسس على واقع تعدد وتنوع القوميات والثقافات في بلادنا، والذي يجب أن يكون مصدر خصب وثراء لهويتنا السودانية، لا سببا في صراعات دامية مريرة. فالسودان بهذا التنوع، هو مشروع “أراضي جديدة، دنيا جديدة” في إفريقيا، فلماذا نظل نرسل الإشارات الخاطئة في كل الاتجاهات؟.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de