هناك من يعتقد أن الشعر هو أن تكتب النص بالعودة كل مرة إلى السطر بعد كل جملة أو بعد كل كلمة، ويأخذون هذا معيارا للتفريق بين ما هو شعر وما هو نثر أو سرد. بحيث يصير الشعر هو المكتوب بطريقة عمودية متقطعة والنثر أو السرد هو المكتوب في فقرات. يا للبؤس. أحيانا أعتقد فعلا أني أعيش في مصحة عقلية هائلة وأني أنا هو أقدم مجنون فيها. حقا كم هو بئيس ومضن وسخيف البقاء منذ قرون عديدة واقفين بتصلب أمام هذه التصنيفات القطعية الفقيرة التي لا تعرف دائما إلا شيئين: نقيض ونقيضه، نعم ولا، حلال وحرام، شعر وليس شعرا. بينما الشعر في حقيقة الأمر (لا كما تعلموه عبر التلقين وعلموه لنا بل كما هو في جوهره الأصلي) روح حية وحرة وشاسعة يمكنها أن تسري في كل شيء عبر كل الأشكال التعبيرية وحتى الصامتة والتي تتجاوز الكتابة في مجملها إلى السينما والتشكيل والموسيقى والطبيعة ثم وأغنى من كل ذلك إلى الحياة اليومية بكل تفاصيلها التي بلا نهاية. كيف يمكنك الجلوس كمنظّر من القرون الوسطى لتحشر كل هذا في إطارين بحجم ثقبي منخاريك؟ لتقول أن هذا شعر وهذا ليس شعرا، وهذا يجب أن يكتب مشطرا بشكل عمودي على الصفحة وهذا يجب أن يكتب مفقرا في فقرات، وبعد ذلك تحك بطنك العنكبوتية وتتجشأ ما تعشيته من بيصارة؟ حين أتأمل هذا الأمر الذي مازل يتخبط فيه نقاقيد عرب أشعر برغبة في قذف نفسي من أسوار الأوداية وسأعتبر شهيدا وليس منتحرا. هذه الإمكانات الضيقة والمحدودة جدا في الشكل التي تمنحها الكتابة بقلم على ورقة والتي لا تتجاوز هذه الثنائية البئيسة تشطير أو تفقير، وما بينهما بياضات أو قفزات أو نقاط وعلامات تعجب وترقيم واستفهامات هي إمكانات بئيسة تعيق تطور الشعر خارج نظرتنا السطحية والشكلية أو الإيقاعية الصوتية الطربية إليها، بل الشعر لا تهمه في شيء، فهو كالماء يصل إلى كل شيء ويتسرب داخل كل شيء. إنها نظرة قاصرة جدا وتدل على سطحية شديدة وفقر معرفي وروحي وجمالي وفلسفي في فهم العالم والذات والآخر قبل فهم الشعر والأدب. أنا شاعر لأن روحي شاعرة، وحين أكتب فقرات لا يعني ذلك بالضرورة أنه سردا، كما حين أكتب أشطرا لا يعني ذلك بالضرورة أنها قصيدة كما يفهمها مدرسوا الكتاتيب والفقهاء. بل الشعر هو بخة العطر الصغيرة التي تسري هنا وهناك بين السطور كيفما كان شكلها، نشمها ونحسها داخل أرواحنا وننتشي بها عميقا دون أن نراها أو نستطيع إمساكها. أما ما تستطيعون رؤيته بنظّاراتكم التي تشبه عيون السراعيف فليس هو الشعر، بل هو بعر الإبل فقط. الشعر روح خجولة ذاوية غير مرئية، لكنها حية وقوية وحاضرة باستمرار حولنا وداخلنا، نحتاج فقط لبعض التنبه لاستقبالها اسقبالا داخليا صحيحا، وليس عبر التلقين والتكرار والكنانيش، إنها ليس هي هذه القصيدة أو تلك، أو هذه الرواية أو تلك، بل هي روح العالم. متى سينتهي هذا القرف؟ ألا ترون أننا نعاني من قرف السياسة والسياسيين لتضيفوا إلينا قرف الشعر؟ حلال حرام، أبض أسود، قصيدة نثر قصيدة بعر، مسلم كافر، جنة نار، واقع خيال، بوّال خرّاي. مشكلة كبيرة هذه، متى سنخرج من مأزق الثنائيات السخيفة والفقه في كل شيء؟ عدد أصناف الحيوانات والحشرات والطيور والنباتات وحدها يجعلنا نفكر بآلاف الاحتمالات الممكنة أمام الكتابة. لكن لا حياة الإدريسي ولا زهرة الباكورية ولا أم كلثوم ولا نبيلة عبيد لمن تنادي.
* العنوان من عندي.
02-25-2016, 08:18 AM
بله محمد الفاضل بله محمد الفاضل
تاريخ التسجيل: 11-27-2007
مجموع المشاركات: 8617
((الشعر في حقيقة الأمر (لا كما تعلموه عبر التلقين وعلموه لنا بل كما هو في جوهره الأصلي) روح حية وحرة وشاسعة يمكنها أن تسري في كل شيء عبر كل الأشكال التعبيرية وحتى الصامتة والتي تتجاوز الكتابة في مجملها إلى السينما والتشكيل والموسيقى والطبيعة ثم وأغنى من كل ذلك إلى الحياة اليومية بكل تفاصيلها التي بلا نهاية))
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
بله محمد الفاضل
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست