لا أدري إن كانت الحياة فعلا أهم من الموت؟ هناك شق كبير من العالم يؤمن بأن الحياة الثانية أهم بكثير من الحياة الأولى، وهذا يعني أن الموت هو الولادة الحقيقية للإنسان وليس العكس. وأن الحياة التي نعيشها الآن مجرّد جسر للحياة الأخرى التي لا نعرف عنها شيئا، سوى ما تهمس به الأديان في آذاننا بصيغ متشابهة، تُحَضّر المرء حسب أعماله للسّفر نحو حياة أبدية في الجنة أو في النّار. يتوقف الاعتقاد الشخصي بعدها لدى كل إنسان عند صور مختلفة للجنّة والنار. وبعض هذه المعتقدات تُدخِل الشخص في متاهات العزوف عن الدنيا وكل متاعها، وإسراع الخطى نحو العالم الآخر ولو انتحارا. ويتساوى بشكل ما الملحد الذي يقدم على الانتحار، بالشخص الذي يعتقد بأنه أكثر إيمانا من غيره، والذي يجرُّ معه موتى وقتلى حتى يحظى بحياة أبدية تشبه الحياة في كرنفال برازيلي، مع اختلافٍ غاية في الأهمية، وهو أن الملحد المكتئب الذي يقدم على إنهاء حياته فقد كل الأمل في أن تتغير حياته نحو الأحسن، وهو بإقدامه على الانتحار يبحث عن خلاص لنفسه المتعبة، من دون أن يقتل أناسا غيره، وإن كان يلحق أذى نفسيا كبيرا بذويه. أمّا المنتحرون الجدد الذي يحملون راية الدين والجهاد وإصلاح المجتمع بتفجير أنفسهم فلا يزالون ظاهرة قيد الدّرس. في الغالب من يقدم على مغامرة تبلغ حدّ الموت يجب أن تكون مكاسبها كبيرة جدا، لهذا تبدو المكاسب المتمثلة في «الحور العين» وأنهار من الخمر، وأرائك من المخمل والحرير وحياة لا نهاية لها من اللهو، تطرح أمامنا الكثير من الأسئلة… إذا كانت كل هذه الأشياء موجودة أمامنا الآن فلماذا على الإنسان أن يقتل غيره ويدمر نفسه ليحظى بها في حياة أخرى؟ الحاصل …يا قرائي الأحبة، كورناي قال: «كل لحظة نعيشها في الحياة هي خطوة نحو الموت»، ونفسها المقولة يقولها بصيغة مختلفة غابريال جيرار، ونفسها تماما نؤمن بها حتى الأعماق ونرددها بصيغ مختلفة، حتى أن كثيرين يرفضون تماما الاحتفال بأعياد مولدهم حتى لا يشعروا بأنهم يقتربون من لحظة النهاية، لكنّ العمر يتقلّص ولا يزيد كما نعتقد. وعمرنا الحقيقي يكتمل لحظة موتنا. إذن هل فعلا بلوغ لحظة الصفر هي المولد الحقيقي لنا؟ حين تتخلّص الرُّوح من قوقعة الجسد وتتحرّر من ثقلها وأمراضها وغرائزها وشهواتها ومشاعرها المتناقضة والمتضاربة طيلة فترة الحياة؟ نطرح الأسئلة ونتوقف عند حدودها، فحتى الأجوبة تموت على عتبة الموت نفسه وتقتل فينا الاستمرار في طرح مزيد من الأسئلة. السؤال الأخير نتلفّظ به حين نسأل عن ماهية الموت قبل أن نموت بكثير. حديثي عن الموت اليوم لا يعني أنني أفتح بابا سوداويا على القارئ، إنّه موضوع نتفادى الحديث عنه، وإن كنا نبادر دوما لتعزية الأحبة حين يفقدون عزيزا، كما نحزن ونبكي بحرقة حين نفقد قريبا أو حبيبا، الموت لا يوجع الموتى كما قال محمود درويش بل يوجع الأحياء! وإن كانت الحياة نفسها لا تأبه للموت، تمضي بروتينها المعتاد ونبضها الذي لا يكلّ ولا يملُّ نحو وجهة ما، وتجرُّنا غصبا عنا لنعيش. كم مرة نتمنى فيها الموت لأننا نشعر بالعجز عن مواصلة الحياة ومع هذا نفشل؟ المقدمون على الانتحار وإن كانوا مرضى يحظون باحترام سرّي نكنّه لهم لأنهم قاموا بما فشلنا على القيام به. كم مرة حاولنا فهم هؤلاء الذين ينهون حياتهم ببساطة ويواجهون الموت بشجاعة غير عادية؟ ولكننا فشلنا لأننا لم نبلغ أعماقهم أبدا. المصابون بمرض الاكتئاب عادة ينتهون منتحرين، ذلك أن الاكتئاب سببه الأول من حولهم، ولأنهم يجهلون طبيعة المرض، ولا يبالون بالطبيعة العاطفية الحساسة لهؤلاء يتصرفون إما بعدائية معهم أو بالابتعاد عنهم نهائيا أو بالالتصاق بهم حد الاختناق، في الأخير لا يجد المكتئب الذي يطوقه الحزن من محيطه وظروفه التي لا يتفهمها غيره فيشعر بعدمية وجوده وينهي حياته. من هؤلاء الكاتبة آن سكستون التي انتحرت في عز شبابها وجمالها وسحرها، وأساسا كان هناك خيط متين يربطها بشعر سيلفيا بلاث التي أنهت حياتها أيضا انتحارا، بعد أن دمّرها زوجها بغروره وتشاوفه وكبريائه وإلغائه لها، فيما انغمست هي في تربية الأولاد والاهتمام بالبيت وأمور الحياة الزوجية اليومية التي تقتل المبدع. فرجينيا وولف ذهبت نحو المصير نفسه بعد معاناة طويلة مع الاكتئاب الذي ضربها جرّاء شعورها بخلو حياتها من معنى، وفقدانها للعاطفة الكافية التي يمكن أن تحمي مشاعرها الهشة من التحطم. همنغواي أشهر منتحر بين الكتاب، رغم كل الأمجاد التي حققها، إلاّ أن تجربته في تغطية الحروب قد تكون السبب الرئيسي الذي فجّر منابع الاكتئاب في نفسه وجعلها تكتسح كل تفكيره، ليبلغ مرحلة النهاية بعد إفساد حياة من حوله وإفساد من حوله حياته. ربما كانت حياته اختلفت تماما لو سلك طريقا آخر في حياته أقلّ صخبا من التي عاشها. آن سكستون كانت أكثر الذين صرخوا بصوت عالٍ أنّها ذاهبة نحو الموت المبكّر لكن لا أحد أصغى إلى قلبها المحترق للحب والاحتضان. كتبت نصا شرحت فيه رغبتها في الانتحار قائلة: «لأمحو جرحا قديما…لأخلّص شهقتي من سجنها البائس… نتّحد هناك.. الانتحارات تلتقي أحيانا». تلتقي انتحارات المبدعين..نعم… لكن علماء النفس يفسّرون الأمر بطريقة مختلفة، حين ينسبون الهشاشة لكل مبدع ويصرّون على أنهم جميعا يحملون جينات ضعف تجعلهم يميلون للإدمان، وسبب ذلك أحاسيسهم المرهفة وتعاطفهم مع المظلومين والمقهورين في الدنيا وتكريس أنفسهم لقضايا الإنسان والعدالة الإجتماعية ما يدخلهم في دوامات إلغاء مطالب الذات والعمل لإرضاء الآخر، ثم في لحظة نكران هذا الآخر لهم يواجهون فاجعة لا يتحملونها. ربما يكون هذا الأمر صحيحا وإن كان هناك من يناقضه، لكن ما نعرفه هو أن الانتحار موجات. فقبل سنوات لم نكن نعرف مصطلح «الانتحاريين» مثلا… ولم ينسب هذا المصطلح لفئة معينة، بل اكتفت المجتمعات في الغالب بنبذ المنتحر ودفنه من دون إقامة الصلاة عليه، ثم تغيرت الأمور حين تبين أن المنتحر لا يقدم على الانتحار وهو في كامل صحته النفسية، وهذا باب آخر يُفتح اليوم أمام إدراك أحجية قوافل المنتحرين الذين يتركون نعيم حياتهم لينتحروا في بلدان أخرى بتفجير أنفسهم وسط أناس أبرياء لا يعرفونهم لا من بعيد ولا من قريب.. إذ يبدو أن تجنيد هؤلاء يتم وفق معطيات علمية، تستند إلى معلومات أكيدة وواضحة تبين أن المقدم على الانتحار مهيأ سلفا ويمكن معرفته من سلوكه. السؤال الذي يبقى معلّقا الآن هو لماذا لم نهتم بانتحار المشاهير والكتاب والشعراء كرموز كانت تجذب الرأي العام، ولماذا لم تدرس حالاتهم وتقدم كنماذج لتفسير الظاهرة قبل أن تستفحل في مجتمعاتنا، وتصبح مصانع تفريخ لليائسين من الحياة والنقمة عليها لدرجة التلذذ بالانفجار وتفجير جزء منها… هل من تفسير آخر لهذه الأحجية؟ شاعرة وإعلامية من البحرين بروين حبيب
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة