المدينة الخلاسية ... سيرة مدينة ... كتاب

.لكل مدينة معالمها و شخصياتها الواقعية و الاسطورية وفي تاريخ كل مدينة آثر وانسان يكون شاهدا للدلالة علي
صدق الواقع او الاسطوره يغذي بعدها المعنوي و يشخص حياتها الماثلة هكذا تعيش المدينة حياتها واقعا و اسطورة في انسياب وسماحة فكل له دوره المؤثر في الحياة العامة بدون تنازع او تضاد ففي تاريخ المدينة القديم منه و الحديث شخصيات واساطير ووقائع منها ما هو مستمر ومنها ما انقطعت جذوره و صار حكايات متداولة
ولان تحولات الوقائع والاحداث في المدينة ايقاعها بطئ فليس من ثمة حاجة للعجله فذاكرة المدينة الشفاهيه تحفظ عن ظهر قلب كل حدث و تاريخ وتنقله بامانة و دقة متناهية عبر جسور وحبال سرية من جيل الي جيل موثقة لكل حادثة وواقعه مكانها وزمانها في كتاب الذاكرة الجمعية و الذي تمثل صفحاته حياة كامله لاحداث الماضي وشخصياته ترفد حياة انسان المدينة الحاضر بصورة تبوغرافية للاحداث و المواقف
شخصيات المدينة كثيرة تظهر و تختفي تؤثر في الواقع و يؤثر عليها الواقع تسير احيانا في خط سير الواقع و
احيانا كثيرة تتجاوزه راسمة خط سيرها المخالف للواقع تتفق مع المزاج العام احيانا و احيانا كثيره تتجاوزه
فمدينة بلا اساطير مدينة بلا شخصية فاذا كانت الاساطير تجذر للماضي مشروعية وجوده الخفي و المستتر خلف فضاءات اللغة و الحراك الاجتماعي فانها بلا شك ايضا تفسر كثير من سلوك انسان الحاضر و تصبغ ملامحه
بحبرها السري في احيانا كثيره معلنة عن وجودها في تمثلات كثيرة تتضح بمقدرة الاخريين علي فك شفراتها

التعاطي مع تنوع المدينة الاثني و الثقافي و الروحي جعل من خيال انسانها خيالا خصبا تتسع فيه اساطير الانا الخاصة لتتماهي في اساطير الاخر الغريب و لتصبح كل الاساطير تراثا اسطوريا ووعيا جمعيا في ذاكرة اصبحت لها القدرة العملية في اعادة انتاج انسان المدينة وتشكيله في شخصية متفردة تحيطه حالة من الخصوصية و الغموض الذي لايستطيع فك شفراته الجينيه الا من عاش في المدينة ردحا من الزمن و اصبح جزءا من نسيجها وتراثها و اصبحت المدينة جزء لا يتجزا منه هكذا اصبحت علاقه الانسان بالمدينة

للناس وللاماكن عالمها الخاص في المدينة صاغته اللغه المدينية بابداعها المتفرد مستفيده اي تلك اللغة من كل منجز انساني و طبيعي او حتي متخيل و مستحدث كحالة خاصة تتناسب مع ما اتفق ان يكون مسمي للاشياء او للناس او الاماكن فحينما تتحدث الي اهل المدينة فانهم يتحدثون لغتك التي تفهمها وتعيها ولكن ثمه خيط رفيع يرتبط في ذاكرتك بان للغه هنا في المدينه فقه اخر و بلاغة مستتره تستفز كل ما عرفته من مركبات اللغه و الافعال انها لغة المدينه لغة الخلاسيين التي شكلتها لغات كل سكان المدينة علي اختلاف شاكلاتهم ولحنت حروفها اصداء الطبيعة واصبحت لغة تخرج من القلب والروح و ليس من الفم واللسان و بسبب هذه اللغة المفرده يحس كل غريب عن المدينة بان غربتة ماهي الا خيالات عميقه وليست واقعا فالواقع هو انه واحدا من كل المدينه وجمعها
وان تاريخه الخاص له مكان في صفحات تاريخ المدينة العام

اخي لطفي العمدة لك مني التحيات العطرات و شكرا لمرورك الاولي
ليس ثمة ما يحاك وراء الاسطر وبين طيات المعاني انها محاولة لكتابة سيرة ما لمدينة مدهشة تطل من خلف ذاكرة الغياب انها مدينة الذاكرة الاولي و مخاض التشكل الاولي بل قل انها محاولة لسبر اغوار المسكوت عنه من تاريخ اساطير المدينة الخلاسية

مرت مدينة كادوقلي في تاريخها القديم بمراحل عدة ساهمت في تطورها الاجتماعي و الثقافي و الاقتصادي فمنذ التركية الاولي آصبحت المدينة و ما جاورها تجمعا للحركات الرافضة للاحتلال عبر تمردات كثيره ساهمت فيها طبيعة المنطقة الجبلية حيث وفرت الجبال و كهوفها ملاذا آمنا منه تنطلق حملات المقاومة ضد جيوش التركية و حملاتها العسكرية التي تعبر الي عمق اقليم جبال النوبة من آجل الحصول علي الرجال الاشداء بغرض تجنيدهم في جيوش الامبراطورية كما قاومت المدينة في عهود سابقة حملات آصطياد الرقيق التي كانت تقوم بها القبائل الاخري
شكلت طبيعة المدينة الاستراتيجية حصنا منيعا لصد غزوات الغزاة و تجار الرقيق و منذ اوائل القرن الثامن عشر و مرورا بفترات التركية و المهدية ثم الاستعمار البريطاني فان كثير من مناطق جبال النوبة عاشت فترات من حروب المقاومة و شكل عمق المدينة مركزا مهما في الكر و الفر و حتي في حالات الخضوع الجزئية التي شهدتها مناطق الاقليم فان جذوة المقاومة لم تخمد و ذلك نتيجة للاحساس العميق بالاستقلال النسبي الذي عاشه سكان اقليم جبال النوبة طيلة تاريخهم القديم و قد مثلت فترات عدم الاستقرار خصما كبيرا علي حياة سكان الاقليم
فاعتصم بعضهم بالجبال الآمنة و تركوا زراعة السهول و اكتفوا بالزراعة المحدودة فوق اسفح الجبال

اضاف الاستعمار البريطاني في نهايات القرن الثامن عشر و بدايات القرن التاسع عشر الميلادي بعدا مآساويا في حياة اهل جبال النوبة وذلك لما اتبعه من سياسات قمعيه قصد بها الانتقام و اخضاع مناطق اقليم جبال النوبة لسيطرته عبر الحملات التآديبية لقمع ثورات الاهالي المتكرره و بعد صعوبات بالغة خضعت اجزاء كبيرة من الاقليم لسيطرة الاحتلال و بذا عمد الي اخضاع النوبة التام عبر ما شرعه من قوانيين استعمارية و سياسات اقتصادية عمادها ضم كل مكوكيات النوبة الي مراكز كبيرة يسهل منها ادارة بقية مناطق الاقليم الشاسعة كما عمل الي ادخال محاصيل زراعية جديدة تخدم خططه في توفير القطن لمصانعه في اوربا و بذلك عمل علي انزال كثير من القبائل من مناطقهم الجبلية للتجمع في قري و مدن صغيرة و انشاء مشاريع زراعية لزراعة القطن و بذا اتسعت رقعة المدن
شهدت مدينة كادوقلي طفرات اقتصادية و اجتماعية كبيرة حين تم اعتمادها مركزا لاقليم جبال النوبة فشهدت المدينة طفرة عمرانية بانشاء محالج القطن وبناء الوحدات الحكومية ما جعلها مدينة جاذبة لكثير من سكان القري و المدن الصغيرة المجاورة و كذلك هاجرت اليها مجموعات كثيرة من مدن السودان الاخري بغرض الاتجار و الاقامة و اتسعت رقعة المدينة الجغرافية و اتسعت اسواقها وشهدت عمرانا و ظهرت لاول مرة فيها الطبقات الاجتماعية و الفرق الرياضية و تم تقسيم المدينة الي احياء سكنية متعدده وآصبحت مقرا حكوميا اسهم في استقرار المنطقة و تنميتها اقتصاديا و بشريا

تشكل الطبقة الوسطي عماد سكان اهل المدينة فاصحاب مشاريع القطن و تجار المحاصيل والموظفون الحكوميون وعمال المصانع و صغار التجار و اهل المهن الصغيره آصبحوا لاول مرة لهم وجودهم الاجتماعي الظاهر و المميز و آصبح لهم دورهم الاجتماعي و الاقتصادي و السياسي البارز في حياة المدينة و تطورها لتصبح علي الاطلاق عاصمة لاقليم جبال النوبة لا تزاحمها اي مدينة او مركز آخر في المنطقة و اصبح لسوق المدينة
المركزي شهرته الكبيرة لتنوع ما به من محاصيل زراعية وما به من متاجر متنوعه تبيع كل ما لذ وطاب من المنتجات المحلية و المستوردة كل ذلك اثر بشكل او بآخر في تنمية المدينة و تحسين احوال و ظروف انسان
المدينة التي اصبحت حاضرة و متحضره مثل بقيه مدن السودان الاخري

شهدت المدينة ايضا عمرانا وتخطيطا ولاول مرة في تاريخ المدينة تصبح للاحياء السكنية مسمياتها و تصبح
للطرق المشيدة اسمائها و للاسواق بنيانها المميز كما ان وسائل وسيارات النقل و الترحيل آضحي لها وجودها و لصوت ماكناتها مكانا في اذان سكان المدينة و اصبحوا يميزون بين صوت لواري التيمز و السفنجات و سيارات الجيش و ماكنات طحين الذرة هكذا اصبح للمدينة وجود و لانسانها حراكا يوميا منظم و آصبح لكل فرد في المدينة دوره الذي يؤديه و بذلك تغيرت وتيره حياة الناس
عبر السنين و الاجيال و القرون تطورت المدينة في كل المناحي و اصبحت مدينة ذات وجود فاعل لتسهم مع غيرها من مدن الاقليم الاخري في حياة انسان جبال النوبة و رفده بكل قيم الخير و الجمال و المحبة التي نسجتها من قماش التزاوج و الانصهار و خاطتها بخيوط المحبة و الامل هكذا ولدت المدينة من رحم الفراغ وعبر مسار مخاضها ووجعها الازلي تكونت لتكون وجودا ممتدا بلا نهايه
كامتداد اساطيرها في روح وعقل ابنائها لاجيال و اجيال

يقول الاثر ان آصل المدينة حجر وان اصل الانسان طين ولكن لاهل جبال النوبة قول آخر فهم يقولون بان آصل الانسان حجر كناية عن الفخر بقوة وصلابه بنيانهم الجسدي ولذلك فهم يطلقون علي الجبل مسمي الحجر وعلي سكان الجبال ناس الحجر مجازا وقد سمي آهل مدينة كادوقلي احياء مدينتهم بنسب اسم الحي الي الحجر اي الي الجبل الذي يمثله ذلك الحي فهناك حجرالمك " مقر مكوكية قبيلة كدوقلي التي سميت مدينة كادوقلي علي اسمها " وحي قعر الحجر "اسفل الجبل" وهناك حجر كليمو و حجر النار و حجر السما وحجر بليله "جبل الكجور"

اما الاحياء الاخري التي لا يسكنها من لا يمت الي اهل جبال النوبة بصلة قربي فلها اسمائها الاخري ونسبها الاثني او الجغرافي او الديني مثل حي الفقرا " المشتغلون بامور الدين " اما الاثني فمثل حي الجلابه او حي السوق " معظمهم ذوي آصول من خارج اقليم جبال النوبة " ويقيمون في وسط المدينة حول السوق الجوه و السوق البره " السوق الداخلي و الخارجي " وايضا حي الموظفين الشرقي والغربي وحي الملكيه " سكن المدنيين " وحي السلخانة " مسلخ الماشية" وهناك حي الرديف وحي زندية وحي الدرجات وحي العصاصير " معاصر الزيوت " وحي السرف 'مكان تجمع المياه"

هناك ايضا الاشلاقات الثلاثة اشلاق البوليس و اشلاق السجانه و اشلاق الجيش وحي حسيب الذي سمي تفردا و تيمنا باسم اول محافظ وطني للمدينة اما الوافدون من خارج المله فلهم احيائهم السكنية مثل حي الانجليز " مساكن جيش واداري الاحتلال الانجليزي " الذي مازال شاهدا بمبانيه الحجريه وشكله العمراني الفريد علي فترة الحكم الانجليزي للبلاد و ايضا لهم مقابرهم المسيجة باسوار حجرية سميكة مازالت تحمل اسماءهم كمقابر حي الانجليز تميزا لها عن المقابر الوطنيه الاخري للمسلمين و المسيحين او الاقباط و الاغاريق

مثلما للمدينة احيائها فان لها ايضا مساجدها وكنائسها العتيقة المتعددة فهناك الكنيسة القبطية " كنيسة الاقباط " في اقصي الشمال الشرقي للمدينه وهناك الكنيسة الكاثولوكية في اقصي الجنوب الشرقي للمدينه كما ان للمدينة مسجدها العتيق " الجامع الكبير " في وسط سوق المدينة وهناك بعض المساجد الصغيرة المتفرقه في الاحياء الشعبية التي يصغر او يكبرحجمها بحسب حجم الحي الذي تقع فيه وهناك ايضا زوايا الطرق الصوفية المتعددة مع انتشار واسع للخلاوي في الاحياء الشعبية

يحدثنا التاريخ ان الامم تبني حضاراتها وحواضرها علي ضفاف الانهار وفي السهول الرحبة الا ان اهل مدينة كادوقلي قد اختاروا لمدينتهم بعدا تاريخيا وجغرافيا مميزا فاختاروا ان يبنوا مدينتهم في مكان اشبه بجزيرة جبلية تحفها الجبال من زواياها الاربعه الا من مخارج بعضها ضيق و آخر متسع خاصة في الجزء الشمالي والشرقي فهي مدينة جبليه بل هي جزيرة شبه جبلية يزين شقها الشمالي رافد نهري موسمي صغير منبعه شلالات كولبا التي تقع في الشمال الغربي للمدينة حيث يعبر هذا النهر الصغير المدينة من شمالها الاعلي الي شمالها الشرقي متجها الي مصاب خارج المدينة في قري مجاورة حيث تتسرب مياه النهر في بطاحها الرملية

يشكل موقع المدينة موقعا استراتيجيا بين شبكة من الجبال المتعددة التي تحيط بالمدينة ما اهلها ان ينطبق عليها
لقب عروس الجبال ومنذ زمن بعيد لا احد يعرف تاريخ تآسيس المدينة تحديدا لكنها قديمة
قدم انسانها وجبالها ومنذ قديم الزمن آصبحت المدينة حاضرة لاهل اقليم جبال النوبة تجمع شتاتهم وتحتفي بتنوعهم وتقوي نسيجهم الثقافي والمعرفي فاضحت عاصمة ادارية وثقافية وتعليمية واقتصادية ليست لاهل جبال النوبة وحدهم بل لكل من يشاطرهم العيش فيها و يتخذها سكنا و بلدا هكذا تشكلت المدينة وصارت وطنا يسع بين جنباته كل نسيج الطيف الاثني والثقافي واللغوي والديني في السودان وغدت وحدة المدينة في تنوعها وتمازجها الذي قلما يوجد في مكان ما فكل اهل المدينة لهم نسب ما بكل قبائل اقليم جبال النوبة ولهم جذور ما في كل مكان قصي من الوطن

ان كان للتاريخ معني وشاهدا فان تاريخ مدنية كادوقلي شاهدا عليها فقد شد الرحال اليها كثيرين من اطرافها البعيدة ومن بقاع السودان الاخري القصية شمالها و جنوبها و شرقها وغربها فامست متحفا بشريا وكتابا تعدد صفحاته بسحنات وازياء كل مناطق السودان وتتمد روحانيات المدينة لتشمل كل الاديان وكريم المعتقدات في تجانس وتناغم وانسياب عذب جعل من سكان المدينة مثال رائع للتجانس ونبذ عصبيات الدين و الجغرافيا فاضحي التاريخ معبرا عن الحاضر والماضي والمستقبل في ارتباط وثيق يعجز عن وصفه علماء علم الاجتماع والمشتغلين بعلم الاجناس ولان المدينة اضحت لها بصمتها الخاصة وجينها الوراثي المميز الذي اضفي حنينا ابديا في انسان المدينة وميزه بعاطفه جياشه وحب خرافي للآخر " الغريب" فالاخر بعرف انسان المدينة هو الانا و الانا هي الاخر في تجلي انساني صوفي يتجاوز مسميات الاشياء ويغوص في عمقها العميق فحين يحن اهل المدينة اليها وهم بعاد عنها فانهم يقولون يا حليل الجبال وناس الجبال و بذلك يفصحون في خيالهم الجمعي عن الحنين الابدي الذي يربطهم بالمدينة التي اصبحت الاشارة اليها جمعا "الجبال ' امعانا في بلاغة عاطفيه وفصاحة تجعل منها وطنا ومعني لا يدرك معناه الا انسان المدينة
كثيرون ممن يزورون المدينة يغمرهم انطباع اولي بانهم في مكان خاص وتتجلي تلك الخصوصية في ان المدينه يزينها فضاء خاص من الصدي و التردد الصوتي بين ارجائها و اركانها الاربعة يجعل من البوح و الهمس و حتي الكلام الخافت امرا متاح يمكن للجميع سماعه فليس ثمة سر في المدينة فكل الكلام متاح وممسوع بفضل تقنية التردد الصوتي ذو الخاصية الفريده وبفضل الصدي الذي تتيحه شبكة الجبال التي تحيط بالمدينة من كل جهاتها
فروحانيات المدينة و اذكارها التي تبعثها المساجد اوقداسات الكنائس او حلقات الذكر الشعبية تجوب فضاءات المدينة و تدخل من كل باب وشباك دون استئذان وكذلك حفلاتها الليلية واصوات مغنيها تشنف اذان السامعين وحتي جلسات السمر وقهقهات وقفشقات المنتشون بمشروباتهم الروحانية يمكن سماعها بوضوح تام و لذلك فان سكان المدينة الآصليون تجدهم حينما يحدثونك فانهم يهمسون وآصبح كلامهم همسا و صارت لغتهم حالمة و هامسه

للمدينة مواقيتها اليومية التي تعلن عن حضورها الزماني والمكاني فاذان مسجد السوق الكبير في وسط المدينة يعلو مكبره الصوتي كل الفضاءات و تتبعه اذانات الاحياء الشعبية في تزامن كورالي صباحي وفيض من الروحانيات العتيقة عند تلاوة قرآن الفجر بصوت امام الجامع الكبير الشيخ سعد تبعثها مكبرات الصوت الي الجبال المحيطة بالمدينة وتبعث فيها الصحو لتردد مع صوت القاري الخرافي يا جبال اوبي معه و الطير ويتنقل شيخ سعد في تلاوته الصباحية بين سور وايات محورها الجبال وتستمر تلك التلاوات و التراتيل في مداها الزمني وتمددها بفضل الصدي حتي قبيل مطلع الشمس تبعث في الارواح وفي الابدان الحيوية و النشاط و الهمه هكذا يبدآ الجبليون وآهل الجبال صباحاتهم الباكرة ببعد ايماني ونقاء روحي تردده اصداء الجبال في شراكة تجعل للطبيعة حضورا قويا في الحياة العامة لسكان المدينة

كل صباحات المدينه ندية فمن شرق المدينه الذي لا تغطيه الجبال تشرق شمس المدينة باعثة باشعتها الضوئية الدافئه الي كل بيت والي كل حجر في جبال المدينة والي كل شجرة من اشجار النيم والانجل و المهوقني التي تغطي مساحات مقدرة من طرق المدينة وساحاتها الخضراء وحيث انه لم يكن ثمة وسائل حديثه للنقل في تاريخ المدينة القديم فالناس في رواحهم و غدوهم يترجلون طرقات المدينة جيئة و ذهابا الا قليلون منهم يركبون دوابهم

في طرقات المدينة الصباحية المزدحمه تري كل عمال المدينة بازيائهم المميزة يجوبون طرقات المدينة ذهابا الي اعمالهم في الصباح فممرضي و ممرضات المستشفي المركزي بزيهم الابيض يشكلون حضورا مميزا وعمال المحلج و النسيج و الموظفون المدنيون وتلاميذ المدارس في مواكبهم الصباحية بازيائهم الموحدة ذات القمصان الزرقاء الفاتحه و الاردية الزرقاء الغامضة او الكاكية الفاتحه و الداكنه و الفتيات بالبلوزات و الاسكيرتات الخضراء و البنية او الزرقاء الفاتحه و بكل الوان الطيف المدرسي يشكل تلاميذ المدارس مهرجانا من الفرح الصباحي وكذلك عمال النقل الميكانيكي راجلين او علي دراجاتهم بزيهم الازرق المميز وكل فريق بزي مميز او بدون تراهم يزحمون الطرقات في انسجام وتناغم صباحي فريد يؤكد ان المدينة قد افاقت من غفوتها و سباتها العميق وها هم اهلها يواصلون مسيرهم وكدهم اليومي من اجل ان يكون للحياة معني وفوق كل ذلك يشكل كاكي الشرطة و السجون والجيش حضوره المميز بين العامة وهم علي ارجلهم او علي دراجاتهم و سياراتهم الحكومية المكشوفه يبعثون اشارات الامن و الامان و الطمانينة للجميع

كل علي شاكلته يسير في دروب المدينة الصباحية محييا من يلاقي و سائلا عن احواله و متفقدا لمن غاب عن مهرجان الفرح الصباحي عله بخير وقد اعتاد الجميع علي المسيرة الصباحية التي آصبحت عرفا اجتماعيا لاجيالا و اجيال فيها يتبادل آهل المدينة الدعوات الاجتماعية وفيه تنتقل اخبار المدينة من فرد الي آخر في يسر وسرعة متناهية وحين يصل الجميع الي منتهي مسيرته الصباحيه ينتظرون للحظات قليلة قبيل دقات ساعة النقل الميكانيكي التي تعلن ان عقاربها اشارت الي الساعه السابعة و النصف صباحا و عند سماع دقاتها ينهمك الجميع في اداء اعمالهم فهاهم تلاميذ المدارس يدخلون فصولهم بعد طوابيرهم الصباحيه وقوات الشرطة و السجون و الجيش ينهون طابورهم الصباحي وكل موظف يدخل الي مكتبه فالسابعه و النصف صباحا هي ميقات بداية العمل الرسمية في المدينة وهي الفاصل الزمني لبدء العمل ومع اخر دقاتها تخلي طرق المدينة من الجميع الي حين انتهاء ساعات العمل في الثانية و النصف ظهرا حين تعاود الساعه مره اخري دقاتها معلنه نهايه الدوام اليومي

و يجئ نهار المدينة حاملا معه الدفء وتخلي طرقات المدينة الا ممن يسير في محازاة ظلال اشجار المهوقني و النيم لاتقاء حرارة شمس المدينة اللاسعة ورغم ذلك فان سوق المدينة هو اكثر اماكن المدينة زحاما فلا يخلو شبر من برندات سوقي المدينة من قدم لبائع او لمشتري فسوق المدينة بقسميه الداخلي و الخارجي هو

اكثر
اقسام المدينة حيوية ونشاط خاصة في مواسم الصيف وانتهاء موسم الحصاد في القري والمدن الصغيرة المجاورة لمدينة كادوقلي حيث تعج المدينة بحركة تجار المحاصيل وتجار الماشية و موردي الخضر والفاكهة

حين تتجه شمس المدينة حسيسا نحو الغرب مخلفة ورائها ظلال للاشياء يخف معها سعير شمس الظهيره تدب الحركة مرة اخري في جسد انسانها و تكتظ شوارع المدينة بالمارة كل سائر الي من حيث اتي عائدا الي داره و في اوقات العصر تعج طرقات الاحياء الشعبية بالمارة و تكتظ الساحات الشعبية والميادين الرياضية باللاعبين يمارسون رياضاتهم المتنوعه الي حين غروب الشمس خلف جبال المدينة مخلفه ورائها اشعتها الذهبية التي تظلل امسيات المدينه بالفرح و البهجة الغامرة فمساء المدينة من اجمل مساءات المدن فهو كورال و لحن من الضياء يردد انشوده الزوال وهاجس حلول الظلام الدامس

حين تغيب الشمس الي مستقر لها وراء جبال غرب المدينة العالية يسري في المدينة ظلام كثيف يعلن ان ليل المدينة طويل وان لابد من حراك بين طياته ليبدد تلك الظلمات الهالكه فالليل رغم ظلامه الموحش الا ان اهل المدينة يمارسون فيه اسمارهم و اذكارهم التي ينقلها صدي الجبال من حي الي اخر من شرقها الي غربها وبين شمالها وجنوبها حتي منتصف الليل الذي فيه تخفت حدة الحرکه وتزداد حدة الصوت بفعل السكون وحينها يغطي اهل المدينة في سبات عميق في انتظار اشراق يوم جديد فالمدينة تعيش بين نهاراتها ولياليها عوالم مختلفه كل له شخصيته المختلفة المرتبطه بحركة الضوء او سكون الظلام فالشخوص الليليون لهم ملامحهم الليلية و النهاريون لهم طابعهم النهاري وما بين النهاريون و الليليون للناس العاديون وجودهم الكثيف و لمن هم خارج نطاق التعريف التاريخي للاشياء مكانهم و اسماءهم المعروفه

لكل مدينة معالمها و شخصياتها الواقعية و الاسطورية وفي تاريخ كل مدينة آثر وانسان يكون شاهدا للدلالة علي
صدق الواقع او الاسطوره يغذي بعدها المعنوي و يشخص حياتها الماثلة هكذا تعيش المدينة حياتها واقعا و اسطورة في انسياب وسماحة فكل له دوره المؤثر في الحياة العامة بدون تنازع او تضاد ففي تاريخ المدينة القديم منه و الحديث شخصيات واساطير ووقائع منها ما هو مستمر ومنها ما انقطعت جذوره و صار حكايات متداولة
ولان تحولات الوقائع والاحداث في المدينة ايقاعها بطئ فليس من ثمة حاجة للعجله فذاكرة المدينة الشفاهيه تحفظ عن ظهر قلب كل حدث و تاريخ وتنقله بامانة و دقة متناهية عبر جسور وحبال سرية من جيل الي جيل موثقة لكل حادثة وواقعه مكانها وزمانها في كتاب الذاكرة الجمعية و الذي تمثل صفحاته حياة كامله لاحداث الماضي وشخصياته ترفد حياة انسان المدينة الحاضر بصورة تبوغرافية للاحداث و المواقف
شخصيات المدينة كثيرة تظهر و تختفي تؤثر في الواقع و يؤثر عليها الواقع تسير احيانا في خط سير الواقع و
احيانا كثيرة تتجاوزه راسمة خط سيرها المخالف للواقع تتفق مع المزاج العام احيانا و احيانا كثيره تتجاوزه
فمدينة بلا اساطير مدينة بلا شخصية فاذا كانت الاساطير تجذر للماضي مشروعية وجوده الخفي و المستتر خلف فضاءات اللغة و الحراك الاجتماعي فانها بلا شك ايضا تفسر كثير من سلوك انسان الحاضر و تصبغ ملامحه
بحبرها السري في احيانا كثيره معلنة عن وجودها في تمثلات كثيرة تتضح بمقدرة الاخريين علي فك شفراتها
التعاطي مع تنوع المدينة الاثني و الثقافي و الروحي جعل من خيال انسانها خيالا خصبا تتسع فيه اساطير الانا الخاصة لتتماهي في اساطير الاخر الغريب و لتصبح كل الاساطير تراثا اسطوريا ووعيا جمعيا في ذاكرة اصبحت لها القدرة العملية في اعادة انتاج انسان المدينة وتشكيله في شخصية متفردة تحيطه حالة من الخصوصية و الغموض الذي لايستطيع فك شفراته الجينيه الا من عاش في المدينة ردحا من الزمن و اصبح جزءا من نسيجها وتراثها و اصبحت المدينة جزء لا يتجزا منه هكذا اصبحت علاقه الانسان بالمدينة

للناس وللاماكن عالمها الخاص في المدينة صاغته اللغه المدينية بابداعها المتفرد مستفيده اي تلك اللغة من كل منجز انساني و طبيعي او حتي متخيل و مستحدث كحالة خاصة تتناسب مع ما اتفق ان يكون مسمي للاشياء او للناس او الاماكن فحينما تتحدث الي اهل المدينة فانهم يتحدثون لغتك التي تفهمها وتعيها ولكن ثمه خيط رفيع يرتبط في ذاكرتك بان للغه هنا في المدينه فقه اخر و بلاغة مستتره تستفز كل ما عرفته من مركبات اللغه و الافعال انها لغة المدينه لغة الخلاسيين التي شكلتها لغات كل سكان المدينة علي اختلاف شاكلاتهم ولحنت حروفها اصداء الطبيعة واصبحت لغة تخرج من القلب والروح و ليس من الفم واللسان و بسبب هذه اللغة المفرده يحس كل غريب عن المدينة بان غربتة ماهي الا خيالات عميقه وليست واقعا فالواقع هو انه واحدا من كل المدينه وجمعها
وان تاريخه الخاص له مكان في صفحات تاريخ المدينة العام

تتحدث قبائل جبال النوبة الكثير من اللغات الخاصة بكل قبيلة و تشترك كثير من القبائل في لغات متشابه و حين اتسعت رقعة تواجد المجموعات الوافدة من خارج اقليم جبال النوبة تزاوجت كثير من اللغات المحلية مع لغات الاغراب ونتج عن ذلك التزاوج لغات هجين و لغات تخاطب مشتركه في الاطراف و حين اتسعت المدن لتضم بين اطرافها اناس و لغات و اديان وثقافات عديدة انتجت المدينة لغتها الفريدة من نسيج كل تلك اللغات و انتجت المدينة ايضا دينها المتعدد من جذور كل الاديان و الاساطير و اضحت ثقافة المدينه ناتج قسمه الكل علي نفسه و الواحد علي الجمع هكذا امست المدينه كل في واحده و واحدا في كله لا ينتمي الا للمدينه و لا يعرف الا بها
واجيالا عبر اجيال شكلتهم طبيعة المدينة وفضاءها المكاني و المعرفي و الانساني المتفرد

لمواسم الفرح في المدينة حضورها الآنيق وكذا لمواسم الطبيعة الاربعه رونقها و متعتها التي تعطر ذاكرة انسان المدينة بخصوصيتها و تفردها عن مواسم المدن و البلاد الآخري فمدينة كادوقلي تقع في الحزام السوداني المطير من السافنا الغنية ومناخات خط الاستواء الحارة الممطرة تلامس فضاءات المدينة بدفئها واحيانا بحرها اللاسع في فصل الصيف ونهاراته الممتده في طول المدينة و عرضها تدخل آشعة شمسه الحارقة كل زاوية من زوايا المدينة فشمس المدينة تشرق مبكرا علي غير عادة شموس بقية المدن و البلاد الآخري كآنها ترغب في الاستمتاع باكبر قدر من صحبة سكان المدينة و منذ بواكير شروقها تنشر دفئها الخرافي في كل جهات المدينة و تهب لحياة انسانها معني اخرا

لا آحد يشكو من سخونة صيف المدينة سوي الاغراب العابرون بليل او ممن انقطعت بهم السبل لان سكان المدينة قد اعتادوا علي استطالة نهاراتهم الصيفية و قد خبروا التعامل معها ففي كل بيت زرعت شجرة ظل تفرد افرعها المتسعه لتغطي مساحة واسعة من الحيشان و يلازم شجرة الظل تلك راكوبة القيلولة الواسعة البراح وذات الجهة الغربية المسيجة هكذا فطن آهل المدينة عند بناء رواكيبهم بان شمس ما قبل الظهيرة مقدور علي تحملها وان الرواكيب ببنيتها القشية السميكة قادرة علي امتصاص الدفء و تحويل آشعة الصيف الحارقة الي ظل ظليل يعطي للقيلولة معناها و لنومها العميق مغزاه

اما شوارع المدينة في الصيف فان اجمل ما يميزها و يزينها هو خطوط اشجار النيم و المهوقني التي تصطف من آول مدخل المدينة الي اقاصي شارعها الرئيسي في خط مستقيم و في توازي اشبه بطوابير جيش طويلة بزيها الاخضر تحي مواكب العابريين في الشوارع الصيفية و لا تخلي مساحه في المدينة من اشجار النيم و الانجل و المهوقني او اشجار الزينه التي جلبها الانجليز لتزيين طرقات المدينة حين جعلوا منها مركزا لاقليم جبال النوبة في القرن التاسع عشر و بفعل حب آهل المدينة للخضرة فلا تخلي البيوت و الشوارع و الساحات العامه من الخضرة التي تهب للمدينة طبيعة و منظرا مهيبا

بفضل طبيعة المدينة الخضراء فان صيف المدينة مهما اشتدت سخونتة الا ان ابداع آهل المدينة و ابتكاراتهم تساعدهم علي تخطي و تجاوز سخونة الصيف الحارقة فهم كثيرا ما يذهبون في رحلات جماعية للحدائق الخضراء و الجنائن التي تحيط بالمدينة و كثيرون من آهل المدينة يصعدون الي اعلي قمم الجبال الخضراء في فصل الصيف لقضاء اوقات ممتعة يوفرها جو سفوح الجبال الرطب هكذا يقضي آهل المدينه نهاراتهم الصيفية

ليالي الصيف في المدينة آشبه بمهرجان و كرنفال من الفرح المتواصل منذ مغيب شمس الصيف الي منتصف الليل فكل المدينة تصحو الي وقت متآخر من الليل و تسهم رطوبه انسام ليالي الصيف الصحوة في بث روح الصحو في انسان المدينة ومن حين الي حين تسمع آصوات الصبية الصغار و هم يمارسون العابهم الليلية و كذلك يمارس الكبار رقصاتهم الشعبية احتفاءا بليالي الصيف و في آطراف المدينة تسمع دقات دفوف النوبا و طارات الذكر و اصوات الذاكرين تنتقل من شرق المدينة الي غربها و من شمالها الي جنوبها هكذا يمضي الليل سريعا في المدينه

شتاءات المدينة يغمرها الدفء و يبث في سكان المدينة حيوية و نشاطا فبعد صيف طويل و حار تتسرب من شمال المدينة و شرقها آنسام الشتاء الحالمة و تدلف بهدوء حذر الي آزقة المدينة و شوارعها تتراقص اشجار النيم و المهوقني علي انغام صافرات رياح الشتاء و الحان صداها حين يرتضم بجبال المدينة من كل جهة و كآن مهرجانا لعازفي الناي قد ازف في ازقة المدينة و طرقاتها انه شتاء معتدل في مزاجه و رطب في نسائمه و قصير

في اقامته يآتي خاطفا بعد صيف طويل ممتدا في شهور السنة و لكن حظ المدينة من الشتاء انه لا يدوم سوي للحظات عابره تاركا ورائه ذكريات و حنين انه الشتاء الجبلي يداعب صباحات المدينة بنسماته الرقيقة و يهب الدفء لنهاراتها القصيرة و يعزف علي اوتار رياحه اغنيات لمساءاتها الخجله اما ليل المدينة الممتد و المتشح بظلامه الدامس فان صافرات الرياح الليلية و ناي الاصداء الجبلية تؤانس وحدته و لا يقطع صوت غنائه الليلي سوي تداخل ايقاعات الذكر الصوفي منادي ليلي المدينة بان ليلها قد جن و ان آهات و انين عشاقها قد وصل مداه

في الليل تخلد طرقات ليالي الشتاء الي سكونها الابدي الا من عائدين في منتصف الليل من اسواق المدينة او ذاكرين قد خلصوا لتوهم من حولية وهم عائدون لبيوتهم معبآؤن بفيض اذكارهم و دعوات شيخوهم ان قصروا ليالي الشتاء الطويلة بالذكر و املآوا بضوء ناره مسامات قلوبكم و اضيئوها تنر لكم دروبكم في الليل هكذا حال نساك المدينة لا يزاحمهم في السير في طرقات المدينة الليلية سوي العائدون من الانادي و حانات السمر الليلي منتشون و معبآؤن هم ايضا بالفرح ونشوه المشروبات الروحية ويتوه ليل المدينة في شتائه البارد و تخلو طرقات المدينة من العسس و اللصوص وقاطعي الاحلام فانهم غير مرحب بهم

مثلما للشتاء موسمه الفرائحي القصير الامد فان للربيع آوانه و بشاراته و ملامحه التي لا تخطئها العين المجردة فجبال المدينة كلها تكسوها الخضرة و اشجارها المتنوعة تبرز مفاتنها و آلوانها و تزين الازهار البرية مساحات واسعة من مرتفعات المدينة في تناسق بديع اما المدينة نفسها فقد عرفت نباتات واشجار الزينة منذ زمن سحيق فاشجار الانجل بلونها الاخضر الداكن و اشجار المهوقني بسموقها و لونها الفاقع الاخضرار و اشجار النيم بتمايز آلوان صفقها كل ذلك مضافا اليه اشجار الزينة بفصائلها المستورده و الوانها الزاهية التي جلبها الانجليز تشكل مهرجانا من الفرح الربيعي الذي يدخل قلوب و آفئدة سكان المدينة و العابرين بها و يبقي مطبوعا في الذاكرة الي
غير زوال
واما فصل الخريف في المدينة فله بعده الجمالي و رغم تداخله مع فصل الصيف فان للمدينة و ناسها حكايات و ذكريات و آلفه و شوق و حنين مع فصل الخريف و لان الخريف هو فصل الاجازات المدرسية فان طلاب المدارس هم اكثر من يحتفي بالخريف و بمقدمه الميمون و تزداد المدينة اخضرار و تكسو الخضرة كل شبر من المدينة حتي ان الناس تكسو الخضرة ملامحهم و امزجتهم و حين ينسي احدهم اسم شخصا ما فانه يصفه بفلان الاخضراني وحين تلامس سحب الخريف قمم و سفوح جبال المدينة طابعه قبلاتها الرقيقه علي خدود صخورها الصلدة مخلفه ورائها ضبابها الكثيف فكانها تبث باكسير الحياة في جسد الصخور وتهبها روحا وكذا انسان المدينة
ومزارعها و جباريكها الموسمية هكذا يفعل الخريف فعله السحري حين تداعب زخات امطاره ارض المدينة انها حياة جديدة تتجدد بتجدد فصل الخريف و موسمه الخرافي انها الحياة بكل معانيها الجميلة تعيشها المدينة لحظة بلحظة و يوم بعد يوم

آشتقت المدينة اسمها من اسم قبيلة كدوقلي التي تقطن جبل حجر المك في الجزء الشمالي الشرقي للمدينه وقبيلة كدوقلي بضم الكاف و الدال معا و تشديد القاف و كسر اللام حسب نطق اهل القبيلة لاسمهم قد تبدل ذلك الاسم عبر السنين بفعل عدم قدرة الوافديين علي نطق الاسم حيث تمت صياغة الاسم ليتناسب مع قدرة الوافديين علي نطقه و تمت اضافة حرف الآلف لعزل الكاف و الدال المضمومتين و آصبح اسم المدينة كادوقلي و هكذا اصبح للمدينة اسمها الجديد و بقي اسم القبيلة و جبلها الخالد يشهد لها بدورها الكبير في تاريخ المدينة الماضي والحاضر كما ان حجر المك مقر مكوكية قبيلة كدوقلي آصبح احد آحياء المدينة العريقة و الاثرية التي تحمل عراقة الملكية بين دماء ابناءها و بين طيات جدران مساكنها الملكية الحجرية

في البدء كانت كدوقلي القبيلة ثم كادوقلي المدينة في فترات لاحقة حين انتقلت اليها مجموعات سكانية كبيرة من داخل اقليم جبال النوبة و من اصقاع البلاد المختلفة لتشارك سكان المدينة الاصليون مدينتهم و ليصبحوا بفضل التصاهر و التزاوج و العيش المشترك سكانا و مواطنون آصليون للمدينة اجيالا و اجيالا لاحقة انتمائهم الحقيقي للمدينة و ليس لجذورهم العرقيه او الجهوية او الدينيه و اصبحت المدينة هي عالمهم و هويتهم

تعتبر لغة الشوابنه احدي لغات المدينة فهي لغة مستعربة تشكلت عبر قرون من التواصل و الانصهار و التوالد وقوتها حاجة التواصل اليومي و مفردات الحاجة وابداع الافتراع من الاصل فاصبحت لغة ذات خصائص و مضمون يزينها لحن خاص واصبحت اللغة اشبه بالغناء منها بالكلام وحين يتحدثها اهلها من سكان المدينة تطرب الاذان لسماعها فالشوابنة هم عنصر هجين امتزج عبر القرون في اقاصي جبل شيبون بين مجموعات وافدة و مجموعات محلية وعبر قرون التواصل و الانصهار في الزمان و المكان نتج انسان الشوابنه و نتجت لغة الشوابنه و مثلها مثل مجموعات كثيرة وفدت للمدينة لتشكل عنصرا فاعلا في تركيبه و عناصر المدينة الاثنية و اتخذت مجموعات الشوابنه الوافدة للمدينة ركنا قصيا في قاع المدينة الجنوبي الشرقي واعتصمت بجوار جبل السماء

وفدت الي المدينة في بواكير تمدنها مجموعات من غرب افريقيا ضلت طريقها الي ارض الحجاز واستقر بعضها في قري صغيرة في آطراف المدينة و كثير منهم جاور اهل المدينة السكن و اتخذها وطنا و انتشر البعض في الاحياء المجاورة مواطنيين اصليين جيل بعد جيل يشاركون اهل المدينة مواهبهم في التدين الشعبي و يبدعون في فنون التطبيب بالاعشاب و يعجنون مفردات لغاتهم في مواعين المدينة اللغوية و يغرسون الحانهم وغنائهم و ايقاعاتهم المتفردة في بوتقة موسيقي سيمفونية المدينة الجامعه

اما جماعات البقاره علي اختلاف وتنوع مشاربهم فمنهم من غاص في اتون المدينة ومنهم من اكتفي بالسكني في اطراف المدينة يزورها كل صباح او مساء يمد اهل المدينة بالحليب الطازج و منتجاته ومنذ قديم الزمان ايضا هاجرت كثير من مجموعات السودان الشمالية الي المدينة جالبه معها عاداتها و ثقافاتها و دينها وتجارتها ونسائها واستضافتهم المدينة بسماحتها و اضحوا ابناء بلد و تصاهر بعضهم مع بعض سكان المدينه و بقي بعضهم محافظ علي نقائه العرقي و لان طبيعة المدينة و قوة بنيان تراثها الجمعي لا يقاوم فان اجيال بعد اجيال من الوافديين الجدد
تماهوا في بوتقه المدينة و اصبحوا جزءا لا يتجزء منها هكذا صبغت المدينة انسانها بدينها و ثقافتها و اساطيرها حتي ان اجيال و اجيال ممن يطلق عليهم السكان المحليون اصبحوا وجميع اهل المدينة اشبه ببعضهم لا تفرق بينهم الا بقليل من التفاصيل المستتره خلف حواجز الحراك اليومي

تقطن المدينة اقلية بسيطة من الاغراب من الاغاريق و الايطاليين المسيحيين والاقباط من آصول مصرية وفدت الي المدينة بغرض الاتجار و مآرب آخري و طاب لها المقام في المدينة منذ فجر التركية الغابر فبنت كنائسها و دكاكينها و بيوتها و قطعت ما بها من صلات باصولها واما الاغاريق وكما يحلو لسكان المدينة ان يطلقوا عليهم اسم الخواجات اصبحوا شاهدا علي ان الدين لله و ان المدينة وطن للجميع هكذا انقطعت جذورهم بمواطنهم الاصل و اصبحت المدينة لهم وطنا بديلا و اصبحوا سكانا و مواطنيين نفحتهم شمس المدينة اللاسعة بدفئها اليومي و اضحت سحناتهم كسحنات اهل المدينة و سكانها يشاركون اهل المدينة احزانهم و الآمهم و يرقصون علي وقع دقات طبول اسبارهم ويآكلون مما يآكلون و يشربون مما يشربون وآصبحت لهم متاجرهم المعروفه في وسط المدينة تمد سكانها بما طاب من الروم والبيره و عديد المشروبات الروحانية

يمارس اهل المدينة تدينهم الشعبي في توافق وانسجام وبدون غلو و تشدد فمسيحيي المدينة لا تفصلهم عن مسلمي المدينة اي حواجز فكل يمارس طقوسه و تعبده في فضاءا واسعا من حرية التعبد و سماحة و كرم اهل المدينة و كذلك يقوم اهل كريم المعتقدات بممارسة طقوسهم و اسبارهم في مهرجان من السماحة و الفيض الروحي الذي يشاركهم فيه سكان المدينة شاهدين ان اصل الانسان واحد و ان اعتقاده هو خيارا يسئل عنه هو فقط و ليس الاخريين
هكذا تتسع المدينة في كل براحاتها لكل معتقد ودين و لكل شعيره و ممارسة بدون تآفف او استنكار فاصوات مكبرات الصوت الصادرة من مآذن المساجد الكبير و القباب وحلقات الذكر و الطرق الصوفية اعتادها سكان المدينة و كذلك اجراس كنائسها القبطية و الكاثولوكية و ايقاعات طبول الاسبار تملآ فضاءات المدينة معلنه عن وجودها تتناقلها اصداء الجبال المحيطة بالمدينة معلنة ان الله واحد وان غاية خلقه للكل ان يتعارفوا ويتعايشوا و ان لا فضل لاحد علي احد هكذا يعرف اهل المدينة ربهم و يطيعوه وفق فهم و ايمان عميق لا يتعصب لدين دون آخر و لا لجنس دون سواه و لا للغة دون غيرها فدقات طبول اسبار اهل المدينة تطرب كل سكانها و كذلك اصوات اذانها تبعث الروح في الجميع و اجراس كنائسها تآلفها اذان سكان المدينة بكل سماحة

حـجـر النار
اسطورة الجبل الناري