|
Re: ثلاث ريشات للوحة واحدة... (Re: مبارك محمد)
|
Quote:
الطائر الراحل مع الصقيع.....
بقلم : نبيل حاتم
.. غارقٌ في متاهة ترتيب الكلام .. وأنا انتظرها بالصالون..من النافذة المطلة على زرقة السماء ، كنت أرى فرادى و جماعات متفرقة من السمّان ترحل نحو الشمال ..السمّان هذا الطائر الحزين الذي يأتي مع الصقيع ، و يرحل مع بقايا المطر .. ، راحل أبداً يطارد الثلج طوال اليوم ثم يلتحف ريح الشمال الباردة الحزينة و ينام في بطون الغابات السوداء ..كنت أرقب قدومه إلى غابات السنديان التي تنتشر على جنبات جبل السويداء مع بداية كل سقوط من العام .. لم يتأخر عن القدوم كان يعود مع بداية برد الخريف ، ليكمل دورة الارتحال . آهٍ يا كمال .. أيها السمّان المازوخي الحزين .. أيها الراحل أبداً إلى الشمال حتى ألِفْتَ هذا الصقيع الأبدي الأزرق ، بعيداً عن حرارة أنفاس محبيك .. نجوت من عذابات السجن الظالم كل هذه السنين ..ومن الغربة الكئيبة بعدها .. ثم تموت في نفس اليوم الذي قررتَ به العودة إلى قلوب محبيك , ظلموك في حياتك .. وتظلمنا في موتك ... أتراها عودة الربيع التي لم تكن لتتحمل جمال ألوانها ..فقررت الرحيل إلى صقيعك الدائم ؟ (حسنى) تلك الروح الرقيقة ، الحالمة أبداً ، ذلك الدفء المؤجل الذي كان ينتظرك على حافة الحياة ، آه يا كمال ما أصعب هذا اللقاء اليوم ، وما أشد وطأة ذاك الإلحاح بالهرب الذي يكاد يهزم شجاعتي بالبقاء لمواجهتها الآن ، ماذا سأقول لها ..؟ كيف سأرتب الكلمات ..؟ هل تستطيع ملامحي خيانة الألم الذي يعتصر روحي .. لو تدري ياكمال ماذا أعدتْ أختُك لعودتك .. فرشت لك كل ألوان هذا الخريف على جنبات الدار .. و زينتْ كل حبة عنبٍ تدلت من الدالية على طول الرواق من البوابة إلى الباب .. أعدَّتْ لك عرس العودة بكل صخبه و بريقه و زينته .. كنتَ تسري في عروقها وتتغلغل في ذاكرتها ...وهي تربط كل خيط إلى أوراق وعناقيد الدالية بذكرى لك ..لم ينغير جوابها لي عندما كنت أسألها طوال تلك السنوات : " بتحبيني يا حسنى ؟ " كانت تضحك وتقول لي وكأنها تحاول مشاكستي : : "بحبك طبعاً بحبك.. بس بحب كمال أكثر .. " لست أدري يا كمال .. سبب تعلق ( حسنى) الكبير بك أتراه الشوق والسنوات الضائعه وأنت بعيد عنها .. أم ترى أنك أخ متفرد .. ومختلف ؟ يوم طلبتُ منها أن ننهي سنوات خطبتنا الطويلة بالزواج ،قالت : "خلي الفرحة والزواج ليجي كمال ..! " مازال صوتها يصدح في أذني وهي تقول لي منذ يومين : " كمال خلص بدو يجي .. .. ولا يهمك يا حلو راح نتجوز أخيراً " آه يا كمال .. كيف سأواجه كل هذا الفرح بموتك ..؟ كيف سأنقل لها خبر عودتك على تلك الطائرة بتابوتٍ خشبي تفوح منه رائحة الصقيع الأميريكي وبقايا نتن السجن الظالم هنا ..؟ أ أقول لها أنكَ سعيدٌ في تابوتك هذا كذاك السمّان الهارب من الصقيع إلى الصقيع .. لست أدري أهو الصمت أو لعلني فقدت السمع و عيناي تنتقلان من زجاج النافذة إلى الباب الجانبي المغلق .. حيث ستدخل .. لست أدري ..أتمنى لو أموت قبل أن تدخل حسنى من هذا الباب .. صفعني سؤال الجارة التي فتحت لي الباب عندما جئت والخبر يمزق روحي : ـ وصلت طائرة كمال .. ؟ كادت الغصة تخنقني واكتفيت بأن هززت رأسي بالإيجاب ..هدأ روعي قليلاً ،حين أحسست أن اللقاء الصعب تأجل لدقائق ..مازال الكلام غائماً ثقيلاً .. مبعثراً .. يكاد الجبن يدفعني إلى الذهاب وتأجيل لقاء الموت هذا ، لكن قبضة الباب التي تحركت جعلتني أقف كبيدق أسود محاصر على رقعة تجمعت حوله كل الحجارة البيضاء . فتحتْ الباب و دخلت بخطواتٍ متثاقلة تسبقها رائحة الفاجعة التي اخترقت عظامي .قالت بصوت كأنه يأتي من قعر بئر عميقه :ـ أخيراً ...وصل كمال ؟ توقفَتْ قبل خطوةٍ مني عندما شاهدت ذراعي ممدودتين لاحتضانها .. فرغم السنوات العشر التي عرفتها بها لم يصل اللقاء بيننا إلى أكثر من الشد على الأيدي .. .. كانت دائماً تؤجل القبل وفرحها وفرحي بآن ..بدت كأنها كبرت سنوات عن الأمس ، شعرها الأجعد المسترسل بلا ترتيب على خديها ، وعيناها المجهدتان الغارقتان بلون النزيف ، وجزء من صدرها المكشوف كانت كلها تشي بوصول الفاجعة إليها ..قبلي ، ولست أدري كيف ، فأنا الوحيد الذي عرف خبر موت كمال قبل دقائق فقط ..من قدومي إلى غابة السنديان هذه ..كانت تحدق بعيني اللامعتين وأنا أحبس تلك الدمعة القاسية اللعينة .. قالت مختصرةً كل المسافات التي كانت تفصلني عن تلك اللحظة القاسية بعرف وصل كمال اليوم من أمريكا .. لست أدري كيف مشيتُ تلك الخطوة .. غمرتها .. وأنا أقول بصوتٍ مرتبك متهدج .. ـ يعني عرفت بالخبر .. ألقيت برأسي على صدرها و انفجرتُ ببكاءٍ ملأ كل المكان ..غمرتني ، و لأول مرة أحسست بدفء أنفاسها على وجهي ، وهي تهمس بأذني : - كمال كان هون قبل شوي .. وقلي " لا تشيلي الزينه .. مع الخريف الجاي راجعلك"
| |
|
|
|
|
|
|
| |