محمد المكى إبراهيم ثروةٌ قوميه وثورةٌ مستعرةٌ متجدده.......

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-10-2024, 01:28 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2015م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
03-08-2015, 11:57 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
محمد المكى إبراهيم ثروةٌ قوميه وثورةٌ مستعرةٌ متجدده.......

    10:57 PM Mar, 09 2015
    سودانيز أون لاين
    munswor almophtah -
    مكتبتي في سودانيزاونلاين




    محمد المكى إبراهيم ثروةٌ قوميه وثورةٌ مستعرةٌ متجدده

    ما أنفصل عن وطنه أبداً، بل ظل متصلاً به، هائماً فى غرامه وعازفا لحون
    عشقه بذات الوتر الذى ألهب أشواق الملايين، وما زال يفعل فى أجيال لم تجايله،
    وأجيالٍ آتيه. يفعل ذلك وكأنه المهاتما غاندى خصه
    الله بالكلمه النافذه والعباره الناسفه والمواقف الناشفة الصلبه، سعى وما
    زال يفعل بكل ما يملك بالمباشره وبالإشارة والإيحاء وفعل ذلك بالجهر
    وبالسر وما بينهما حتى ظن البعض أنه ترجل عن صهوة فرس فتحه
    ومخلوفة بشاريه الشوباح، إلا أنهم لم يقرأوه كما ينبغى ولم يتمعنوه ولم
    يمعن جمعهم النظر فى خراجه وحراكه وتفاعله وإنفعاله ذلكم الرجل
    الشعبى المحبوب المجذوب بحب الله والجاذب إليه الناس بحسه
    وسلوكه ومسالكه المعبدة بمعرفته ووعيه وفتوحات ربه والإلهام وهكذا
    يمنح الله الشعوب أناسا ثمينة المعدن عالية المقام كريمة المعشر
    والخلق جديرة بتحقيق أحلامهم وقادرة على إشباع رغائبهم الوطنيه
    بوطنيتهم العامره وخبرتهم ببواطن الأمور وخباياها، تلك الأمور
    التى يعانى الإنسان من خللها ومن قسوتها عليه وظلمها له ولأن
    عدم قنوط الناس برحمة الله يرون المخرج فى أمثال ود المكى
    وهو لم يتوان ولم يتردد أبدا ويجاهر بأرائه ويناكف بفكره ويقاتل
    بكلمته القذيفة الخارقة الحارقه، ورغم ذلك تجد من البغاث من
    يحاول الإستنسار عليه وتجد من ذوى رخو المعرفه مرخرخى
    الفكر يتطاولون عليه ولكن هيهات لهم بغنته ذلكم السامق
    الباسق الراسخ، الذى قرأ لوح السودان باكراً وشرفه بسمح القول
    وختمه بمعرفة الفلاسفه وقدمه للناس عصيرا من منقاهم وجوافتهم
    وأنناسهم وشربوه ومازالوا يفعلون فمن فعل مثل ما فعل ومن بذل مثل
    ما بذل ومن قدم مثل ما قدم ومن له قبول مثل قبوله وما يستحقه
    من الوطن لم ينله بعد لا بل لم يستطع الوطن تقديمه له وما فعلته
    دياره وديار أهله له هو بعض جميل لا كله مثله يتشرف بتكريمه
    الوطن كله له، إبناً باراَ من فصيل البررة الأخيار، وتحت أى وضع
    ونظام فالأنظمة عارضة متبدلة متغيره، ولكن الشعب والوطن باق
    ما بقيت الحياة، فهو ليس بمتسول، ولا مستكسب، ولا محتاج، فقد تسنم
    الوظائف كلها، ونال حظوته ومكانته ومقامه إلا أن واجبنا وواجب
    الوطن تجاهه يبقى ما بقى الوطن أبداً.


    منصور
                  

03-09-2015, 08:38 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمد المكى إبراهيم ثروةٌ قوميه وثورةٌ مستعرةٌ متجدده....... (Re: munswor almophtah)



    قال لي فارس الجنجويد:

    هاتها

    قلت :اسورتي؟

    قال لي هاتها

    كنت وحدي

    كنت خائفة ً،

    والمخيَّم كان بعيداً

    والبنات اختفين وراء السياجِ ،

    واصبحت وحدي

    قلت:

    خذها

    وبسطت يدي

    سطع البرق من يدهِ،

    ورأيت يدي وهي تسقط في الرمْل هامدةً،

    ورأيت غزالاً يوليّ

    ودمٌ احمرٌ يصبغ الرمل حولي

    قال لي فارس الجنجويد:

    ارفعيها
                  

03-10-2015, 11:50 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمد المكى إبراهيم ثروةٌ قوميه وثورةٌ مست (Re: munswor almophtah)

    الصفحة الرئيسية » حوارات

    الشاعر والدبلوماسي محمد المكي إبراهيم لـ(الصيحة):
    تاريخ الخبر 18-01-2015 | عدد الزوار 180
    More Sharing ServicesShare|Share on facebookShare on myspaceShare on googleShare on twitter
    يقال إن محمد الأمين خليفة طلب إلغاء نقلي إلى النمسا سفيراً
    اكتشفت أن استقالتي لم تُقبل وحُوِّلت إلى إنهاء خدمة
    أحلام أكتوبر لم تدم طويلاً ولم تجد الوقت لتحقيقها
    وُلدنا في مناخات مختلفة عن بقية العرب وهذا قدر لا بد من مواجهته
    هذا (...) أمر أسرِّه في نفسي وقرار هجرتي كان سليماً
    نعرف عن الصادق المهدي فقط أنه المثقف الذي يطلع على إنتاجنا
    قرأتُ لسعاد الفاتح كلاماً جميلاً ورهيباً في صالح المواطن
    حوار: عوض الكريم المجذوب
    محمد المكي إبراهيم اسم له مكانته في الساحة الإبداعية، ولكن للاسم خصوصيته عندما يحين شهر أكتوبر ويتغنى الناس (باسمك الأخضر يا أكتوبر) فيتذكرون ود المكي الذي غاص في وجدان كل سوداني بأكتوبرياته فهو عاشق للحرية والجمال. عندما كُلفت من قبل الأخ مدير التحرير بأن أجري مقابلة مع الشاعر العظيم محمد المكي (شلت الهم) ورحت أفكر كيف يكون هذا الحوار فالرجل خرج غاضباً من أهل الحكم قبل عشرين عاماً وعاد إلى بلاده وهي أكثر قتامة، هل نتناسي الأمر ونتحدث عن الأدب والثقافة بعيدًا عن السياسة، فهذا لا يصح، فالقارئ متلهف لسماع إفادة هذا الرجل حول فترة مهمة من تاريخه، اتصلت به.. جاءني صوته دافئاً كعادته.. أهلاً وسهلاً مرحِّباً بي، وعندما عرفني وأدرك مقصدي رحب بي بحرارة قائلاً: أنت تأمر وأنا تحت أمرك، وحتى تلك اللحظة لم أكن أدري ماذا أريد لحواري هذا أن يكون، وقبل اليوم المحدد تذكرت بعض المقابلات التي أجريت مع الشاعر الكبير محمد المكي وتذكرت بعض الإجابات التي كانت غامضة بالنسبة لي فقلت لماذا لا تكون هذه التساؤلات مدخلاً لهذا الحوار، وفعلاً كان هذا الحوار الذي جمع بين السياسة والثقافة، وفيه أضاء المكي إضاءات كاشفة حول أكتوبر ، كاشفًا أنه استقال من الخارجية، لكن استقالته لم تقبل وحولت إلى إنهاء خدمة في عهد الأستاذ علي عثمان محمد طه، ثم تطرق الحوار إلى أشعاره والكثير من القضايا التي سوف تجدها أيها القارئ الكريم في ثنايا هذا الحوار.
    *الشعر انعكاس لموهبة.. ولكن ذلك لا يكفي لإنتاج ما نصبو إليه من إبداع، ماهي العوامل التي أسهمت في تشكيل تجربة محمد المكي؟.
    - طبعاً الاطلاع وممارسة الكتابة نفسها، ولعل كلما كتب الشخص أكثر ارتفع مستواه وثالثتهما معاشرة المبدعين الآخرين ومضاهاة نفسك بهم خاصة وأنت أقل منهم فهذا من التطلع إلى الأعالي، وخاصة مصاحبة الشعراء الكبار، والحمد لله أنه أتيحت لي أن ألتقي بالشاعر الكبير محمد المهدي المجذوب الذي بنظري أعظم شاعر في تاريخ السودان (رحمة الله عليه) عن طريق معاشرتنا له واطلاعنا المبكر على إنتاجه، بمعنى أنه كان كلما يكتب قصيدة أرانا لها، فهذا ما نفعنا، بالعوامل الثلاثة افتكر أننى بلغت النضوج، وأصبح لشخصى أسلوبية محددة في الكتابة والتعاطي مع الأمور.
    *ومن كان له الفضل في اكتشاف موهبتك؟.
    - أعتقد أن الموهبة تعلن عن نفسها، وبالنسبة لحالتي أعلنت عن نفسها مبكرة جداً لأن جيراني وإخواني لقبونني بالشاعر منذ الصغر، وكلما وقفنا أمام مشهد فيه نوع من الجمال يقولون لي أكتب فيه، وأنا لا أكتب، ولكن منذ وقت باكر ارتبطت بالشعر، وكنت شخصياً أراقب نفسي وأنتقدها، وأعرف أن الأشعار الباكرة لا تعيش، فلابد من الأفضل فالأفضل، ولهذا السبب لدي عدد محدود من القصائد، ولم أفرط ولم يصبني الإسهال الكتابي ومتطلباتي في القصيدة الجميلة، وفي الشعر العظيم متطلبات صعبة جدًا ولا أرضى عن إنتاجي إلا في أحوال نادرة جدا..
    *سألك ضياء الدين بلال في مقابلة تلفزيونية بقناة "الشروق" عن متى تستجير بالصحراء؟
    كانت إجابتك (يوميًا تقريباً وملاذي الأكبر الشعر العربي القديم وصداقاتي مع العرب الحقيقيين سواء كانوا قطريين أم سوريين)..
    *ماذا تقصد بالعرب الحقيقيين هذه أستاذ مكي؟.
    - طبعًا أنا أرى أن عروبتنا مدخولة، مدخولة بهذه الألوان والسحن التي تميزنا عن بقية العرب كلهم، فنحن ذوو ثقافة عربية، فنحن أفارقة مستعربون بنجاح كامل، ولا نأخذ هذه الكلمة باستحقار أبداً، نحن عروبتنا الثقافية كاملة الدسم، محبتنا للعرب وما يمثلونه في التاريخ البشري كاملة، كل ما هنالك أننا ولدنا في مناخات مختلفة عن بقية العرب، نحن نحمل هذا الميسم في وجوهنا، فلا مهرب منه ويجب التعايش معه، ونحن فكرنا في ناحية الأصل الخلاسي والهجنة الثقافية فهذا عبء كبير، ولكن افتكر نحن السودانيين لها وسوف ننهض بها يوماً من الأيام، هنالك بالمناسبة شعوباً مماثلة مثل الشعوب في جامايكا والكاريبي، يعيشون نفس ظروفنا وأشد لأنهم لا يدرون أنفسهم أنجليز أم سلالة الأرقاء الذين أخذوا إلى هناك، قدر هو لابد من مواجهته، أما عن كلامي ألوذ بالصحراء كل يوم فأقصد به الثقافة العربية في المجال الذي يهمني وهو المجال الأدبي، ويوميًا أقراً شيئاً من الشعر وشيئًا من القص وشيئًا من القرآن، والسير فهذا زاد المثقف اليومي، ولكن بمناسبة هذه المقابلة فهي كانت أول مقابلة بعد وصولي السودان بأيام بسيطة وكانت مقابلة قاسية، أشبه ما تكون بالتحقيق في جريمة، الرجل مشكورًا أو غير مشكور فتح صفحتي في قوقل ووجد كل الأشياء التي ارتكبتها وهي كلها أعمال أدبية أو أعمال معارضة وجابهني بها جبهاً، وكأنما توقع أن أتملص منها أو أعتذر، هذا لم يطف ببالي أن أنكر حياتي وأنكر شخصيتي، فكل ما اتهمني به أنا فعلته وكل القصائد التي يراها حادة أو مجرمة أنا كتبتها، وأزيدك من الشعر بيتًا، أنا معتز بهذه الأشياء وأتمنى أن تسهم في إعادة الحكم إلى صوابه.
    *قصيدة قطار الغرب (اللافتة البيضاء عليها الاسم.. باللون الأبيض باللغتين عليها الاسم.. إلى.. ونزلنا في الخرطوم بلا استقبال)، الآن إذا ركبت قطار الغرب ماذا تقول؟.
    - لو قدر لي أن أركب قطار الغرب مرة أخرى سأكون أسعد الناس، كان صلة وصل في لحمة الوحدة الوطنية، والثقافة السودانية، فكل مشوار مشيناه ذهاباً أو إياباً كان يكسبنا معلومات عن بلدنا، وفي نفس الوقت كان يمثل أملاً لهذه الأمة بالنهوض، فهو كان الناقل الأساسي لما في الغرب من حاصلات تباع هنا أو هناك لتعود إلينا مدارس ومقاعد ومستشفيات، نميري غفر الله له أعدم هذه الصلة وقطع هذا الرحم، فنحن في كردفان لا نستطيع أن نعيش بدون أهلنا في الجزيرة والخرطوم، وهذه علاقة وشيجة وما يصيبهم يصيبنا وما ينوبهم يعز علينا، وإذا عاد أكون أسعد الناس، وفي رحلته الأولى أكتب كل ما أستطيع تمجيدًا لهذا القطار.
    قبل أيام كنت في الأبيض، محطة القطار كانت أطلالاً، ذهبت أبحث عن هذه اللافتة البيضاء ولم أجدها اختفت بحثت عنها ولم أجدها ولم أجد غير أطلال المحطة، كنت أغالب الدمع وأنا أنظر إليها لأن كل شبابنا قضيناه في هذه الرحلة المستمرة حتى بعد تخرجنا في الجامعة، كنا نرجع لزيارة أهلنا ودفن موتانا وعيادة مرضانا، فغيابه يمثل هدماً لذكرانا وهدماً لحياتنا، خاصة أيام الشباب، وهذا أجمل ما فيها، فهذا شعوري نحو القطار إذا عاد.
    *لو لم يكن الوالي في كان كردفان قريبك (كما قلت) كيف يكون استقبالك هناك، وخاصة أنت قلت أنك لم تقابل بحفاوة رسمية؟.
    - هو قريبي وليس قريبي في نفس الوقت، يعني هو قريبي بمعنى نحن الاثنان من مدينة واحدة أعرف حيه ويعرف حيي، لي صلة بأهله وله صلة بأهلي، درسنا في نفس المدارس بفارق زمني نفس خورطقت، التي غادرناها فجاء هو ودرس بها، وأحرز فيها نجاحات كبيرة جداً، لكن نحن أهل السودان لما نقول هذا قريبي يعني نقصد أنه من نفس القبيلة أو بيننا صلة الدم، وأفتكر أن السحنة الثقافية الكردفانية أقوى من صلة الدم، وأفتكر لو قابلته في أي منطقة ووسط أي مجموعة من الناس ممكن نصبح أصدقاء وأصحاب، نعم لولا أنه كردفاني السحنة لما اهتم لهذه الدرجة، لكنه ابن الإقليم فهو قد قرأ إنتاجي وتابع أخباري كما تلمست، وبغض النظر فهو يعتبر كردفانياً يهتم بكردفاني آخر، وأظن أنه لو كان هنالك والٍ آخر أظنه ما كان سوف يهتم بهذا التكريم الفخيم.
    *هل هنالك جهة أخرى كرمتك أستاذ محمد المكي؟
    - نعم.. إخواني في الجزيرة، احتفلت معهم بالاستقلال وكرموني أيضاً ولكن لا مقارنة بين الاثنين، مع شكري الجزيل لأهل مدني وواليها الدكتور محمد يوسف ولوزير الثقافة المهندس الفاتح.. وأنا ممنون لهم جداً، ولكن احتفال الأبيض لا يضاهى.
    *صف لي مغادرتك السودان بعد خروجك من المجلس الوطني؟.
    - قدمت استقالتي من المجلس الوطني، وكان السيد محمد الأمين خليفة يقول لي قدم استقالتك، كان يقول ذلك، وكأنها أمر مستحيل، وهو أمر طبيعي جداً، وبعد استقالتي عدت لوزارة الخارجية بضعة أشهر وكنت أقدم المقيمين من السفراء، وكان المفروض أن أنقل للخارج حتى أستطيع أن أحسن من وضعي وتوفير جو جيد لدراسة أبنائي، تقرر نقلي إلى النمسا سفيراً، ولكن تقول الإشاعات إن محمد الأمين خليفة اتصل بالقصر وطلب إلغاء النقل، والخارجية مشكورة تكفلت بإكمال المشوار وإبعادي من الإدارة الكبرى والمهمة والتي كنت أشرف عليها وهي الإدارة الإفريقية، بإبعادي إلى ما يسمى إدارة العالم الثالث، وهي في ظني انقرضت الآن، وكان في إعتقادي أنها مكلفة بشتم وسب الدول الكبرى، وهذا أمر لم أكن مستعداً له، فقدمت استقالتي، واستلمها وزير الخارجية في نفس اليوم، وقابلني وكان الوزير وقتها علي عثمان محمد طه، وأبدى أسفه أن أستقيل في زمن توليه الوزارة، واعتبرت أنها أمر واقع وشرعت في إجراءات السفر.
    فبعد مرور السنين والسنين استطعت أن أعرف أن استقالتي لم تقبل وإنما حولت إلى إنهاء خدمة، كانت رفقة (أجارك الله) ولا يتشرف المرء بأن يكون واحدًا منهم، وهذا أمر أسره في نفسي، لذلك كان قرار الهجرة قرارًا سليماً، والهجرة لرجل في سني ويحمل عائلة بحجم عائلتي كان أمراً صعباً، لأنك موزع بين الخوف على أولادك والخوف على تعليمهم إلى بحثك الشاق عن العمل الملائم، أكرمني الله سبحانه وتعالى وعملت بالأمم المتحدة وانتدبوني لمرافقة وفد مفتشي الأسلحة في العراق، كانت إقامة طيبة رغم أن العراق كان في أبأس أحواله وعند عودتي من تلك المهمة تيسر لي أن ألتحق بخدمة السفارة القطرية بواشنطون مستشارًا للسفير، والقطريون ناس أفاضل وبعد خمس سنوات هاجرت إلى كاليفورنيا حيث عملت بالتدريس في أحد المعاهد، والآن تراني عدت للبلد.
    *إذاً أستاذ مكي أنت تحترم الصادق المثقف وليس السياسي..
    -حتى كسياسي أحترمه كثيرًا وأحترم إيمانه بالديمقراطية ليس بالكلام وإنما بالتنفيذ الحقيقي، ولا يمكن لمؤرخ للديمقراطية أن يجد عنده شيئاً من الهنات عن الديمقراطية، وإنما تجد حرصاً عليها وإيماناً كاملاً بها، كنت مرة في كندا وسألتني سيدة هل تستطيع أن تذكر إنجازاً واحدًا للصادق المهدي، فلم أشأ أن أرد عليها، وكان بإمكاني أن أرد عليها، ففي عهده القصير استطاع أن يبني طريقًا لنا يربطنا بكوستي، يربط الأبيض بكوستي، وأنا شخصياً قدت سيارتي بهذا الطريق، وكان من أجمل ما شهده السودان من طرق، وسط هذا الفقر والإفلاس الذي أدخلنا فيه النميري، فهذا الطريق بلمع كاللؤلؤة.
    *محمد المهدي المجذوب قال:(الشاعر في السودان مذبوح.. دمه من المشهيات) تعليق..
    والله أصاب بشروط الزمان والمكان، كان الشاعر دائمًا هكذا في زمانه، الآن أرى شعراءنا يحسنون أوضاعهم بعض الشيء لكي يتفادوا عملية الذبح، وأرى عدداً كبيراً من الشعراء الأطباء والمهندسين ومشتغلين بالعمل الحر ويمارسون الهواية الشعرية فظهورهم مؤمنة وهذه كلها ضد أنواع الذبيح والقتل.
    *ثمة رأي يقول إن المشهد الشعري السوداني أصبح يعاني كثرة الشعراء وقلة الشعر؟.
    - (ضاحكاً) معقول هذا شيء محزن، والله أنا جديد طبعاً في المدينة عشت أربعة أشهر كلها حركة واتصالات ولقاءات ولم أجد وقتاً للقراءة.
    *وهل الشعر نفسه صالح لهذا الزمان؟
    - الشعر صالح فى كل الأزمنة والأمكنة ولو لاحظت بيتسرب من الدواوين ويذهب إلى أماكن أخرى غير متوقعة، وهو جزء من صناعة الأغنية وجزء من الدعاية وكثيرًا ما يتسرب في الدول الأخرى إلى السينما فتحس أن هنالك مناظر وقصصاً ومشاهد شعرية، لذلك لا أعتقد أنه سوف يموت، وأعتقد أنه كلما اقترب من الحياة يثري هذه الحياة ويساعد في سيرها إلى الأمام.
    * أستاذ مكي، عندما تكتب القصيدة هل تفكر في القارئ وأنت تكتبها؟
    - لا.. لا أفكر في القارئ، وبالرغم من أنني بطيء جدًا في كتابة القصيدة، يعني أبدأ وأعود وأكتب بيتين ثلاثة وأعود وأنساها ويوم من الأيام تكتمل في ذهني وأكتبها فليس أنا شاعر الإلهام أنا صناع، وأعترف بأني صناعي جداً، وحتى الأشعار التي قارب عمرها الأربعين عاماً أعدل فيها لو سنحت الفرصة وأعدت طباعة أحد دواويني.
    *الشعر هو الفرصة الوحيدة للمبدع لينصت لعزلته، هل أعطتك القصائد فعلاً هذه الفرصة للتأمل؟.
    أبداً.. أنا دائمًا أنصت للقصيدة نفسها يعني تجدني أسجل عنوانها، وبعد قليل أسجل مطلعها، وأنا لا أستمتع بكتابة الشعر، وهو عملية مؤلمة، فهو حفر شديد في اللغة والمحاولات، وزمن كنت أكتب على الورق، كنت أصحو الصباح وأجد سلالاً من الورق المدمر، الآن الكمبيوتر سهل الحياة، وأنا لست مع هذه العبارة ولا أستمتع بممارسة العزلة ولا أرغب فيها.
    *سمعت من قبل أن داخل كل شاعر طفلاً ما، هل بداخلك هذا الطفل في أعماقك وهل هو مشاغب أم مدلل؟
    لا أظن.. لقد شخنا أو كما قال التونسي (لقد هرمنا).. أفتكر مع الزمن يضمحل هذا الطفل وربما يعود مع الخرف أو مع بواكير الخرف.
    *كيف يختار محمد المكي عناوين قصائده ودواوينه؟
    - لا أدري حقيقة، ولكن أحياناً آخذ العنوان من (بطن القصيدة) سواء كان معبرًا عنها مثل الحظر لأنها كتبت في أكتوبر وأيام حظر التجوال، أو الرنين الأعلى في القصيدة مثلاً خلاسية، أعجبني هذا البيت جداً فاخترته عنوانًا لديواني الصغير الذي نشرت فيه القصيدة، أفتكر بهذين العاملين، التعبير الدقيق والرنين العالي أختار العنوان.
    *أستاذ مكي إذا طلب منك أن تكتب مقالاً في عمودك (ظلال وأفيال) بعد العودة للسودان، الآن ماذا تكتب؟
    - منذ أن وصلت السودان في رأسي مقالان الأول عن عظمة المرأة السودانية، فعندما هاجرت تركنا النساء في الخدور، (الله.. إيه العظمة دي) كل النساء.. قرأت للسيدة سعاد الفاتح كلاماً جميلاً ورهيباً في صالح المواطن، أنا أقدر المرأة وأريد أن أكتب ذلك وأعبر عنه في عمود أو قصيدة.
    أما المقال الثاني الذي أريد أن أكتبه هو شهادتي عن الخرطوم، قبل موجة البرد هذه كنت أصحو باكرًا وبعض الوقت أقضيه في الشارع متأملاً..

    (عدل بواسطة munswor almophtah on 03-10-2015, 11:56 PM)

                  

03-11-2015, 00:06 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمد المكى إبراهيم ثروةٌ قوميه وثورةٌ مست (Re: munswor almophtah)


    اكتوبر 1964 .. مشاهدات ومحاولات للتحليل ... بقلم: محمد المكي إبراهيم
    مرة أخرى أكتوبر 21نشر في سودانيل يوم 20 - 10 - 2010

    Ibrahim ELMEKKI mailto:[[email protected][[email protected]]
    تعود ذكرى ثورة الحادي والعشرين من أكتوبر فتمتلئ أوداج السودانيين بالنخوة والحماس،ومن تحت رماد الهزائم يسطع نور الأحلام الكبيرة التي حملتها أجيال السودانيين ممن عاصروا تلك الهبة الشعبية الكبرى للإطاحة بحكم عسكري مستبد ثم من جاءوا بعدهم وعاشوا انتفاضة ابريل 1985 التي أطاحت هي الأخرى بحكم عسكري فاسد. ويحلو للسودانيين النظر إلى المناسبتين كنهج ثوري متصل يعبر تمام التعبير عن شعب السودان الذي يصبر ويصابر حتى يظن مضطهدوه أنه قد استسلم واستكان، وعند ذلك يهب كالإعصار فتنهار وتتهاوى أمام طوفانه الكاسح معاقل المستبدين. وتعبر الثورتان بجلاء تام عن توق السودانيين الأبدي إلى الديمقراطية وتعلقهم بها ليس فقط كنظام عادل للحكم والتفاكر وإنما أيضا كوسيلة لتحقيق إنسانيتهم كأفراد ورثوا حرية الرأي والجهر به انطلاقا من خلفيتهم البدوية ولم يتعودوا السير قرب الحائط منكسي الهامات. ومن ينظر في تاريخ السودان يجد فيه مصداقا على وجود تلك الدورات المتعاقبة والانتقالات من السكوت على الظلم إلى الثورة عليه، فقد كان ذلك شأن السودانيين في الثورة المهدية في أعقاب استبداد دام ستين عاما وفي ثورة 1924 وفي القتال الباسل الذي خاضته قبائل الدينكا والنوير ضد الحكم البريطاني أول قدومه على البلاد كما كان ذلك شأنهم في ثورة الاستقلال وليكونن ذلك شأنهم إلى أن تنطوي صفحة المستبدين والطغاة وينتشر نور الديمقراطية في الأنحاء.

    مضت عقود عديدة على ذلك التاريخ المجيد جرت خلالها مراجعات كثيرة حول هبة أكتوبر الشعبية فاعترفت الثورة ببعض ما تمتع به غرماؤها من فضائل وما وقعت فيه الثورة نفسها من خطأ أو قصور دون أن يحجب ذلك عن الثورة وهجها المؤتلق ولم يجردها من شرعيتها وتاريخيتها.وحاليا يميل السودانيون إلى الإعراب عن احترامهم للرجل الذي كان على رأس النظام الذي أطاحت به الثورة وهو الفريق إبراهيم عبود وليس ذلك فقط لفضائله الشخصية ( من نزاهة وتقوى وتواضع وروح أبوي وضعته فوق كل العسكريين الذين حكموا السودان) ولا لحسنات نظامه الذي يبدو الآن، وباستدبار المعطيات، أفضل حكم عسكري عرفته البلاد وإنما أيضا لروحه الأبوي وبعده عن ارتكاب الفظائع التي أقدم عليها من خلفوه في حكم البلاد.ويميل السودانيون إلى الاعتراف بالمظالم التي جرى ارتكابها باسم الثورة ويخصون بالذكر شعار "التطهير" الذي أطاح ببعض رجالات الخدمة المدنية في ذلك الزمان ثم صار سنة يتبعها الدكتاتوريون في الفتك بموظفي الخدمة المدنية واستبدالهم بقليلي الخبرة من المتظاهرين بالولاء.ولكن ما حرك الثوار عام 64 كان شيئا مختلفا عن كل تلك الاعتبارات فحينها لم يكن قد مضى على الاستقلال سوى ثمانية أعوام وكانت أحلامه لا زالت تملأ أفئدة الجماهير ثقة بمستقبل باهر يفتح أبواب التقدم والنماء أمام شعب ذكي وبلاد مليئة بالإمكانات.وإذا كان نظام الفريق إبراهيم عبود سريع الخطوة بالنسبة للعسكريين السلحفائيين الذين جاءوا من بعده فأنه كان بمقاييس زمانه بطيئا ومترددا وفقير الخيال.وكان الجمهور يرى إمكانية موثوقة لتحقيق المشاريع الإنمائية الكبرى في الداخل واللعب على حبال القطبية الثنائية لفترة الحرب الباردة في السياسات الخارجية بما يساعد البلاد على تحقيق أحلامها.
    بعد عشرين عاما من انتصار هبة 21 أكتوبر استخدم السودانيون نفس الأساليب الكفاحية:الإضراب السياسي العام والتظاهر المستمر ليلا ونهارا إلى أن سقط نظام النميري وراح. وكان هذا الأخير قد تحسب لمثل ذلك اليوم وأخذ أهبته لمواجهة هبة شعبية من ذلك الطراز. والواقع أنه لم يأت السودان نظام دكتاتوري إلا كانت أكتوبر في طليعة هواجسه والاستعداد لها ونقضها على رأس أولوياته.ومع ذلك فشل تدبيرهم وداسته أقدام الثوار ولم يبق الآن سوى مواجهة أخيرة ينتهي بعدها عصر الدكتاتوريات والانقلابات إلى الأبد وتشرق شمس الديمقراطية من جديد.ومع ذلك لا بد من الاعتراف بأنه قد تغيرت المعطيات فمنذ الستينات وإلى اليوم تبدل ميزان القوى المادية بين الشعوب والنظم الاستبدادية فاكتسبت هذه الأخيرة وسائل وتقنيات جديدة للقمع والتضليل.فقد ضم المستبدون إلى ترساناتهم الإذاعة والتلفزيون والرصاص المطاطي والغازات المسببة للشلل المؤقت والغثيان إلى جانب السيارات المصفحة وخراطيم المياه قوية الدفع وكافة علوم ووسائل السيطرة على الهياج الشعبي.وتطورت أجهزة الأمن من أيام "الصول الكتيابي" لتشمل أجهزة الأمن الأخطبوطية متداخلة الاختصاصات. أما معسكر الشعوب فلم يكسب شيئا سوى هذا الحلف العالمي ضد الدكتاتورية وهو حلف له أسنان ولكنه لا يريد أن يكشف عنها إلا في الحالات القصوى ولكنه ويل للمستبدين حين يقر النظام الدولي استخدامها لمصلحة الشعوب.فقد رأينا نظام ميلوسوفيتش يندثر تحت القصف ليقف من ثم أمام محكمة التاريخ في لاهاي وها هو النظام العراقي يفتح أبواب سجونه ومؤسساته التسليحية تحت النظرة النارية للشرعية الدولية المتوعدة وهاهم رفاق دربه القدامى يصابون بالذعر وتطيش أحلامهم وهو يرون بعين الخيال ما سيحيق برفيقهم القديم الذي ناصروا فتكه بالكويت والكويتيين في مراهنة غير ذكية على حصان خاسر يحتاج للتحذية على أحسن الفروض.
    في ذات يوم تنازع الإسلاميون واليساريون على أبوة أكتوبر وعلى جثة القرشي شهيدها الأول ودارت حول ذلك المعنى مغالطات وجدل طويل فاليسار يدعي لنفسه تدبير الثورة وتحريك جماهيرها والإسلاميون يذكرون دور مرشدهم العام في مخاطبة الجماهير صبيحة الدفن وقبيل الثورة في ندوة مشهودة كانت ندوة أكتوبر التي فجرت الصدام تالية لها بأيام.ولكن الإسلاميين سكتوا عن ادعاء ذلك الفضل منذ أن تحالفوا مع الإمام النميري وبعده على مدى حكمهم الذي امتد 13 عاما حتى الآن.ويبدو أن حقهم أو نصيبهم من الحق في صنع الثورة قد سقط وراح لعدم الاستمرار في التقاضي خاصة بعد أن تحولوا إلى نظام عسكري دكتاتوري يتحسب هو الآخر للإعصار الاكتوبري الذي عودنا أن يهب فجأة ودون إنذار فيطيح بالعروش والأحلام النهارية ويضع حدا لصولة الذئب على الحملان. ولعل بعض المتأسلمين يخجل أن يكون لحزبه نصيب في أنجاح ثورة ديمقراطية مثل ثورة 21 أكتوبر وابنتها انتفاضة ابريل 1985 فيتستر على ذلك الجزء من تاريخ الحزب.ولا غرو في ذلك فإلى وقت قريب كان قائلهم يقول أن الديمقراطية كفر بواح لأنها تنصب الشعب مصدرا للتشريع والسلطات والأحرى أن تكون الحاكمية لله وحده ووضع الشعب شريكا للمولى سبحانه في السيادة والحاكمية عمل من أعمال الشرك بالله أحرى أن يتجنبه المؤمن الحقيقي.ولا يدري المرء أين يهرب المتأسلمون من قوله تعالى:"وأمرهم شورى بينهم" وغير ذلك من الآيات النيرات .ولكنهم قوم استباحوا كل شيء بما في ذلك الآيات النيرات ليعتلوا مركبة السلطة ويظلوا فيها ولو كانت تسير في الطريق المؤدي إلى جهنم وبئس المصير.

    * *


    بعد نجاح الثورة تسيد اليسار السوداني بصورة بدت منفرة للكثيرين مما ألب على الثورة عناصر الوسط واليمين، وبعد قريب من الأشهر الثلاث كان الحكم الديمقراطي الجديد ينكر على الثورة كونها ثورة إعمالا لمنطق شكلاني سقيم ويندد بمنجزاتها وينازع الطلاب واليسار وشرفاء العسكر شرف القيام بإشعال فتيلها وإنجاحها.ولم تمض أربع سنوات حتى كان العسكر يجثمون على صدر الشعب من جديد وللمفارقة كانوا يفعلون ذلك باسم الثورة الاكتوبرية التي قيل أنه كان لهم في أنجاحها دور مشهود إلا أن نصيبهم سرعان ما تمدد ليصبحوا آبائها الوحيدين ثم باخ بنظرهم كل ذلك فحكموا على ثورة أكتوبر بالنقض والبطلان وصار انقلابهم هو الثورة الحقيقية وظل الحال على ذلك المنوال إلى أن جاءت أكتوبر الثانية عام 1985 فأطاحت بحكم العسكر ولكن إلى حين ففي يونيو 1989 تسللت عصابة من الانقلابيين مرة أخرى لتطيح بالدستور والرئيس المنتخب وتفرض حكما ظلاميا هد قوي البلاد وألبسها لباس الخوف والجوع والذل والمسكنة ووضعها في مؤخرة دول العالم فقرا وجهلا وأوبئة وتصحرا فصارت عبرة لمن اعتبر.والآن تجنح شمس المتأسلمين إلى الأفول وذلك على مرحلتين: مرحلة التخلص من المرشد العام لجماعتهم وما يمثله من مبادئ والمرحلة الثانية هي مرحلة التخلي النهائي عن المبادئ والسير في ركاب العسكريين على نحو من الذل الفاجع والانهيار.ويخشى عقلاء السودانيين عقابيل هذه المرحلة الأخيرة حيث يسيطر على أقدار البلاد نفر من الخائفين المروعين في مرحلة حاسمة قد تنتهي بتقسيم السودان إلى دويلات.وليس أدل على ذلك الوجل من المناحة الرسمية التي حفت بصدور قانون سلام السودان في أمريكا والذي هو من أضعف ما صدر عن الإدارة الأمريكية من قرارات وهو أيضا لا يؤذي ولا يضر وليس له من قيمة سوى قيمته الزجرية ضد دولة أصبحت من طلائع الدول الناشزة وليس مستبعدا أن يقوموا بضمها إلى" محور الشر" في يوم قريب.
    وختام القول إن ثورة أكتوبر قد دخلت التاريخ السوداني لتبقى وتعيش وتفرخ وإذا تأخرت في العودة لتخليص الشعب من آلامه فأن ذلك أمر متوقع في ظل التوازنات الجديدة بين الشعب وجلاديه.وحتم من الحتم أن يبزغ نورها مرة أخرى فتضيء سهوب السودان مرة أخرى بنور الديمقراطية الثاقب الوضاء وتترعرع في رحابها الأحلام القديمة بسودان جديد يتوثب لأخذ مقعده في طليعة الشعوب العارفة المدربة ولا نرى أن ذلك يوم بعيد.


    من وقائع الثورة
    أيام تدير الرأس(1)

    في البدء كانت هنالك كلية غردون التذكارية التي طورها كفاح الخريجين السياسي إلى كلية جامعية وقفز بها الاستقلال إلى جامعة كاملة ثم أعطاها الاستقلال نفسه فرصتها الذهبية لتزيد أعداد منسوبيها وتتحول من جامعة صغيرة لبضع مئات من الطلاب إلى جامعة رحبة تضم الألوف.ويعود معظم الفضل في ذلك إلى جلاء الجيش البريطاني عن البلاد وأيلولة ثكناته إلى الجامعة الوليدة لتحولها إلى داخليات لطلابها .ولكنها لم تكتف بالثكنات الموروثة عن الاستعمار وإنما مضت تقيم المباني الجديدة في الميادين والملاعب والمساحات الخضراء التي آلت إليها لتزيد طاقتها الاستيعابية لطلابها المتزايدين.وبحلول عام 1964 كان العدد الأكبر من طلاب الجامعة يقيم في منطقة الثكنات السابقة بينما أخذت مباني غردون التذكارية تتحول إلى كليات ومعامل وقاعات للدرس والامتحانات.
    في اكتوبر1964 تداعى طلاب الجامعة إلى ندوة سياسية قرروا عقدها في منطقة الثكنات السابقة أي في الداخليات التي تأوي القسط الأكبر من طلاب الجامعة وكان في ذلك رسالة غاب فهمها على السلطات الأمنية لذلك الزمان فقد كانت الندوة تقام في السكن الرسمي لغالبية طلاب الجامعة أي في الموئل الذي يفزع إليه أولئك الطلاب إذا اصطدموا بالسلطات في شوارع الخرطوم أو في الحرم الجامعي حول الكليات .أما إذا أقيمت الندوة في المنطقة التي يسكنها الطلاب فذلك يعني أنه لم يعد لأولئك الطلاب من خيار سوى المقاومة المستميتة دفاعا عن ملاذهم الأخير. وفي ذلك وجه شبه بالقطة الأسطورية التي تلجأ للهجوم متى أغلقت بوجهها الأبواب وأظلمت الغرف وهو بالضبط ما حدث في تلك الليلة التاريخية.فبعد افتتاح الندوة بدقيقة أو دقيقتين انطلقت مكبرات الصوت بأيدي قوات الشرطة تطلب من الطلاب فض الندوة والتفرق ولم تفكر الشرطة إلى أين يكون ذلك التفرق فالطلاب في منطقة سكنهم وليس لهم من مأوى ولا سكن سواها وليس لهم من ملاذ غيرها.ويبدو أن تلك المعاني كانت واضحة في ذهن ممثل اتحاد الطلاب المكلف بإدارة الندوة فقد رد على تلم النداءات بهدوء طالبا من الحضور التشبث بأماكنهم والاستمرار في الندوة.وعند ذلك أنقطع التيار الكهربائي عن المنطقة وانهمرت عليها الغازات المسيلة للدموع . وفي الظلام الذي ساد المكان فقدت قوات الأمن تفوقها النوعي (ميزتها النسبية بلغة الاقتصاديين) وانهالت عليها حجارة الطلاب فلم تعد تعرف ماذا تتقي ومم تروغ وبدلا من الهرب من وجه قوات الأمن وجد الطلاب أنفسهم ملتحمين بتلك القوات في صراع رجل لرجلMan to man وحين لجأت الشرطة إلى إطلاق الرصاص كان ذلك بمثابة صيحة اليأس الأخيرة فلم يعد أمام الطلاب من مناص سوى الاستبسال في المقاومة حتى النهاية وما بعد النهاية.
    بعد قريب من الساعتين انجلت المعركة عن طلاب جرحى وعن أول شهيد لحركة الطلاب السودانيين - الشهيد القرشي الذي أردته رصاصة غادرة وهو يقف مع رفاقه في الصفوف الأمامية بمواجهة الشرطة.وحين نقول الصفوف الأمامية أعني الداخلية التي كانت تعرف باسم داخلية بحر الزراف فمن ناحيتها(من جهة الشمال)جاء الهجوم على الندوة وبحر الزراف هي الخط الأمامي واقرب الداخليات إلى المهاجمين.وهنالك حديث سخيف عن أن الشهيد العظيم كان متوجها إلى الحمام أو خارجا منه فأصابته رصاصة طائشة فذلك نفسه حديث طائش إذ كان مستحيلا في تلك الظروف أن يفكر أحد- مجرد تفكير – في أخذ دش بارد وقوات الشرطة تصوب نحوه غازاتها ثم طلقاتها القاتلة. وشخصيا لم أعرف الشهيد ولست معنيا بنوعية انتمائه السياسي ولكنني مهتم بأن تأخذ شهادته ملابساتها الحقيقية وبالتالي جلالها وتقديرها عند الأجيال فهو لم يكن فارا أو هاربا أو ساعيا للاختباء وقد لقي ربه في طليعة رفاقه وعلى الخطوط الأمامية- على خطوط النار والخطر.
    لقد مات معه وبعده كثير من شهداء ذلك المساء وما بعد ذلك المساء ولكنه أخذ الاسم بتعبيرنا السوداني فقد كان أول رعيل الشهداء وقائدهم إلى جنات الخلود وتحت صورته المأخوذة عن الكارنيه الجامعي سارت مواكب الثورة إلى نصرها النهائي. إلا أنه وبسبب من شهادته المجيدة لم يطرف لنا جفن بقية ذلك المساء فقد كان مطلوبا منا التوجه إلى مشرحة مستشفى الخرطوم الملكي وحماية جثمانه الذي كانت القيادة الطلابية تخشى أن تحاول سلطات الأمن سرقته وإخفاءه عن العيون تسترا على جريمتها في اغتياله على ذلك النحو المنكر.وفي مكان كئيب مفروش بالحصى قضينا ليلتنا الدامعة منتظرين أن يأتي لصوص الجثث ويقع الاشتباك الكبير.ولكن أحدا لم يأت ليحاول ذلك الفعل القبيح ويبدو أن ترتيبا ما قد تم مع أطباء المستشفى فقد جرى تأمين الجثمان بصورة من الصور وصار مسموحا لنا العودة إلى داخلياتنا لنغتسل ومن ثم نتوجه إلى ميدان عبد المنعم (ذلك المحسن حياه الغمام) لتشييع الجثمان وإكمال ما بدأ من فعل الثورة المجيد.



    أيام تدير الرأس(2)

    بعد إفطار سريع مبكر عن مواعيده خرجت جامعة الخرطوم متجهة إلى ميدان عبد المنعم لتشييع الشهيد القرشي.وكان الحزن هو السمة الغالبة على ذلك المشوار الطويل ولكنه كان يتحول رويدا رويدا إلى غضب حارق مدمر.وكان مثيرا لأقصى درجة لقاء تلك المظاهرة الصامتة بمواكب من مختلف المدارس والنقابات والهيئات تتخذ هي الأخرى طريقها إلى ميدان ذلك المحسن حياه الغمام. ووقتها كان اكبر ميادين المدينة ولم تكن قد نشأت فيه أيا من تلك المباني التي شيدها فيه –فيما بعد – النظام المايوي البائد ولم يكن اسمه قد تغير إلى ميدان الأسرة بدلا عن اسمه القديم. وكان مؤثرا جدا منظر الموكب الصامت لطلاب المدرسة الإنجيلية الذين حملوا في مقدمة موكبهم قماشة سوداء دلالة على الحزن. ومع أن الوقت كان مبكرا إلا أن الكثيرين وجدوا الوقت لاستنساخ صور الشهيد ورفعها شعارات لتلك المواكب.
    في الميدان الكبير وقفت شاحنة كبيرة عليها الجثمان وكان في قمتها الدكتور الترابي والدكتور حسن عمر. وقد تولى الدكتور الترابي الجانب الديني في مقتل القرشي منهيا حديثه برجاء للحضور بالتزام الهدوء بينما تناول الدكتور حسن عمر منه الميكرفون وقال كلاما مناقضا لفكرة التزام الهدوء.وبالفعل لم تكد تنتهي تلك المراسيم حتى قام الجمهور بقلب سيارتين من سيارات الشرطة وإشعال النار فيهما.وعلى اثر ذلك انطلقت من نفس الميدان أولى المظاهرات الاكتوبرية التي كان مقدرا لها أن تسقط النظام العسكري في اقل من أسبوع.
    • *
    بدا لي مهما جدا التعبير لعائلة القرشي عن تقديرنا لفقدها الجليل وللتضحية البطولية التي أقدم عليها ابنها المقدام ورأيت من المناسب المشاركة في التشييع والدفن في القراصة قرية الفقيد. وفي قرابة الخمسين من الزملاء ركبنا الشاحنات المتوفرة إلى تلك القرية التي دخلت التاريخ الكفاحي للسودان من أوسع أبوابه. وبعد الفواتح الأولى مع عائلة الشهيد تحرك جمعنا إلى مدافن القرية حيث رأيت للمرة الأولى في حياتي كيف يقوم أهلنا في الجزيرة بمراسم الدفن.فعلى تلك الأيام كان الدفن في كردفان يتم بطريقة مغايرة إذ كان هنالك دائما قرميد في استراحة المقبرة وكان من واجباتنا في الطفولة أن ننقله إلى حيث يحفر القبر الجديد ليتم رصفه فوق "ود اللحد" بقوة وإحكام ومتى تم ذلك شرعنا في إهالة التراب على المقبرة بالواسوق ثم تقبيبه(جعله على هيئة القبة) فوقها للضمان.أما أهل الجزيرة فكانوا يصنعون اللبن من تراب الجزيرة الأسود الكثيف ويضيفون إليه ما توافر من القشوش ويصنعونه بحجم اللحد ويرصونه فوقه إلى أن يتساوى ببقية القبر ومن ثم يهيلون التراب بالواسوق أيضا.
    بكينا وهتفنا في المقبرة وردد الزملاء ورائي كلاما بسيطا من نوع:"هبي هبي يا نسمات الجنة..هبي هبي للشهداء"وذهب البعض إلى أنني ارتجلت قصيدة عند دفن الشهيد وذلك لم يحدث فقد كان الشعر يعتمل في خاطري طيلة الوقت وفي أول خلوة لي مع الورق أفرغت ما اختزنه قلبي من الحزن والفخار:
    كان في قريته الذرة
    مثقلة الأعواد بالثمار،
    والقطن في حقولها منور، ولوزه نضار
    وكان في العشرين لم ير
    ألفا من الشموس مقبلة
    ولم يعش هناءة الزفاف.
    ولم يكن في فمه أكثر من هتاف
    ولم يكن في يده أكثر من حجر
    وكان في المقدمة
    على خطوط النار والخطر
    فجندلوه بالرصاص داميا منتفضا
    وفي أكف صحبه قضى.
    **
    تعطر الثرى بدمه واختلج التراب
    أجفل صبح قادم وشاب
    وقف شعر النجم والأجنة
    هب عليه بالرضا نسيم الجنة
    ثم تصاهلت خيول المركبة
    واصطففت أجنحها المرحبة
    وهكذا على وسادة من الريش الوثير
    تصاعدت إلى السماء روحه الزكية
    إلى النعيم بطلا وثائرا
    وقائدا رعيل الشهدا
    ورمز إيمان جديد بالفدا
    وبالوطن.
    كان مفروضا أن يجد اسم القرشي مكانه في أسماء الشوارع والميادين وفي طوابع البريد التذكارية وقاعات الجامعات ولا اعرف من هو ذلك الذي حال دون تلك المظاهر للتكريم هل هي النظم السياسية المشغولة بنفسها عن الآخرين أم هو ذلك النزاع الأول حول الاتجاه السياسي للفقيد أم هو حرد عائلي نأى بنفسه عن الشهرة والهيلمانات.وفي كل الأحوال اعتبر ذلك نوعا من الظلم للشهيد الجليل سواء كان سببه النظم السياسية أو الرغبات العائلية . وما عدا تلك الحديقة في الخرطوم ثلاثة وذلك التمثال الذي صنعه له الفنان محمد عبد الله الريح ونصبه في مدخل الجامعة فليس هنالك ما يخلد تضحيته الكبرى وجوده بالروح من اجل ثورة الشعب فسلام عليه في الخالدين.

    أيام تدير الرأس(3)

    في أوائل الستينات بدا العالم صلصالا مطاوعا سهل التشكيل – كل شيء بدا ممكنا وكل العناقيد في متناول اليد..فلم يكن مستحيلا أن تتحول صحارينا إلى الخضرة اليانعة وتمتلئ سماواتنا بأبراج المداخن وتتحرر الكونغو وارتريا وموزامبيق وتقوم الوحدة القارية بين دول القارة الإفريقية تماما كما حلم بها نكروما ورفاقه. .وكان نكروما يحلم بالمستقبل الأفريقي الزاهر حيث تضيء الأمكنة النجمة السوداء التي نصبها في ميدان شهير بالعاصمة الغانية أكرا. وكنا أيضا نحلم ولكن دون أن نفرق بين الحلم والحقيقة والممكن والمستحيل فقد كان العالم يولد أمام أعيننا حارا وطازجا وكنا نعيش تلك الأيام التي تدير الرأس- أيام الاستقلالات الأفريقية والعالم-ثالثية.
    في تلك الأيام وفد علينا محمد أبو القاسم، الفتى الاتحادي المتفلسف الذي رفض الانضمام إلى الجامعة مكتفيا بقدراته الشخصية على الاطلاع والنظر المستقل.وأيامها كان مساندا لحزب الشعب وزعيمه التاريخي الشيخ على عبد الرحمن الممثل الأكثر نصوعا للتيار التقدمي بين علماء الإسلام فقد كان بجبته وعمامته الأزهرية يتصدر جموع الناصريين يوم كانت الناصرية تعني التقدم والنهضة تحت النموذج اللاديمقراطي للتيار الناصري.وكانت رأس أبو القاسم تمور بألوان من القراءات الفلسفية والسياسية وأشكال من الرغبات والأماني الجيفارية هي التي دفعته إلى ارتريا وصحوتها السياسية الناهضة بقيادة عثمان سبي وبتمثلات بطولية للمقاتل الأسطوري إدريس عواتي.وهكذا ونحن في أول دراستنا الجامعية أتانا محمد أبو القاسم بالسيد عثمان سبي وأجلسه معنا في صالات الطعام الجامعية وتركه يثقفنا عن الدولة الإفريقية الصغيرة التي عهدت بها الأمم المتحدة إلى النجاشي ليتدرج بها نحو الاستقلال فاختار النجاشي أن يعقد استفتاء مزورا ويضمها إلى إمبراطوريته. وفي أول خطوة نحو التحشيد السياسي من اجل ارتريا دعانا محمد إلى السفارة الصومالية التي كان يزورها وفد وزاري صومالي لنعلن فيها قيام جمعية الصداقة مع ارتريا الثائرة.

    كان عثمان سبي رحمة الله عليه ناظرا لمدرسة في ارتريا قبل أن يتفرغ لقيادة الثورة وكان رجلا بشوشا متواضعا ولكن فارق العمر بيننا وبينه لم يكن يفتح مجالا كبيرا للصداقة الشخصية.وفيما بعد وجدت رغبة الصداقة إشباعها الكامل في الثائر الشاب محمد نور(سفير ارتريا المستقلة إلى بكين وفي وقت من الأوقات رئيس الإدارة الآسيوية فيها) وفي المثقف الممتاز عمر جعفر الثوري(وأحيانا السوري).وكان محمد نور بشلوخه الشبيهة بفصدات البني عامر سهل المرور كمواطن سوداني وبسبب من غضارة سنه يمكن أن يكون طالبا في الجامعة. وربما لذلك نشأت بيني وبينه تلك الصداقة الشخصية التي عبرت عن نفسها يوم سرت إشاعة عن اعتقاله وربما إبعاده عن السودان في الأيام الأولى لحكم ثورة أكتوبر .فقد كتبت بوحي تلك الصداقة مقالة عن شخصه الودود ومناقبه الثورية وطالبت بالإفراج عنه وإطلاق كامل حريته في الحركة والدعاية لقضيته الارترية.وبعد أشهر من ذلك المقال ظهر محمد نور وأكد أنه لم يكن معتقلا وعلى العكس كان في مهمة ثورية لم يبح عن تفاصيلها وكان العزاء أن مقالتي ربما ساعدته على انجاز مهمته بتوفيرها نوعا من الغطاء لتحركاته بزعمها أنه رهين المعتقل.
    دار الزمن دورته ومضت ثلاثة عقود على تلك الأحداث فقدنا فيها الاتصال وآثار أقدامنا على رمال الزمن ثم فجأة وفي حفل استقبال أقامه لنا الرئيس اسياس افورقي باسمرا لمحت وجه محمد نور بين الوجوه ولم يكن قد تغير فيه شيء عدا الشعرات البيض التي حفت بالوجه من مقدمة الرأس إلى الفودين.
    غادرنا قاعة الحفل إلى الفناء الخارجي وتحت نجوم اسمرا الجبلية روينا لبعضنا باختصار ما فعلت بنا الدنيا وما حاولنا فعله فيها.وكان الوفد السوداني يقوم بمهمة عسيرة في العاصمة الارترية في ظل علاقات متوترة ورغبة مبيتة لإفشال مهمته وكان الدكتور الارتري الذي تفاوضت معه حول بيان الزيارة الختامي يرفض الإقرار بأن وفدنا قد جاء بناء على سابق دعوة واتفاق وكان محمد ملما بالتفاصيل ولكنه كان قلقا من تبني السودان للحركات الإسلامية الارترية وكان يؤكد لي أن بقاء ارتريا وسلامها رهن بتوازن القوى داخلها بين الإسلام والمسيحية فمتي فقد ذلك التوازن ضاعت البلاد. وكان يمثل على ذلك بصعود الإسلام في خمسينات القرن الماضي الذي روع المسيحيين وجعلهم يصوتون للوحدة مع إثيوبيا استقواء بها على الإسلام.وحاليا من الممكن أن يقود أي خلل في توازن القوى إلى حرب أهلية تمزق البلاد.
    عدنا إلى قاعة الاحتفال وقدمني محمد للرئيس افورقي بصفتي صديقا قديما للثورة الارترية وربما كان في ذلك بعض العون للمهمة التي جئنا من اجلها ففي صباح اليوم التالي كان المفاوض الارتري ينقر على شباكي(وليس بابي) بفندق السلام الشديد التواضع ويدعوني للاستمرار في كتابة البيان الختامي للزيارة.

    أيام تدير الرأس(4)


    كان محمد أبو القاسم فتي اخضر اللون صافيه يتوج رأسه شعر ناعم أثيث.وكان على هيئة من الامتلاء وحسن البناء تميل به إلى القصر.وعندما يتحدث لغة المثقفين كان يغمض عينيه ويسترسل كأنما يقرأ من كتاب.ولكنه كان يحذق تماما كلام البلد وكلام السوق ولا أنسي يوم جاء إلى مجلسنا في نادي أساتذة جامعة الخرطوم في ذلك اليوم الدامي من أيام الثورة في أكتوبر وصاح فينا: قاعدين في الضللة يا أفندية والشعب محاصر القصر.ولم يكن ذلك خبرا صحيحا مائة بالمائة فقد كان حصار القصر في بواكير بداياته وقد قطعنا المشوار من الجامعة إلى القصر سيرا على الأقدام لنجد أن الناس اخذوا لتوهم بالتوافد على المكان ومضى وقت غير قصير قبل أن تتكامل عدتهم ويمثلوا حصارا حقيقيا للقصر.
    وقفنا في الركن الأقصى للميدان من ناحيته الشرقية أي ناصية وزارة التجارة وكنا حائرين ولا ندري لماذا جئنا وما هو المطلوب منا إذ لم تكن هنالك شعارات محددة مطلوب منا ترديدها تعبيرا عن تلك الوقفة وقد تبادر لذهني ساعتها أنه كان علينا أن نبقى حيث نحن كنواة لكتلة بشرية ستظل تكبر وتكبر إلى أن يختنق القصر تحت وطأتها ويخرج منه بيرق الاستسلام.ولكن الأحداث حفرت مسارها الخاص وفرضت منطقها في النهاية فقد جاءت مدرعة صغيرة واطل منها وجه شديد الشبه بأحد أركان النظام العسكري الحاكم وذلك بقرينة سواد البشرة الفاحم والشلوخ القبلية المستعرضة. ويبدو أن الناس الذين كانوا في مسار المدرعة اسمعوها كلاما أو اعترضوا طريقها بصورة من الصور فبدأت بإطلاق النار. وكانت نارا اتوماتيكية كثيفة ولكنها متقطعة ومتعددة الاتجاهات.ورأيت الولد الشاب الذي يقف جواري يرفع يده إلى خاصرته حيث كان دم احمر فاقع الحمرة قد أخذ بالانبثاق.ولم يكن ذلك اندفاعا وئيدا من خلال الفتحة التي أحدثتها الرصاصة وإنما كان انبهالا للدم كأنك أخذت مدية وأحدثت بها فتقا عرضيا (أو طوليا) في قربة مملوءة فاندلقت محتوياتها كلها في وقت واحد.
    تبعثر الناس في أرجاء المكان ودخل بعضهم في مياه النوافير المقامة وسط الميدان أما مجموعتنا أمام وزارة التجارة فلم يكن أمامها من مهرب سوى التقهقر إلى الخلف عن طريق شارع الجامعة ونحو الجامعة نفسها.ولكننا فوجئنا بأرتال طويلة من العساكر والضباط مصطفين على جانبي الطريق –على جانبيه وليس في وسطه فقد تركوا لنا ثغرة مفتوحة نتراجع عبرها إلى حيث جئنا.
    كنا نحمل على وجوهنا سيماء هزيمتنا وغبارها وكان بعضنا حفاة ففي تلك المعارك غير المتكافئة يفقد المدنيون أحذيتهم وعمائمهم ووقارهم.وفي أحيان كثيرة أرواحهم. وخلال مرورنا بين صفين من المسلحين كان ممكنا إبادتنا بصورة كاملة ولكن ما حدث كان يدير الرأس حقا فبدلا من ضربنا ونحن مطوقون بذلك الشكل كان الضباط يلقون علينا كلمات التشجيع وينثرونها علينا كما تنثر الرياحين وباقات الورد على طابور انتصار .
    غمغم في أذني احد الضباط: لا تركضوا ولا تهرولوا ..امشوا على مهلكم ..ليس هنالك ما تخشونه. وزعم احد الناس أن الضباط قالوا له أن يدلف الجمع إلى شارع الجمهورية ليواصل التظاهر.وقد عملنا بنصيحتهم وفي شارع الجمهورية الخالي من البشر رأيت أناسا يرشقون العمارات بالحجارة ورأيت السيدة زكية مكي ازرق (والدة الشاعر المبدع المعز عمر بخيت) طيب الله ثراها تصيح بالمتظاهرين أن يسلموها لهم (تريد الحكام وتريد الخرطوم) شعلة من النيران.وحين أكملنا الدورة عائدين إلى ميدان القصر من ناحيته الجنوبية هذه المرة كانت جمهرة من الناس تقاوم عضليا ولدا نوباويا محكم البنيان كان يريد أن يهاجم ثلة من العساكر قال أنهم قتلوا شقيقة للتو والحين.وكان خمسة رجال يأخذون بوثاقه فينهض بهم محاولا الاندفاع إلى قتلة شقيقه بيديه العاريتين .ولم تهدأ ثائرته إلا حين اقترح عليه احد العقلاء أن يذهب معهم إلى المستشفى ليرى هل قتيل شقيقه أم جريح يرجي شفاؤه .
    وفي مستشفى الخرطوم الملكي كنا أمام بطولات من نوع آخر يقوم بها الأطباء السودانيون ذوي الوطنية العالية في إسعاف الجرحى بقلوب متعاطفة مع الشعب وضعت أطباء السودان في الذروة العليا من قمم الوطنية والعطاء.
    وفيما بعد وبعد انقلاب 25 مايو عرفنا أن الضباط الذين رفضوا ضربنا وأفسحوا لنا طريق التراجع والقوا علينا كلمات التشجيع كانوا من الضباط الأحرار الذين انحازوا إلى أبيهم (الشعب) ضد قادتهم ورفاق سلاحهم من كبار الجنرالات. ورغم ما حدث بعد ذلك من انحراف مايو عن مقاصدها وبعد خيبة الأمل التي أصابتنا في البزات العسكرية على وجه العموم فأن ذكرى ما حدث في ذلك اليوم البعيد لازالت تشيع الدفء في قلبي وتملأه بالحنو والتسامح والحب لكل أبناء بلادي فعلى نحو من الأنحاء أدين لهم بهذه السنوات التي عشتها منذ تلك الأيام التي تدير الرأس وحتى الآن.

    أيا م تدير الرأس(5)
    في مساء ذلك اليوم التاريخي أذاع المجلس الأعلى للقوات المسلحة بيانه القائل بتسليم السلطة للمدنيين وذلك بعد خمسة أيام من التظاهر والشغب وممارسة العصيان المدني من قبل جماهير الأمة السودانية.وبقدرة قادر كانت جماهير الثورة تعود لتملأ الشوارع من جديد ومرة أخرى كنا نهرول-أنا والشاعر محمد عبد الحي- نحو مركز المدينة لنلتقي بجموع من الناس يمارسون فرحهم الجنوني بساعة الانتصار.وكانت السعادة الحقيقية تملأ أرواحهم وتفيض من ملامحهم وكانوا يحملون أغصان النيم ويرقصون على أنغام موسيقى داخلية تصاحب هتافهم الموقع المنغم"في خمسة أيام هزمناهم ..في خمسة أيام هزمناهم." وكان للرقصة خطوات واسعة تدور حول نفسها ولكنها تتقدم للأمام مصحوبة باهتزازات أغصان النيم في الأيادي.
    في أمثال تلك المناسبة تتوحد ذوات الإفراد بصورة هولستية (كليانية فيما يقولون) في جسم جديد هو حقيقة أكبر من مجموع أجزاءه . فالمظاهرة المؤلفة من أفراد تتحول إلى وحدة جديدة أوفر طاقة وإبداعا واذكي و أعقل وأكثر كرما من مجموع المساهمين فيها. فقد كانت المظاهرة ترقص وتغرد وتفكر بصورة أفضل مما يستطيع أي عدد من المشاركين فيها. وبينما هي تدور حول نفسها صاح صائح:"إلى الجامعة لتحية طلابنا الأبطال" ودون مناقشة ودون تصويت أجيزت الفكرة واتجهت الرقصة جهة الجامعة.وبعد الجامعة سمعنا من يقول :إلى المستشفى لتحية جرحانا الأبطال فاندلقت المظاهرة في شارع الطابية وتجاوزت الشوارع المقاطعة جميعا لتصل إلى شارع "الاسبتالية"وتدخل فيه متجهة نحو الأبواب الشمالية لمستشفي الخرطوم.وشارع الاسبتالية شارع هادئ يمتد شرقا وغربا من شارع الطابية حتى يتقاطع مع شارع القصر وهو مثل شارع البرلمان سيء الإضاءة إذ تضيئه عمدان متباعدة وأضواء قليلة تتسلل من بيوته الصغيرة .وفي ذلك الشارع كان يقع منزل الوزير الدكتور أحمد محمد على وزير الصحة أيامها وهو من الشخصيات النزيهة المحبوبة بين طاقم الحكم وكان مسافرا خارج البلاد في مهمة رسمية ويبدو أن ذلك هو ما روع ساكني داره فقد تحلقوا حسب رواية الشرطة حول جندي الحراسة الوحيد وطلبوا منه أن "يشد حيله" ويحمي الدار من المتظاهرين.
    كان ذلك سوء فهم كبير فقد كان المتظاهرون يعبرون نحو المستشفي ولم يكن احد منهم يعرف أن سكن وزير الصحة يقع في ذلك الشارع وفوق ذلك لم يكن احد منهم يحمل ضغينة من أي نوع لذلك الوزير الذي أتت به إلى كرسي الوزارة نزاهته وهمته في العمل خاصة وهو من مواطني حلفا الذين كانت لهم جولات معروفة في مقارعة الحكم العسكري الذي هجرهم من مواطنهم التاريخية لقاء ثمن بخس ليقوم السد العالي على أشلاء تاريخهم وحضارتهم.
    أطلق جندي الحراسة طلقتين فسقط شخص له هيئة العمال وتوقفت المظاهرة عن رقصها السعيد وأفرخت للحظة والتو قادتها الجدد الذين قالوا للمتظاهرين:"ننطلق معا ونهجم عليه ونجرده من السلاح." وضرب ثلاثتهم "الروري"ووثبت المظاهرة إلى الأمام كما يثب الفهد ولكنها عادت وتجمدت مكانها حين انطلقت طلقتان أخريان وصاح شخص:لقد أصابني في ذراعي.
    فكرنا أن أفضل الحلول هو أن نترك ذلك الشارع ونسلك شارعا غيره فانحرفنا- أنا وعبد الحي في شارع جانبي بأمل أن ندعو المظاهرة إلينا ولكننا ما كدنا ندخل الشارع حتى اصطدمنا بسيارة مرسيدس بنية اللون من ذلك النوع المخصص لكبار قادة الجيش والوزراء وكان فيها أربعة أشخاص قدرنا أنهم مسلحون على الأقل بالسلاح الشخصي وفي غمضة عين كنا نتسلق حائط احد البيوت ونحتمي داخله وفي نفس الوقت انطلقت السيارة الحكومية بأقصى سرعة عائدة من حيث أتت.فتسلقنا الجدار مرة أخرى عائدين إلى مظاهرة الفرح المتحول إلى مأساة.وبالفعل كان هنالك مصابان مستلقيان على قارعة الطريق ينزفان وكان عقل المظاهرة يعمل بسرعة الحاسوب باحثا عن أساليب أخرى للمواجهة.ولكن كومر البوليس جاء من الاتجاه المعاكس وأخذ الجندي المستسلم ودعا المظاهرة إلى المرور. ومن لا مكان تجسد أمامنا عدد من السياسيين الحزبيين ودعانا احدهم لأن نهتف معه يعيش فلان زعيم الشعب فتأبينا عليه وخرج له عامل من رفاق العامل الجريح فغمس كفه في دم صاحبه المراق على أسفلت الطريق ورفعها في وجه السياسي صائحا فيه :هذا الدم هو زعيم الشعب..اهتف معنا بحياة هذا الدم .وفي غمضة عين كان السياسي ومجموعته يلوذون بالفرار.

    أيام تدير الرأس(6)

    في ذلك المساء الحزين جاءني في غرفتي بداخلية عطبرة وعلى ملامحه مظاهر انزعاج عميق فقد سمع أن جمهوراً من الغوغاء يحاصر الجنوبيين في دار النشر المسيحي بشارع القصر ودعاني للذهاب معه إلى مسرح الأحداث لنرى ماذا يمكن أن نفعل من أجل فك الحصار عن المحاصرين.
    كان ذلك في أمسية الأحد الدامي حين تدافع الجنوبيون إلى مطار الخرطوم لاستقبال وزير الداخلية الجنوبي أو بالأحرى أول جنوبي يتقلد وزارة سيادية بعد أجيال من التهميش والانحشار في وزارة الثروة الحيوانية دون غيرها من الوزارات. وكما هو معروف تأخرت طائرته في الإقلاع من ملكال وبالتالي في الوصول إلى الخرطوم فسرت بين المستقبلين شائعات تقول أنه قد قتل. وهكذا بدأ الشغب دون تخطيط وبتأثير من الغضب والانفعال.وبعد ساعة أو ساعتين كان الانفعال قد استهلك نفسه كما تستهلك النار أحطابها وعند ذلك بدأت ردة الفعل العنيفة عند الشماليين.
    حين وصلنا إلى دار النشر المسيحي(شارع القصر قبالة سينما كلوز يوم( كان المكان محتشدا بالناس ولكن معظمهم كان من المتفرجين إلاّ أن نفرا قليلا منهم كانوا يجوسون بين الناس وبأيديهم جركانات البنزين وهو يهددون بسكبها على غرف الدار وإشعالها. وكان بعضهم قد مضى من التهديد إلى التنفيذ قبل حضورنا فقد كان هنالك آثار حريق على جدران الدار الخارجية. وبالصدفة ظهر من بين الحضور المرحوم الأستاذ جمال عبد الملك (ابن خلدون) فروى لنا كيف قامت الغوغاء بمهاجمة الجنوبيين المحصورين في الدار وكيف أن احدهم أشعل النار بالفعل فخرج معظم المحصورين ولاذوا بالفرار ولكن بقية منهم لازالت موجودة داخل الدار.
    أخذنا نتحدث إلى حملة الجركانات الذين كانوا يريدون من الجمهور أن يمدهم بالبنزين من سياراته لينفذوا نواياهم في الإيذاء ثم تحدثنا إلى الجمهور محذرين من التعاون مع حملة الجركانات.وكان عبد الحي أعلانا صوتا حتى أنه أنتهر الكثيرين منهم انتهارا.ولم يكن ابن خلدون اقل منه في الإقناع. وفجأة ظهر من خلفنا صوت يقول:''في هذا المكان إسرائيليون يبعثون معلومات مباشرة إلى تل أبيب'' فقال ابن خلدون :أنا المقصود بهذا الكلام ومن الأفضل أن ننصرف.وكان ذلك باباً من أبواب الحكمة فتركناه ينصرف وأنا وعبد الحي ركبنا الطراحة عائدين إلى الجامعة.وهنالك في موقف الطراحات عبر الشارع من مسجد الجامعة كان موقف مماثل ينتظرنا فقد كان غوغائيون يوقفون سيارات التاكسي المتجهة إلى الخرطوم بحري ويتفحصون ركابها فإذا رأوا فيها سحنة جنوبية أمروها بالنزول. ودون تردد هجم محمد على الغوغائيين وأمر التاكسي بعدم الانصياع لطلبهم والاستمرار في مشواره. ثم أحاطت بنا وانضمت إلينا ثلة كبيرة من طلاب الجامعة من المعارف وغير المعارف فكلما استوقفت الغوغاء مركبة بادروا إليها وأمروها بالمضي في طريقها المرسوم غير مبالية بهم.وفي نهاية الأمر تقلصت أعداد الغوغاء وغمغموا بكلام سيء عن كوننا طلبة خونة واختفوا عن الأنظار وعادت الطريق إلى بحري سالكة.
    أتذكر محمدا كثيرا ودائما أتذكره في مواقف بطولية يعبر فيها بالعمل عن قناعاته الفكرية.فلم يكن يعرف الفصام بين ما يكتب المرء وما يفعل في معايشة الواقع فقد أوتي من الجرأة والجسارة ما يكفي عشرة رجال.
    ألف رحمة ونور على محمد عبد الحي الذي حسدتنا عليه المقادير وانتزعته من بين أيدي محبيه ومعجبيه وعارفي أفضاله وهو في عز الشباب والفتوة.


    أيام تدير الرأس(7)
    حظر التجول
    في مساء الثالث والعشرين من أكتوبر 1964 كنت في زيارة للأهل بامدرمان وقبل أن يوغل الليل قررت أن أعود إلى الجامعة فقد كنت طالبا تلك الأيام وكنت مهتما بحضور كل مشاهد الثورة التي كانت أيامها تعتمل في البلاد وتتخذ من الجامعة محور ارتكاز لها.
    أخذت التاكسي مع مجموعة من الغرباء لنتقاسم الأجرة بيننا على طريقة “الطرحة” وما كدنا ندخل جسر النيل الأبيض حتى راح الراديو يذيع بيانا لوزير الداخلية اللواء محمد احمد عروة بحظر التجول في طرقات الخرطوم ويوجه كل من ليس معه تصريح بالتجول بالذهاب إلى أقرب قسم للشرطة للحصول على واحد.وبعد استماع البيان مرة ومرتين قررنا ركابا وسائقا أن نذهب إلى القسم الأوسط لنحصل على التصريح المطلوب.وما أن نزلنا من سيارة الأجرة حتى انطلق السائق مغادرا المكان
    - يا زول تعال وخد ليك تصريح
    - يا راجل أجرتك .. فلوسك يازول
    ولكنه لم يكن راغبا في صحبتنا أو دخول القسم معنا فاكتفى بالصياح من بعيد
    -القروش عفيتها ليكم.
    ولا أدري لماذا تصرف الرجل على ذلك النحو فقد كان الحصول على التصريح عملية سهلة يقوم بها ضابط محايد لم يوجه إلينا أي عتاب ولا حتى أسئلة استنكارية مكتفيا بوضع أختامه على الاستمارة التي ملأناها وكان التصريح يقول بعد الديباجة:
    أنا اللواء محمد احمد عروة- وزير الداخلية- اسمح
    للسيد (فراغ) بالمرور من القسم الأوسط إلى (فراغ).
    وقد ظل ذلك التصريح ضمن مقتنياتي لعشرات السنين حتى قمت بتمزيقه في واحدة من لحظات اليأس والقنوط وأنا أتهيأ لمفارقة الأوطان والبعد عن الأهل والخلان قريبا من عام 1995
    كان ليلا حالكا وأنا أسير بصورة مستقيمة في شارع الجامعة المظلم إلا من بضعة أضواء تشع من البيوت السكنية المخصصة للوزراء وكبار الموظفين.وكانت وحدات صغيرة من الجنود تربض في الأركان وأول دخولي الشارع ناداني احدهم يا زول وسألني ماشي وين وتلك الأيام كانت بيننا وبين الجيش الغباين فقدمت له التصريح ولكنه لم ينظر إليه فقد كان المكان مظلما وليس فيه من الضوء ما يكفي لقراءة تلك الورقة الباهتة المستنسخة بآلة رونيو منهكة من كثرة الاستخدام. وبعد أن توغلت في الشارع لم يعد الجنود يسألونني أو يهتمون بأمري فشرعت أحاول لفت أنظارهم بالنحنحة أو إصدار أصوات السعال أو ركل أي علبة فارغة تصادفني في الطريق لينتبهوا أن إنسانا يعبر في ذلك الخفوت فلا يطلقون النار.إلا أن ذلك كان تهيؤا سببه تلك الغباين فالواقع أنهم كانوا لطيفين جدا وربما كانوا في فرارة أنفسهم متعاطفين مع الثورة كما برهنت الأحداث لاحقا.وبعد يومين من المرور في ذلك الشارع الخافت الإضاءة كان الضباط السودانيون الأحرار يبرهنون على انحيازهم إلى جانب الشعب ولكن دون جلبة وضوضاء.فقد رفض المعسكرين في شارع الجامعة ضرب الناس الذين خرجوا في مظاهرة القصر( إلى القصر حتى النصر) وكانوا سببا غير مباشر في انتصار الثورة في اليوم الخامس لاندلاعها.
    لقد أتاح لي ذلك اليوم أن أرى خرطوما نادرة أشبه ما تكون بامرأة تعاني وحدها عذابات الطلق وتكتم تأوهاتها عن أسماع العابرين وفي ذلك كتبت قصيدة أو مقطوعة قصيرة تعبر عن مقتي لحظر التجوال وحظر الكلام وكافة أنواع المنع والقمع والحجر والحظر.
    بالأمس في المساء أقبل الجنود وعصبوا عيوني
    وكالجواري الناشزات قيدوني
    وعندما خرجت سائرا تصايحوا على:قف-وفتشوني
    في كل باحة أحببتها
    انتصبت حوائط السكون
    لم يبق في الرصيف حجر على حجر
    أنكرني المصباح والشجر
    كأن في السفوح برصا وفي فم المدى حجر
    وفي المدى سدود- وللخطى حدود:الصمت والجنود
    يزنون بالشوارع التي أحببتها وبالحدائق الواسعة العيون
    *
    قابضة على الحديد
    تمخضي خلف البيوت المغلقة
    بين سدوف حقدك الحارقة المحترقة
    ولتلدي ثورتك الأولى وبعثك الجديد

    بين أكتوبر وابريل
    فرق ما بين الخيبة والأمل
    لا أرى اليوم أثرا لذلك الجدل الذي نشب بعد الأشهر الأولى لثورة أكتوبر حول كونها ثورة أم انتفاضة فقد رسخت في أدبنا السياسي بوصفها الثورة الأم في تاريخنا المعاصر وبوصفها المرجعية النهائية للعمل الثوري في البلاد. وقد جاءت الانتفاضة في رجب/أبريل لتؤكد على جدارة اكتو بر باسم الثورة ليس فقط لأن هذه اتخذت لنفسها صفة الانتفاضة تاركة صفة الثورة لتلك بل لأن الانتفاضة في حركيتها ويومية أحداثها قدمت نفسها كأثر من آثار أكتوبر الأمر الذي يثبت من جديد أن أكتوبر قد أصبحت نموذجا نضاليا أن لم يكن علامة تجارية على الثورة في السودان وأنها قد تسربت في حنايا تاريخنا المعاصر كما تفعل المياه الجوفية في الصحارى.وبقليل من الحفر والتنقيب يمكن أن تتفجر نبعا أو واحة في الصحراء.
    وكانت الدولة المايوية منذ أيامها الباكرة تتحسب لعودة تجربة أكتوبر وتسعى لتطويقها ومنعها من الحدوث ولقد صرح أكثر من مسئول - نصا- بأن أكتوبر لن تعود فقد اتخذوا لذلك الأهبة وأعدوا لها ما استطاعوا من رباط الخيل وقوات الاحتياطي المركزي، ورغم ذلك فأن أحداث الانتفاضة في رجب/أبريل كانت استعادة لأحداث أكتوبر وقع الحافر على الحافر من حيث أن كلتيهما هبة شعبية صاعقة أفقدت النظام صوابه وقضت عليه في بضعة أيام من التظاهر والحشد الشعبي والإضراب السياسي.
    يضع المؤرخ المصري حسين مؤنس اختبارا بسيطا لتمييز ما هو ثورة عما هو ليس بذلك فيطالبنا أن نسال أنفسنا هل عادت الحياة سيرتها الأولى بعد حدوث الثورة أم تغيرت بشكل لا رجعة فيه.وإذا أجرينا ذلك الاختبار البسيط فسنجد أن ثورة أكتوبر قد أدخلت على حياتنا السياسية علامة فارقة لم تكن متوفرة فيها ولا سبيل لمحوها أو إزالتها عنها فقد أدخلت في روع الشعب يقينا جازما بأنه عندما تسوء الأحوال ويفتري الحاكمون فأن السودانيين سيضعون أيديهم في أيدي البعض ويعيدون تجربة أكتوبر وبذلك تكون أكتوبر قد انتقلت بشعب السودان من حالة كونه شعبا اعزل ضعيفا إلى شعب مسلح بالثقة واليقين ومزودا بإمكانيات الفاعلية والتأثير.وأريد أن اكتفي بهذه العلامة وحدها تاركا غيرها من الآثار الاكتوبرية في الفكر والمفاهيم السياسية التي غدت مشتركة بين الحكام والمحكومين وكانت قبل ربع قرن من الزمان شعارات وهتافات لجماهير غاضبة تخرج إلى الشوارع ولا تضمن العودة إلى بيوتها.
    وكان هنالك جدل آخر حول بنوة أكتوبر لهذا الحزب أو ذاك وهذا التيار أو ذاك من تيارات الفكر والسياسة في السودان ونرى الآن أن ذلك الجدل قد خمد وحل مكانه إجماع شعبي على بنوة الثورة لشعب السودان على إطلاقه وبمختلف فئاته واتجاهاته فأصبحت إرثا عاما للجميع وذلك أيضا حسن لأنه حقيقة والحقيقة دائما حسنة.
    وواقع الحال أن الثورة في أكتوبر لم تكن في الجوهر صراعا لهذا الحزب أو ذاك مع السلطة القائمة أو تصفية لحسابات هذا الحزب أو ذاك مع جنرالات نوفمبر بقدر ما كانت استكمالا للثورة السياسية على الاستعمار والتي انتهت مرحلتها الأولى بإعلان الاستقلال في يناير 1956وبدأت مرحلتها الثانية بالتململ الشعبي ضد الحكم الوطني ثم تزايدت مع حكم الجنرالات وبلغت ذروتها بأحداث الحادي والعشرين من أكتوبر المجيد.وظني أن أكتوبر كانت وستكون حتى لو لم يأت الجنرالات إلى الحكم وحتى لو لم يرتكبوا الأخطاء التي وقعوا فيها.
    مستفيدين الآن من استدبارنا لأحداث التاريخ نستطيع أن نستغرب مع العقل الشعبي في حكمة الثورة على حكم أبوي كحكم الفريق إبراهيم عبود الذي أنتهج نهجا تنمويا معقولا وشيد مشاريع ناجحة (رغم انها قليلة) واحتفظ برصيد متواضع من الفساد الإداري والاقتصادي .ويذهب العقل الشعبي بعيدا في وصف الرخاء وتماسك الاقتصاد خلال تلك الفترة منوها بالأسعار المتدنية وتوفر المعدوم وغير المعدوم في أسواق الخرطوم ومستشهدا بتلك الحادثة الفريدة التي دخلت تاريخنا الشعبي (سواء حدثت أم لم تحدث) حين هتفت الجماهير للفريق عبود بعد زوال حكمه مرددة : ضيعناك وضعنا وراك.
    صحيح أنه ليس من حكم بلا أخطاء ولكن تجربتنا التاريخية مع نظام مايو وضعت نوفمبر تحت أضواء باهرة وجعلته يبدو في هيئة زمن طيب يستحق التذكر والحنين.إلا أن هذا كله يحدث بتغذية استرجاعية تستدبر الأحداث إلا ان الأمور بدت بشكل مختلف حين كنا نستقبلها وهي تجري أمام أعيننا..
    لم يكن العيب الأساسي في النظام نفسه –ذلك صحيح رغم العيوب الكثيرة للنظام -ولكن بذرة الثورة كانت هنالك لأن السودانيين في تلك الفترة كانوا يريدون من عجلة التاريخ أن تسرع في الدوران وكانوا يتوقون إلى تنمية بلادهم وتحديثها وإلحاقها بركب العصر .وكانت التجربة الناصرية في مصر تدخل أرواحهم بخطوات النار والحريق وتتركهم يتحسرون على العملاق النائم الذي هو بلادهم ذات الإمكانات والخيرات
    وينبغي أن لا ننسى أن الفارق الزمني بين أكتوبر ورفع العلم هو ثمان سنوات وأن الشعب كان لا يزال محتشدا بروح الاستقلال التي أخرجت الاستعمار ورفضت دخول مؤسسة الكومنولث ثقة بقدرتها على تسيير الأمور نحو الأفضل بخطوات متسارعة وتحويل بلادها إلى قطعة من العصر في أوجز الأزمان. إلا أن ذلك أو بعضا منه لم يحدث على عهد الديمقراطية الأولى ولم يحدث بالصورة الكافية على عهد الجنرالات وبدأت تظهر على الجماهير أعراض الخيبة وعدم الرضا عن وعد الاستقلال الذي لم يتحقق وحلمه الذي لم يتحول إلى واقع معاش أو بعبارة أخرى راحت الجماهير تحلم باستكمال استقلال البلاد عن طريق النهضة والبناء الاقتصادي الذي يحقق للبلاد النمو السريع والتحديث .وبذلك المعنى فأن ثورة أكتوبر هي غضبة الشعب على وتائر النمو البطيئة وتعبير عن رغبته في استكمال استقلاله السياسي باستقلال اقتصادي راسخ الأقدام.
    من هذا المنظور بدت حكومة نوفمبر عقبة في طريق الاستقلال الاقتصادي والتنمية السريعة والتغيير الجذري لوجه الحياة في السودان وكان شعار الحكم القائل:احكموا علينا بأعمالنا موضع تندر لدى الجماهير التي كانت تشعر أن بالإمكان أحسن كثيرا مما هو كائن، وأنه لو أتيح للقوى الحديثة أن تتولى مقاليد الأمور فأن التغيير الاجتماعي سيحدث والتنمية السريعة ستنجز وستدلف البلاد بثقة كاملة إلى القرن العشرين..
    هاهنا يكمن فرق جوهري بين ثورة أكتوبر وانتفاضة رجب/أبريل فكما أسلفنا نشبت الثورة لاعتقاد الشعب أن بالإمكان أحسن مما هو كائن أما في رجب فقد قامت الهبة الشعبية لاعتقاد متمكن بأنه ليس في الإمكان أسوأ مما هو كائن.وقد استحقت الانتفاضة اسمها لتركيزها على إزالة النظام المايوي وليكن بعده ما يكون بينما استحقت أكتوبر وضعها كثورة لأن إزالة النظام بالنسبة لها لم تكن إلا نقطة البداية وكان المهم بنظرها ما يعقب ذلك من أيلولة السلطة إلى القوى الحديثة لتضع السودان في القرن العشرين.وقد كان ملحوظا لمن عاصروا الحدثين أن الأحلام الجميلة كانت تملأ الشوارع في أكتوبر 1964 أما في ابريل 1985 فقد كان الغضب وحده الذي يملأ الطرقات. وإذا شئنا أن نتوسع قليلا في هذه المفارقة بين الاثنتين فأن أكتوبر هي ثورة الآمال المتوهجة التي كانت تعمر صدور الجماهير والفرق بينها وبين رجب هو الفرق بين الخيبة والأمل.ففي حين كان ثوار أكتوبر يطلبون من عجلة التاريخ أن تسرع في دورانها ،كان ثوار الانتفاضة يريدون من تلك العجلة أن تكف عن دورانها إلى الخلف عائدة بهم وببلادهم القهقرى مع مطلع كل يوم جديد –هؤلاء أرادوا أن يوقفوا التدهور وأولئك أرادوا أن يصنعوا التقدم والتجديد.وفي المحاولتين كان الفريقان تحت أسر التاريخ والظروف.
    في أكتوبر كانت حية في عروق الشعب نشوة الاستقلال الأولى وروح الحلم والوعد التي أشاعتها في النفوس بل أن المناخ الدولي كله كان مشجعا على الثقة وكان علماء اقتصاد التنمية يسمون أفريقيا قارة المستقبل وفي كل دول العالم الثالث راح القادة السياسيون يشيدون أفيالهم البيضاء والسوداء.وكانت مصر القريبة (الملهمة دائما للسودان) تنجز ثورتها وتشيد مصانعها الألف وسدها العالي وفي مناخ تلك المنجزات راح السودانيون يتحرقون شوقا إلى نظام جديد لبناء وطن جديد.وكما هو معهود في حركة التاريخ راحت الأحداث الصغيرة تتجمع لتشعل طاقة الغضب والانفجار. وفي أكتوبر 1964 كانت أحداث الجنوب بمثابة الفتيل وكانت ندوة الجامعة ومصرع القرشي شرارة الاشتعال.وفي تلك النار الهندوكية كان لابد من قربان وذبح عظيم فحكمت تلك المواضعات أن يكون نظام نوفمبر هو تلك الضحية والقربان ولكنه لم يكن ضحية بريئة ومجنيا عليها فقد جنى بيديه ما استحق به كل ذلك الغضب.
    ولم تكن أكتوبر رفضا للجنرالات وحدهم بل رفضا داويا لمجموع الفكر السياسي التقليدي الذي قاد معركة الاستقلال وأرسى اللبنات الأولى للحكم الوطني.وبعد انتصار الثورة كان في الشارع السياسي شعار ينكر الزعامة على القدامى ولا أدري أن كان ذلك استنكارا لغيابهم عن الشعب أيام الغليان الكبير أم هو مقصود بحرفيته كرفض مطلق لتلك الفئات ولكن الملاحظة الهامة هي أن بعض الساسة قد فهم رسالة ذلك الشعار على وجهها الصحيح فجدد وابتكر وبعضهم لم يستقبلها كما ينبغي .وإذا كان من أثر آخر باق لأكتوبر ضمن باقياتها الصالحات فهو إلهامها الفكر السياسي السوداني أن يجدد نفسه ويبعد عنها تهمة التقليدية.وقد تغير بذلك إلى درجة ما مستوى ومحتوى الخطاب السياسي في البلاد,
    إذا قلنا أن أكتوبر هي الثورة الشعبية من اجل البناء والاستقلال الاقتصادي فهل ننفي عنها بذلك كونها ثورة من اجل الديمقراطية ومن اجل السلام وحقوق الإنسان في الجنوب؟بالطبع لا فهي كل ذلك بنفس الوقت ولكنها في البدء ثورة أحلامنا من اجل وطن جديد باعتبار أن الأهداف الكبرى تقبل الجدولة والتراتب وهذا الهدف الهام يحتوي داخله على مسألة الديمقراطية وقضية الجنوب ويلاحظ المرء الانسجام والتطابق بين الاستقلال الاقتصادي كهدف وتحقيق الديمقراطية والسلام كوسائل مؤدية لذلك الهدف وظننا أن ثورة أكتوبر لو جاءت بنفس تلك الأهداف لحظيت بعطف الجمهور وتقديره إذ أن العبرة بالغايات .
    أن أكتوبر ككل أحداث التاريخ وليدة ظروفها وخصوصيتها التاريخية إلا أن الأحداث التاريخية الكبرى تترك بصماتها على الفكر وعلى مسيرة التاريخ اللاحقة وقد أفلحت
    الثورة الشعبية في تجاوز خصوصيتها لتضع ميسمها على تاريخنا المعاصر فأصبحت علما على الحكم المستنير الذي يستهدف مصالح الشعب ويحفظ له كرامته كما صارت تعبيرا عن توق الجماهير إلى الحكم الديمقراطي الذي لا يسمح بإزهاق أرواح الناس(كما جرى في 21 أكتوبر )ولا بامتهان كرامتهم(كما جرى من الرئيس المخلوع قبيل سفره إلى الولايات المتحدة) ووضعت أكتوبر بين أيادي الناس حقا غير قابل للتصرف وسلاحا غير ممكن الانتزاع هو سلاح العصيان المدني على الطريقة السودانية وحققت لشعب السودان لحظات فريدة من إجماع الإرادة ووحدتها بصورة تذوب الفوارق الطبقية والاثنية وتجعل الجميع إخوة في المصير أو بتعبير آخر يتحولون إلى جيش من المدنيين العزل يهزم بإرادته العزلاء إرادة السلاح.وإلى جانب ذلك حققت أكتوبر زمالة كفاحية بين الجيش والشعب يندر نظيرها بين الشعوب وجيوشها.ومن الصعب جدا أن يتخيل المرء أن ما يحدث في بورما على يد جيشها "الوطني" يمكن أن يحدث للسودان إذ أن الجيش السوداني عودنا أن يتصرف عند اشتداد الأزمة باعتباره قطعة من لحم الشعب ودمه ولم يحدث حتى الآن أن تصرف ضد الشعب كجلاد بل على العكس برهن أن هموم الشعب من همه وأحلام الشعب من بعض ما يحلم به. ويبقى بعد ذلك درس أخير من دروس أكتوبر يعلمنا أن الهبة الاكتوبرية ليست متاحة للأحزاب والطوائف منفردة أو مؤتلفة وأن سحرها لا يسري إلا بالإجماع الشعبي العام حول هدف قومي عريض يلتف حوله الجمهور وتتوحد إرادته أو بكلام أكثر شعبية هي وسيلة مواصلات جماعية لا تصلح للراكب المنفرد.


    ماذا بقي من ثورة أكتوبر ؟ (1)

    في الحادي والعشرين من أكتوبر 1964 عقد طلاب جامعة الخرطوم ندوة سياسية داخل القرية الجامعية وبحكم توقيت ومكان انعقادها(الثامنة والنصف مساء في السكن الجامعي الشرقي البعيد عن الشارع العام) فقد اقتصر جمهورها على طلاب الجامعة وحدهم دون مشاركة من بقية قطاعات الجمهور. ورغم ذلك هوجمت الندوة من قبل قوات الشرطة التي واجهت مقاومة طلابية اضطرتها إلى إطلاق النار على الطلاب مما أسفر عنه سقوط عدد من القتلى على رأسهم الشهيد القرشي .وكان ذلك نقرا على وتر شديد الحساسية في العقل السياسي العام افرز خمسة أيام من العنف والتظاهر في كل المدن السودانية انتهت بسقوط حكومة الفريق إبراهيم عبود العسكرية وعودة الديمقراطية للبلاد.

    منذ ذلك التاريخ مرت مياه كثيرة تحت الجسور وتعاقبت على حكم البلاد أنظمة عديدة وتقلبت حظوظ البلاد من الحرية إلى الكبت ومن الغنى إلى الفقر وتعرض ذلك الحدث التاريخي إلى النظر وإعادة النظر ولا تكاد ذكرى أكتوبر تهل دون أن تتعرض تلك الأحداث البعيدة لتقييم جديد يرفع أو يحط من القيمة التاريخية للثورة التي اعتبرها الكثيرون ابلغ تعبير عن روح الشعب السوداني وتوقه للحرية واستعداده لتسديد ثمنها بالأرواح والدماء بينما اعتبرها آخرون مجرد انفلات أمني لم تحسن السلطة القائمة التعامل معه وذلك على نسق المحافظين المصريين الذين يسمون الثورة العرابية "هوجة" عرابي مستكثرين عليها صفة الثورة المشرفة.

    ماذا حدث إذن في السودان في 21 أكتوبر 1964 ؟ هل كان ذلك واحدة من معجزات العصور القديمة التي فقدت قابليتها للتكرار؟ هل هي خطأ تاريخي كبير هب فيه السودانيون مدفوعين بحرد صبياني ليطيحوا بالمستبد العادل الوحيد في تاريخ السودان قديمه وحديثه؟ أم هي هذيانات معاصرين للحدث دخلوا مراحل الكهولة والشيخوخة وراحوا يتعصبون للزمان الذي عاشوه وحسبوه أفضل الأزمنة واعتبروا ثورته أفضل الثورات؟ أم هو من الأساس أكذوبة افتراها تقدميون مزعومون ليسلطوا بها سيف الفوضى على كل حكم رشيد جاء في أعقاب ذلك الحدث التاريخي الفريد؟
    قبل أن نتقدم في هذا الطريق دعنا نلاحظ ما ظلت تحظى به ثورة أكتوبر من الهجوم والتبخيس خلال السنوات الأربعين الماضية فقد تظاهر على الحط من شأنها يمينيون ودكتاتوريون وآخرون كانوا لردح من الزمن محسوبين على ما سمي في حينه باليسار الجديد. وتمسك شكلانيون بحرفية مصطلحات العلم السياسي لحرمان أكتوبر من وضعها كثورة والهبوط بها إلى مستوى الهبات العابرة والانتفاضات ولكن أكتوبر برهنت على بقائية مذهلة فما زالت أفكارها تلهم الشعب وتملأ شرايينه بالنخوة والطموح ولا زالت موجودة في ميزانيات أجهزة الأمن والقمع الجماهيري بوصفها الخطر الأكبر الذي ينبغي أن يتحسب له كل من يريد البقاء على كرسي الحكم . ومن عام لعام يقوم أعداؤها بدلق الحبر الأسود على الورق الأبيض لهدم أسطورتها وإقناع الجمهور بأنها وهم أو خطأ أو سراب.والآن مع تباشير ذكراها المتجددة دعونا نستعرض خلفية ما جرى وما قيل عنه وما يقال.
    لنبدأ بالنظام الذي تصدت له الثورة وهو نظام جاء إلى السلطة بانقلاب عسكري في 17 نوفمبر 1958 واضعا نهاية مفاجئة للديمقراطية التي أفرزها استقلال البلاد في مطلع عام 1956 ومهما قيل الآن عن ذلك النظام فأنه لم يكن في زمانه أفضل الأنظمة وأزهاها ولكنه بتغذية استرجاعية فاسدة أصبح فعلا أفضل ما مر على السودان.وليس ذلك من مسئولية الثورة مثلما أنه ليس من مسئولية الثورة الفرنسية أن الملكية عادت بعدها إلى فرنسا وان أفكار العدل والإخاء والمساواة التي جاءت بها لم تعمر طويلا وانتهت بقصف دمشق وقمع الجزائر.وبالمثل ليس من مسئولية الثورة الاكتوبرية أن الديمقراطيات التي تلتها كانت ضعيفة متهالكة وأن الدكتاتوريات كانت شرسة وفاشلة.
    كان نظام الفريق عبود امتدادا للدولة الكولونيالية الموروثة حديثا عن الاستعمار البريطاني بكل قدراتها ونواحي ضعفها فقد تميزت الدولة التي ورثها الفريق برصانة إدارية ونواة اقتصاد حديث غير مترهل ويكاد يخلو من الفساد مع احتياطيات نقدية كانت تعتبر الغطاء الحقيقي للعملة الوطنية.ومع تلك المزايا ورث النظام طاقات أمنية وقمعية محدودة فلم يكن له جهاز أمن ومخابرات متقدم وكان جيشه صغير الحجم وموجها بالأساس للأخطار الخارجية والحدودية وحين حاول عبود استخدامه للقمع الداخلي تمرد شباب الضباط وانضموا عمليا إلى الثوار. وهنا لابد للباحث المنصف أن يعترف بأن ذلك كان وجها من وجوه ضعف النظام الذي تصدت له الثورة الاكتوبرية ومساهمة ذلك الضعف في أنجاح الثورة وتكليلها بالانتصار على عكس ما كان منتظرا لو كان النظام مدججا بالسلاح ومحروسا بتنظيم سياسي ضارب الجذور وجهاز أمني رفيع المقدرات.
    لا جدال أن الرئيس عبود تميز بروح أبوي عصم نظامه من التجاوزات القاسية التي
    مارستها الدكتاتوريات اللاحقة ويروي أبطال حادثة تعذيب جرت في عهده ( ربما كانت الوحيدة في سنوات حكمه الست) عمق الغضب الذي عبر عنه الرئيس والإجراءات المتشددة التي اتخذها ضد مرتكبي الحادثة من كبار المسئولين . كما أقدم نظامه على عدة خطوات في مجال التصنيع كانت النواة الأولى لصناعة السكر والجلود في البلاد. وعلى عهده أقيم واحد من أهم السدود على النيل الأزرق للتوليد الكهرومائي وجرى استخدام المعونة الأمريكية في رصف طريقي الخرطوم/مدني والخرطوم/الجيلي. ويذكر للرئيس أنه أنتقى لنفسه قطعة ارض متواضعة اضطر للاقتراض من المصارف ليشيد عليها منزله الخاص. وكما كان للنظام حسناته فقد كانت له خطاياه وعلى رأسها استسلامه المتهافت أمام السمعة الداوية للرئيس عبد الناصر وقبوله ثمنا قليلا للأراضي السودانية التي أغرقها السد العالي وأقيمت عليها بحيرة ناصر. ومنها اهتمامه الكبير بحركة التشييد السكني التي استفرغت جهد ومدخرات السودانيين وجمدتها في هياكل أسمنتية بدلا من استغلالها في الزراعة والتصنيع ومنها عدم استفادته بصورة متساوية من معونات المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي وكانا يتنافسان على خطب ود السودان في تلك المرحلة الباكرة من مراحل الحرب الباردة.وعلى الجانب الآخر كان ثوار أكتوبر يحلمون بديمقراطية عميقة الجذور تهيئ البلاد لتنمية أسرع وأقوى من تلك التي أقدم عليها النظام وكانوا يملكون حلا لحرب الجنوب أثبت فعاليته بعد سقوط عبود بسنوات ومنح البلاد أحد عشر عاما من السلام. وكانوا يمتلكون هياكل عامة لبرامج اقتصادية كان بوسعها تغيير وجه الحياة الاقتصادية للبلاد لو أنه أحسن توجيهها نحو التنمية والبناء. وعلى أيامها كانت خطايا النظام مرئية بوضوح تام إذ لم يكن قد اكتسب بعد الأبعاد البيرونية (نسبة إلى دكتاتور الأرجنتين واسع الشعبية خوان بيرون) التي أسبغتها عليه المقارنة بإخفاقات العسكريين الذين جاؤوا من بعده.
    والواقع أن الرئيس شخصيا كان سوارا من ذهب إلا أن أركان حكمه لم يكونوا جميعا على شاكلته.وبالغة ما بلغت فضائله الشخصية فأنها لا تكفي لتبرير العقل المتحجر الذي حكم مسيرة التنمية والاقتصاد خلال سنوات حكمه الست فقد كان من الممكن أن ينجز أكثر وأسرع في ظروف دولية مؤاتية ساهم شخصيا في صنعها بالسياسة الخارجية البراغماتية التي أنتهجها بمواجهة الاندفاعات الناصرية والصراعات والملاسنات التي عمت العالم العربي والبطوليات الشخصية وعبادة الفرد التي سار عليها قادة إفريقيا الجدد من حوله.
    كان رجلا عظيما ولكن الرجال العظماء لا يملكون حصانة ضد السقوط.


    ماذا بقي من ثورة أكتوبر ؟ (2)


    بدأت مرحلة البكاء على الماضي في السودان في منتصف عام 1978 على عهد الرئيس نميري ففي ذلك التاريخ ودع السودانيون ضيوفهم من وفود مؤتمر القمة الأفريقي الخامس عشر وعادوا من المطار إلى بيوتهم ليجدوا أن الكهرباء مقطوعة عن منازلهم والمخابز خالية من الدقيق وكل السلع تقريبا معدومة من الأسواق.ومنذ ذلك اليوم(الثاني والعشرين من يوليو ذلك العام) أصبحت تلك الظواهر من ثوابت الحياة السودانية، تظهر وتختفي بصورة دورية ولكنها مستقرة في العقل الجمعي الخائف دوما من عودتها إلى الظهور حتى بعد أن دخلت البلاد عصر البترول وأصبحت مدعوة للالتحاق بمنظمة الاوبيك.

    يطلق على تلك الأيام الذاهبة اسم " سودان زمان" ولا يخلو مجلس للسودانيين داخل أو خارج السودان من التغني بسودان تلك الأيام مع رواية ألوف القصص عن الرخاء والوفرة وتدني الأسعار وتوافر الثقة بين الناس مع الاستفاضة في التغني بعظمة حكام تلك الأيام ورقة قلوبهم وتحليهم بأجمل صفات الكرم والنزاهة والروح الأبوي. وبفضل تلك المجالس والمقارنات خرج الماضي في ازهي صوره. وأصبح الحاضر كله قبيحا منبوذا. وهنالك من يعتبر ثورة أكتوبر جزءا من ذلك الماضي الجميل كما هنالك من يعتبرها أول معاول الهدم لبنية ذلك الزمان. وعلى سبيل المثال يرى البعض أن أكتوبر قد جاءت بمبدأ التطهير الذي أيقظ الناس من توهمهم أن الوظيفة حق موروث لخريج المدرسة النظامية وأنه متى دخل الوظيفة فقد ارتفع فوق المسائلة وبقي في موقعه الوظيفي لا يزعزعه عنه إلا بلوغه سن التقاعد. والواقع أن الأنظمة الدكتاتورية التي تلت الثورة اعتمدت نفس المبدأ ومارسته على نطاق واسع لم يبلغ الاكتوبريون عشر معشاره. ومع أنه ثبت للسودانيين أن الفصل العادل من الوظيفة حق للمخدوم في كل الأنظمة الإدارية الناجحة إلا أن التطهير ظل مأخذا مأخوذا على تلك الحقبة الثورية البعيدة.

    ويؤخذ على الثورة أيضا مناداتها بإلغاء الإدارة الأهلية أي إلغاء الوظائف العشائرية التي يتوارثها زعماء الطوائف والعشائر ويديرون عن طريقها الحياة الريفية بمهارة وفعالية . وفي معرض البكاء على الماضي يتندم الناس على عزلهم أولئك الزعماء وهو بالفعل عمل من أعمال الغرور والتعالي الذي يمارسه المتعلم الحديث في مواجهة الحكمة التقليدية للشعب. وإذا كان من كلمة للدفاع عن الثورة فهي كونها لم تجد الوقت لتطبيق ذلك الشعار وتركت تطبيقه لعهد النميري الذي بدأ حياته في الحكم كامتداد لأكتوبر ولكنه عاد وتحول إلى أعدى أعدائها وفي نهاية المطاف لقي حتفه على يد حركة نظيرة تعترف ببنوتها لثورة أكتوبر وتتلمذها عليها هي الهبة الشعبية المعروفة باسم انتفاضة ابريل 1985.

    لم تعمر حكومة أكتوبر طويلا فقد اتفقت القوى السياسية بميثاق مكتوب أن لا يزيد عمرها عن بضعة أشهر تدير خلالها شئون البلاد كحكومة انتقالية يكون هدفها الرئيسي الإعداد للانتخابات العامة والإشراف على إجراءها. وقد تلكأت الحكومة الانتقالية في أداء واجباتها متحججة بحجج غير مؤدية مما اضطر القوي السياسية للضغط عليها ضغطا قويا فعالا أعادها إلى صوابها وألزمها بتنفيذ تعهداتها وتمكين الشعب من الاحتكام إلى صندوق الانتخاب. وبذلك يكون الرصيد الديمقراطي لأكتوبر الرسمية جد محدود فقد أظهرت تهالكا على السلطة وكانت على استعداد للتذرع بالضرورات لاستدامة تلك السلطة.ثم أنها أنزلت إلى الشارع بعض الشعارات غير المنصفة مثل قول قائلها:"لا زعامة للقدامى" وهو كفر ديمقراطي بواح فليس للديمقراطي أن يعزل أو يقصي فئة من الشعب ويحرمها حق الترشيح وليس ذلك اقل في الميزان الديمقراطي من حرمانها من حق الانتخاب نفسه.

    ماذا بقي من ثورة أكتوبر ؟ (3)

    الواقع أن رصيد أكتوبر الديمقراطي المباشر ليس بذي بال فلم يكن ميسمها الأبرز هو العمل لاستعادة الديمقراطية على طراز حركة اكينو في الفلبين ولكنها ابلغ نجاحا (وأقدم سابقة) من أكينو وغيره من حركات استعادة الديمقراطية فقد نجحت في استعادة الديمقراطية من براثن العسكريين وأصبحت بقوة الأشياء الحركة الرائدة في ذلك المجال.ولولا العزلة الإعلامية للسودان وبعده عن بؤر الاهتمام العالمي لكانت أكتوبر علما على قدرة الشعوب المغدورة على استعادة الديمقراطية من جيوشها الغادرة

    إلا أن الافتتان بأكتوبر ليس مصدره حكومتها قصيرة الأجل ومنجزاتها الحقيقية أو المتوهمة إنما روحها العام ومبادئها المعلنة كحركة مناهضة للدكتاتورية ونجاحها الفريد(ولاشيء ينجح كالنجاح) في اجتثاث نظام عسكري مستعد للبطش وإراقة الدماء وذلك على أيدي متظاهرين عزل من السلاح. وقد استخدم الثوار الاكتوبريون آليات مبتكرة لتحقيق الانتصار بخلطة من إجراءات الإضراب السياسي العام والتظاهر اليومي مما سبب شللا لكل مناحي الحياة في البلاد ووضع الحالة السياسية تحت مجهر التركيز اليومي. وتوفرت للثورة بداية موفقة بانطلاقها من الجامعة الوطنية مرموقة المكانة في نفوس السودانيين ومناصرتها من قبل الهيئة القضائية التي كانت آنذاك تضم نفرا من أعظم القضاة الذين مروا بالسودان كالقاضي عبد المجيد إمام والقاضي بابكر عوض الله(الذي للأسف عاد وطمس على تاريخه النضالي في العهد المايوي). كما وجدت الثورة إجماعا سياسيا شاركت فيه كل الأحزاب في البلاد.وربما لذلك ارتبطت الثورة في العقل الجمعي بمبادئ الاستنارة والعدالة والتوافق العام.
    من غرائب الحياة السياسية في السودان ذلك الجدل الذي ثار بين الماركسيين والإسلاميين على أبوة أكتوبر وعلى جثة شهيدها الأول (الشهيد القرشي) فقد ادعاه كل معسكر وتنازعوا عليه ردحا من الزمان وكان ذلك جدلا حامي الوطيس لبعض الوقت ثم عاد وخمد فجأة ولم يعد الإسلاميون ينازعون في الأمر أو يتحدثون عن دورهم فيه (وهو دور مشهود) .ومن عجب أن نفرا من الإسلاميين صاروا يقودون اليوم فيالق التهجم على ذكرى الثورة ومدلولاتها.


    أكتوبر تعبير سياسي متميز عن صبر الشعب وقدرته على الاحتمال وقدرته على التمرد في لحظة معينة لا يمكن أن يتكهن بها أحد.وحين تأتي تلك اللحظة المعينة يهب إعصار بركاني ينتظم البلاد في صيحة واحدة ضد الظلم والظالمين..وإذا كان اكتوبر64 هو التجربة الأولى المتمتعة بعنصر المباغتة فأن انتفاضة 1985 أثبتت أن التكهن بموعد الثورة مستحيل .وفي تلك التجربة التاريخية كان الحكم متخذا أهبته وجاهزا لقمع الجمهور الغاضب ولكنه فوجئ بأن التظاهر يحدث ليلا محتميا بالظلام الدامس الذي خلفه انقطاع الكهرباء وفي الحواري الشعبية المتعرجة نهجت* الشرطة مقطوعة الأنفاس وانتهت إلى التسليم بأمر الشعب والانضمام إليه.
    ماذا يبقى للسودانيين من تلك الأيام المجيدة في أكتوبر 1964 ؟
    تبقى بقوة عارمة فكرة الحكم المدني بدلا عن الحكم العسكري وحق ممثلي الشعب المنتخبين في السيطرة الكاملة على العسكريين بوصفهم مجرد موظفين لدى الشعب يغدق عليهم ويقوم بتسليحهم وإمدادهم بالمال والرجال دون أن يعطيهم ذلك أي حق في التفوق والسيطرة، وعلى عكس ذلك يوجب عليهم الطاعة للرئيس المنتخب والدستور المكتوب..وتبقى فكرة الديمقراطية وحرية الرأي وحق الجماعة في التشاور والتفا كر واختيار أفضل الآراء بدلا من الإملاء المفروض..وأخيرا يبقى من إرث أكتوبر روح الوحدة الوطنية التي جمعت الشمالي بالجنوبي والإسلامي بالماركسي والأنصاري بالختمي في خندق واحد ضد الطغيان والقتل غير المبرر وافتراء الحاكم على المحكومين وذلك ما جعل أحكامها نافذة وغير قابلة للاستئناف.

    • كان هذا التعبير موضع اعتراض من ضابط شرطة كبير فكان هذا الاعتذار والتوضيح الإضافي :
    بل أنا اطلب عفوك سعادة المقدم
    في كلمة بالغة التهذيب مستقيمة المنطق كتب سعادة مقدم شرطة (نحتفظ بالاسم ) يعاتبني عن كلمة قلت فيها إن انقطاع الكهرباء أيام الانتفاضة عام 1985جعل الشرطة "تنهج –خلف المتظاهرين مقطوعة الأنفاس في الحواري الشعبية المتعرجة "مما قادها "إلى التسليم بأمر الشعب والانضمام إليه".وبكلماته الرقيقة المهذبة أعاد سيادته إلى ذاكرتي مشهدا من مشاهد الامتنان العميق لا زلت احمله لجهاز الشرطة وكافة العاملين فيه.
    كنت في تلك الأيام سفيرا للسودان لدى باكستان وكنت مهددا بقدوم النميري على ذلك البلد في زيارة لم افهم لها مغزى ولم أر لها داعيا وقد حاولت الاعتراض عليها وطلب تأجيلها بكل الوسائل وكان من ضمن ذلك ما ذكره الصحفي والمؤرخ اللامع محمد سعيد محمد الحسن (في كتابه عن الدبلوماسية السودانية)عن البرقية التي أرسلتها لرئاسة الخارجية حين قام النميري باعتقال الدكتور الترابي ورهط من أصحابه بعد إعلانه عن زيارته لباكستان وذكرت فيها أن الرئيس ضياء الحق درج على سؤالي كلما جمعتنا المناسبات قائلا :كيف صديقي حسن الترابي How is my friend Turabi وقد أوردت ذلك ضمن اعتراضاتي على موعد الزيارة.وقد تأكدت أن زملائي الكرام في رئاسة الوزارة نقلوا تلك البرقية بحذافيرها إلى النميري في واشنطن التي بقي فيها إلى حين سقوطه النهائي.
    ولا اخفي عليك أنني كنت متوترا من فكرة حضور رئيس البلاد على رأس وفد يكاد يكون عائليا في زيارة رسمية بلا أجندة ولا هدف وقد بحت بدخيلة نفسي لاثنين من السفراء الذين أكن لهما بالغ الود واضع فيهما كامل الثقة وهما السفير النيجيري بابا كنجبي الذي عمل في السودان فيما بعد ممثلا للاتحاد الإفريقي والسفير السوري سيفي الحموي وهو رجل من ذهب.
    كان من رأي الحموي أن لا استعجل الأمور وان لا أقوم بتصرف غير دبلوماسي وان أبقى مكاني مستطلعا الأمور لان الله سيهيئ لي مخرجا. وكان من رأيه أيضا أن أتحرى الأخبار من عديد المصادر نظرا لقلة اهتمام الصحافة العالمية بأخبار السودان.وكانت الخطوة الأولى في ذلك السبيل أن اطلب من السفير الكويتي أبو احمد (ذكره الله بالخير) أن يوافيني برسائل وكالة الأنباء الكويتية – كونا- إذ أن مسكنه كان مزودا بجهاز لاستقبال رسائلها (تيكر) فاستنكر أن ابعث في طلبها كل مساء ووعد بأن ينقلها إلى ولو بنفسه فقد كان الرجل على علاقة قديمة بصهري الأستاذ إبراهيم الياس الاقتصادي المعروف وبالفعل أصبح سائق السفير الكويتي يقصد داري مرتين في اليوم ليسلمني الرسائل – مرة في الصباح الباكر قبل الذهاب إلى العمل ومرة في المساء.
    وفي ذات مساء أغر محجل طالعت في تلك الرسائل نبأ يقول إن الشرطة السودانية وزعت منشورات تحث الشعب على الاستمرار في التظاهر متكفلة بعدم التعرض للمظاهرات أو تفريقها.وعندما قرأت الخبر قلت لنفسي :"لقد انتهى حكم النميري" وكررت ذلك لأصدقائي سيفي وبابا كنجبي ولكنني كتمته عن وفد المقدمة الكبير الذي وصل منذ عدة أيام وكان –والحق يقال-مكونا من ثلة من كرام الرجال من الشرطة والأمن ومراسم القصر وعلى عكس ما أوردت بعض المجلات العربية لم أصادر الأموال التي استودعوني ولم اقل فيهم ما لا يتفق وقواعد المروءة وقد عجب الكثيرون للمودة التي نشأت بيني وبين العميد النميري الذي لم يكونوا يعلمون انه من تلامذة أهلنا الإسماعيلية وقد وجدته يحفظ ويردد الاماديح التي نشأنا عليها أطفالا في حي القبة.ويرى سعادة المقدم من ذلك مدى إعزازي للشرطة واهتمامي بدورها ليس فقط في حفظ الأمن والنظام وإنما أيضا في العمل ضمن ضبطها وربطها لإطاحة الظلمة والقتلة من سدة الحكم وذلك في إطار ظروف تاريخية استثنائية الطابع. وفي الظروف العادية تجدنا جميعا مهتمين بدورها الوطني في صون الأمن وإخماد الفتن ويكفيها ذلك فخرا ومجدا بل أنا شخصيا من أنصار ابتعادها – هي وكل الأجهزة النظامية من الانحيازات السياسية لهذا الجانب أو ذاك.وفي إطار دورها الدستوري المحدد تجد الشرطة ورجالاتها (وسعادتك على رأسهم) كامل تقديري وامتناني وإنه من أخيك
    أكتوبر هل من عودة أخرى؟
    في أكتوبر عبرة متجددة ودفق إلهامي وتجديد للثقة بأن حكومة الشعب بالشعب للشعب لن تختفي من وجه الأرض ولن تبيد.والاحتفاء الشعبي والنخبوي بذلك العيد العائد هو تكريم للمناسبة وروحها التحرري وبادرة تقدير لكل من وهبوها دمهم من الشهداء والمناضلين.إلا أن تلك الذكرى المجيدة تجعل الكثيرين يتساءلون لماذا تأخر أكتوبر في القدوم وهل يمكن أن تعود تلك الثورة إلى الوجود ولو بصيغة معدلة عن صيغة عام 1964؟هل يعود العصيان المدني إلى شوارع العاصمة فتهب لنجدتها القطارات المحملة بالمؤن والفدائيين من كسلا وكوستي ومدني والأبيض؟
    لقد عاد أكتوبر في ابريل 1985 في الانتفاضة المجيدة التي مضت في كل تفاصيلها على نهج الثورة الأكتوبرية الأم،فقد انتضت الجماهير سيف الإضراب السياسي البتار وتكدست في الشوارع على مدى الليل والنهار معبرة بذلك عن إصرارها على المطالب المرفوعة دون مهادنة أو مساومة. وبعد أسبوع من التظاهر والتحشدات كرر شعب السودان تجربة أكتوبر وأزاح عن مقاعد السلطة دكتاتورية جائرة تنكرت لحبه وأحلامه ووقف رئيسها قبيل رحلة عوليسية ودون عودة يهدد الشعب بأن رغيف الخبز سيظل يتناقص وزنا وحجما إلى أن يصبح في حجم أزرار القميص الذي يرتديه.
    لماذا تكررت التجربة الأكتوبرية في ذلك اليوم واستعصت على التكرار في ما تلا من أيام؟
    إنه سؤال صعب ومع ذلك يمكن الاجتهاد في تقديم إجابة عليه لنقل أنها على أحسن الفروض إجابة مؤقتة قابلة للنقض والاستئناف. وإذا جاءت ناقصة أو قابلة للتحسين فان التسرع فيها مظهر للحرص الشديد على سلامة الوجهة التي تتجه إليها أحلامنا كديمقراطيين تفاديا للإمعان في عوالم الأحلام المستحيلة لهثا وراء السراب.
    عاد أكتوبر في أبريل لأن الظروف السياسية كانت متماثلة وفرص النجاح متوافرة أمام ذلك الأسلوب النضالي المعهود.بل ويكاد كل شيء أن يتماثل في الثورتين .ففي الحالتين كان هنالك حاكم دكتاتوري ممقوت أثار الغضب العام (الأول بقتله الطلاب والآخر باستفزازه مشاعر الجمهور بخطاب وداع بالغ الضحالة لا يصدر عن الفرد الكريم ناهيك عن الحاكم العاقل الحكيم) وكانت هنالك ضائقة معيشية شديدة الوطأة وحجر على حريات الرأي والتنظيم وكان هنالك إجماع من كافة القوى السياسية على ضرورة الإطاحة بالحكم القائم. وفي حالنا الحالي الذي لا يخفى على الله شبه شديد من تلك الأيام ومع ذلك ليست في الأفق أكتوبر جديدة بل هنالك من يرى أنه ليس متوقعا أن تكون.وذلك أن التاريخ لا يعمل وفق أمانينا ولا بأماني من يخالفوننا الرأي. وهنالك من يرى أن التاريخ راح منذ عقود طوال يحفر لنفسه مجرى مختلفا وذلك أن أهل الهامش قطعوا الرجاء في أهل الخرطوم واعتبروهم جزءا أصيلا من مصفوفة الظلم الطبقي والجهوي الذي احتكر لنفسه كل شيء وحرم أهل الهامش من كل شيء.
    في منظور القائلين بذلك الرأي لم تعد العاصمة القومية ملهمة لبقية أنحاء البلاد ولم تعد صالحة لقيادة ثورة وفي أحيان كثيرة غدت بنظر أهل الهامش العدو المستغل الذي يتمتع دونهم بخيرات البلاد فأهل الخرطوم بنظر الأقاليم هم المستمتعون بوفرة الخبز والماء النظيف والكهرباء والمكيفات وهم الذين يعيشون في بحبوحة ونعيم.ولكننا نعلم حق العلم أن الصورة الحقيقية تختلف عن هذا التخييل وانه لا ينطبق إلا على خمسة بالمائة أو أقل من سكان المدينة هم بالضرورة الطبقة الحاكمة والدائرين في فلكها من المستفيدين وأهل التمكين.ويقولون إن الهوامش وقد قطعت الرجاء في الحل الاكتوبري أشعلت ثوراتها المسلحة في كافة أنحاء البلاد ماضية على نهج الحركة الشعبية (الجنوبية) في الكفاح المسلح الذي ينتهي بمكاسب إقليمية محدودة النطاق.
    ينبغي الإقرار بأن أكتوبر في الأصل ثورة حضرية أو مدينيه مسرح أحداثها هو المدينة السودانية فقد جرت وقائعها في مدن الخرطوم ومدني والأبيض وكسلا والفاشر وكلها من كبريات مدن السودان .أما ثورات الهامش فهي ثورات غابية إذا صحت النسبة إلى الغابة على هذا النحو وتميل –على الأقل في بداياتها – إلى العمل الجهوي المسلح المستند إلى القبيلة أو التحالف الواسع بين عدة قبائل يجمعها قاسم مشترك.وهي بذلك المعنى بعيدة عن منهجية أكتوبر الحضرية ذات الطابع السلمي والقائمة على مبدأ الإجماع. إلا أن الاختلاف لا يعني التدابر والتناقض واستحالة التوفيق بين منهجين وليس مستحيلا تصور وحدة كفاحية بين مسلحين وثورة شعبية شاملة متى توافرت لها شروط النجاح.
    وتعلمنا تجربتا أكتوبر وابريل أن أهم شروط النجاح هو الإجماع –حتى لو كان مرحليا- بين القوى السياسية والشعبية ويرى كثيرون أن ذلك هو الشرط المفقود فقد انضمت قوى ذات شأن إلى موكب السلطة وأخلت بالإجماع الوطني أو جعلته صعب التحقيق وساعدت السلطة في اختراق الجماهير وترويعها وكل ذلك حقائق ملموسة ولكنها ليست حقائق أبدية فهنالك أيضا القوى العديدة التي تخلت عن موكب السلطة وشرعت في معاداتها بتأثير من خيبة الأمل أو تمسكا بمبادئ أو صحوة ضمير. ومكونات السلطة ليست لحمة واحدة فبينها ما بينها من الخلافات والتعارضات ومهما جمعتها المصالح المؤقتة فان انفصالها عن بعضها البعض أمر وارد مثلما هو وارد انحيازها المستقبلي لجبهة اكتو برية قد تنشأ في ذات يوم. وحقيقة الحال ان استعادة الاجماع الوطني رهينة بنوعية الجرم الذي تجترحه السلطة ففي اكتوبر 64 اجمع السودانيون على استبشاع القتل الذي وقع في السكن الجامعي لحفنة صغيرة من الطلاب وفي الانتفاضة اجمعوا على استقباح حطاب الوداع الذي تهددهم به رئيس البلاد ولا يدري احد ماذا سيحدث في المستقبل ونوعية الجرم الذي قد تقع فيه السلطة.وربما لذلك يمكننا ان نترك كل الاحتمالات مفتوحة وكل الممكنات ممكنة .وغاية الامر ان أكتوبر هو كنز الكنوز في تجربتنا السياسية وعلى مدى الأزمان يمكن استلهامه والإفادة منه ولكن في الظروف التي تضمن له النجاح.ولا يعني ذلك أن نغسل أيدينا من أكتوبر ونودعها متحف التاريخ ولكننا ننتبه فحسب للمتغيرات التي قد تحجب وهجها في وقت من الأوقات وتفتح مسارات جديدة للغضب الشعبي.
    وفي الأجواء رائحة عنبرية .. رائحة اكتو برية

    لكيلا نتهم المتأسلمين السودانيين بالغفلة ينبغي الإقرار بأن بعضهم تنبه إلى خطورة التعاون مع العسكر منذ اللحظات الأولى لانقلاب 30 يونيو 1989 وكان ذلك النفر -بمنطقهم القائم على اجترار المأثورات- يردد أنه لا أمان لعسكر، حاملا العبارة على محمل الاحتياط لغدر العسكر بمن يحالفهم. وهي مقولة لا غبار عليها في علم السياسة، ففي تحالف الأعزل والمسلح يفرض هذا الأخير شروطه في كل مرة معتمدا على ما يتوافر له من أسباب القوة المادية. وفي الإطار المعاصر تتمتع الجيوش البريتورية ليس فقط بالسلاح وإنما باحتكارها له بما يعني عدم جواز حيازة السلاح والتدرب عليه لأي جهة خارج الجيش إلا بإذن وفي نطاق قوانين وضعت أصلا لحماية ذلك الاحتكار.
    نوه السيد الصادق المهدي بما أسماه الظاهرة البونابرتية في علاقة الجيوش بالسياسيين مشيرا بذلك إلى تحالفات نابليون مع مختلف القوى السياسية في فرنسا والتي قادت إلى بروز بونابرت وقوت مركزه على حساب أولئك المتحالفين حتى توج نفسه في النهاية إمبراطورا لفرنسا التي صنعت واحدة من أعظم الثورات في تاريخ العالم لتقضي على الملكية وتقيم الجمهورية الديمقراطية فانتهى بها الكورسيكي الحاذق في أحضان ملكية أعتى من تلك التي ثارت عليها. وفي تاريخ المسلمين بالذات شواهد متكررة على نقض العسكر للعهد والميثاق واعتمادهم على القوة الباطشة لخلخلة واجتياح الميزان الأخلاقي الذي يفرض عليهم مختلف الالتزامات بما فيها الوفاء بالعهد.
    تبدأ تلك الشواهد بالخليفة العباسي المتوكل الذي رأى مشاغبات جنوده العرب والموالي فقرر الاستغناء عن الفريقين واتخذ لنفسه جيشا من الأتراك سرعان ما أذاقوه وأذاقوا خلفاءه الويلات. فقد ظل الجنود الأتراك يستحوذون على مفاتيح السلطة ويتمردون لأوهى الأسباب لكي يعزلوا الخليفة ويستبدلوه بخليفة جديد متحالفين مع سيدات البلاط وغلمانه وجواريه ومع الابن على عمه أو على أبيه حتى أن عبد الله بن المعتز تولى الخلافة ليوم أو بعض يوم قبل أن يتم عزله من قبل جنود الخلافة المتمردين. ومبالغة في التنكيل كان الجنود يسملون عيون الخليفة المعزول جريا على عادة قاسية جاءوا بها من موطنهم الأصلي في آسيا الوسطى يضمنون بها عدم عودة الأعمى إلى مقعد الحكم.
    صبر العسكر في السودان على بهلوانيات شركائهم في الحكم وسوء إدارتهم لشئون البلاد واستشراء الخلافات بينهم وعند ذلك قاموا باستبعاد الفصيل المناوئ وتبني الفصيل الآخر الذي لسوء حظه ظن انه يتبنى العسكر ويقودهم بينما هو في حقيقة الأمر ينفذ أوامرهم وينحرف معهم عن طريق الدروشة القديم إلى علمانية جديدة أقامها النظام -داريا أو غير دار- مكان دروشة الأيام الأولى للإنقاذ. وشخصيا نبهت إلى نشوء ذلك الوضع في مقالة حملت عنوان" كلهم رجال البشير" نوهت فيها بأنه ليس بين الحلفاء الجدد خليفة للترابي يأمر وينهى في العسكريين وإنهم تحولوا جميعا إلى موظفين عند البشير يأتمرون بأمره وينفذون مشيئته وهم يستظلون بظله من مقت زملائهم الذين ظلوا على الولاء القديم للترابي. إلا أن أولئك الرجال وهم يخدمون العسكر تذرعوا بذرائع غير واقعية وزعموا لخاصتهم (وفي أضيق نطاق ممكن) إنهم يبقون في خدمة العسكر ضمانا لعدم انحرافهم (أي العسكر) عن طريق الإسلام. وذلك كذب صراح فان الذي أبقاهم في السلطة هو مقاعدها المخملية وخيراتها التي لم يكونوا يحلمون بها إذا استمر عصر الترابي .
    لا يمكن القول بأن بقايا الجبهة القومية الجالسين حاليا في مقاعد الحكم يمثلون شيئا ذا خطر أو أن ولاءهم المنقوص لسلطة الإنقاذ يؤثر على مجريات الأمور في السودان فحين ينفذ أمر الله ستجدهم يرددون تلك الترهات في مجالسهم الخاصة أو يعلنونها في الصحف دون أن يصدقهم احد بل على العكس سيتصدى لتكذيبهم كثيرون من أهل العقول. والآن لسنا بعيدين من ساعة الحقيقة فان النذر تتجمع حول النظام وفي سماء السودان تطل أبراج جديدة تحمل طوالع الهلاك لسلطة المتاسلمين وفي أجوائه تنتشر كما رائحة الدعاش رائحة كونية ليس مخطئا من يسميها رائحة اكتو برية. إن
    كل العلامات قد توافرت وهي (1)انعدام المصداقية و(2)الشلل السياسي وعادة يكفي هذان العنصران لإسقاط الحكومات العسكرية في السودان ولكن في حالة الإنقاذ ينضاف إلى ذلك عنصر ثالث هو(3) الضغط الخارجي.
    لم يعد هنالك من يصدق ترهات الإنقاذيين أو يهب للدفاع عن سلطتهم التي برهنت بمختلف الصور والإشكال أنها جاءت لإفقار الشعب وانتهاك حرماته لصالح فئة من وضيعي النفوس من طلاب الثراء وقلة من عديمي المواهب من طلاب السلطة والجاه. وإذا كفر الشعب السوداني بشخص أو بسلطة فانه لن يصدق استغاثاتها حتى لو هجم عليها النمر حقيقة وشرع في تمزيقها. ولعل خير من عبر عن هذه الطبيعة فينا هو الزعيم الأزهري يوم قال عن الجمعية التشريعية :"سنرفضها ولو جاءت مبرأة من العيوب."
    أما الشلل السياسي فهو سلوك متواتر عن كل الدول ساعة تجنح للغروب، وهو نفسه الذي أنطق والي الأمويين بهذا الكلام:
    أرى تحت الرماد وميض نار
    ويوشك أن يكون لها ضرام
    فان النار بالعودين تذكى
    وان الحرب أولها كلام
    فقلت من التعجب ليت شعري
    أأيقاظ أمية أم نيام
    هنالك لحظة معينة يبدأ فيها الشلل ولحظة أخرى يستفحل فيها وينبغي أن نراقب بدقة بانتظار لحظة الاستفحال وعند ذلك يمكنك المراهنة بالقميص الذي على ظهرك على السقوط الحتمي للنظام.ولكن نظام الإنقاذ زاد في هذه الفروض والنوافل ودخل في مغامرة خارجية للبحث عن السلام بين مخالب الأمريكيين والأفارقة الموتورين تاريخيا من العرب فكان حتما من الحتم أن يأكل من طبيخ يديه. والآن ليس أمامه سوى الانصياع (وعندها سيقبره شعب السودان) أو الرفض وعندها ستتدفق الأسلحة الأمريكية على الجيش الشعبي وربما تحدث كارثة قومية كبرى هي انكسار الجيش القومي أمام المقاتلين الجنوبيين. ونحن لا نرضى بأي من تلك السيناريوهات - لا نقبل هزيمة الجيش رغم انه خذلنا وصار أداة الجبهة لتشريدنا وتعذيبنا وتعريض بلادنا لخطر الفناء، ولا نقبل خضوع النظام للإرادات الأجنبية بشروطها المجحفة التي تريد أن تلقينا وحيدين في الصحراء وتأخذنا بجريرة الجبهة التي كتب عليها-على الطريقة الإنجيلية- أن تموت بالسيف لأنها عاشت به (من يعش بالسيف فبالسيف يقتل).
    لقد انبهمت أمامنا المسالك ولم يعد هنالك ما يرضينا أو نرضى به كحل للمأزق القومي الذي أدخلنا فيه المتأسلمون، وحين لا يكون هنالك حل يرضيك فذلك يعني أن الحل يكمن خارج الخيارات التي أمامك، بمعنى أن الحل ليس في استمرار التفاوض أو الانسحاب منه. الحل الحقيقي هو تخلي الفريق البشير وخدمه من المتأسلمين عن الحكم- الآن الآن وليس غدا- ليأتي عقلاء البلاد وينقذوها من عبث الصبية الذي يسمونه "الإنقاذ". وعلى البشير أن يبحث في دخيلة نفسه عن شجاعة كشجاعة الفريق عبود حين حل المجلس الأعلى للقوات المسلحة وامتثل لرغبة الشعب فجاء التغيير هادئا دون أن يتعرض الوضع لراجفة تتسبب في مجاعة للشعب أو هزيمة للجيش القومي.
    التاريخ يعيد نفسه أم هو على رأي برنارد شو:"التاريخ الرديء هو وحده الذي يعيد نفسه" ففي ندوة سبقت الثورة الاكتوبرية طالب الترابي بذهاب الحكم العسكري كحل لمشاكل السودان. وكان يومها خريجا حديثا يريد أن يصنع لنفسه اسما ليفوز بموقع المرشد العام للإخوان المسلمين، فقال تلك الكلمات الداوية وبعد أن تحقق له مراده نسي الثورات والثائرين وتسبب للسودان في اكبر كارثة عرفها تاريخه الحديث بتأليبه عسكر السودان على الانقلاب والخروج على الدستور والآن هاهو وبقية الشعب السوداني في الحبس تحرسهم البنادق التي اقتطعنا ثمنها من قفة الملاح ومصاريف الأولاد والتي اصطنعناها لتحمي حدودنا فأصبحت اليوم أكبر تهديد لتلك الحدود.
    قال العباسي،أحد أعمدة الكلاسيكية السودانية: :
    فلو درى القوم بالسودان أين هم من الشعوب، قضوا يأسا وإشفاقا
    وليطمئن الشاعر العظيم فقد عدنا ندري أين نحن. نحن في نهاية آخر شعرة في ذيل مؤخرة الركب الحضاري ومع ذلك نحن مهددون بأن تنحل عقدتنا وتتفكك أواصرنا ويسلمنا جندنا إلى التهلكة والبوار بما أساؤوا إدارة الحرب ويسيئون الآن إدارة السلام. ويغثى النفس حقا وصدقا أناس يطالبون بفصل الشمال عن الجنوب بعد أن وقعت الفأس على الرأس وأصبح بمقدور الجنوب أن يفصل رؤوسهم عن بقية أبدانهم.فأمثال هؤلاء هم المغردون خارج السرب وانكي وأدهى أنهم يريدون أن يحملوا أشلاء السودان بعد المجزرة لينضموا بها إلى مصر كأنما مصر مباءة الأوساخ والنفايات، وفي الماضي أبيتم الاتحاد معها وأنتم بلد مجتمع الأشاجع والأوصال ثم أمعنتم في خصامها حول حلايب يوم غرتكم أنفسكم وظننتم بأنفسكم الظنون وتخطبون ودها اليوم وقد أصبحتم بقايا وأشلاء. فألف كلا، مصر لا تريدكم ولا تبتغيكم.
    بمثل هذا قال آخر حكام الأندلس العربية فقد رفض معونة المرابطين الذين كانوا يحكمون المغرب خوفا أن يضموا دولته إلى دولتهم فلما اشتد عليه الإفرنج رأى من الأفضل قبول معونة المرابطين على السقوط في أيدي الإفرنج فقال قولته الشهيرة "رعي الجمال أحب إلى من رعي الخنازير." ففي الحالين لا يتجاوز قدره وظيفة الراعي.وقد انتهى به المطاف شحاذا في مراكش.
    في أيام استقلالنا الأولى نشر زعيمنا الخالد إسماعيل الأزهري شعارا وطنيا يقول:"أحرار في بلادنا كرماء لضيوفنا" والآن لا نريد أكثر من ذلك: أن نعود أحرارا في بلاد أجدادنا-من حلوق الريف لى سدودا- وإخوة حقيقيين لمواطنينا.

    الدكتور جعفر كرار:
    سيرة استقامة سياسية
    صدر عن مركز عبد الكريم ميرغني سفر هام أكرمني بنسخة منه أخي العلامة الدكتور حسن أبشر وما كنت سآخذ به علما لولا كرم ذلك الصديق إذ أننا لازلنا على عهدنا في عدم الاحتفاء بما يضيف علماؤنا وأدباؤنا إلى المكتبة السودانية من جليل الآثار وذلك في حين نتسابق إلى ما يكتب أهل الشام والمغرب وغيرها من الأمصار. والكتاب الذي احكي عنه هو كتاب الدكتور جعفر كرار وعنوانه "نظرات في التجربة السياسية السودانية" وهو أثر عملاق يقع في أكثر من خمسمائة صفحة ويستخلص الدروس والعبر من تجاربنا السياسية منذ مطلع الاستقلال وحتى الوضع الراهن ويمثل بكل تأكيد مرجعا موثوقا لتاريخ وأخطاء وخفايا الحركة السياسية لسودان ما بعد الاستقلال.وليس ذلك فقط لان المؤلف كان على الدوام مهتما بالشأن السياسي وقريبا من مواقع اتخاذ القرار (فضلا عن أنه كان من صناع القرار السياسي خلال تلك الأيام الرائعة في أكتوبر 1964) ولكن السبب الأهم لمرجعية الكتاب هو الموثوقية العالية التي يتمتع بها المؤلف وهي موثوقية تعود إلى استقامته السياسية ومضيه في الحياة على نهج واحد لا يتغير هو نهج الالتزام بمصالح الشعب وعدم الاستخذاء أمام النظرات النارية للمستبدين والدكتاتوريين ويقترن كل ذلك بعدم التذبذب في العقيدة السياسية والوفاء لها بصورة لا تقبل التعديل ولا التبديل. وربما كانت الاستقامة السياسية –في نظر البعض- مظهرا من مظاهر الجمود الفكري وربما كان التذبذب وتغيير المواقف طبيعة بشرية لا يسعنا إلا النزول عند أحكامها والاعتراف بها كظاهرة تتكرر في كل الأجيال ولكن ما يدعو إلى النفور منها هو اقترانها في معظم الأحوال بالمصالح الذاتية والغرائز الدنيا في أشخاص السياسيين وذلك ما ارتفع فوقه هذا المثقف الجليل طيلة ما يقارب نصف قرن من الاهتمام بالسياسة وإمعان النظر في شئونها وقضاياها.
    ربما قادتنا النظرة العابرة إلى تصنيف المؤلف كواحد من الاتحاديين الاصلاء من المنتمين إلى مدرسة إسماعيل الأزهري السياسية وذلك جزء من الحقيقة فقد جاء الأزهري وعبر وتغيرت بعده الأمور وتغير الحزب الذي أنشأه ولم يبق على مبادئ الأزهري سوى حفنة معدودة من الرجال يعتبر الدكتور واحدا منهم ومن خيارهم على وجه الإطلاق ولكن التوصيف الأمثل هو اعتباره اكتو بريا صميما عبر عن جملة من المبادئ وهو يساهم بالقسط الاوفي في قيادة الثورة وظل وفيا لتلك المبادئ طيلة العهود التالية بدءا بعهد مايو الذي ترفع عن المشاركة فيه وعهد الإنقاذ الذي ظل من بين نقاده الدائمين.
    وليس هذا الكتاب سيرة ذاتية للمؤلف فهو مجموعة مقالات ومساجلات حول الشأن السياسي لا تمثل ترجمة لحياة المؤلف ولكنها بطبيعة الأحوال ترجمة لسيرته الفكرية و"نظراته" في القضايا السياسية الشائكة التي عاشها السودان منذ الاستقلال والى وقوعه في براثن الدكتاتورية وهلاكه الوشيك تحت ظلها البغيض.وتظل حياة المؤلف بحاجة لمن يرويها للأجيال وظني أن الدكتور الجليل لا يصلح لتلك المهمة لتواضعه الجم الذي لم يسمح له بالحديث عن نبوغه الأكاديمي ولا قدراته الإبداعية واللغوية فقد ضرب صفحا عن تلك المزايا في هذا السفر مضيا على نهج التواضع لله .ويؤكد ذلك –بنظري- حاجتنا إلى مجاراة الأجانب في التقليد الذي مضوا عليه في تعيين كاتب يترجم حياة كل مشهور من مشاهيرهم فيوفرون له المراجع والوثائق والآثار ويتيحون له فرص الالتقاء بالمترجم له ومقابلة أهله وذويه وكل من كان له أثر في حياته استقصاء لكل تلك المؤثرات التي تتكون منها العظمة السياسية والفكرية.
    في إحدى صفحات الكتاب ينقل المؤلف قولة لخبير عربي في مجال المقارنة بين السودانيين وغيرهم من العرب جاء فيها أن الخاصة عندهم أفضل من خاصة السودانيين ولكن عامة السودانيين أفضل (يريد ثقافة واطلاعا وشيما) من عامة العرب. وهي كما ترى عبارة موجزة ذات بلاغة مغرية ولكنها ليست صحيحة على وجه الإطلاق وخير برهان على عدم صحتها كون الدكتور الجليل من صفوتنا (خاصتنا) وهو دون شك متفوق على الكثير من رصفائه العرب وغير العرب فهو عالم وكاتب وذو نظر صائب في قضايا الحكم والسياسة والبيئة ولنا جميعا أن نفخر بأنه يفوق أقرانه في النخب الأجنبية بجمعه كل تلك المواهب في شخصه الكريم . وقديما جازف الشاعر بقوله :
    ليس على الله بمستكثر
    أن يجمع العالم في واحد
    النشيد الأول للطبعة
    مَنْ غيرنا يعطي لهذا الشعب معنى أن يعيش وينتصرْ
    من غيرنا ليقرر التاريخ والقيم الجديدة والسِّير
    من غيرنا لصياغة الدنيا وتركيب الحياةِ القادمةْ
    جيل العطاءِ المستجيش ضراوة ومصادمةْ
    المستميتِ على المبادئ مؤمنا
    المشرئب إلى السماء لينتقي صدر السماءِ لشعبنا
    جيلي أنا...
    هدم المحالاتِ العتيقة
    وانتضى سيفَ الوثوقِ
    مُطاعنا
    ومشى لباحات الخلودِ عيونهُ مفتوحةٌ
    وصدوره مكشوفةٌ
    بجراحها متزينة،
    متخيِّراً وُعر الدروب.. وسائراً فوق الرصاص
    منافحا
    جيل العطاءِ لك البطولاتُ الكبيرةُ
    والجراحُ الصادحة
    ولك الحضورُ هنا بقلب العصر
    فوق طلوله المتناوحة
    ولك التفرّد فوق صهوات الخيول روامحا
    جيل العطاءْ لعزمنا
    حتماً يذلُّ المستحيل .. وننتصرْ
    وسنبدعُ الدنيا الجديدةَ وفقَ ما نهوى
    ونحمل عبءَ أن نبني الحياة ونبتكرْ
    النشيد الثاني : للأربعاء 21 أكتوبر
    بالأربعاء طبولنا دقَّت وزوبعتِ الفضاءَ
    صيحاتنا شقَّت جدار الليل
    واقتحمتْ فناءه
    وتحدَّرتْ ناراً بآذان الطغاة
    العاكفين على الدناءه
    الخائنين السارقين القاتلين..
    الحاسبين الشعب أغناماً وشاء .
    بالأربعاء هتافنا شدخ السماء
    حفَّت بموكبنا بطولاتُ الجدود
    تزيد عزمتنا مضاء
    وتقاطر الشهداء من أغوار تاريخ البلاد
    مهللين مباركين نضالنا
    بالأربعاءِ الرائعة
    نصبوا بروج الموت فوق الجامعة
    وتفجر الغاز البذيء على العيون مدامعاً
    وتوحَّش البارودُ ،
    لعلع في الجباه وفي الرئات وفي الصدور..
    في لحظة الغدر الذميم تينبعتْ من خلفنا
    زُمَرُ الزغاريد التي صدحت بها أخواتنا
    فتسوَّختْ قدمُ الكفاح على لهيب المعركة
    ثبَّتن أقدام الكفاح على لهيب المعركة
    الدمُّ يرخص
    والرئات لتنشوي
    لن تنثني خطواتنا المتشابكة
    الأربعاء على جبين الدهر
    لؤلؤة
    ومتكأ انتصار
    زغرودةٌ تحمي ظهور الثائرين
    وكأسُ أفراحٍ تُدار.
    يا غرسة المجد الطويل
    على مصاريع النهار
    فلتسمقي جِذعاً وتزدهري بأمجاد الثمار
    ولتبقِ راية ثائرين
    وملتقى متسامرين
    ودوحة أفياؤها مجدٌ وخضرتها فخار..
    النشيد الثالث : للقرشي
    وكان في قريته الذرة
    مثقلةُ الأعواد بالثِمار
    والقطن في حقولها منوِّرُ
    ولوزه نضار.
    وكان في العشرين لم يرَ
    ألفاً من الشموس مقبلة
    ولم يعش هناءة الزفاف
    ولم يكن في فمه أكثر من هتاف
    ولم يكن في يده أكثر من حجر
    وكان في المقدمة
    على خطوط النار والخطر
    فجندلوه بالرصاص دامياً منتفضاً
    وفي أكفَّ صحبه قضى
    تعطَّر الثرى بدمه وأختلج التراب
    أجفل صبحٌ قادم وشاب
    إنفلق الليل إلى ضفيرتين
    وقفَّ شَعْرُ النجم والأجنة
    هبت عليه بالرضا رياح الجنَّة
    تصاهلت خيول المركبة
    واصطفقت أجُنحُها المرحِّبة
    وهكذا ...
    على وسادة من الريش الوثير
    تصاعدت إلى النعيم روحه الزكية
    إلى الخلود بطلاً وثائراً
    وقائداً رعيل الشهدا
    ورمز إيمان جديد بالفدا
    وبالوطن
    النشيد الرابع للثورة
    لفُّوه في علم البلد
    ودَّثروه بحقدها وعويلها
    بتأجج الغضب المقدس فوق تربتها
    وعبر سهولها
    بشموخ وثبتها إلى الحرية الحمراء تقطر بالنجيع
    وتدفقوا متظاهرين محطمين العار والذل الطويل
    وكل ألوية الخنوع
    لا البطش يرهبهم ولا الموت المحدق بالجموع :
    "لن تفلت الأفعى وإن حشدتْ أساطيل الجحيم
    وحصَّنت أوكارها"
    الثورة الشعبية الكبرى تغذتْ بالدماء واضرمتْ
    فوق المآذن نارها
    النصر في أعقابها يسعي
    وسحق الخائنين شعارها
    والمجد حفِّ بها
    وباركت البلاد مسارها
    ويلٌ لهم من غضبة الحق الأنوف
    وثورة الشعب الجليلة ..
    ستظل وقفتنا بخط النار رائعة طويلة
    سنعلِّم التاريخ ما معنى الصمود
    وما البطولة
    سنذيقهم جرحاً بجرح ..
    ودماً بدم
    والظلم ليلته قصيرة.
    النشيد الخامس : للانتصار
    باسمك الأخضر يا أكتوبر تغني
    الحقول اشتعلت قمحاً
    ووعداً وتمني
    والكنوز انفتحت في باطن الأرض تنادي
    باسمك الشعب انتصر
    حائط السجن انكسر
    والقيود إنسدلت
    جدلة عرسٍ في الأيادي
    كان أكتوبر في أمتنا منذ الأزل
    كان خلف الصبر والأحزان يحيا
    صامداً منتظراً
    حتى إذا الصبح أطل
    أشعل التاريخ ناراً واشتعل
    كان أكتوبر في وقفتنا الأولى
    مع المك النمر
    كان أسياف العُشَر
    ومع الماظ البطل
    وبجنب القرشي
    حين دعاه القرشي
    حتى انتصر

    اسمك الظافر ينمو
    في ضمير الشعب إيمانا وبشرى
    وعلى الغابة والصحراء يمتد وشاحا
    وبأيدينا توهجت ضياء
    وسلاحا
    فتسلحنا بأكتوبر لن نرجع شبراً
    سندق الصخر
    حتى يخرج الصخر لنا
    زرعا وخضرة
    ونرودُ المجد
    حتى يحفظَ الدهر لنا اسما وذكرى.
    النشيد السادس
    للشعب
    إنني أومن بالشعب،
    حبيبي وأبي
    وبأبناء بلادي البسطاء
    وبأبناء بلادي الفقراء
    الذين اقتحموا النارَ
    فصاروا في يد الشعب مشاعل
    والذين انحصدوا في ساحة المجدِ
    فزدنا عددا
    والذين احتقروا الموت
    فعاشوا أبدا
    ولأبناء بلادي سأغني
    للمتاريس التي شيَّدها الشعبُ
    نضالا وصمودا
    ولأكتوبر مصنوعا من الدمِّ
    شهيدا فشهيدا
    وله لما رفعناه أمام النار
    درعا ونشيدا
    وله وهو يهز الارض من أعماقها
    بشرى وعيدا.

    فلتكن عالية خفاقة رايةُ أكتوبر فينا
    ولتعش ذكراه في أعماقنا
    حبا وشوقا وحنينا
    وليكن منطلق الشعبِ
    لإيمان جديد بالفدا
    ولإيمان جديد بالوطن.
                  

03-11-2015, 08:47 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمد المكى إبراهيم ثروةٌ قوميه وثورةٌ مست (Re: munswor almophtah)


    الأخبار
    أخبار إقليمية
    محمد المكي إبراهيم : مازلت معارضاً ولم أقابل بحفاوة رسمية عند عودتي للبلاد
    محمد المكي إبراهيم : مازلت معارضاً ولم أقابل بحفاوة رسمية عند عودتي للبلاد
    محمد المكي إبراهيم : مازلت معارضاً ولم أقابل بحفاوة رسمية عند عودتي للبلاد


    كان الترابي أستاذي في الجامعة
    12-30-2014 10:03 AM
    الخرطوم - صباح موسى

    لا تحتاج صحيفة ما لتبرير الوقت الذي يحل فيه محمد المكي إبراهيم ضيفاً على صفحاتها؛ فهو شاعر رسم لنفسه طريقا يناضل فيه بالكلمة، عبّر عن ثورة الشعوب بوصفها تغييرا حتميا؛ وذلك في قصائده عن ثورة أكتوبر، ولا زال هم التغيير الذي يطمح إليه أمنية يسعى إليها بعد هذه السنين الطويلة.. تجده متنازعا بين شخصية الأديب المرهف، والسياسي المعارض، لتنتصر النزعة السياسية في دهاليز ذاته، أخذته الغربة طويلا وبعيدا، عاد مجددا والأجواء التي خرج منها هاربا لم تبرح مكانها. هو محمد المكي ابن مدينة الأبيض، (صرة العالم) طبقا لتعبيره، يعود مرة أخرى وتشعر به وكأنه لم يخرج من السودان.. كان يمكن للمكي ألا يكمل تعليمه النظامي لولا إصرار والده.. في هذه المقابلة مع (اليوم التالي) يقول إن لديه ولدين أحدهما داعية إسلامي وآخر متشدد دينيا، لكنه متصالح مع توجههما رغم تناقضهما مع أفكاره وانتماءاته.. حكى وتذكر صرخة البدايات، ممتطيا جواده في دروب سنينه، عكست حكاياته شعورا ببرودة الغربة، فعاد ليتدثر بعباءة الوطن بصرخة قد تكون مختلفة هذه المرة... فإلى حوار فوق العادة مع رجل مختلف.

    نريد أن نتعرف على الطفل محمد المكي إبراهيم؟

    الطفل الذي كنته، ولا أتذكره كثيرا!! الآن أسمع من الروايات أنه كان مختلفا عن إخوته في الشكل... في لون البشرة، كانوا يقولون له أنت لست ابننا، إذ كانوا أفتح مني، كانوا يمزحون معي ويقولون لي: "وجدناك في الطريق وربيناك". كنت أعيش في مدينة كانت هي صرة العالم كله بنظري، لم أتذكر هذا الأمر إلا مرة واحدة، كنت في هولندا وأسير على جسر، ومعي أحد أصدقائي، وعلى الطريقة السودانية كنا نأكل عنبا في الشارع، فتوقفت فجأة وقلت لنفسي: من أتى بي إلى هنا؟، وكان ذلك في عام 66، فما الذي أخرجني من هذه المدينة الصغيرة وأتى بي إلى هنا؟، بعد ذلك شعرت أنني يجب أن أتأقلم على أي مكان أسافر له وأحاول أن أحبه، وأعتقد أن سبب تعاسة للإنسان أن يكره البلد الموجود فيه، لم أكن ملزما أن أحب كل بلد، لكنني أعتقد أنك إذا أحببت البلد الذي تعيش فيه، فسوف يحبك أهله. تلك المدينة غرست فيّ محبتها وأفكارها وبساطتها.

    حدثنا عن الأسرة..

    أنا من عائلة صوفية تسكن على بعد 50 مترا من القبة وهي ضريح الشيخ الكبير، ويومين في الأسبوع تبدأ (الليلية)، وهي حلقة الذكر، ومع الضربة الأولى أسمع من داخل بيتنا، ونحضر كل الطقوس، من مدح الشيخ، وأشعار الشعراء الذين كتبوا عنه، والغريب أن معظمهم مصريون، ثم بعد ذلك يكون استماعنا لبعض قصائد الشيخ، ثم الذكر الذي يتحول من طبقة بعد طبقة إلى أن يصل الشخص إلى درجة المجاذيب.. كان لأبي أكثر من زوجة، توفيت الأولى في الولادة، وأخرى انفصل عنها، وثالثة وله منها أبناء، ووالدتنا ونحن ثلاثة أنا وأختان، إحداهما ماتت في عز الشباب دون الخمسين، وبقينا الآن أنا وأختي حنان.

    ماذ كان يعمل والدك؟

    والدي كان كثير الأسفار، كان يعمل تاجرا، وتعرض لكارثة قبل ميلادنا، كان لديه دكان احترق، واضطر أن يعمل سمسارا مع التجارة، ويذهب في إلى البادية وهي وطننا الأصلي ووطن أجدادنا، وكان يزرع ويبستن، وكان عنده بنتان وولدان إخواني من أبي هناك، كان والدي رجل طيب، وله علاقات بمثقفي المدينة، كان يفاجئني أحيانا بأبيات من الشعر، وبعد 30 سنة أجد هذه الأبيات، وأستغرب كيف كان يتحصل عليها.. أتذكر عند وفاته، كنت في باريس في بعثة وأنهيتها في يناير 68، وودعت الناس في السفارة في طريق عودتي، وقالوا لي والدك توفي، قابلتني مشاكل كثيرة حتى أحضر (البكا)، حاولت أن أجد طائرة للقاهرة ولكن كانت هناك عواصف، ولم أتمكن، وسافرت إلى بيروت وكانت الحمراء يغطيها البحر، كان الطقس سيئا، وظللت يومين هناك مع مصحف صغير، ثم توجهت للقاهرة، ولم أجد أيضا طائرات إلى الخرطوم، في الأخير وجدت طائرة إلى أديس أبابا، ثم إلى الخرطوم، كانت الرحلة طويلة ووصلت متأخرا جدا، لكن عندما وصلت الأبيض أعادوا المأتم من جديد.

    هل كان والدك يقصد أن يضعك في أجواء الشعر؟

    لم يقصد، لكن أحيانا كان يقرأ لي أبياتا، وكانت له علاقات بالمثقفين في المدينة، وكانوا يحفظون الشعر، أحيانا كان يطلب مني أن أقرأ له أشياء، وأتذكر مرة طلب مني أن أقرأ له الوعد الحق لطه حسين، وكان يبكي أثناء القراءة.

    هل كان يكتب ويقرأ؟

    لم يكن يجيد ذلك جيدا، ومرة كتب فشعرت أن خطه جميل جدا.

    ماذا تعلمت منه؟

    حب العلم، لأنه كان يقدر ذلك، ودائما يقول لي بفخر: "أنت طالب علم"، وكان يمكن أن أتوقف عن الدراسة مثل كثير من الشباب عند مستوى معين حتى أتحمل معه المسؤولية، ولكنه كان يرفض بشدة، ويصر على أن أستمر حتى النهاية.

    ذكرياتك عن المدرسة؟

    أتذكر وأنا في المدرسة الوسطى، كنت أتوقع أن أكون من العشرة الأوائل، طلعت 29، كانت نتيجة سيئة جدا بالنسبة لي، فقررت ألا أعود للدراسة ثانية، لكن والدي كان مصرا على التكملة، وعندما دخلنا لنرى النتيجة قال له أحد أقاربنا، يا إبراهيم ود علي، ولدك بليد، تدفع مصاريف كاملة (كانت 12 جنيها وقتها) وكانت ثروة يمكن أن تزوج ثلاث سيدات في ذاك الزمن، فقلت نترك، ولكنه رفض، لكن بعد ذلك تحصلت على المجانية بمجهود فردي، وعندما انتهينا من الوسطى و(سأذهب للثانوية) قلت له أتوقف! فرفض أيضا، كنت أقول يمكنني عن طريق القراءة أن أكسب المعرفة، وأجد وظيفة وأساعد والدي ولكنه رفض.

    بالطبع أحبلت القراءة.. من أين كنت تتحصل على الكتب؟

    كنت أحبها بشدة، في البداية كنت أشتري الكتب، لكن بعد ذلك اكتشفت مكتبات خاصة من ضمنها مكتبة رجل قبطي ممتاز بسيرته، لأنه دائما كان يحب العلم، وكان من النوع الذي يجرب أي حاجة، أتذكر أنه أخذ توكيل صابون (تايد)، وكان يوزعه على البيوت ويرميها من فوق الحيطان حتى يجربوه، ولكن لم ينفع ذلك معه، فترك الأبيض في ما بعد، وفتح مكتبة للكتب الإنجليزية سماها دار أمون، كان يبيع الكتب بأسعار زهيدة جدا، ومرات لو أتيته تشتري مثلا 4 كتب ومعك ثمن 3 فقط، كان يبيع لك، كان يسكن بجوارنا، وكان أولاده يعطونني كتبا ومجلات أقرأها، فأجد أنه عنده هوامش بخط جميل، وتعليقات في محلها، لم أنس في سنة من السنين أن جريدة المقتطف، كرسّت عددا كاملا لمحمود محمد شاكر، وهو عالم لغوي كبير، ونشرت فيه كتابه عن المتنبي، وكان الكتاب مثيرا للجدل، وهاجم طه حسين في ما بعد واتهمه بأنه سرق منهجه وطريقته في الكتابة، كان هذا الرجل صاحب المكتب له رأي جميل جدا في هذا العدد، وبعد زمن وجدت نفسي متفقا مع آراء هذا العالم القبطي.

    وماذا في ذاكرتك عن والدة محمد المكي إبراهيم؟

    أمي كانت صوفية ومدبرة وكان لديها اهتمام عميق بالتعليم، رغم ما قلته عن الوالد، لكنها كانت أكثر منه اهتماما، كانت تحفظ أورادا وقصصا وتاريخا، وعلى صلة مستمرة بالقبة، وأخذتني يوما من الأيام، وقالت لي لابد أن تذهب للروضة، أذكر أن الروضة كانت كمية من البروش يجلس عليها التلاميذ من 4 و5 سنوات، وكل طفل بعاهاته الخاصة، أمراض جلدية في الرأس، وفي الشعر، ومراهم صفراء عليها، وكنا نجلس ويأتينا الأستاذ أو نقرأ القرآن، وأيضا أخذتني والدتي للخلوة أو الكتابّ، والى الروضة وجلست بها 3 شهور وحين بدأ القبول، دخلت المدرسة الأولية، كنت سعيدا فيها جدا، وكنت أحب زملائي، في البداية كنت شقيا، ولكن بعدها صرت هادئا، وكنت ألعب الكرة، وكان عندي فريق من أولاد حارتنا وأنا رئيسه وخططنا لمعارك مع أولاد الحارات الأخرى، وكان ذلك مستمدا من قراءاتي.

    هل كانت للأسرة انتماءات سياسية؟

    الأب من قبيلة الجوابرة، والأم من قبيلة الدوفار، كانت لهم مملكة تاريخية في الشمال، وكانوا أقوياء، الاتحاديون من عندنا، فجد إسماعيل الأزهري وهو إسماعيل الولي كان من كردفان وهو قريب لوالدتي، ولفترة كان خليفة السيد ميرغني، وكانت له صداقة شخصية مع السيد عبد الرحمن المهدي، وكنا على علم بأن هواه مع الأمة، وأزهري يعتبر ابننا، فحدثت مشاكل، ففي ناس أصبحوا حزب أمة من عشيرتنا، وفي ناس استمروا مع ابننا محرر السودان، ووالدي كان مع الاتحادي.

    ماذا وجدت في كردفان بعد هذه الغربة الطويلة، وهل بحثت فيها عن شيء كان بداخلك؟

    أنا غبت عن كردفان حوالي 50 عاما، فكنت أعمل في السلك الدبلوماسي قبل الاغتراب وكنت أسافر أيضا كثيرا، عندما وصلت مشيت بعض المآتم، عندما توفي خالي، وذهبت للأبيض، كان لدي شعور جارف بأن أعود إلى الأبيض وأعيش فيها، لكن عندما ذهبت، وجدتها تغيرت بالكامل لم يبق منها إلا القليل، حتى القبة تغيرت، فقد كانت أمامها ساحة كبيرة جدا، نفطر فيها في صباح العيد، وأصبحت دروبا صغيرة توصل لبيت الخليفة، هناك تغيرات كثيرة، وكانت فيها غابات كثيرة جدا، كنا نصطاد فيها الطيور، وأيام الخريف نتسبح في البرك، لا وجود لهذا الآن، كله راح.

    تحولت للأحسن؟

    لا، كانت أحسن في الماضي، كان هناك مجرى مائي (الخور)، أصبح الآن مكبا للأوساخ.

    تغير الشعور بالعيش في الأبيض؟

    لا زالت الرغبة موجودة في العيش هناك، لكن أحب أن أعيش فيها كمدينة، أما قرية الطفولة فقد راحت. كانت لدينا منطقة بها مزارع، كنا نزرع فيها، وكان هناك بركة اسمها بركة السيد الميرغني كانت جميلة ومحفوفة بالأشجار، ومرات كنا نسبح فيها رغم أنه كان ممنوعا، كله اختفى، الآن تحولت لمخازن ومصانع، أفكر أن أعود وأجلس هناك في خلوة أو مزرعة ببيت واسع وأحيط نفسي ببستان به أشجار أحبها من التبلديات، عشيرتنا على بعد أميال من الأبيض، وهناك واحة اسمها البشيري، بها سلسة من الكثبان الرملية جميلة جدا تتشكل كل صباح، مرة تجدها بشكل هلال ومرة هلال مقلوب، فالهواء يشكلها، وأجدادنا زرعوا فيها النخيل، والعنب والتين، وتحفر 3 أمتار فيها تخرج المياه، وذهبت لها الآن وجدت عدد اقليل، لكن شعرت أنهم نساء ورجال عظماء، لأنهم جلسوا في هذا الوادي، ومنعوا الرمال من تغطيته، حافظوا على كل التراث والتقاليد، وصلينا الجمعة في المسجد، وبعدما رجعنا أكرمونا بالمديح ونحن نسير إلى منزل العمدة، نتغنى بالأناشيد بما يسمونه (السفينة والسفائن)، وتناولنا الغداء ودخلنا الحوش على سيدات القرية، ونساء وقريبات العمدة، وقامت سيدة جميلة ومدحتني بقصيدة، كان شيئا مؤثر جدا، وذهبت إلى منزل والدي، وجدته محطما، والقرية أصبحت مهجورة، ونبتت بها أشجار عالية، وبقايا من النخل لم تلقح، ذكريات جميلة جدا، كانت آخر زيارة لي لهذه القرية قبل حوالي 40 سنة، حركت في هذه العودة ذكريات، وأثارت شجوني، فهي مربوطة بأشخاص قريبين مني، هنا أخوالي وهناك كانت حبوباتي الكريمات، لكنني أثق أنها حياة ذهبت، تبقى في القلب والذكرى فقط، والحياة الجديدة يجب أن نتفاعل معها، ورأيت أن الطريق سيئ، وفكرت إذا أتيت إلى هنا وأريد أن أجلس وأكتب فلا كهرباء للكمبيوتر، قلت: هل أعود للورقة والقلم؟ فلن أجد طريقة للكمبيوتر، حكيت هذا الإحساس للوالي، وهو رجل ذكي وعنده فراسة نادرة، فقال لي إنه يفكر أن يمدهم بالكهرباء، وبشرني أكثر من ذلك بأنه قد يمهد الطريق، المسافة بسيطة ولكنها صعبة، فلابد أن يعيش الشخص عيشة حضارية مع الأهل، وأن يدمجهم أيضا في هذه الحياة الحديثة.

    كيف كان شعورك عندما خرجت للخرطوم أول مرة؟

    أولا، أنا من مدينة، لكنها أصغر من الخرطوم، وكنا متشوقين نصل الخرطوم، وكنت قد زرت الخرطوم قبلها، ورجعت أحكي للناس عن جمالها، وعن الحلوانية والسجاير التي شربناها من الخرطوم وكأنها مختلفة، والناس الذين قابلتهم ومنهم (ود نفاش) كل الأطفال يعرفونه، وهو أشهر كوميديان في الأربعينيات، وكان هناك مكان اسمه حدائق الأمم المتحدة في قلب الخرطوم كانت جميلة جدا، منجلة ومروية دائما، وتشوقت بعد هذه الزيارة أن أعيش في الخرطوم، وتم قبولي في الجامعة، كنت أريد أن أذهب إلى الهندسة، ولكنني لم أمتحن مادة الرياضيات الإضافية، كنت السادس على السودان وأخذت 9 علوم وكان الحد الأقصى، وتوجهت للقانون، وبعد السنة الأولى، جاءتني أخبار بأن الكلية ستصبح خمس سنوات، كانت كارثة بالنسبة لنا، فأنا دخلتها على أنها خفيفة حتى أتخرج سريعا، أصابني إحباط شديد، وكانت السنة الثانية جميلة جدا، وأتذكر جاءنا الترابي. هل كان الترابي أستاذا لك بالكلية؟

    نعم، ودرسنا شهرين قانون جنائي، وهو من المواد السهلة في القانون، كان الترابي مدرسا حيا يلبس القميص ذا الأكمام القصيرة والطويلة والبنطال، فقد كان عائدا من أوروبا، كان يعامل على أنه أستاذ نابغة.

    * كيف كنت ترى أستاذك الترابي إبان دراستك الجامعية؟

    كنت أراه رجلا يفهم، لم يكن قائدا سياسيا وقتها، كنا نتوقع أن يندمج في الدراسات القانونية، وجدنا نفسنا منغمسين في هذا العلم القانوني، وكنا متوقعين أنه سيقول رأيه في مسائل قانونية معينة، وكنا نتوقع أن يصبح علامة في القانون، ولكن للأسف، لو يسعفني التعبير، ترك هذا المجال ولم يضع فيه بصمات كافية، وأخذته السياسة، وكان الإسلاميون لهم مرشد هو الأستاذ الرشيد الطاهر، ودخل في مغامرة سياسية وانقلاب عسكري وحوكم بالسجن، وكان لطف امن السلطات، لأن والده كان رجلا محترما فلم يعدموه في عهد عبود، ووجوده في السجن خلق فراغا وسط الإسلاميين، وكتبهم توضح أن رؤوسهم سجنوا ولم يعرفوا ماذا يفعلون، كان هناك رجل محترم محبوب جدا اسمه مبارك قسم الله، عرضوا عليه أن يصبح زعيمهم، ورفض لأسبابه الخاصة، وعرضوا أيضا على آخرين، أما الترابي ففعلها، وذلك قبل قيام الثورة بأسابيع، ففي إحدى الندوات قام وقال كلاما ساخنا، وأصبح تفاحة ناضجة وقعت في حضن الإسلاميين، كان عنده دكتوراه، ولم تكن هذه الدرجة الرفيعة متاحة لكثيرين، كانوا يبحثون عن زعيم خلال الثورة وبعدها، صار زعيما للإسلاميين، وخاض أكتوبر كزعيم لهم، وفاوض باسمهم، وفعل أشياء كثيرة، بعضها عرقلت مسار الثورة.

    * ما الذي فعله الترابي وعرقل الثورة؟

    كنا نريد لقيادة سر الختم الخليفة، وقيادة جبهة الهيئات أن تستمر، لم يسمحوا لها، كان الترابي متضايقا من أن الماركسيين حاصلون على وضع أفضل، وهو استقوى بالأحزاب التقليدية، وعمل من خلالها مناكفات كثيرة مع الماركسين، ولم تكن عندنا أحزاب، كنا نشاركهم في توجهاتهم ومشاعرهم، وكنا نميل ناحية اليسار، فشعرنا أن هناك إنهاء للحركة الثورية، وفعلا أنهوها، وكان له دور كبير بحلفه واستقوائه بالأحزاب التقليدية، وبعدها عادت الأمور كما هي.

    * هل تقصد أن ثورة أكتوبر سرقت؟

    (يا ريت لو سرقوها)، كان يمكن أن ينجزوا باسمها، ولكنهم كانوا ضد أفكارها كلها، كل الشعارات التي رفعتها الثورة بالمساواة وإعطاء المرأة حق التصويت، والأجر المتساوي، كلها أنكروها، البلد كانت مستعدة لتغيير جذري، المرأة تتساوى مع الرجل نهائيا، الأولاد من سن 18 يشاركون في الانتخابات، وأشياء كثيرة، ولكنهم طردوا ثوار أكتوبر، حتى رئيسنا نفسه سر الختم الخليفة سيطروا عليه، بعدها زوجوه إحدى بناتهم، لم نكن نريد تأميم أحد، فالثورة كانت غير متحققة في برامجها، رغم انتصارها. كل هذه الأشياء والأحلام المكبوتة انفجرت عام 69 مع انقلاب النميري.

    هل أيدتم انقلاب النميري؟

    نعم، أيدناه بشدة.

    * هل تؤيد الأحكام العسكرية؟

    لا لا.

    * ولماذا أيدتم نميري، هل لأنه خلصكم من عدوكم؟

    أيدنا نميري في الأيام الأولى، وخرجنا أنا والشاعر الكبير أستاذي محمد المهدي المجذوب، كنا نسير على الأقدام، على طول شارع الحرية لنصل ميدان الحرية حيث حدثت المخاطبة، ووصلنا متأخرين، وكانت من أكبر التظاهرات في تاريخ البلد، سمعنا في ما بعد أن الشيوعين كانوا مترددين في تأييده، ولكنهم اضطروا ليقفوا مع الشعب. أيدناه لأنه كان يعبر عن أحلامنا، ويتكلم بلغتنا، ولكن كما يحدث للآخرين، بدأ يخرف.

    * متى بدأتم تغيرون رأيكم في نميري؟

    منذ عام 1974، سيطرت عليه جماعات، واقترض نميري أموالا أكثر من اللازم في 74، كانت تنهال عليه القروض، ليس لشخصه، فكان الغرب كله يحتاج لتدوير رؤوس الأموال، فشجعوه على شراء الأفيال البيضاء، وواحد منها موجود الآن في القصر بشارع الجامعة، كان يريد أن يقول إنها نصب للوحدة الوطنية، ولم تكن لها معان ولا أي شيء، وأنشأوا مصنعا اسمه الكناف، والأرض نفسها لم تنبت الكناف، فوجهت هذه القروض لأشياء سرقت، وعمل مصنع نسيج في شندي، وكان غير معقول في مكان ليس به قطن، وأيضا في ملوط بالجنوب مصنع للسكر، إلى الآن هذه الأشياء في صناديقها الخشبية، كان إهدارا للمال بشكل غريب، سرقوه من حوله وكانوا يغدقون عليه بالثناء بعدها، وأصبح التفاهم معه صعبا، كان يجتمع بعبد الخالق محجوب من الماركسيين، ويطلب منه تأييد انقلابه ثم عاد وقتله بعدها.

    * تخرجت في كلية القانون كيف التحقت بالعمل الدبلوماسي؟

    بعد التخرج التحقت بمكتب محاماة، وكنت أباشر بعض الأشياء، لكن حدثت كارثة لمكتبنا، فشعرت أن المحاماة مهنة ليست لي، فذهبت لمكتب آخر لصديق، لكن كنت أشعر أن هذا ليس عالمي، وكان هناك تقديم للخارجية وزملائي قدموا قبلي بثلاثة أشهر، وكلموني، فقدمت وأخذوني، وبعد أسبوعين أرسلوني لفرنسا، فشعرت أن هذه حياة ألطف وأقرب لعالم المعرفة والعلم، وأنا أحب اللغات جدا، وقبل تخرجي ذهبت إلى ألمانيا، وقضيت فيها حوالي عام ونصف، فأنا أتحدث الآن فرنسية إنجليزية وبعض بقايا الألمانية وعربية، ومن خلالها يستطيع المرء السفر ومعايشة الشعوب ويتعلم ويقرأ، ورغم أن الخارجية كانت عالمي، لكن كانت بها المحسوبيات والتدافع، وأنا لا أحب هذا الأمر، وأعتبر نفسي ظلمت بها، فأنا أول شخص تعلم الفرنسية، ولدي بها شهادة، لم أذهب في عملي الدبلوماسي إلى أي بلد يتحدث الفرنسية، وكان ذلك بعد نميري، فقط عندما يأتي ضيف، أجلس وأترجم له، لكن عندما يأتي النقل لباريس وغيرها يسفرون أناسا لا يعرفون تلك اللغة، إلى أن أوشكت على نسيان الفرنسية قالوا لي: روح باريس، وقرأت الفرنسية من جديد.

    * متى تزوجت؟

    تزوجت سمية، وكانت طالبة في تشيكوسلوفاكيا وكنت دبلوماسيا بها وكان عمري 27 في عام 1968، وتزوجنا، وأثناء تجهيزنا لمراسم الزواج، نقلت إلى نيويورك، وكانت الظروف الاقتصادية في السفارات سيئة جدا، ففضلت أن أترك نيويورك، وآتي للسويد وقضينا بها سنة، وأنجبنا بنتنا الأولى واسمها داليا، وكان هناك عالم نبات سويدي ذهب للمكسيك واسمه دال، واكتشف زهرة سموها داليا، وسميت ابنتي بهذا الاسم، واكتشفت بعدها أنه اسم مشهور، ورجعت إلى الخرطوم وعملت في مكتب الوزير لفترة.

    * هل لديك أبناء آخرون؟

    نعم، عندي كمال، ويعمل الآن داعية إسلاميا، ولديه عشرات الصفحات على النت، يمكنك أن تبحثي عنه باسم كمال المكي، وهو داعية حلو جدا، ولست حزيناً، أنا مبسوط به.

    * كيف يكون لمحمد المكي ابن إسلامي وداعية، أليس ذلك غريبا؟

    ولد كمال وعاش بالخارج؛ وعمل بالترجمة، فاستغلوا موهبته، وكان يحاول مخاطبة الإسلاميين بأشياء عرف أنها أشياء صحيحة، هو وسطي وضد التشدد، ويحكي النكات لمستمعيه، متزوج ولديه أولاد كثيرون، أيضا عندي ابني ابراهيم، وهو حبيبي، وسيأتي للخرطوم يريد أن يتزوج من السودان، عنده 37 سنة يريدها محجبة، وهو أيضا إسلامي جدا وبطريقته الخاصة، وهو ملتح وكذلك كمال، إبراهيم مرة تشاجر مع إسرائيلي في المدرسة، وتصارعا بشكل فظيع، وعاد ووجهه متورم، وأيضا كان الإسرائيلي كذلك، فهو متعصب لعالمه.

    * عندما يكون أولادك إسلاميين يكون الإسلاميون جيدين في نظرك، أما الآخرون فهم أعداء أليس في ذلك تناقض؟

    (ضحك عاليا).. أنا نفسي صوفي.

    * لديك أبناء آخرون؟

    عندنا جوهرتنا لولوا وهي مولودة بالسعودية وأعطيناها اسما سعوديا، نالت الماجستير في هارفارد وتنوي أن تنال الدكتوراه، وهي وداليا متزوجتان من أمريكيين، وهي موهوبة وتكتب جيدا، الخامس هو خالد، كان إسلاميا.

    * ماذا فعلت في أمريكا من الإنتاج الأدبي؟

    أول أيام كانت معنا مدخرات وانتهت، وصعب جدا أن تلاقي عملا في أمريكا، دخلني هلع أنه لابد أن أعمل، وعملت بالترجمة في شركة، وترجمت كل برنامجهم للغة العربية البسيطة السهلة، وأثناء ذلك عملت مع الأمم المتحدة، وأرسلوني إلى العراق، للتفتيش على السلاح.

    * كنت ضمن فريق التفتيش عن الأسلحة بالعراق؟

    نعم، وفتشنا كل مكان في العراق.

    * هل وجدتم أسلحة؟

    لم نجد أي شيء، كانت كلها أكاذيب، فتشنا كل مكان، ولم يكن عندهم شيء، ولا حتى الجرثومية ولا شيء، صدام كان يدّعي أنه عنده أشياء ولم يكن عنده شيء.

    * ماذا فعلت بعدها؟

    بعدها عملت مع القطريين، مستشارا لسفيرهم في واشنطون، لكن العرب لا تتعلم حاجة معهم.

    * هل كتبت شيئا في هذه الزحمة؟

    كتبت أشياء بسيطة في الغربة.

    * كنت مختلفا مع الحكومة الحالية، وخرجت وعدت، وهي موجودة أيضا، ما الذي تغير؟

    لا شيء، أرى أن هناك هجمة على الحريات أفظع من 89.

    * ولكنهم رحبوا بك واستقبلوك بحفاوة؟

    لم أقابل بحفاوة رسمية، وإنما شعبية. فقط في كردفان قاد الوالي حملة التكريم وهو قريبي وله ألف حق في ذلك.

    * كانت لك حقوق في الخارجية هل تحصلت عليها؟

    نعم، حقوق معاشي، ولكنها ملاليم بسيطة سأنتزعها رغم أنها لا تساوي شيئا.

    * ماذا تنوي؟

    سأجلس فترة في الخرطوم وأخرى مع أولادي بأمريكا، سأجعل الخرطوم مقرا أنطلق منه في أسفاري التي ستكون خاصة بعد ذلك، سأسافر وأعود إليها.

    * هل تعتقد أن المناخ الموجود الآن يمكن أن ينتج ثورة؟

    لا، لكن أخشى أنه بفعل الحكومة ستكون هناك حرب أهلية.

    * الحرب موجودة منذ زمن؟

    نعم، لكن أهل وسط السودان لم يشاركوا فيها، هي في الهامش فقط.

    * هل تحب أن تتكرر تجارب الربيع العربي بالسودان؟

    لا أحب، لكنه سيحدث رغما عن الجميع، وستحدث أفظع من الربيع العربي.

    * وكيف ترى الحوار الوطني، ألا يمكن أن يجنب السودان ذلك؟

    لا يوجد حوار؛ فهنالك ضغط متواصل على الحريات، ولذلك لا أرى سوى شبح الحرب الأهلية.

    * مازالت لديك ميول المعارضة؟

    نعم أنا معارض، ولدي علاقات مع كل الأحزاب، أميل للصادق المهدي وأحترم أفكاره، وأعتقد أنه أكبر مفكر سياسي في السودان، وأتعاطف مع حزب البعث السوداني، وأعطف على الشيوعيين في محنتهم الحالية، وأتعاطف مع (السائحون)، حتى مع غازي صلاح الدين، وعبد الوهاب الأفندي والطيب زين العابدين، مع الإصلاحيين، دون تفضيل أحد على أحد، وأتمنى أن يعيدوا الديمقراطية التي نتمناها.

    * وماذا عن الترابي؟

    الترابي تقدمت به السن، وأعطف عليه كشيخ، وأتمنى له شيخوخة هانئة بعيدا عن السياسة، لم أعد أرى فيه أي تفوق سياسي.

    * وكيف تراه على مر تاريخه؟

    دوره سيئ جدا في تاريخ البلد، وأدخلها في مطبات ومآزق، لم يكن متوقعا من رجل تلقى تعليمه في الخارج أن يصل إلى هذا المستوى، معظم فكره تحول إلى مغالطات. ولكنني أحب تجديده الديني: إمامة المرأة وشهادتها في المحاكم، وسوف يحفظ له التاريخ سبقه في تلك المجالات.

    * أسماء في حياتك تأثرت بها وأثرت فيها؟

    لست من أنصار الاتباع، إنما من أنصار الإبداع، تأثرت بكثير من أساتذتي، وقابلت رجالا خارج المدارس وخارج دواوين الحكومات وعلى رأسهم أستاذي محمد المهدي المجذوب، ولي صداقات كثيرة مثل كمال الجزولي وإلياس فتح الرحمن ومحمد عبد الحي، والنور عثمان، حرمتنا الأيام من بعضهم، وكنا نمثل مثلثا وهذه الصداقة عاشت قرابة 40 سنة.

    * مدارس شعرية وقفت عندها؟

    كنت أحب عبد الوهاب البياتي، سمعت عن انتقادات المثقفين له، ولكني أعتقد أنه أول من بدأ التحديث في الشعر، كنت أحب صلاح عبد الصبور والتقيت به أكثر من مرة، كان يمكن أن يصبح شاعرا كبير جدا على مستوى العالم، كما التقيت جابر عصفور، وأعجبني جدا.

    * هل وقفت على تجارب شابة في السودان في الشعر؟

    ليست هنالك دواوين كثيرة، كنت بعيدا وحرمت من الاطلاع عليها.

    * الحب في حياتك؟

    أحببت زوجتي فقط على مدى 45 عاما، وهي ملكة تستاهل كل شيء، وتشاركني كل شيء، وهي جميلة جدا، ومازلت معجبا بها.

    * كلمة أخيرة؟

    نحن في العالم العربي نحتاج إلى رموز وقصص نجاح، والنجاح له مائة والد والفشل يتيم، نتمنى أن نرى النجاح في أي مكان في مصر أو الجزائر أو السعودية والخليج والسودان، نريد أن نرى نماذج من الحوكمة الناجحة، لا نريد حكومات تشرف على جوعنا وجهلنا وموتنا، نريد شيئا يثير الأمل للمستقبل، فأنا لست سعيدا بما أشاهده في كثير من البلدان، وعلى رأسها السودان، نحن كنا سيئين الحظ، ولا نريد لأولادنا أن يكونوا أسوأ، ولكن كل الدلائل لا تشير إلى أنهم سيعيشون في سعادة، المسؤوليات تحتم علينا عمل شيء والإقدام على أي تضحية، والاستعداد الكامل لأي تضحية، إذا كان من شأنها أن ترفع هذه البلاد إلى مقامات الديمقراطية والتعددية والشفافية الناتجة عن ذلك. سئمنا، سئمنا من هذا التاريخ المليئ بأسماء الأقزام والديكتاتوريين ورفقاء الحجاج بن يوسف.

    اليوم التالي
                  

03-11-2015, 09:23 AM

هاشم محمد الحسن عبدالله
<aهاشم محمد الحسن عبدالله
تاريخ التسجيل: 08-10-2009
مجموع المشاركات: 1989

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمد المكى إبراهيم ثروةٌ قوميه وثورةٌ مست (Re: munswor almophtah)

    الاخ منصور المفتاح ، تحياتى وشكرا له>ه الاضاءات الجميلة للمبدع محمد المكى ابراهيملون ازرق
                  

03-11-2015, 07:00 PM

سيف ود الخواجة
<aسيف ود الخواجة
تاريخ التسجيل: 01-07-2015
مجموع المشاركات: 264

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمد المكى إبراهيم ثروةٌ قوميه وثورةٌ مست (Re: هاشم محمد الحسن عبدالله)

    التحية لك عمي وأستاذي المنصور
    وأنت تسلط الضوء على سيرة إحدي قامات ومعالم بلادي الثقافية السامقة
    السفير الحاذق محمد المكي ابراهيم أطال الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية وأفاد وأمتع بإبداعه الأجيال

    شكراً استاذي المنصور وأنت تطلق ليراعك العنان لينقب ويبعث مثل هذه السير الهامة
    مع كل الود
    سيف الإسلام
                  

03-12-2015, 11:06 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمد المكى إبراهيم ثروةٌ قوميه وثورةٌ مست (Re: سيف ود الخواجة)

    عزيزنا هاشم محمد الحسن عبدالله السلام والرحمه عليك وعلى أهلك أجمعين وشاعرنا الفيلسوف والمتصوف يستحق بقدر ما أعطى
    أن ينال إستحقاقه وهو بين ظهرانينا وجميله يتراكم على عاتق
    الأمة يوما بعد يوم وألف تقدير وشكر لك على حسك الرفيع
    تجاه شاعر الأمه محمد المكى
                  

03-12-2015, 11:12 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمد المكى إبراهيم ثروةٌ قوميه وثورةٌ مست (Re: munswor almophtah)




    محمد المكي: «ثورة أكتوبر».. أكبر المنجزات بعد الاستقلال


    خمسون عاما حسوما مضت على ثورة 21 أكتوبر 1964 المجيدة التي أطاحت بنظام الفريق إبراهيم عبود، مازالت تفاصيلها تأبى أن تغادر ذاكرة من شاركوا فيها وعايشوها لحظة بلحظة، يسترجعون أحداثها اليومية المثيرة «الدامية» بكل ما حملته من مشاعر مختلطة ما بين الفرح والحزن آنذاك، فرحا بذهاب النظام العسكري الديكتاتوري، وحزنا على الشهداء الذين سقطوا برصاص الشرطة.

    وتظل ثورة أكتوبر تحمل معاني كثيرة، مخلفة وراها إرثا أدبيا وفنيا لا يندثر بمرور الأيام، خلدتها كتابات الشعراء وأغانيها الخالدة «الأكتوبريات» من بين هؤلاء الشاعر محمد المكي إبراهيم الذي كان وقتها طالبا في جامعة الخرطوم يزامله الراحل صاحب مدرسة «الغابة والصحراء» الشاعر محمد عبدالحي، وكانا جزءا من أكتوبر، وآخرون من الشعراء هاشم صديق وفضل الله محمد.

    ويقول الشاعر الدبلوماسي محمد المكي إبراهيم إن ثورة أكتوبر من أعز الذكريات في حياة الشعب السوداني، وكل من يقول إنها ليست بثورة لا يرى كثيرا من الظلام في هذه الأمة، ويضيف كانت أحلامنا متقدة وجزلة وموعودة بالانتظار، ورغم ذلك لا نبالغ في حسنها، لو قلنا إنها كانت حكومة بطئية «سلحفائية» في عملها عطلت استقلال الثورة القومية ولم تنجح في إحداث التنمية الحقيقة المرجوة، وثورة أكتوبر كانت مفعمة بالآمال في تحقيق الديمقراطية، من أجل الحرية، وهي غضبة على الاستهانة بالإنسان وحقوقه.

    ويرى محمد المكي أن من العوامل التي ساعدت في نجاح ثورة أكتوبر إجماع الشعب والأحزاب السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وكلهم كانوا في السجون، بما في ذلك الأحزاب التقليدية «الأمة والاتحادي» جميعها كانت متفقة على الإطاحة بالنظام العسكري، ويواصل قائلا: ثورة أكتوبر جاءت بمفاهيم مازالت تعيش معنا، ورغم أنها لم تغير كثيرا في بنية نظام الحكم والأسس التي يقوم عليها، ولكنها غيرت أدمغتنا، ووضعت لنا مثالاً كيف يكون الحكم الصالح الذي يقوم على احترام حقوق الإنسان، لذلك أكتوبر باقية في دواخلنا، وهي ثورة قابلة للتطور، لذلك أقول عنها إنها أكبر منجزات الشعب السوداني بعد الاستقلال.

    ويقول محمد المكي إن خوف القوى التقليدية أحزاب الوسط من استيلاء اليسار الماركسي على الثورة، والشعارات المخيفة التي كانت تردد آنذاك «لا زعامة للقدامى» جعلها تدافع عن نفسها، ولو «حصلت مساومة تاريخية في ذلك الوقت كان يمكن المحافظة على الثورة» ، ويقول إن الدرس الذي استشفه من ثورة أكتوبر أنني أؤمن بالشعب.

    ومن أشعار محمد المكي إبراهيم التي تغنى بها فنان إفريقيا الأول الراحل محمد وردي.

    باسمك الأخضر يا أكتوبر الأرض تغني

    والحقول اشتعلت قمحاً ووعداً وتمني.

    والكنوز انفتحت في باطن الأرض تنادي.

    باسمك الشعب انتصر.. حائط السجن انكسر.

    والقيود انسدلت جدلة عرس في الأيادي.

    يقول عنها الإسلامي البارز ربيع حسن أحمد الذي كان وقتها رئيسا لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم التي شهدت انطلاقة الشرارة الأولى لثورة أكتوبر، أن لأكتوبر مشاهد وأماكن خاصة في دواخلي، استمع لأشعارها وأغانيها، إن السودانيين لا يحتفون بأكتوبر الاحتفاء المناسب، ويبدى أسفه للكثير من الأكاذيب والأحاديث السلبية التي حاول البعض أن يدمغ بها الثورة، مثل حديث أن الشعب السوداني لم يتفاعل معها، وأنها كانت عبارة عن ثورة طلاب وأفندية ليس إلا، ويضيف هذه الأحاديث غير صحيحة، فقد كانت الأوضاع في البلاد في غاية السوء، إلى جانب الصعوبات الاقتصادية كانت هنالك مشكلة الحرب في جنوب السودان المتأزمة، وهذا ما جعل الكثيرين يخرجون إلى الشوارع صبيحة اليوم التالي في التشييع المهيب للشهيد أحمد القرشي، والهتافات الشعبية التي تطالب بذهاب الحكم العسكري.

    ويرى ربيع أن استشهاد القرشي كان سببا قويا لالتحام الشعب مع النخب المستنيرة، اتحادات الطلاب ونقابات الأطباء والمحامين والقضاة التي كان لها دور كبير في إنجاح التحرك الشعبي من خلال التنظيم المحكم والاتفاق في ما بين كل القوى والكيانات السياسية والنقابية على أن يعود الجيش إلى ثكناته، ويترك أمر السياسة للمدنيين، ويرجع ربيع نجاح ثورة أكتوبر إلى عدم وجود صراعات حادة بين القوى السياسية، إلا من بعض الاختلافات البسيطة التي لم تؤثر في وحدة تلك القوى في مواجهة النظام العسكري.

    ومن أدب «الأكتوبريات» أيضا قصيدة «المتاريس» للشاعر فضل الله محمد التي تغنى بها الفنان الكبير محمد الأمين يقول فيها.

    في ليالي الثورة هاتيك الجموع

    فبنتها من الصدور والدروع

    المتاريس تبقى شامخات في بلادي.

    (عدل بواسطة munswor almophtah on 03-12-2015, 11:13 AM)

                  

03-12-2015, 12:09 PM

عبدالله الشقليني
<aعبدالله الشقليني
تاريخ التسجيل: 03-01-2005
مجموع المشاركات: 12736

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمد المكى إبراهيم ثروةٌ قوميه وثورةٌ مست (Re: munswor almophtah)





    تحت ظلال الشجر الضخم الذي افتقدنا كثيراً ،
    يصلح أن يكون مكاناً طيباً . تجلس أنت على " هبّاب "
    وأنت في ضحى ، لا هو بالصيف ولا هو بالشتاء . تفتح أحد الدواوين للشاعر " محمد المكي "
    وتستلّ قصيدة ، أو ظبية من السرب وتقرأ:
    تعود لروحك جسدها ، ويذهب الكلام مُباشرة للقلب ،
    والذهن يرفع ساريته لينطلق في التخيُّل . هذا زمان ،
    ليس للشاعر الحق وجهٌ تُقْدَح فيه سيرته . للشأن علو منْ مَلك أهازيج الروح ،
    وطيلسان المروءة المُتكلمة .

    ألف تحية لك أخي الأكرم المنصور ،،،
    وألف وردة تُعيد للنفس صبواتها لشاعرنا العظيم المُبجل :
    محمد المكي إبراهيم


    *
                  

03-12-2015, 08:45 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمد المكى إبراهيم ثروةٌ قوميه وثورةٌ مست (Re: عبدالله الشقليني)


    لشاعر الكبير محمد المكى ابراهيم : نحن أجدر
    January 15, 2015

    محمد-المكى(حريات)
    نحن أجدر (مناغاة اكتوبرية)
    محمد المكي إبراهيم

    هي خمسونَ عاما مضتْ
    مثلما يومضُ البرقُ مرت
    وها أنتِ لا زلتِ خضراء ، زهراء، حسناء اثوابُ عرسك زاهية وطوالعُ سعدك اكتوبرية
    اخرجي يا جميلة من ظلمةِ القبوِ
    سيري إلى البهوِ
    حيث المعازيمُ ينتظرون
    وحيث الكمنجاتُ ترفعُ أقواسها بالتحية
    المعازيمُ ينتظرونك كي يبدأ الرقصُ
    فانطلقي من صفوفِ الشباينِ
    عبر حفيفِ الفساتينِ والأحزمة
    وادخلي غابةً الوردِ قادمة نحونا.
    أدخلي يا غزالةُ، يا برتقالةُ، يا ذهبيه
    ادخلي في المساقِ المؤدي إلى غرةِ الفجرِ سيري إلى حيثُ كأسُ السعادةِ مترعةَ
    والصبايا يوزعن أطباقها للشوارع والمضربين
    ذكرينا بأيامنا ومواطيء اقدامنا
    ذكرينا البيوتَ التي خبأتنا
    وتلك التي بذلت ماءها وسقتنا
    وتلك التي سألت ربها أن يقينا ويحفظنا
    لا سبيلَ لنسيان تلك الهنيهة من عمرنا
    حين اسفرتِ عن وجهك الذهبي
    وفاحت خزاماك فينا
    لا سبيل لنسيان عينيك في ذلك الموسم الذهبي المتّوج إذ تعبأت بالضياء وأشرقتا بالعذوبة.
    وقتها كانت الريح تمضي جنوبيةُ
    والمتاريسُ مخفورة بالبناتِ الأمازونِ والمنشدين وكنا كما العشب كنا خفافا ومحتدمين
    لاتخافي علينا فقد سرت النار منا لأبنائنا ولابناء أبنائنا والبنات الامازون اصبحن أكبر وتناسلن فينا فأصبحت النار اكبر
    اننا الآن أكثر
    اننا الآن أجدر
    فهبي علينا لينتفض القلب ياغالية
    ويخلع أثوابه البالية
    وتجلس ارواحُنا في المكان المخصص للروح
    أو ..
    أو نشتعل مرة ثانية.
                  

03-12-2015, 09:02 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمد المكى إبراهيم ثروةٌ قوميه وثورةٌ مست (Re: munswor almophtah)

    الشقلينى محمد المكى غابة من الصندل مشتعلةٌ لا تبتعد عنها مهما إشتد اوارها فمن منا يأبى الصندل ومن منا يبغض فوحه أو نفحه وهو مخضر
    مِنّة من الله خصنا الله بها كالصالح الطيب صالح وكعبدالله الطيب والمجذوب والعباسى والتجانى وكرف وصلاح أحمد إبراهيم والنور عثمان
    وكالعلماء محجوب عبيد والنزيز دفع الله وشداد الفيزياء وكغيرهم فى الإنسانيات واللسانيات وحقول المعرفه الأخر فخرٌ من فوقه فخرٌ ومن
    تحته فخر الشكر لك يا سباك الحرف الماسى والإحساس الإنسانى النبيل والشكر لك وأسعفنى بتلفون المك ود المك عبدالرحمن الوسيله والشكر لك.


    والسلام الكثيف اللطيف

    منصور
                  

03-12-2015, 11:33 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمد المكى إبراهيم ثروةٌ قوميه وثورةٌ مست (Re: munswor almophtah)

    العزيز سيف إبن أخى الدكتور محمد الخواجه السلام ورحمة الله عليك وعلى أسرتك الفاضله ولك التقدير والتبجيل على تتبعك سيرة
    أحد أعمدة الدوبلماسيه المبدعه فى بلادى من ما يدل على خير الأجيال الواعدة الناهضه. إن الأجيال التى تتلقى الرسائل الكبيره وتنفعل معها
    وتتفاعل حتماً ستُجملها وتٌورثها إلى من يليهم من الأجيال بتشويق عالٍ، وذلك دأب المجتمع الواعى وديدنه فأوصيك بأن تبحث عن إبداعه شعراً وفكراً
    وعب منه عباً بلا هواده كما كان يفعل كره عليه الرحمة بالعيش.


    ولك الحب والود

    منصور
                  

03-13-2015, 04:50 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمد المكى إبراهيم ثروةٌ قوميه وثورةٌ مست (Re: munswor almophtah)

    :جمال عنقرة يكتب من عروس الرمال

    تكريم هارون لـ(ود المكي).. المكاسب والمنافع (2ـ2)
    المقالان؛ هذا والذي سبق، فكرتهما أوحاها لي عمق الحدث, وأبعاده ومعانيه السامية. إذ لم أكن أتنبأ بالغيب لأكتب رداً على مقالات لم تكتب بعد..!! وليس كما وصف أحد الأصدقاء ـ بعض الذين انتقصوا من قيمة تكريم والي ولاية شمال كردفان، لابن الولاية الشاعر الثائر محمد المكي ابراهيم ـ بأنهم يمتلكون أعْيُنَ (ترى الشوك.. وتعمى أن ترى فوقها الندى اكيلا)، فأكثرهم إن لم يكن كلهم، نحفظ لهم مودة خاصة؛ ولهم فضل وسبق في دعم مواقف وطنية عدة. ولقد أسهمت أقلامهم في تحريك سواكن كثيرة نحو مواقف ايجابية, ولكن (كلٌ ميسرٌ لما خلق له).
    إن مشكلة أحمد هارون أنه جاء لحكم ولاية شمال كردفان بعد سنوات شهدت تحدياتٍ عظيمة, وهي كل سنوات حكم الانقاذ تقريباً. ولقد تعرَّض أبناء الولاية ـ الذين تعاقبوا على حكمها ـ لابتلاءات عسيرة؛ خلَّفت واقعاً مريراً, لم يعد تجاوزه يسيراً. ولعلَّ ذلك ما دفع مولانا أحمد هارون, كي يسلك دروباً (غير).
    الأستاذ الشيخ ابراهيم السنوسي، كان أول أبناء كردفان تقريباً الذي تُتاح له فرصة حكمها، في عهد الانقاذ في النصف الأخير من التسعينيات. ولقد لاقى مقدمه الى حاضرة الولاية مدينة الأبيض (أبوقبة فحل الديوم)، استقبالاً غير مسبوقٍ, فلقد خرجت المدينة عن بكرة أبيها. وجاء أهل الأرياف والبوادي من كل حدب وصوب؛ يستقبلون أول والٍ تختاره الانقاذ من أبنائهم. وفي ذاك اليوم قال العميد أروك طون أروك كلمة بليغة للشيخ ابراهيم السنوسي وهي (ليست العبرة في أن يستقبلك هذا العدد الضخم.. ولكن العبرة والتحدي أن يودعك ذات العدد عندما تغادر الولاية مترجلاً عن منصب الوالي). ولعلَّ الناس يذكرون أن الشيخ ابراهيم السنوسي ذهب دون أن يودِّعه أحد، ذلك أن رحيله جاء مع انفجار الأزمة داخل المؤتمر الوطني، في أعقاب مذكرة العشرة المشهورة. ومعلوم أن الشيخ ابراهيم السنوسي والى الشيخ حسن الترابي، وكان من المؤسسين معه للمؤتمر الشعبي. فلم تكتف الحكومة بخلعه من المنصب.. وإنما نزعت منه حتى المنزل الذي آلت أرضه إليه بالشراء من الحكومة, بحجة أن الاجراءات لم تكن سليمة.
    ثاني أبناء المنطقة الذي حكم الولاية، كان الدكتور فيصل حسن إبراهيم. ولم تتوتر العلاقة بين فيصل وأكثر أهالي شمال كردفان وحدهم, وإنما توتَّرت كذلك مع بعض اخوانه في الحركة الإسلامية.. والمؤتمر الوطني. خصوصاً أبناء المنطقة الغربية, وبتحديد أكثر أبناء (الحمر). فذهب فيصل إلى وظيفة اتحادية، وزيراً للثروة الحيوانية والسمكية. وخلفه والٍ مخضرم من أبناء المنطقة، وسياسي محنك، هو الأستاذ محمد أحمد الطاهر أبوكلابيش. والذي جاء الى الانقاذ باندماج حزب الرئيس الراحل المشير جعفر محمد نميري, تحالف قوى الشعب العاملة مع حزب المؤتمر الوطني. وسبقت ابوكلابيش سيرته الطيبة، وتجاربه الثرَّة.. سياسياً واجتماعياً. فالأستاذ ابوكلابيش ابن أسرة كبيرة في ولاية شمال كردفان, وعمل بالتعليم العام لفترة طويلة, وكانت له سيرة حسنة في هذا المجال. ثم عمل بالسياسة في الاتحاد الاشتراكي السوداني، في عهد مايو؛ وصار وزيراً في حكومة المرحوم الفريق الفاتح بشارة. وتولَّى رئاسة نادي الهلال، وعُرف عن (ابوكلابيش) أنه رجل شعبي.. مِرحاب مِضياف, وكلها من مقومات الحاكم الناضج. إلا أن الصراع داخل المؤتمر الوطني لم يمكِّنه من مواصلة مسيرة الحكم. فجاء ثانياً في انتخابات المؤتمر الوطني لتصعيد خمسةٍ، يختار الرئيس الوالي من بينهم. ولم يكن وقتها يوجد نص في لوائح وقواعد المؤتمر الوطني يتيح للرئيس تجاوز صاحب الأصوات الأعلى للذي يليه, فاختارت القيادة الدكتور فيصل حسن إبراهيم مرشحاً لمنصب الوالي عن الحزب بالولاية. وقبل أن تبدأ الانتخابات؛ دخل في خلاف مع المركز بسبب تجدد صراعه مع بعض (أبناء حمر)، الذين رفض استيعابهم في حكومته القادمة. فتم استبعاده في الساعات الأولى من الصباح, وتخطى الاختيار الثاني في القائمة السيد ابوكلابيش, وايقظوا الثالث الأستاذ معتصم ميرغني حسين زاكي الدين، من نومه.. وأعلنوه مرشحاً عن حزب المؤتمر الوطني لمنصب الوالي في ولاية شمال كردفان. وكان وصف الدكتور في اختياره صائباً (قام من نومو.. ولقى كومو)..!
    لم تمكِّن الظروف الأخ معتصم ميرغني من تجاوز الأزمة المتراكمة في الولاية, فضلاً عن تداعيات الصراع القديم التي وجد نفسه فيها, وكان من آثارها السالبة أنها لم تُباعد بينه وبين أبناء المنطقة الشرقية فقط ــ وهي منطقة الجوامعة التي ينتمي اليها فيصل ــ لكنها أيضاً باعدت بينه وبين أبناء مدينته الأبيض. والذين لم يرضِهم نهجه في الحكم. وزاد على ذلك بعض المرض الذي ألم به وأضعف حركته, واضطره الى اجراء عملية جراحية كبيرة, عاد بعدها معافى بفضل الله ورعايته, ولكنه كان قد فات الأوان لادراك ما فات بالطريق التقليدي.
    في هذه الأثناء كانت الحكومة الاتحادية قد وافقت على التوصية بإعادة ولاية غرب كردفان, فوجدتها فرصة لإعادة ترتيب الولاية, وادراك بعض ما فات، والحاق ما يمكن مما وعدت به أهل الولاية، من مشروعات في برنامج المؤتمر الوطني الانتخابي.
    ولأن هذه المهمة جدُّ عسيرة وخطيرة, اختار لها السيد رئيس الجمهورية شخصية خطيرة، خبِرت الصعاب وخَبِرتها, وهو ابن من أبناء الولاية, كان كثيرون قد طالبوا به لِما عرفوه عنه, إنه مولانا أحمد محمد هارون.
    وفي زيارة الرئيس المشير عمر حسن أحمد البشير الأولى لولاية شمال كردفان، والتي استلم فيها كتاب مشروعات نفير نهضة ولاية شمال كردفان من كبير الولاية، وحكيمها.. والرمز القومي الوطني الاسلامي الاقليمي العالمي, المشير عبدالرحمن محمد حسن سوار الذهب. وأوضح الرئيس البشير أمام الملأ كله, أنه كان يريد أحمد هارون الى جواره في الحكومة الاتحادية، ولكنه دفع به لأهله، استجابة لطلبهم أولاً, ولأنه قادر بفضل الله تعالى على تحقيق آمالهم وأحلامهم. وقال (إن أحمد هارون مثل الغيث.. حيثما وقع نفع).
    فجاء أحمد هارون والياً لولاية شمال كردفان، بعد كل هذه التجارب التي ذكرناها للحكم, وخلَّفت بعدها واقعاً مريراً على مستوى الحزب وفي داخله. وما حدث فيه من شروخ وتصدعات؛ إضافة للتباعد الذي حدث بين المؤتمر الوطني, وبين عموم أهل الولاية. وكانت نتيجة كل ذلك تشتت وتشرذم شهدتهما ولاية شمال كردفان على كافة الأصعدة. ويهمنا في هذا المقام البُعد الخارجي أكثر من الداخلي. وأعني به توحيد الشعور العام حول أهداف وبرامج ثورة الانقاذ الوطني, والتي تقودها حكومة الولاية. فكان الهم الأكبر لمولانا أحمد هارون أن يعيد الثقة الى أهل الولاية، وأن يتجاوز بهم الجُدُر التي تخندقوا خلفها, جهوية أكانت.. أم قبلية.. أم سياسية.
    ولمَّا كان الشاعر (محمد المكي ابراهيم) يحتقب كثيراً مما يُعزِّز موقفه وموقعه في كردفان, جاءت فكرة تكريمه لاستصحاب كل حقائب ود المكي لصالح وحدة الصف الكردفاني. فـ(محمد المكي ابراهيم) شاعر غنَّى لمعانٍ، هي ذات ما يدعو إليه نفير نهضة ولاية شمال كردفان، الذي يقوده مولانا أحمد هارون لتحقيق أحلام وتطلعات أهله. ويكفي أن نشير في ذلك الى بيت واحد من آلاف القصائد التي كتبها ود المكي, وهو البيت الذي يقول:
    (سندق الصخر حتى يخرج الصخر
    لنا ماء وزرعاً)..
    وفي صحبة ود المكي يأتي حي (القبَّة العريق), ويأتي (الاسماعيلية), ويأتي (الخزرج)، ويأتي التاريخ المعتق, وتأتي البطولة.. ومع ود المكي تأتي مدرسة (خورطقت الثانوية).. وما أدراك ما خورطقت.. وفي خورطقت تتقدم دفعة الشوامخ, الدفعة السابعة, ومن اقطابها الدكتور علي الحاج محمد, والسفير عثمان السيد, والسفير الدكتور حسن عابدين, والبروفيسور محمد عبدالله الريح, والرجل الخارق يعقوب إسماعيل، والبروفيسور أحمد التجاني علي, والكابتن مختار أحمد إسماعيل، والأستاذ عبدالمجيد خليفة خوجلي، والفنان التشكيلي العالمي سليمان العريفي, والاستاذ حسن بكري الشيخ، والأستاذ محمد حيدوب، والأستاذ السني عبدالله معروف، ومعهم شوامخ من الدفعات الأخرى, الشامخ في كل شيء، عمر يس، الذي أعادت اليه الأبيض ذكريات الزمن الجميل, حينما كان يبدع في قاعات الدرس أكثر من ابداعه في ميادين كرة القدم. حيث كان عمر يس فضلاً عن أناقة لعبه للكرة، كان هدافاً ماهراً.. ومحاوراً باهراً.. وكان يتحدث الانجليزية أحسن من أهلها, ومعه من الدفع الأخرى اللواء بابكر عبدالرحيم، وآخرون لحقوا بعد سنين عدة منهم السفير د.خالد فرح, ومدير قناة الشروق محمد خير فتح الرحمن, ووالي الولاية نفسه مولانا أحمد محمد هارون. وهؤلاء كلهم جاءوا في معيَّة الشاعر ودالمكي, وطرحوا مشروعاً جباراً شعاره (دفرة من أجل النفرة).. وهي دفرة تساوي اضعاف ما صُرف على تكريم ودالمكي. والذي جاء أكثره برعايات تبرَّعت لأجل الرجل الشامخ, وكثيرون منهم أعلنوا تواصلهم مع مشروع نفير نهضة ولاية شمال كردفان, ومن هؤلاء فرقة عقد الجلاد, التي شُكَّلت في صفوف النفير مع جنده المرابطين.. والحفل الذي يقام اليوم في دار الاتحاد العام للصُحفيين السودانيين لتكريم والي ولاية شمال كردفان مولانا أحمد محمد هارون، وشاعر الوطن الدكتور السفير محمد المكي ابراهيم قاد مبادرته بعض الاعلاميين والصُحفيين والفنانين الذين أُتيحت لهم فرصة شهود التكريم. وبعض الذين تخلَّفوا كذلك.. ولم يتخلَّف الاتحاد الجديد عن المساهمة، فشارك معهم برعاية مقدَّرة, ويقدم تكريماً مستحقاً لرجل قاد نهضة أهله, وآخر تجاوز كل الحواجز, واحتل الصف الامامي في نفير النهضة التي جاءت من اجل اهله وبلده.
    الفنان عمر احساس ألغى كل ارتباطاته اليوم, ليشارك مع الصُحفيين والاعلاميين الفرحة بتكريم رموز النهضة، وليعوض حسرة تخلُّفه عن الرحلة, التي لم تصله دعوتها أصلاً, ولو أن الدعوة قد وصلت لإحساس لالغى ارتباطات الخميس، ليشارك في تكريم ود المكي واسعاد اهله, وكان مولانا أحمد هارون قد حدد بعضاً من اهداف الحكومة وهي أن تسعد جماهيرها.
    أكثر الذين ضمَّهم الوفد الاعلامي في رحلة ولاية شمال كردفان لم يكونوا من ابناء الولاية, ولا من منسوبي حزب المؤتمر الوطني, ولكنهم جميعاً أسرتهم التجربة، وكثيرون منهم ــ إن لم يكن كلهم ــ يرون فيها النموذج والمثال لتحقيق نهضة السودان.
    الحفل الذي أُقيم لتكريم ود المكي في ميدان الحرية، جِوار سينما عروس الرمال ـ والتي قضت نحبها ـ حضره أكثر من عشرة آلاف من أهل الابيض، كثيرون منهم لم يخرجوا منذ سنين عدداً, لكنهم عادوا لاستقبال ابنهم العائد, ليعلنوا معه انهم يقفون مع الوالي أحمد هارون، وليحققوا ما أوصاهم به قبل نصف قرن من الزمان، (يدقون الصخر.. حتى يُخرج الصخر لهم ماء وزرعاً).
    إن ما يفعله مولانا أحمد محمد هارون لشحذ الهمم, وتزكية النفوس, ورفع الروح المعنوية ــ ومنه تكريم الشاعر محمد المكي ابراهيم، وسط أهله وعشيرته وزملاء دراسته وتلاميذه ــ هو ذات ما فعله ابن الولاية البطل الشهيد داؤود ريحان، وكان سبباً ــ من بعد توفيق الله ــ في تحرير (قوقريال) قبل أن يصل الخوارج الى مدينة (واو)، ونسأل الله أن يوفق أحمد هارون لانجاح مشروع نفير نهضة الولاية, وتحقيق عزم ود المكي (سندق الصخر حتى يخرج الصخر لنا ماء وخُضرة).. وبالله التوفيق والسداد.
                  

03-13-2015, 10:38 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمد المكى إبراهيم ثروةٌ قوميه وثورةٌ مست (Re: munswor almophtah)

    بمشاركة عدد من الشعراء والنقاد: الخرطوم تحتفي بالشاعر محمد المكي إبراهيم
    صلاح الدين مصطفى
    NOVEMBER 7, 2014

    الخرطوم ـ«القدس العربي» – من : لأكثر من شهر ظلت الخرطوم تتنفس شعرا، احتفاء بالشاعر محمد المكي ابرهيم المقيم منذ سنوات في الولايات المتحدة الأمريكية، جائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي، ومعهد البروفيسور عبد الله الطيب أقاما ندوة بعنوان «كل الرحيق».
    في شهادته عن المحتفى به، قال البروفيسورمحمد المهدي بشري: إن تجربة المكي تعبر عن تيار «الغابة والصحراء» الذي برع في السيطرة على اللغة باستخدام كل المفردات في الشعر، ويلحظ فيها الانفتاح على الفضاء التراثي، والتداخل مع الأجناس الإبداعية الأخرى، إضافة للتداخل مع الأجناس الأخرى، وقال إن قصيدة «قطار الغرب» تصلح أن تكون فيلما سينمائيا.
    الناقد مجذوب عيدروس أشار إلى نكهة المكان في أشعار ود المكي، ووصفه بالشاعر المتمرد والقلق، واصفا ثورة تشرين الأولأكتوبر التي خلدها المكي بشعره بأنها ثورة الشباب في العالم، وأنها سبقت الربيع العربي، مؤكدا أنها ثورة ثقافية أعلنت، منذ وقت مبكر، وجود شعر التفعيلة في السودان وانعتاق الشعر السوداني من الشكل التقليدي.
    ووصف عيدروس شعر محمد المكي بالتطور والتجريب المستمر بدءاً من ديوان «أمتي» ثم «بعض الرحيق» وصولا إلى»يختبئ البستان في الوردة» وديوان «خباء العامرية». وقال إن الشاعر اهتم في كل تجاربه بجوهر الشعر ونبض «الروح السودانية» المتمثلة في التراث ووقائع الحياة اليومية وبقي في حالة تماس مع العالم وقضايا التحرر الوطني في كل الأرض، ولم ينفصل عن عالمه العربي وتراثه الإسلامي. مستشهدا بالمفردات والتناص القرآني، وأشار الى جهود المكي في كتابة الرواية والمسرح وقراءة التاريخ السوداني في الأدب والفكر.
    الشاعر والناقد أسامة تاج السر تناول الصورة عند المكي «ببعديها النفسي والفني» وأشار إلى أن الفقد والضياع من أهم محركات الحب في أشعار محمد المكي ابراهيم. وركز الناقد عماد محمد بابكر على الغربة والترحال في شعر المحتفى به، مستشهدا ببراعة الصورة وحسن التوظيف وقال إن الصورة عنده لها جانبان، التقاط الصورة و»تكوينها وإنتاجها»، وقال إن الرحيل يمثل له هاجسا كبيرا وفيه يخرج من المألوف ويحن إلى طقس من طقوس الوطن:
    «رياحكم ماسخة عجوز
    في بلدي نعطر الهواء بالمديح
    روائح الطعام والضيوف من بيوتنا تفوح
    والجارة التي يرف بالشباب وجهها الصبوح
    يا عطرها الشفيف ينشق النهار من شذاه
    أواه لو لمرة أشمه
    أضمه،
    ألمسه،
    أراه».
    أبوبكر الجنيد يونس الشاعر والناقد رسم إطارا لتجليات الوطن عند المكي بدءا من الوطن الروح:
    «وأخيراً لازمني لا يبرحني
    إلا ساعات الميلاد
    يا هذا الشيء العالق فوق الروح
    وفوق النبض لم ينفع
    فيك الأوقيانوس وكل كحول الأرض
    ووضعتك فوق الجمر فلم يصهرك الجمر
    ودعكتك بالأحجار
    تثلمت الأحجار
    يا هذا الشيء بلا اسم وبغير قرار
    أنا أعلم أنك تتلفني يا هذا الشيء
    وستقتلني حتماً حتماً».
    ويرصد الجنيد الوطن الطفل والوطن الشعب «الأكتوبريات»، والوطن الأنثى «الخلاسية» في أشعار محمد المكي. الناقد أواب أحمد المصباح قدم قراءة كتاب «الفكر السوداني، أصوله وتطوره»، وهو من مؤلفات المكي، وتوصل إلى أن كل القضايا التي ناقشها الكاتب في مؤلفه لا تزال موجودة بعد أربعين عاما من نشر الكتاب.
    وأبدى المكي سعادته الغامرة بالاحتفاء الذي وجده منذ قدومه ضيفا على معرض الخرطوم الدولي للكتاب في ايلول/ سبتمبر الماضي، مشيرا إلى أن السودانيين لازالوا يحتفلون بالشعر، وقال إن مدرسة «الغابة والصحراء» لا تنفصل عن الشعر السابق واللاحق لها وقال إنه تلميذ للشاعر صلاح أحمد إبراهيم واستفاد كثيرا من ديوانه «الغابة والصحراء».
    وأثنى المكي على الشاعر محمد المهدي المجذوب وقال إنهم تعلموا منه كثيرا، كما أنه تعلم منهم ويضيف: «رغم أنه كان الملك المتوج للشعر العمودي في السودان فقد أصبح يلعب، يثور ويتسلى بالموسيقى، فكسر عمود الشعر بقصيدة «الكباب» ثم «ليلة المولد» ووصل به الأمر إلى قصيدة «النثر» في «شحاذ في الخرطوم»، واستفدنا من ثورته ورغبته في الخروج عن التقاليد وشعرنا بالسند القوي ضد محاربي الشعر الجديد».
    وتحدث المكي عن دور الشاعر الراحل محمد عبد الحي في الثقافة السودانية، مشيرا إلى أنه قدّم خدمة كبيرة للثقافة عندما تولى إدارة مصلحة الثقافة في نظام جعفر نميري. وقال إن ما أدخله عبد الحي من رصيد وتجديد في العمل الثقافي الرسمي يحتاج إلى تحليل موضوعي وطالب بالفصل بين الامور السياسية وخدمة الناس. واشار الى اهتمام عبد الحي المبكر بالشاعر الإنكليزي «ت إس إليوت» وقال إنه تجاوز إليوت بعد ذلك واهتم بشعراء بريطانيين أكثر حداثة وتمنى أن يتم البحث في هذه الجزئية.
    وعن الذين وصفوا علاقته بالوطن بأنها مزدوجة «حب وكراهية» قال المكي إنه يتذمر ويغضب عندما يرى بلده متخلفا في صنع الحضارة الإنسانية ويتألم من الذل الثقافي الذي يعيش ويحيا فيه، ولذلك تأتي أشعاره – في هذا الجانب- غاضبة ومستحثة على الرغبة في التفوق والمساهمة في الحضارة العالمية، مؤكدا أن الشعب السوداني جدير بأن يكون في المقدمة.
    شعراء كبار احتفوا بصديقهم العائد من الغربة قبل أن يعود من جديد إلى مستقره. الشاعر عبد الله شابو اكتفى بوصف المكي بأنه كنز كبير واستلف مفردة «سيال»من الراحل عبد الله الطيب واصفا بها المحتفى به، وقال إنه شاعر عظيم يأتيه الشعر عفو الخاطر.
    الشاعر إلياس فتح الرحمن العائد أيضا من غربة طويلة قرأ من اشعار ود المكي قصيدة «بعض الرحيق»، وتجلى الشاعر عالم عباس في قراءة قصيدة «الرحيل إلى طفلة المدائن» التي نشرها المحتفى به في مطلع سبعينات القرن الماضي. وقرأ الشاعران الشابان الواثق يوسف ونادر جماع قصيدتي»مدينتك الهدى والنور» و»كذلك نفتح الحزن» على التوالي.
    وكانت الموسيقى حاضرة حيث تغنى الفنان عاطف عبد الحي بمجموعة من أناشيد المكي «الإكتوبريات» فألهب الوجدان بعبق وأريج ستينات القرن الماضي.

    صلاح الدين مصطفى
                  

03-13-2015, 10:57 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمد المكى إبراهيم ثروةٌ قوميه وثورةٌ مست (Re: munswor almophtah)
                  

03-13-2015, 12:53 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمد المكى إبراهيم ثروةٌ قوميه وثورةٌ مست (Re: munswor almophtah)

    لم يتوان شعراء السودان ونقاده، من إنصاف شاعرهم محمد المكى، وتبيان تجربته من شتى مناحيها ونواحيها، من ما أكتنفها من تفردٍ للغته وبداعة إيقاع شعره وجرسه الصخاب
    اللافت، ومحتواه الثورى الوطنى، والعاطفى الباذخ، والصوفى الجاذب ،والفكرى العميق. إستطاعوا حصحصته وغربلته لأنعم ملمسٍ، وأحلى مذاق، وأجود قول. كما أسهم شاعرنا فى
    توضيح معالم تجربته، ومؤثراته، وأساتذته الذين نهل عنهم من من سبقوه أو عاصروه، وهكذا حال المبدع يؤثر ويتأثر فقد أكد أن لشعر صلاح أحمد إبراهيم أثرٌ عليه، بأشعاره تلك التى
    حواها وأحتواها ديوانه غابة الأبنوس، لما تميزت به من نضج وإيقاع صخاب ومواضيع تتشابه مع روح شاعرنا محمد المكى، ومع أحاسيسه المتوثبة القفاذة النفاذه
    حين يعكسها شعراً ونظماً رصين، فقد كانت لتنشئة الشاعر وقراءته الباكره وقلقه وتطلعه فى فجر صباه والذى دفعه بأن يذهب إلى ألمانيه مع بعض صحبه وعلى رأسهم الشاعر الفذ
    الآخر النور عثمان أبكر شاعر صحو الكلمات المنسيه، وغناء للعشب والزهره وغيرها، الشئ الذى بعث فيهم الإحساس بمعرفة الذات الجمعيه وخصائصها من ما ألهمهم التوأمة بين
    العروبة والأفريقيه فيما إبتدعاه مع آخرين بما يسمى بمدرسة الغابة والصحراء والتى أسهم فيها بفتح جبار كذلك عبقرى الشعر واللغة والفن التراث والفكر الدكتور محمد عبدالحى صائغ
    جوهرة الشعر الحديث طرى العودة إلى سنار ولعيدابى وعبدالله جلاب كذلك إسهام وحضور، وإن وجد شعرهم نقدا نافذا وإعلاماً ضارباً لتربع هولاء العمالقه فوق عرش
    الشعر الحديث رغماً عن أنف البياتى والسياب وفدوى طوقان وسميح القاسم وتوفيق زياد. ولشاعرنا مهارة عالية فى أن يقول نفسه شعرا بفرادة وبصم غير مكرورٍ ولا يمكن تقليده
    بل هى بصمة شعره وحده ولا سواه ف لله دره ودر صحبه الذين صاغوا لنا أدبا رفيعاَ وعزفوا لنا لحونا عذابا ونحتوا لنا بدائعا فى هذا الزمان توازى فعل
    السلف الأثرى المادى الباهر لهم جميعا التحية والتجله ولهم
    الإكرام والإكبار.

    منصور

    (عدل بواسطة munswor almophtah on 03-13-2015, 01:01 PM)
    (عدل بواسطة munswor almophtah on 03-13-2015, 11:31 PM)

                  

03-13-2015, 11:14 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمد المكى إبراهيم ثروةٌ قوميه وثورةٌ مست (Re: munswor almophtah)


    الشاعر الكبير محمد المكى ابراهيم : نحن أجدر
    January 15, 2015
    محمد-المكى(حريات)


    نحن أجدر (مناغاة اكتوبرية)
    محمد المكي إبراهيم
    هي خمسونَ عاما مضتْ
    مثلما يومضُ البرقُ مرت
    وها أنتِ لا زلتِ خضراء ، زهراء، حسناء اثوابُ عرسك زاهية وطوالعُ سعدك اكتوبرية
    اخرجي يا جميلة من ظلمةِ القبوِ
    سيري إلى البهوِ
    حيث المعازيمُ ينتظرون
    وحيث الكمنجاتُ ترفعُ أقواسها بالتحية
    المعازيمُ ينتظرونك كي يبدأ الرقصُ
    فانطلقي من صفوفِ الشباينِ
    عبر حفيفِ الفساتينِ والأحزمة
    وادخلي غابةً الوردِ قادمة نحونا.
    أدخلي يا غزالةُ، يا برتقالةُ، يا ذهبيه
    ادخلي في المساقِ المؤدي إلى غرةِ الفجرِ سيري إلى حيثُ كأسُ السعادةِ مترعةَ
    والصبايا يوزعن أطباقها للشوارع والمضربين
    ذكرينا بأيامنا ومواطيء اقدامنا
    ذكرينا البيوتَ التي خبأتنا
    وتلك التي بذلت ماءها وسقتنا
    وتلك التي سألت ربها أن يقينا ويحفظنا
    لا سبيلَ لنسيان تلك الهنيهة من عمرنا
    حين اسفرتِ عن وجهك الذهبي
    وفاحت خزاماك فينا
    لا سبيل لنسيان عينيك في ذلك الموسم الذهبي المتّوج إذ تعبأت بالضياء وأشرقتا بالعذوبة.
    وقتها كانت الريح تمضي جنوبيةُ
    والمتاريسُ مخفورة بالبناتِ الأمازونِ والمنشدين وكنا كما العشب كنا خفافا ومحتدمين
    لاتخافي علينا فقد سرت النار منا لأبنائنا ولابناء أبنائنا والبنات الامازون اصبحن أكبر وتناسلن فينا فأصبحت النار اكبر
    اننا الآن أكثر
    اننا الآن أجدر
    فهبي علينا لينتفض القلب ياغالية
    ويخلع أثوابه البالية
    وتجلس ارواحُنا في المكان المخصص للروح
    أو ..
    أو نشتعل مرة ثانية

    (عدل بواسطة munswor almophtah on 03-13-2015, 11:15 PM)

                  

03-14-2015, 03:09 AM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمد المكى إبراهيم ثروةٌ قوميه وثورةٌ مست (Re: munswor almophtah)


    Ahmed Abushouk
    "محمد المكى إبراهيم ثروةٌ قوميه وثورةٌ مستعرةٌ متجدده ما انفصل عن وطنه أبداً، بل ظل متصلاً به، هائماً فى غرامه وعازفا لحون عشقه بذات الوتر الذى
    ألهب أشواق الملايين”، إنه قول حق، وتعبير بليغ، جاء كوقع الحافر على الحافر، في وطن يقدر الراسخون في الوفاء من أمثالكم ثرواته القومية، ويبخسها الناهبون
    لمكنوزاتها المادية. أدام الله بسطتك في العلم، وصحتك في الجسم، الأستاذ منصور، والتحية والتجلة لأستاذنا ود إبراهيم (الشهير بود المكي).



    Ahmed Abushouk
                  

03-14-2015, 08:05 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمد المكى إبراهيم ثروةٌ قوميه وثورةٌ مست (Re: munswor almophtah)


    كلمة ختامية

    شرفت مقداري ورفعت من قدري ايها الأخ الشهم الجليل حين رأيت ما حاق بي من ظلم واجحاف فنهضت مشكورا للذود عني ورد عدوان المتعجلين ممن يبنون احكامهم على ظواهر الامور ومن وضعوا انفسهم مكاني وقالوا لو كنا مكانه لقبلنا وقبضناوبعنا القضية.والفرق بيني وبينهم انني شاعر وافعل ما يفعل الشعراء وارتكب ما يرتكبون من الاخطاء والتضحيات.
    اول ما حاق بي من ظلم كان يوم رأيت الذعر مستوليا على الناس اول قدوم الانقلابيين وشبكة الرعب والتخويف التي نشروها على الشعب السوداني فقلت في نفسي يجب ان ينتهي هذا الخوف وقدمت نفسي لعضوية مجلسهم الانتقالي وفي اول جلسة من جلساته تقدمت بكلمة قوية تنادي باحترام الانسان وسحب الدبابات من جسور المدينة ومداخلها ورفع حظر التجوال الذي كان يحبس امة كاملةمن الغروب الى الشروق داخل منازلها ولا فرق بين ذلك الحبس والبقاء داخل السجون.
    لم يتحقق من مطالبي سوى القليل وهو تقليل الحظر بمدة ثلاث ساعات يوميا وسحب عدد من الدبابات من عدد من الجسور .ومع ذلك لم اسلم من ألسنة السوءفقد طهرت في الاعلام نساء سفيهات يطالبن بابقاء الحظر على ما كان عليه لانه يعيد رجالهن باكرا الى البيوت ولانه اطلق الحرامية على منازلهن وكان الحظر يحول دون ذلك.
    ماذا خسرت بذلك التصرف؟؟تفرق الناس من حولي..لا احد يريد ان يقف معي في مشهد عام خوفا على نفسه ولم اعد ازور الناس في بيوتهم اذ كانت تتبعني سيارة االمراقبة الامنية باستمرار .وكل ذلك مسجل في كتاب آليت على نفسي ان لا انشره الا يوم تعودالحرية للسودان وذلك حرصا مني على عدم ملاومة المعارضة التي انتمي اليها واحرص على مصالحها.و ينطبق نفس الشيئ على الكلمات القليلة التي سمح لي بالقائها فقد كانت كلها في صميم الصميم وليس بينها كلمة تزلف او ملق.ومع ذلك فما قدمت استقالتي من ذلك المجلس حتى زادوا جرعة اضطهادهم فحرموني حقي في النقل الى الخارج وقال قائلهم :كيف ننقله للخارج وهو مؤتمر صحفي جاهز ضدنا. وخرجت بعدها الى الحرية في الولايات المتحدة.وبعد قيامي بواجباتي العائلية قر رت ان أعود للسودان واشارك في العمل السياسي إماما أو مؤتما
    لا فرق.
    ذهبت هذه المرة الى مسقط رأسي ومعشري في كردفان فسعوا في اكرامي واقاموا لي مولدا ليس له من نظير فافترض البعيدون ان ذلك ستتلوه كلمات مؤيدة للنظام وربما من بعدها اتولى المنصب الذي يحلمون به لو انهم كانوا في مكاني.
    كما هو واضح من تصريحاتي العلنية في صحافة الخرطوم انني لازلت على مبدأي في المعارضة وانني لم اقابل اي مسئول ولم أفه بكلمة توحي بالتودد للنظام او رجالاته وما عدا والي كردفان فانني لم القي السلام لاي منهم .
    يجب ان اسارع الى القول ان شعب بلادي لم يجهل الحقيقة-حقيقة محبتي واخلاصي وشاعريتي التي وضعتها في خدمته واصبحت لا ادخل مكانا حتى يعترضني الشباب ويطلبون التقاط صورة معي اما العواجيز من امثالي فيقولون:شكرا شكرا ياستاذ..نورت علينا بعدما فقدنا الامل..اسمعتنا اناشيد اكتوبر وكنا قاطعين الامل في سماعها مرة اخرى.
    الشعب مقيم في بلاده ما قادر يهاجر ولكن بعض الذين هاجروا نسوا البلد ونسوا اقدار الرجال وظنوا الكتوف اتلاحقت واصبح بامكانهم الافتراء.على من هو في سن آباءهم واساتذتهم ان لم يكن استاذا لاساتذتهم. ومن طريف ما قيل وسجل كتابة انني ربما اكون ساعيا لمنصب واضاف الكاتب "وما حال م. م. خير بخاف "
    الم يعلم الرجل انني قضيت ثلاثين عاما في الدبلوماسية منها عشر سنوات سفيرا وتوليت السفارة في ثلاثة بلدان ثلاث مرات متعاقبة وكان معي ملحقون اعلاميون وعسكريون وثقافيون-كيف اهبط بدل ان اصعد؟؟ وما يدفعني لذلك وانا لم اعد اطلب اكثر من شقفة خبز وجرعة ماء وكليهما متوفر عندي قبل خروجي الى امريكا
    انا شاعر بلادي وعاشقها.تغربت بعد ان لحقني الظلم وليس تحايلا على القوانين لاصبح في زمرة المغتربين.كما فعل الكثيرون وبعد ان حققت ما اعتبره اساسيا اعود الى بلدي ونور عيني مستعدا لتضحية اخرى في سبيله.وكل ما ارجوه ان يديم الله علينا امثال منصور المفتاح ليردوا كل مفتري ويذودوه عنا كما تذاد الرخم الجائعة لنتفرغ لما يبقى في الارض وينفع الناس.


    محمد المكى إبراهيم
                  

03-14-2015, 08:32 PM

munswor almophtah
<amunswor almophtah
تاريخ التسجيل: 12-02-2004
مجموع المشاركات: 19368

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: محمد المكى إبراهيم ثروةٌ قوميه وثورةٌ مست (Re: munswor almophtah)

    دكتورنا أحمد أبو شوك سلام لك وسلام عليك وأنت تؤكد أحقية ود المكى
    بالإحتفاء السخى والتقريظ الواجب فلم لا وهو ملك الشعور النبيل والشعر
    المُلهِم والمحرك للذات الجمعيه بكلياتها عوامها وخواصها وأهل الوسط فيها
    فقد وهبه الله القبول ووهبه القدره على القول النضيد وصياغة الشعر
    الفريد المحرك للدواخل والباعث فيها الإحساس بالعزة والجسارة والفخر
    المتوارث الذى لم يسكت ولم يخفت ولم يجف أبداً تيرابا فى الأرواح
    والقلوب والعقول منذ الأمد إلى الأبد وود المكى من محركى ذلك
    الموروث فى الناس أبداً ودوماً فلك وله الإعزاز والإكرام عزيزنا أبو شوك ولك السلام.


    منصور
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de