|
Re: الكوزمولوجيا الدينية (Re: هشام آدم)
|
الآن، كلنا يعلم أنَّ الهواء والغلاف الجوي للأرض مرتبطان بالأرض بالجاذبية، والحقيقة أنَّنا عندما نقول: "الأرض" فإننا نعني كل الكرة الأرضية بما فيها من هواء وغلاف جوي، لأنهما غير منفصلين عن الأرض، والواقع أنَّ حركة الأرض ودورانها يتبعه حركة للغلاف الجوي تزامنًا عبر قوة الجاذبية نفسها، وهذا ما يجعلنا عالقين مع الأرض بمجالها المغناطيسي، ولكن ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أنَّ الطائرة عندما ترتفع في الهواء دون حركة فإنها سوف تظل في مكانها دائمًا (هذا إن لم تسقط عند نفاد الوقود طبعًا)، وما يحدث عندها أنَّ الأرض تدور ويدور معها الهواء والغلاف الجوي وحتى الطائرة الثابتة في مكانها بنفس السرعة، بحيث تبقى في مكانها دون أن تتحرك بالنسبة للأرض بفعل مبدأ القصور الذاتي، ولكنها بالنسبة للمراقب من خارج الكرة الأرضية سوف تبدو وكأنها تتحرك فعلًا مع حركة الأرض، وحتى يحدث العكس فيجب أن يتخلص الجسم من القصور الذاتي، بأن يقذف الشخص داخل المركبة المسرعة كرته عاليًا (القذف عاليًا يتطلب قوة تزيد من سرعة الكرة في الهواء وبالتالي تفلت من القصور الذاتي) وفي حالتنا هذه حتى تفلت الطائرة من القصور الذاتي يتوجب عليها أن تجتاز الغلاف الجوي للأرض.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الكوزمولوجيا الدينية (Re: هشام آدم)
|
لو افترضنا وجود مجسَّم للكرة الأرضية، ووضعنا نملة في النقطة A وكان على النملة أن تتحرك إلى النقطة B التي تبعد مسافة 10 سنتميترات عن النقطة A وكانت النملة بحاجة إلى 10 ثوانٍ لتقطع المسافة بين النقطة A والنقطة B فإنها سوف تفعل ذلك سواء أكانت المجسم ثابتًا أو متحركًا، لماذا؟ لأنَّ سرعة دوران المجسم لا تؤثر سلبًا أو إيجابًا على المسافة بين النقطتين، فالمسافة ستظل ثابتة حتى مع حركة المجسم، وسواء تحرك المجسم في اتجاه عقارب الساعة أو عكس اتجاه عقارب الساعة أو لم تتحرك بالمطلق، فإنَّ النملة سوف لن تحتاج لأكثر من 10 ثوانٍ لتقطع المسافة بين النقطة A والنقطة B ، ومن الغباء أن نتوقع أنَّ دوران المجسم سوف ينقل النملة من النقطة A إلى النقطة B دون أن تتحرك النملة، أو أن نتوقع أنَّ النملة لو سارت بنفس سرعتها فإنها لا يمكن أن تصل إلى النقطة B أبدًا بحجة أن النقطة B تتحرك أيضًا(!)
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الكوزمولوجيا الدينية (Re: هشام آدم)
|
حسنًا، لماذا يدعي رجال الدين هذا الادعاء؟ إنَّ فكرة ثبوت الأرض وعدم دورانها يُمهد تمامًا لفكرة مركزية الأرض كخطوة تالية، وهي من الأفكار ذات النتائج الفلسفية التي تجد دعمًا وسندًا دينيًا، فمركزية الأرض هي النواة الأساسية التي تنشأ منها فكرة أخرى أكثر خطورة وهي مركزية الإنسان وسيادته على الكون، وهو ما يجد دعمًا وتأييدًا عظيمين في الفكر الديني الذي يُعلي من شأن الإنسان، ويزعم أنَّ هذا الكون بكل ما فيه من مجرات وكواكب وشموس إنما "خُلقت" من أجله هو، وأنَّ الأرض تم إنشاؤها خصيصًا لتتناسب مع متطلبات بقائه؛ وبالتالي فإنَّ كل ما في الكون وكل ما في الأرض إنما هو "مُسخَّر" من أجله هو، ومن أجل راحته وبقائه، فالإنسان في الفكر الديني هو الكائن المكرَّم والأكثر أهمية، وهو المُتسلَّط على كل الكائنات برًا وبحرًا، وهو سيِّد هذا العالم وخليفة الله على الأرض من واقع النصوص الدينية المقدسة لدى أصحابها، فنقرأ في العهد القديم على سبيل المثال: "فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكرًا وأنثى خلقهم. وباركهم الله وقال لهم أثمروا وأكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كل حيوان يدب على الأرض. وقال الله إني قد أعطيتكم كل بقل يبزر بزرًا على وجه كل الأرض وكل شجر فيه ثمر شجر يبزر بزرًا. لكم يكون طعامًا"[التكوين 27:1-29] وفي القرآن نقرأ أيضًا: {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}(الجاثية:13) وكذلك قوله: {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلًا}(الإسراء:70) وكذلك: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة}(البقرة:30) فالنصوص الدينية في مجملها تكرَّس لهذا التصور النرجسي الذي يجعل الإنسان مؤمنًا بأنه كائن متميِّز ومختلف عن بقية الكائنات، ويجعله يعتقد أنَّ هذه الكائنات لم توجد إلا لخدمته فقط.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الكوزمولوجيا الدينية (Re: هشام آدم)
|
أما عن النصوص التي تشي بثبوت الأرض وعدم دورانها، والتي يعتمد عليها رجال الدين، فهي كثيرة جدًا، ومن ذلك ما جاء في القرآن: {والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم * والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم * لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون}(يس: 38-40) هذه الآيات توضح بجلاء لا ريب فيه التصور الديني لحركة بعض الأجرام السماوية؛ لاسيما الشمس والقمر، وتصور لنا كيف أنهما تسيران في فلكين مختلفين دون أن تسبق إحداهما الأخرى، في حين أنَّنا نعرف أنَّ الليل والنهار لا علاقة لهما بحركة أيٍ من الشمس أو القمر، وإنما لهما علاقة بدوران الأرض نفسها، فدوران الأرض حول محورها هو ما ينتج عنه تعاقب الليل والنهار، وليس حركة الشمس والقمر وتعاقبهما، وفي قوله كذلك: {قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب}(البقرة:258) فالشمس لا تأتي ولا يُؤتى بها، إنما هي ثابتة في مكانها وما الشروق والغروب إلا نتيجة لحركة الأرض ودورانها، وفيما يدل على ثبوت الأرض من وجهة النظر النصوصية فإننا نقرأ: {أم من جعل الأرض قرارًا}(النمل:61) وقوله: {الله الذي جعل لكم الأرض قرارًا}(غافر:64) وقرار الأرض هو ثبوتها وسكونها بألا تتحرك وتميد بأهلها، وهو ما نصت عليه آيات أخرى مثل قوله: {وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم}(النحل:15) وغيرها كثير أيضًا يحمل نفس المعنى.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الكوزمولوجيا الدينية (Re: هشام آدم)
|
على أنه تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ كاتب القرآن يُثبت في أكثر من موضع أنه ليس مراقبًا من الخارج؛ بل هو مراقب من الداخل، فوصف الأشياء يعتمد كثيرًا على موقع المراقب، فعندما يكون الإنسان على كوكب الأرض يرى فعليًا أنَّ الشمس تجري من نقطة الشروق إلى نقطة الغروب، ولكنه لا يلاحظ أنَّ الأرض تتحرك وتدور، وأنَّ الحركة الظاهرية للشمس ما هي إلا نتيجة لحركة الأرض، ولكنه لو وقف على سطح القمر مثلًا فإنه سوف لن يرى شمسًا تتحرك لا غروبًا ولا شروقًا؛ بل إنه لن يكون هنالك شرق وغرب ولا أي اتجاه أساسًا، وسيرى بوضوح أنَّ الأرض هي التي تتحرك، وأنها في حركتها هذه تواجه الشمس تارةً فيكون النهار في تلك الجهة وليلًا في الجهة الأخرى، والتعبير القرآني يفضح مكان كاتب القرآن ومحل مراقبته، كما في بعض الأمثلة السابقة؛ لاسيما المتعلقة بحركة الشمس والقمر.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: الكوزمولوجيا الدينية (Re: هشام آدم)
|
إنَّ نظرة متعمِّقة ونقدية في النصوص الدينية بشكل محايد تمامًا تكشف لنا سذاجة هذه النصوص وسذاجة ما تقدمه من أفكار وتصورات عن الكون، يُصبح الأمر طبيعيًا لمعرفتنا بحجم ومقدار المعرفة العلمية المتاحة في تلك الأزمنة السحيقة، وكان بالإمكان أن تكون مجرد مقولات تراثية لا يُعوَّل عليها لو أنها أخذت حجمها الطبيعي كأفكار بشرية قابلة للصحة والخطأ، كما هي مجمل الأفكار البشرية عبر التاريخ البشري الطويل، ولكن عندما يتم افتراض أن هذه النصوص ذات مصدر فوقي ماورائي من إله متعالي وعليم؛ بل وهو خالق هذا الكون نفسه، عندها يُصبح الموضوع كارثيًا بكل المقاييس، ولهذا نرى كل هذه الجهود المضنية في غير ما فائدة من أجل إثبات صحة هذه النصوص، عوضًا عن تجاوزها والالتفات إلى ما هو صحيح ومفيد حاليًا. عشرات الكتب التي يبذل مؤلفوها وقتًا وجهدًا ومالًا مقدرًا من أجل إثبات صحة النصوص الدينية، وفي كل مرة تكون لغة الخطاب مختلفة عن سابقتها وذلك تبعًا لتطور العلوم نفسها وتغير معرفتنا بالعالم من حولنا. ولهذا فإنني أدعو إلى ضرورة إعادة النظر في وظيفة الدين وحصره في تلك الوظيفة، بحيث لا يُطالب أحد بربطه بالسياسية كما لا يُطالب بربطه بالعلوم.
[انتهى]
| |
|
|
|
|
|
|
|