اليسار في السودان.. إلى أين؟

كتب الكاتب الفاتح جبرا المتوفرة بمعرض الدوحة
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-12-2024, 07:22 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2015م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-19-2015, 05:31 PM

عمر صديق
<aعمر صديق
تاريخ التسجيل: 06-06-2008
مجموع المشاركات: 14776

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
اليسار في السودان.. إلى أين؟

    04:31 PM Feb, 19 2015
    سودانيز أون لاين
    عمر صديق - الخرطوم
    مكتبتي في سودانيزاونلاين



    Quote:
    اليسار في السودان.. إلى أين؟




    الحلقة الأولى.. على مفترق الطرق

    الحزب الشيوعي السوداني، أحد أقدم الأحزاب السودانية وأكثرها تأثيراً على تاريخنا المعاصر.. إلى أين يتجه؟ هو وبقية أحزاب اليسار السوداني.. هل هي مرحلة بيات شتوي مؤقت ومدروس.. أم هو ضمور واضمحلال سياسي قبل المغيب والاندثار.

    تحقيق: خالد فتحي: علاء الدين محمود

    وأين يقع اليسار حالياً؟ وهل بإمكانه استعادة بعض وهج البريق الذي انطفأ؟ يقول الذين تحدثنا اليهم، إن سؤال أين موقع ومستقبل اليسار؟ سؤال مفتاحي.. لعدة أسباب تقف على رأسها أن اليسار نفسه لا يملك إجابة قاطعة على هذا السؤال الحارق. لأنه غارق في أزمة التساؤلات الكبرى.. فالشعارات التي تنادي بدكتاتورية البروليتاريا وحتمية انتصار الثورة الشيوعية وسيادة الطبقة العاملة لم تعد ممكنة وبالأحرى لم تعد مطلوبة.
    كما لم تعد أيضا براقة وجاذبة فقد انطفأ البريق لعوامل شتى منها ما جاء من داخل اليسار نفسه ـ والذي لا شك أننا نقصد به تنظيمات يسارية معروفة في الساحتين السياسية والاجتماعية حملت راية اليسار ـ ومنها وما غزاه من خارجه.
    وربما ما زال سؤال لينين ماكثا في الأرض وينتظر أن يكون مفتحا للطريق "ما العمل"؟
    ثم إن تيارات اليسار العروبي كالبعث والناصرية التي كانت ملء السمع والبصر، وكانت قادرة أن تلهب حماس الجماهير من الخليج الثائر إلى المحيط الهادر، أضحت شعارات لا ترن اشبه بصدى نشيد بعيد، لعدة عوامل على رأسها شبهة الانحياز إلى عنصر في الدعوة إلى القومية العربية ثم غياب الأمثولات الساطعة كجمال عبدالناصر في ستينيات القرن الماضي وصدام حسين وحافظ الأسد على نحو أو آخر في مطالع الألفية الجديدة.
    ليس هذا فحسب الماركسية التي ظن كثيرون أنها مفتاح لكل باب والموئل الذي تنتهي إليه الحكمة، وفصل الخطاب أضحت هي نفسها في حاجة ماسة إلى التطوير، وهذا ما دعا إليه كثيرون لإصلاحها بينما ذهب الغلاة أن محاولات الإصلاح نفسها عديمة الجدوى والحل الوحيد يكمن في تجاوزها بالقطع معها والالتفات إلى غيرها.
    وربما هذا ما دعا سكرتير الحزب الشيوعي السوداني الراحل أن يصدع في أول ظهور بعد إنهاء اختفائه الذي استطال لسنوات تحت الأرض في مقابلة مع عمر العمر بجريدة "البيان الإمارتية" في 4 مايو 2005م بالقول :"الماركسية وحدها لن تسعفك إن لم تمتلك ناصية خصائص شعبك بدءاً من تراثه وتاريخه ومعتقداته وحتى تكوينه النفسي ومزاجه".
    لكن ما ذهب إليه سكرتير الحزب الشيوعي الراحل لم يكن بجديد فقد كان سلفه سكرتير الحزب الراحل وروحه الملهمة عبدالخالق محجوب شديد الدأب لزراعة الفكرة الماركسية في التربة السودانية ليأتي ثمار غرسها موائما للبيئة التي زرع فيها ولا يشترط أن يكون شبيها بزروع الأرض التي استجلبت منها البذور.
    لكن حتى لا نكون مشططين فإن دعاوى التوطين لمنهج الاشتراكية العملية لم يتولد مع انهيار الاتحاد السوفيتي وإن اشتدت الرغبة إليه بعده لكنها بدأت قبل ذلك بكثير وأَن يعمل كل فرد قدر طاقته، وأَن يأخذ قدر ما يحتاج !!
    وهذا ماظهر جليا في خطاب اليسار بالسودان بل وحتى في ترانيمه التي تعبر بجدارة عن ضرورات المرحلة بـ- طبيعة الحال- فمحمد وردي الفنان ذو الميول اليساري لأن يتغنى:
    من أقصى شمال بلادي
    لأقصى جنوب الوادي
    نعمل للوطن الواحد
    أيادي إخلاص ومبادئ
    اشتراكية
    سودانية
    من واقعنا بل من أكثر
    يا بلادي
    شعبك أقوى وأكبر
    مما كان العدو يتصور.
    ثم اتبع شاعر الشعب الراحل محجوب شريف، في مستهل المؤتمر العام الخامس للحزب الشيوعي في يناير 2009م إذ قال في لهجة حماسية قوبلت بالتصفيق والزغاريد سيما وأن الرجل افترع إطلالته بمرثية باذخة لعبدالخالق محجوب:
    "الآن اهتف بملء الفم عاش نضال الحزب الشيوعي.. حزباً سودانياً، لحما ًودماً متعدداً ثقافات واعراق وكريم معتقدات جزءاً من الحياة العامة ونسيج من المجتمع السوداني بكل تعدده وأعراقه وأديانه".
    وفي شهادة عميقة الدلالة يقول السياسي والقانوني ذائع الصيت محمد أحمد محجوب في كتابه “الديمقراطية في الميزان” الصادر عن دارالنهار البيروتية في العام 1973م: "إنني أعرف عبد الخالق محجوب منذ 20 سنة. كان يتحلى بنزاهة وشجاعة بالغين، وكانت الأخلاق السودانية تأتي في الطليعة في تفكيره السياسي، وقد ساهم كثيرا في إيجاد توافق بين تاريخ السودان الإسلامي والآراء الماركسية الثورية، وهذا ما جعلني دائما اصف الحزب الشيوعي السوداني بأنه حزب سوداني لا يدين بالولاء لموسكو أو أي بلد شيوعي آخر في العالم".
    وفي صيف عام 1997م غشي الإنقسام مضارب حزب البعث العربي الإشتراكي، وخرجت مجموعة محمد علي جادين، وعبد العزيز الصاوي ويحيى الحسين لتشكل "بعثا" جديدا بخصائص سودانية في سياق البحث عن عملية التجديد بعد هزيمة المشاريع الكبرى في خضم عالم متحول.
    العزلة لا تجدي
    كذلك أصبح عسيرا جدا بناء دولة اشتراكية بمعزل عن العالم، ولا يمكن أن تعزل أرضك وشعبك عن بقية البشر كما كان يحدث في أوقات سابقة بالقرن الماضي. فالعولمة حولت الكرة الأرضية من قرية إلى حجرة صغيرة، يبقى هامش الحركة فيها ضيقا للغاية وعند أي محاولة للانحراف عن الخطوط الوهمية التي اقرتها العولمة بسطوة القطب الأحادي سرعان ما تشهر دعاوى انتهاك حقوق الإنسان والاضطهاد والتعذيب وقمع الرأي الآخر وغيرها من شعارات "ديمقراطية الرأسمالية الغربية" .
    ويقول الباحث شمس الدين ضو البيت إن فكرة العدالة الاجتماعية "أيقونة" اليسار والشيوعيين بنحو خاص ليست معزولة عن الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان ولا يمكن على الإطلاق الفصل بينهما. ولا يمكن وضع الحقوق الاقتصادية مقابل الحقوق السياسية والمدنية. ويضيف في حديثه إلينا إن هذه المسألة مثلت ثغرة في الماركسية التي اهتمت بمعالجة جانب واحد يتمثل في الجوانب الاقـتصادية وعلاقات الإنتاج وأهملت الحقوق الأخرى تماما وتلك الثغرة اسهمت على المدى الطويل في تراجع جاذبية الفكرة. وفي ذات المقابلة يذهب نقد إلى ذات النقطة لكن تلميحا مبطنا كما يليق بشخصيته: "مازلت على قناعة فكرية وعقلانية أن فهم ماركس وإسهامه في علم الاجتماع والاقتصاد السياسي يشكل أفضل أداة للصراع ضد الرأسمالية ومنازلتها وهي في أوج سطوتها وغلوائها".
    سقوط الصيغ القديمة
    ايضا اليسار وجد نفسه أثيرا أو مرتاحا لزمان طويل صيغ الحكم التي تقوم على نظام الحزب الواحد أي كان اسم هذا التنظيم أو الحزب سواء الحزب الشيوعي كما هو الحال في أوروبا الشرقية أو "الاتحاد الاشتراكي" القائم على أساس تحالف قوى الشعب العاملة "العمال والفلاحين والجنود والرأسمالية الوطنية" أو حزب البعث كما هو الحال في سوريا أو العراق.
    لكن تلك الصيغة لم تأتِ هكذا خبط عشواء لأن حقائق التاريخ الكبرى لا تهبط كقوات المظلات فجأة بلا مقدمات.. فالفصائل اليسارية في السودان ومحيطه العربي والأفريقي تشكلت في سنوات التحرر الوطني والمعارك ضد الاستعمار وفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي كان اليسار واحدا من اقوى طلائعها الثائرة. فقوى اليسار في بلدان شتى كتب لقادتها أن يتحقق استقلال بلادهم على أيديهم، وهذا ما أعطاهم ميزة نسبية سمحت لهم بإقامة دكتاتورية اشبه بـ(الأبوية). ولا غرو أن اللقب الرسمي لقائد الاتحاد السوفيتي واحد أبطال الحزب العالمية الثانية جوزيف ستالين "الأب الرحيم للشعب".
    ويؤكد محمد علي جادين أحد أقطاب حزب البعث العربي الاشتراكي بالسودان، والذي بات يعرف في تكوينه الجديد بحزب البعث السوداني ولعل اختلاف المسميين يعكس حجم التحولات التي طرأت عليه.. يؤكد في حديثه إلينا أن الأحزاب اليسارية التي انشأت بين يدي الحرب العالمية الثانية انتهت دورتها التاريخية واضحت مطالبة بطرائق تفكير جديدة وهنا تكمن الأزمة؟!
    ما العمل؟
    فاليسار المطلوب حاليا هو اليسار الديمقراطي الذي يؤمن حقيقة بالتحول الديمقراطي إيمانا قطعيا وليس مرحليا أو تكتيكاً. ولعل تلك الخاصية تنبهت إليها باكرا الأحزاب اليسارية في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا المتمثلة في أهمية الالتزام بقواعد اللعبة الديمقراطية والتدوال السلمي للسلطة.
    ثم يزداد المثال سطوعا في نموذج الأحزاب اليسارية بدول أمريكا الجنوبية "اللاتينية" التي تبوأت مقاعد السلطة عبر صناديق الانتخابات وليس صناديق الذخيرة كما تؤكد كلاسيكيات الثورة اليسارية ويشير محدثنا محمد علي جادين إلى أن تلك الأحزاب صنعت عمليات اختراق كبرى وساعدها على بلوغ مراميها أن الكنيسة هناك لفح رجالاتها روحا ثورية ونهضوا إلى تجديد ديني واسع النطاق وسميت اصطلاحا بـ(لاهوت التحرير).
    أما في السودان فعوامل التي طرأت على مسيرة الأحزاب اليسارية تراكمت وازدادت وطأتها بفعل السنين وبلغت ذروتها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في 1991م لكن الحزب الشيوعي السوداني كان يقف بقوة ضد أي محاولة أمام أحداث تغييرات جوهرية داخله بحجة "المحافظة على جسد الحزب"!!
    لكن محمد إبراهيم يؤكد في ذات المقابلة المار ذكرها بأنهم لم يدعوا التحولات التي ظهرت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي تمر دون تحليل عميق ويقول: "ابتدرنا مناقشة عامة لمواجهة المستجدات والتحديات منذ العام 1993 ـ 1994 ذات خمسة محاور.
    الأول: أسباب انهيار وفشل النمط ـ الموديل ـ السوفييتي للاشتراكية وانحسار نمط التوجه الاشتراكي في البلدان النامية مثال التجربة الناصرية ومدرسة الاشتراكية الأفريقية بقيادة نايريري وسيكوتوري ونكروما.
    الثاني: أزمة الجمود في الفكر الماركسي.
    الثالث : الثورة العلمية التكنولوجية ودورها في تجديد بنية الرأسمالية في بلدان المتروبول أي أميركا ودول السوق الأوروبية المشتركة واليابان الرابع: تقويم ناقد لتجربة الحزب وتطوير برنامجه ونظامه الداخلي ومواصلة الإعداد لعقد مؤتمره الخامس العام وانتخاب قيادة جديدة".
    غير أن الأمر أحدث ربكة كبيرة في حقيقة الأمر وأحدث حيرة عبر عنها الزميل "ناصر" بسجن شالا عندما أتاه خبر الانهيار الكبير وهم شلة من الشيوعيين بالسجن إذ قال لزميل له وهو يحاوره هلا فعلا انهار الاتحاد السوفيتي العظيم، وهل انهارت كل الآمال في بناء الاشتراكية. وكانت تلك الأسئلة التي طرحها الزميل ناصر دليلا كبيرا على أن الحزب الشيوعي كان آخر ترسه يدور في حركة الشيوعية العالمية.. وكان من الواضح أن الاتحاد السوفييتي لم ينهار في العام 1991م لكل من كان يتابع عن كثب.
    وجاءت طامة المؤتمر العام الخامس الذي أوشك أن يشق الحزب إلى نصفين إذ افرزت صراعا قويا بين قادة الحرس القديم والجديد ولم تجد قيادة الحزب مفرا من لملمة شعث ما تبعثر بطريقة اقرب للجودية السودانية وتم تجديد الثقة في القيادة التي سادت منذ يوليو 1971م وبالتالي استمرت سياسة "المحافظة على جسد الحزب" التي رفعت عقب أحداث يوليو 1971م وتجذرت أكبر بعد وصول الإسلاميين الخصم اللدود والتاريخي بانقلاب عسكري في يوينو 1989م .
    ويعتبر الكثيرون أن تلك السياسة كانت انكأ على الحزب حيث جرى عبرها وباسمها القضاء كل محاولات الإصلاح وخنق كل أصوات الإصلاحيين. ثم انفض السامر ومضى لحال سبيله دون أن ينبس أحد ببنت شفة أو يجــرؤ أن يقول إنّه لا يرى الشمس في رائعة النّهار رغم الزوبعة العنيفة التي هبت في صفوف الحزب!؟
    ولعل قلق التساؤلات الكبرى التي فشل المؤتمر الخامس في وضع إجابات شافية لها تزايدت حدتها على اعتاب المؤتمر السادس والسنوات التي اعقبت المؤتمر الأخير شهدت رحيل قادة الحزب اللامعين وعلى رأسهم محمد إبراهيم نقد والتيجاني الطيب، وتبوأ مقاعدهم آخرون لكنهم على ما لديهم من مزايا كانوا رجالا يقدرون على الجلوس على الكراسي وإدارة الملفات من داخل مكاتبهم وليسوا نجوما تستطيع التألق وسط السماء.
    ثم ماذا؟
    ونخلص أن اليسار بكل سطوته وبأسه القديم أوشك أن يتحول إلى ماضٍ بعد أن رضي بالخروج من ساحة التنافس الواسع واستسلم إلى الهامش الضيق الذي احتجزوه داخله. فتآكل صيته وسمعته تباعا في أروقة السياسة التي طالما نافس عليها بنشاط وحيوية ثم انحسر مده الجامعات التي كان حاديها ودائما دليلا فتركها راضيا من الغنيمة بالإياب.. وتواصل طي البساط الأحمر حتى من المدارس التي كانت ملك يده اليسرى.. ثم تلاشى من ضروب الفن والإبداع التي كانت قبسا من روحه عبقريته بعد أن تسيد الساحة بلا منازع بعد انسرب إليه الفنانون والشعراء من كل حدب وصوب..واخيرا..اليسار بالسودان بتدرجات الوانه ومختلف فصائله وتشكيلاته الى اين ؟! هل بات في لحظة شكسبيرية (نكون او لانكون)؟!.. هل لفظ انفاسه الاخيرة التي تقاصرت عليه مذ انهيار المثال "الاتحاد السوفيتي العظيم" وكتلته المشايعة في شرق اوروبا ثم تبعتها اخريات هنا وهناك حتى سقوط بغداد عاصمته الاقوى في الشرق الادنى؟! ام انه كطائر الفينيق الاسطوري الذي عندما يموت يحترق ويصبح رمادا ويبعث من كومة الرماد طائر جديد.. سيعود ايضا من جديد "زي شعاع الشمس من كل المداخل" ؟!
    و ليبقى السؤال الحارق ايضاً كيف افلت الحلم من اليسار؟! وكيف السبيل لاستعادته؟! وهل تسمح الظروف المحلية والإقليمية والدولية المائجة بالمتغييرات بذلك؟!!.

    التيار

                  

02-19-2015, 05:37 PM

عمر صديق
<aعمر صديق
تاريخ التسجيل: 06-06-2008
مجموع المشاركات: 14776

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اليسار في السودان.. إلى أين؟ (Re: عمر صديق)

    Quote:
    اليسار في السودان إلى أين؟!.. الحلقة الثانية ..سنوات الغليان


    الشاهد أن القوى المعادية لحركة اليسار كان لا هم لها آنذاك سوى نصب الفخاخ فحتى لو أفلتت حادثة "شوقي" كانت ستبحث عن أخرى.. ويروي النور حمد حادثة بالغة الدلالة .. كيف امسك رئيس شعبة التربية الاسلامية في مدرسة حنتوب بخناق طالب قدم بحث عن الوجودية؟!

    كان هناك تقدير خاص من جانب عبدالناصر لمواقف الحزب الشيوعي السوداني وإعجاب بشخصية عبدالخالق محجوب ..ولا ننسى دور الشفيع أحمد الشيخ الذي اعتمر بندقيته وذهب للانخراط في حرب السويس في 1956م وأوامره بفتح باب التطوع أمام العمال السودانيين للمشاركة فيها.

    بعد أن اثاقل سورج الى الارض وباع قوائم الكوادر السرية الى نميري وانتهى احمد سليمان اسلاميا انقلابياً.. هنا يكمن سؤال مهم وهو كيف تسللت مجموعة من تلك القوى الانقسامية إلى الحزب مرة أخرى معلنة عودتها إلى صفوفه وإلى ماذا تشير هذه النقطة وماذا تعني؟

    ولعل النجاح الأكبر يتمثل في تقديم ساسة من نوع جديد كما ذكرالباحث الفرنسي جاك لوكير عن تجربة الحزب الشيوعي السوداني في تنظيم وحشد المزارعين البسطاء لخوض معارك كبيرة. وهذا ما يؤكد قوة الحزب حينها وأنه بالفعل كان من أكبر أحزاب القارة فهو لم يك حزباً صغيراً "قدرنا كده" كما كان يردد سكرتير الحزب الراحل محمد إبراهيم نقد!!

    في سبتمبر 2013م كان شرط تدافع جماهيري إلى الطرقات حاضرًا بطريقة لم تحدث في سنوات طويلة لكن ثمة ترتيبات أخرى داخل الأحزاب والتنظيمات السياسية والمهنية تقاصرت، ماجعل وصول الجماهير التي تدافعت إلى الشوارع والميادين لغاياتها صعباً جداً إن لم يك مستحيلاً

    تحقيق: خالد فتحي :علاء الدين محمود
    صرخة ماركس

    منتصف القرن التاسع عشر أطلق كارل ماركس صرخة قوية بثت الأمل في نفوس المستضعفين والكادحين : إن الطبقات الحاكمة ترتجف تحت وطأة الثورة الشيوعية.. إن البروليتاريا ليس لديها ماتخسره سوى أغلالها وتربح من خلفها عالماً بأسره.. يا عمال العالم وشعوبه المتحدة اتحدوا" ووجدت صرخة ماركس استجابة في أبعد بقعة كان ينتظرها أن تستجيب له في روسيا القيصرية لأنه كان يتوقعها في بريطانيا أو المانيا لأن عملية الفرز الطبقي كانت أكثر سطوعاً ، وفي 1917م استلمت الشيوعية روسيا وهي تعتاش على المحراث الخشبي وحولتها في بضع سنين إلى قوة عظمى. وهذا التفوق زاد من بريق النظرية وعزز من قدرتها على المنافسة على تغيير مصائر البشر إلى الأفضل. وأضافت شخصيات كجيفارا الذي نذر نفسه للثورة المطلقة وهوشي منه الذي صد جحافل الأمريكان عن فيتنام بعدًا أسطورياً إلى النهج والمثال الشيوعي، المتمثل في نظرية البطل النبيل.

    في السودان
    كان الحزب الشيوعي أكبر قوى اليسار في السودان بالفعل نسيج وحده على مستوى الأحزاب الشيوعية في العالم الثالث ربما حتى العام 1971م عندما علقت قياداته في أعواد المشانق فمسيرة الحزب كانت مسيرة تمرد على السائد والجاهز والمألوف وكذلك في تطبيقه للماركسية ويقول السر بابو عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي : إن الحزب في وقت باكر من أيام حركات التحرر الوطني ونتيجة لدراسة واقع السودان وخصائصه وقتها رفض الحزب الشيوعي صيغة (النقل الأعمى) لتجربة الكفاح المسلح على نمط التجربة الصينية، والتي طرحت عام 1952م، وقدر إيجابياً خصوصية نضال شعب السودان الديمقراطي الجماهيري الذي أفضى إلى الاستقلال، وتم تطوير تكتيك النضال السياسي الجماهيري والتحالفات الواسعة في مقاومة ديكتاتوريتي نظام عبود والنميري ، حتى تمت الإطاحة بهما عن طريق الإضراب السياسي العام والعصيان المدني، وأصبح ذلك من التجارب المستقرة والتي كانت يمكن أن تستلهم في سبيل تكوين أوسع جبهة لإسقاط نظام الإنقاذ الراهن.وفي سبتمبر 2013م كان شرط تدافع جماهيري إلى الطرقات حاضرًا بطريقة لم تحدث في سنوات طويلة لكن ثمة ترتيبات أخرى داخل الأحزاب والتنظيمات السياسية والمهنية تقاصرت، ماجعل وصول الجماهير التي تدافعت إلى الشوارع والميادين لغاياتها صعباً جداً إن لم يك مستحيلاً.. فسكنت جذوة الثورة في الطرقات ثم انحسرت وما لبثت أن خمدت حتى في نفوس الثائرين لكن لكي نكون أكثر موضوعية فإن كثافة النيران التي قوبل بها المتظاهرون والعنف المفرط الذي ووجهوا به في الشوارع كان فوق طاقة أي أحد وأيضاً فوق احتماله.
    وهنا يتبدى جلياً الأثر البالغ لغياب دور النقابات والاتحاد ات المهنية على النحو الذي كان في أكتوبر وإبريل. لكن كل ما تقدم لا يعفي القوى السياسية من مسؤولياتها الأساسية في الضغط لأجل أن تبقى الجذوة مستمرة عبر التكتيكات المعروفة والمجربة وكذلك المبتكرة!!

    لاتحرير بلا تعمير
    وبعد الاستقلال رفض الحزب الشيوعي شعار الاتحاديين " تحرير لا تعمير"، وطرح شعار " لا تحرير بلا تعمير"، وبرر الشيوعيون رفضهم ذاك أن الاستقلال السياسي وحده لايكفي، بل يجب استكماله بالاستقلال الاقتصادي والثقافي، بانجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية، وطور الحزب هذا الخط في برامجه المجازة في المؤتمرات الثالث والرابع والخامس. كما انتقد الحزب الشيوعي موقفه الخاطئ من اتفاقية 1953م، وقدر دورها الإيجابي من زاوية أنها كانت نتاج لنضال الشعب السوداني. وكان الشيوعيون يرون أن الاستقلال وحده ليس كافيا إنما هناك ضرورة ملحة أيضاً لتوطين العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية.
    قراءة الواقع

    وكذا كان الحال في لحظة أخذ الحزب الشيوعي للماركسية وتطبيقه لها في سعيه نحو فكر "خلاق " وفي ذات المقال يقول بابو إن في تلك السنوات الباكرة من تأسيس الحركة السودانية للتحرر الوطني(حستو)، كان حسن الطاهر زروق "النائب الشيوعي" في أول برلمان سوداني يقول: إن شعب السودان سوف يشق طريقه الخاص باستقلال للاشتراكية وأن التجربة السوفيتية ليست ملزمة له، وأن نظام الحزب الواحد ليس هو الطريق الأمثل، إضافة إلى ضرورة ارتباط الاشتراكية بحرية الضمير والمعتقد ، وكان ذروة ذلك العمل الخلاق هو وثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية التي دفع بها الأستاذ عبد الخالق محجوب إلى المؤتمر الرابع للحزب الشيوعي عام 1967م وكذلك وثيقتا قضايا ما بعد المؤتمر ، وإصلاح الخطأ بالعمل وسط الجماهير.

    وتأتي أهمية المؤتمر الرابع ووثائقه أن الحزب حينها كان محلولا ًبقرار من الجمعية التأسيسية صدر عام 1965م أي بعد عام واحد من ثورة أكتوبر والتي شهدت ازدهار الفكر اليساري فكان أن قررت الأحزاب ذات البرنامج الإسلامي تصفية حساباتها مع الحزب الشيوعي وقادوا حملة شعواء لحل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان وهي العملية التي تولى كبرها الإخوان المسلمون ووجد فيها قادة الحزبين الكبيرين ضالتهما فخاطب إسماعيل الأزهري رئيس مجلس السيادة،الجماهير التي تم حشدها أمام منزله مؤكداً :"أن الحكومة والجمعية التأسيسية ستضعان حداً لهذا الفساد، وإن لم تفعلا فإنه سينزل معهم إلي الشارع لتطهير البلد" .

    ويقول صاحب معالم في تاريخ الحزب الشيوعي المؤرخ محمد سعيد القدال إن ذلك كان منعطفاً حاسماً وخطيراً في تطور الأزمة. فدخول أزهري بثقله السياسي وبشعبيته الجارفة حمل المعركة خارج قدرة الإخوان المسلمين المحدودة. كما أن أزهري قرر ما ستتخذه الجمعية التأسيسية بالنسبة للقضية قبل طرح الأمر عليها. ودخل أيضاً الإمام الهادي المهدي إلى المعركة واستدعى مجموعات من الأنصار إلى العاصمة.

    والشاهد أن القوى المعادية لحركة اليسار كان لا هم لها آنذاك سوى نصب الفخاخ فحتى لو أفلتت حادثة "شوقي" كانت ستبحث عن أخرى كما يروي النور حمد عن حادثة بالغة الدلالة تنبئ عن مدى غوغائية الإخوان المسلمين وقعت أثناء دراسته في مدرسة حنتوب :"من التجارب المؤلمة، التي لا تزال منطبعة في ذاكرتي، والتي تدل على مدى العداء بين شعبة التربية الإسلامية، من جهة، والأساتذة اليساريين، والطلاب اليساريين من جهة أخرى، حادثة جرت حين قام أحد الطلاب، ولم يكن يسارياً صارخاً بتقديم بحث عن الوجودية، في شكل محاضرة على الطلاب، جرت من على مسرح المدرسة، الذي كان وقتها مجرد مصطبة جنوب فصل أولى متنبي تقف عبر الميدان المنجل المقابل للجرس ومكتب الناظر. وما أن فرغ الطالب من مقدمته، وفتح باب النقاش حتى نهض رئيس شعبة التربية الإسلامية، بعجلة واعتلى المنبر، وكان ظاهر التوتر.

    وأمسك بالميكرفون وقال: أول سؤال يمكن أن يسأل لشخص يقدم محاضرة مثل هذه، هو: هل أنت وجودي؟ وكان واضحاً أن رئيس شعبة التربية الإسلامية لم يقصد بذلك سوى إحراج ذلك الطالب أمام زملائه. وكان واضحاً أن الأستاذ قد قصد أن يضع ذلك الطالب بين خيارين: فإن قال إنه وجودي، فإنه يصبح كافرًا بالله ورسوله، وإن قال إنه ليس وجودياً، يصبح مواجهاً بتبرير ترويجه لفكر إلحادي. أراد رئيس شعبة التربية الإسلامية، أن يختزل المسألة ويحصرها قسرًا في ذلك الجحر الضيق. وأذكر أن الجو توتر، وتعالت صيحات من الحضور، وانتهى الأمر إلى ما يشبه الفوضى".

    لكن الحزب الشيوعي لم يذهب إلى ميدان الصراع ضد القوى الرجعية وحده فلقد مدت له الأيدي الصديقة من آسيا وإفريقيا والاتحاد السوفيتي بطبيعة الحال، وتكفل جمال عبدالناصر بإمداده بالسلاح سراً لمواجهة أي عداون محتمل ضد دور الحزب التي باتت هدفاً مشروعاً للقوى المعادية ، لكن الحزب لم يحتاج إلى استخدام تلك الأسلحة حتى وضعت سلطة نميري يدها عليها في أعقاب حركة يوليو 1971م.

    وشهدت تلك الحادثة تطور أشكال التحالف بين الشيوعيين والقوميين العرب ممثلاً في استقالة رئيس القضاء بابكر عوض الله ذو الميول القومية من منصبه احتجاجاً على رفض حكومة الصادق المهدي قرار المحكمة ببطلان حل الحزب معتبرة إياه قراراً "تقريريًا" غير ملزم لها. وبالرغم من أن العلائق بين الحزب الشيوعي والثورة المصرية كانت متأرجحة خاصة أو أن تضييق عبدالناصر على الشيوعيين لكن كان هناك تقدير خاص من جانب عبدالناصر لمواقف الحزب الشيوعي السوداني وإعجاب بشخصية عبدالخالق محجوب وعندما قبل عبدالناصر مبادرة روجرز في 1970م امتعض بعض الشيوعيين بالسودان، لكن عبدالخالق كان واعياً بحقيقة ماحدث وان الرفاق بمصر لهم تقديراتهم الخاصة، كما روى الدكتور صدقي كبلو في كتابه" ذكريات سجين سياسي". ولا ننسى دور الشفيع أحمد الشيخ الذي اعتمر بندقيته وذهب للانخراط في حرب السويس في 1956م وأوامره بفتح باب التطوع أمام العمال السودانيين للمشاركة فيها.

    تلك الحادثات المتوالية ولدت شعورًا سالبًا غشي سدرة الشيوعيين بنحو خاص والتيارات اليسارية عامة، بأن القوى الرجعية لن تدعه يمر ولن تدعه يعمل بل حتى لن تدعه يحلم. كما أظهرت الحادثة تباين واضح في وجهات النظر بين قيادات الحزب واحتد صوت تيار(اليائسين والمغامرين) مرتفعا وخلصوا إلى أنه ليس لهم ثمة سبيل إلا بالاستيلاء على السلطة عبر انقلاب عسكري وهذا ما سماه عبدالخالق محجوب "صياح من أعلى البيوت".

    وهذا ما سنأتي لتفصيله كاملاً عند حديثنا عن خطيئة (مايو) 1969م ونكسة (يوليو) 1971م. ولعل نهايات قادة تيار اليائسين والمغامرين تنبئ عن خطل أفكارهم وقصر نظرهم مقارنة برؤى عبدالخالق فقد انتهى المطاف بأحمد سليمان المحامي إسلامياً بل وشارك بفعالية في تدبير انقلاب يونيو 1989م بينما تثاقل معاوية سورج إلى الأرض تحت ظل مايو بعد أن فض لها مغاليق خزانات أسرار الحزب التنظيمية بينها قوائم لأعضاء الكوادر السرية التي تجاوزت الأربعين ألف كادر سري وقتها شكلت قاصمة ظهر في صراع الشيوعيين ضد مايو بعد أحداث يوليو 1971م. وربما هنا يكمن سؤال مهم وهو كيف تسللت مجموعة من تلك القوى الانقسامية إلى الحزب مرة أخرى معلنة عودتها إلى صفوفه وإلى ماذا تشير هذه النقطة وماذا تعني؟ !! وهذا ما سنأتي إليه لاحقاً.

    تصفية حساب
    وتؤكد كل الدلائل أن الأحزاب السياسية قررت استغلال الحادثة الطالب "الصفيق" لتصفية حساباتها مع الحزب الشيوعي فدفعت بأعداد من مؤيديها لمهاجمة دور الحزب بالأسلحة وبأسلوب همجي أطلق عليه عبد الخالق "عنف البادية" وازداد تصاعد الموقف عندما قامت بعض جماهير الأحزاب بمحاصرة البرلمان مطالبة بحل الحزب الشيوعي.
    واجتمعت الجمعية التأسيسية في 15 نوفمبر 1965 وبدأت سلسلة الإجراءات العجولة، حيث علقت اللوائح وخرق الدستور واستخف بالأعراف والتقاليد السياسية والبرلمانية وأهينت الثقافة وامتهن الفكر فما الذي حدث؟ تقدم محمد أحمد محجوب زعيم الجمعية ورئيس الوزراء يطلب إلى رئيس الجمعية برفع المادة (25) من اللائحة الداخلية لمناقشة أمر عاجل. ثم قرأ الرئيس اقتراحاً تقدم به ستة أعضاء يقول " أنه من رأي الجمعية التأسيسية بالنسبة للأحداث التي جرت أخيراً في العاصمة والأقاليم وبالنسبة لتجربة الحكم الديمقراطي في البلاد وفقدانه الحماية اللازمة لنموه وتطوره أنه من رأي الجمعية التأسيسية أن تكلف الحكومة للتقدم بمشروع قانون يحل بموجبه الحزب الشيوعي السوداني ويحرم بموجبه قيام أحزاب شيوعية أو أحزاب أو منظمات أخرى تنطوي مبادئها على الإلحاد أو الاستهتار بمعتقدات الناس أو ممارسة الأساليب الدكتاتورية".

    دعاية مضادة
    غير أن الهجوم على هذا النحو على الحزب الشيوعي كان قديماً وبدأ كذلك مع الدعاية المضادة للأفكار الشيوعية التي حملتها جماعة الإخوان المسلمين ففي العام 1954م قام الإخوان المسلمين وفقاً لما روى صاحب مؤلف "الإخوان والعسكر" حيدر طه : قاموا بتوزيع منشورات في العاصمة وفي عدد من المساجد ممهورة باسم الشيوعيين تدعو فيها الناس إلى التخلي عن الدين الإسلامي وإسقاطه من حياة الفرد والمجتمع وتنادي فيها بحياة الشيوعية والشيوعيين وعلى إثر هذه المنشورات نظمت حملة في المساجد ضد الشيوعيين تطالب بإهدار دمهم فقد وقف "الغبشاوي" واعظًا بعد صلاة الجمعة في مسجد ود نوباوي معيدًا حديث الإفك محرضًا الناس على هذه الفئة الملحدة وأثار الخواطر وهيج العواطف الدينية لدى المصلين الذين كان معظمهم من كيان الأنصار وكان الإمام عبد الرحمن المهدي زعيم الأنصار حاجزًا بين المصلين فما أن رأى الفتنة تطل برأسها حتى نهض مخاطباً الناس قائلاً :" إنه حسب علمه فإن المصدر الحقيقي للمنشور المشار إليه تحيطه الشكوك والريب ولم يثبت أنه من عمل الشيوعيين وأنه قرأ في الصحف أن أحد الشيوعيين قد نفى أنهم يحاربون الدين وهذا يكفينا كمسلمين وأن الإسلام لا يأخذ الناس بالشبهات" وهذا الحدث يدل على أن العمل ضد الأفكار الشيوعية كان قديماً.

    ويدل في ذات الوقت أن هذه الأفكار كانت مؤثرة جدًا وهذا ما بدا واضحاً في الأيام التي سبقت ثورة أكتوبر وما بعد ثورة أكتوبر في العام 1964م فقد علا صوت الحزب الشيوعي وراجت أفكاره وكان من أقوى صناع ثورة أكتوبر وفي أعقاب نجاحها أصدر عبد الخالق محجوب بياناً مبيناً وجهة الحزب في المرحلة القادمة وجاء في بعض من البيان"أيها العمال والمزارعون والمثقفون: إن ثورتكم، ثورة 21 أكتوبر، تقترب من أهدافها العظيمة التي دخلتم من أجلها الإضراب السياسي الناجح. وسالت دماء شهدائنا على تربة وطننا".
    وفي بيان أصدره الحزب الشيوعي وضح خط الحزب لمرحلة ما بعد أكتوبر وهو البيان الذي جاء فيه : "قصدنا هو تبديل الحكم الرجعي بحكم وطني ديمقراطي، يفتح الطريق أمام الاشتراكية في بلادنا. وهكذا، بدأت تنمو حركة الطبقة العاملة، وحركة المزارعين، والطلاب، والمثقفين. وتتجه نحو طريق الحزب الشيوعي. وقد أشار حزبنا في بياناته المتعددة إلى أن العناصر اليمينية، وقوى الاستعمار، لن تقبل هذا الوضع. بل ستعمل لتزييف إرادة شعبنا، وإلى تنصيب حكم أكثر رجعية في البلاد، يخنق القوى الديمقراطية" وكان للشيوعيين قصب السبق في حكومة جبهة الهيئات التي وصفها بعض المراقبين أنها جاءت معبرة عن روح وشعارات ثورة أكتوبر.

    سياسيون من نوع جديد
    ولعل النجاح الأكبر يتمثل في تقديم ساسة من نوع جديد كما ذكر الباحث الفرنسي جاك لوكير عن تجربة الحزب الشيوعي السوداني في تنظيم وحشد المزارعين البسطاء لخوض معارك كبيرة . وقد ذكر بأن الحزب الشيوعي السوداني حقق إنجازاً تاريخياً بتأهيل مزارعين بسطاء وأميين إلى مصاف القادة الوطنيين، شيخ الأمين محمد الأمين ، ويوسف أحمد المصطفى وشيخ الخير مثالاً.. هذا الإنجاز ، كما ذكر لوكير، لم يسبقه عليه فى التاريخ إلا الحزب الشيوعى الصينى في أربعينات القرن الماضي . وفي كتاب "تلك الأيام" للأستاذ كامل محجوب ، سجل تجاربه وتجارب عشرات المتفرغين الشيوعيين الشباب ، في استنهاض حركة المزارعين .. لا عن طريق المنشور والندوات الموسمية ، بل بالعيش وسط المزارعين، وفي مجالسهم وأفراحهم وأتراحهم ، وعملوا بصبر مثل صبر الصحابة ، لإدخال الوعي إلى صفوفهم. ولعل هذا مادفع عبدالخالق محجوب أن يقول أمام نميري بثقة عندما حاول استفزازه أثناء محاكمته بعد هزيمة انقلاب هاشم العطا ماذا قدمت لشعبك ؟ فقال : الوعي ثم الوعي ما استطعت. وربما ما ذهبنا إليه هنا يؤكد قوة الحزب حينها وأنه بالفعل كان من أكبر أحزاب القارة فهو لم يك حزباً صغيراً "قدرنا كده" كما كان يردد سكرتير الحزب الراحل محمد إبراهيم نقد ! وهذا أيضًا سنأتي إلى تفصيله لاحقاً.
    في الحلقة الثالثة .. الأحلام الشاردة

    التيار
                  

02-19-2015, 05:41 PM

عمر صديق
<aعمر صديق
تاريخ التسجيل: 06-06-2008
مجموع المشاركات: 14776

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اليسار في السودان.. إلى أين؟ (Re: عمر صديق)

    Quote:
    اليسار في السودان إلى أين؟..

    الحلقة الثالثة..
    الأحلام الشاردة

    تولّى الحزب الشيوعي عملية تحديث السياسة السودانية علي عدة مستويات محقِّقا حضورا سياسيا فعالا بوّأه مركز قيادة القوى الحديثة
    بلغت سطوة اليسار حداً أجبرت خصومه على التنقيب عن نقاط التماس مع أفكاره، فبدأ الصادق المهدي يتحدث عن(السندكالية) و(اشتراكية المؤمنين) والتركيز على تراث الصحابي أبي ذر الغفاري وتقديم مواقفه على أنها مواقف اشتراكية
    من أكبر الاوقات التي شهدت ارتفاعا لمدّ الحزب الشيوعي لحظات ثورة إكتوبر التي أفرزت أفقا متوهجا بالتفاؤل والثقة الزائدة بإمكانية استعادة الأحلام الشاردة
    الثورات تمر بمراحل ،أهمها مايمكن تسميته بعملية الفرز الضروري ، ويتمثل في تمايز الصفوف بين الثوار الحقيقيين وبين الانتهازية أو الفئات القديمة.
    الإسلاميين رغم فوزهم بكل تلك المقاعد في الديمقراطية الثالثة لايزالون أقلية وأن عدد الذين يؤمنون بفكر الأخوان المسلمين أو من يسمونه (حماة بيضة الإسلام بالسودان) لا يتجاوزون (12) ألف شخص وأن التفوق العددي يأتي دائماً عبر الترغيب والترهيب
    تحقيق: خالد فتحي: علاء الدين محمود
    ثم تفجرت ثورة أكتوبر بالحق، وصاحت في وجه الطغاة هذا ماكنت عنه تحيد !!. ولعل الدماء التي انسكبت قانية من "القرشي وأخوانه" منحتها خلوداً على خلود، وصيَّرتها أسطورة في أقاصيص الشعوب المقهورة السائرة نحو طريقها للخلاص من حكم الطواغيت، الساعية نحو الحرية والانعتاق. وبرمزيتها تلك أجبرت ثورة أكتوبر كل الساسة والمبدعين في كل المجالات على التفاعل معها وبها وإليها وتفجرت قريحة الشعراء أجمل ما يكون وتدفقت الألحان وتموسقت الكلمات وتعبأت حناجر الفنانين ومن ورائهم الشعب بكل طوائفه وفئاته وأحزابه لثورتهم الفتية.
    أفكار تزدهر
    وفي مقالته الموسومة "ثورة أكتوبر والنقلة النوعية في الحركة العمالية السودانية" يقول صديق الزيلعي : هزت ثورة أكتوبر الشعبية ساكن الحياة في السودان، وخلقت وعياً ديمقراطياً طاغياً، جعل من الصعب على كافة القوى السياسية تجاهل الرغبات الأكيدة والمعلنة لجماهير الشعب السوداني في التغيير السياسي والاجتماعي. وأدت الثورة أيضاً لتحجيم نفوذ قوى اجتماعية كانت تتمتع بالسلطة المطلقة والطاعة العمياء من قبل قطاعات جماهيرية كبيرة ومؤثرة. كما أن الثورة أعطت قوى اجتماعية صاعدة مزيداً من النفوذ وأبرزت تأثيرها على الحياة السياسية وتزايد القبول الجماهيري لبرامجها البديلة وأفقها الجذري وإحدى أهم تلك القوى الاجتماعية التي تصاعد نفوذها بعد انتصار الثورة هي الحركة العمالية النقابية السودانية".
    ونجح الحزب الشيوعي في رفد الساحة بأفكاره وأدبياته. ويقول المفكر البعثي عبد العزيز حسين الصاوي: إن الحزب الشيوعي قد تولى عملية تحديث السياسة السودانية على عدة مستويات محققاً حضوراً سياسياً فعالاً بوأه مركز قيادة القوى الحديثة بجدارة لفترة طويلة .
    الرافعة الرئيسة لهذه العملية كان ممارسة العمل السياسي وفق تخطيط استراتيجي للمديين المتوسط والبعيد مستمد من تحليل للواقع الاقتصادي- الاجتماعي انطلاقاً من نظرية فلسفية معينة، وتراتبية حزبية تنظيمية محكمة. هكذا نشأت تحت تأثيره العام، وقيادته المباشرة في معظم الحالات، أول الهياكل النقابية للعمال والمزارعين وأول تنظيمات قومية للشباب والنساء أواخر الأربعينات وأوائل خمسينات القرن الماضي، فضلاً عن حضوره الطلابي القوي في المرحلتين الثانوية والجامعية وفي أوساط الأدباء والفنانين ورجال الأعمال وأيضاً وسط شباب العسكريين حتى إن قيادة إنقلاب مايو 69 كانت حريصة على كسب تأييده وعينت اثنان من أعضائه العسكريين في مجلس قيادتها. وهما بابكر النور وهاشم العطا.
    المرأة والفن
    انتخابياً، أمارات صعود الحزب الشيوعي وشى بها أن نائبه الوحيد في أول انتخابات خاضها الحزب عام 1953، حسن الطاهر زروق، جاء في المركز الرابع بين 22 مرشحاً، ومشتركاً مع ألمع نجوم السياسة السودانية وقتها (المحجوب ومبارك زروق وخضر حمد ) في شريحة الأصوات الأعلى المتجاوزة لحاجز الثلاثين ألف صوت ضمن المقاعد الخمسة المخصصة للخريجين. هذا الصعود كان ينبيء بسرعة تقدم الحزب الشيوعي في أوساط القوى الحديثة وبمحورية الدور الذي لعبته بقيادته في إسقاط نظام نوفمبر1958، كما أثبت صعوده السلم الانتخابي عام 1965 الذي بلغ درجة اكتساح كافة دوائرالخريجين تقريباً ( أحد عشر من 15 مقعداً )، بينما أوشك سكرتيره عبد الخالق محجوب على هزيمة زعيم حركة الاستقلال الوطني إسماعيل الأزهري في دائرة أمدردمان الجنوبية، حيث فاز الأخير بفارق ألف صوت فقط، وعاد للفوز فيها في انتخابات تكميلية ضد أحد أبرز قيادات الحزب الوطني الاتحادي، ورغم أن الحزب كان محلولاً قانونياً حينها. إلى جانب ذلك هناك ملاحظتان فيما يبدو مناقضاً لسياق هذا التحليل وهو الاختراق الأهم لقائمة الحزب الشيوعي في انتخابات دوائر الخريجين من قبل حسن الترابي محرزاً أعلى الأصوات.
    فمرشحو الحزب الشيوعي اكتسحوا بقية القائمة كلها تقريباً ككتلة واحدة بأصوات متقاربة بما يعني أن الاختراق هو من قبيل الاستثناء الذي يثبت صحة قاعدة تصاعد نفوذ الشيوعيين، لأنه كان خاصاً بفرد وليس بالتيار السياسي النقيض لتيار اليسار الذي يمثله. بل يمكن القول إن صعود الترابي في الحركة الإسلامية وخارجها تم بفضل هذا النفوذ، لأن التجاوب مع تحسساته التجديدية ( الفن، المرأة ) التي مهدت طريقه كانت مستحيلة بدون مناخ التجديد العام الذي نتج عن الصعود الأكتوبري للشيوعيين واليسار عموماً.
    سطوع فاطمة
    وسطع نجم فاطمة أحمد إبراهيم رمزاً لنضال المرأة السودانية والتصدي لحكومات التسلط العسكري . وهي من القيادات النسائية الرائدة في ظروف اجتماعية صعبة، ولعب الاتحاد النسائي السوداني الذي قادته عام 1952م، وتحوَّل إلى حركة جماهيرية واسعة النطاق تطالب بحقوق المرأة السياسية والاجتماعية.. دوراً مهماً في النضال ضد حكم الفريق عبود العسكري وساهمت مجلة الاتحاد النسائي "صوت المرأة"، التي ترأست تحريرها فاطمة إبراهيم في توعية النساء وقيادة الحركة النسائية، وفي عام 1954 انضمت فاطمة للحزب الشيوعي السوداني الذي يعد أول حزب يضم داخله تنظيماً نسوياً. إلى أن قامت ثورة أكتوبر عام 1964 التي تمكنت خلالها المرأة السودانية من حقها في التصويت والترشح لعضوية المجلس النيابي.
    وفي عام 1965 انتخبت فاطمة أول نائبة في البرلمان السوداني، وهو موقع حققت من خلاله إضافات أدرجها الدستور السوداني سنة 1968م، ليكفل حق المرأة في كل المجالات العمل والمساواة مع الرجل في الأجر وفي فرص التأهيل والتدريب والترقية إلى جانب منع الزواج الإجباري وتحديد السن الأقصى للزواج وإلغاء قانون "بيت الطاعة". وانتبهت فاطمة بوعي شديد إلى أن قضايا الحريات والفقر مقدمة على القضايا الأخرى التي تتصدر اهتمامات منظمات المجتمع المدني بالوقت الراهن التي يعدها كثيرون ظواهر ثقافية واجتماعية يتغلب عليها المجتمع بالمزيد من الوعي وفي ذلك يتختلف الناس .
    السندكالية واشتراكية أبو ذر
    وازدهرت في تلك الفترة حركة التحديث في الشعر وسط الطلاب، والغريب أن حركة الشعر وسط الطلاب لم ترتبط كثيراً بشعبة اللغة العربية، بقدر ما ارتبطت بالأساتذة اليساريين في الشعب المختلفة. كما يؤكد النور حمد ولذلك فيمكن القول إن قوى اليسار وسط المعلمين هي التي كانت مرتبطة بحركة التجديد، في الفكر، والأدب والثقافة، وكانت بذلك حاملة شعلة التجديد، والتحديث، بلا منازع".
    وبلغت سطوة اليسار حداً أجبرت حتى خصومه في التنقيب عن نقاط التماس مع أفكاره، فبدأ الصادق المهدي يتحدث عن (السندكالية) و(اشتراكية المؤمنين) وجرى التركيز على تراث الصحابي الجليل أبوذر الغفاري وإعادة إنتاج مواقفه على أنها مواقف اشتراكية بطريقة لافتة للانتباه. لكن مع ذلك ظل البعض متوجساً حتى من الاشتراكية نفسها، فالملك فيصل بن عبدالعزيز سأل نميري بضيق عن سبب إصرارهم على كلمة الاشتراكية، وقال له لماذا لا تقولون عدالة اجتماعية؟!
    استعادة الأحلام الشاردة
    بهذا الحجم الكمي والنوعي كان تميز دور الحزب الشيوعي في ثورة أكتوبر بمراحل عن دور الأطراف السياسية الأخرى متمثلاً في التوصل إلى صياغة استراتيجية الإضراب السياسي منذ 29 أغسطس 61 وتهيئة مستلزمات إنجاحه، أمراً منطقياً. بل إن صحة ما يقال عن ارتخاء معارضته للنظام وقبوله بدخول انتخابات المجلس المركزي عام 63 ، والانقسام الذي عانى معه في الصراع مع الجناح اليساري تضفي أهمية أكبر على هذا الدور لأنه تحقق رغم هذه المعوقات.
    درجة الحضور الشيوعي المباشر وغير المباشر في القيادة الميدانية والسياسية لثورة أكتوبر (جبهة الهيئات) تجلى في حصوله على ثلاث مقاعد في مجلس الوزراء، إضافة لاثنين على الأقل من المحسوبين عليه ( عابدين إسماعيل) و(عبد الكريم ميرغني ) مقابل مقعد واحد للأحزاب الأخرى، إلى جانب ما ذكر سابقاً من مظاهر أخرى مثل نتائج دوائر الخريجين، وذلك حتى إسقاط حكومة أكتوبر الأولى بعد أقل من أربعة أشهر من تكوينها في نوفمبر 64 بالتهديد باستعمال العنف الشارعي الريفي. وهو ما شكَّل بداية الهجوم المضاد من قبل جبهة تكتل للوسط واليمين التقليديين والإسلاميين على الحزب الشيوعي في دلالة حاسمة على مدى تصاعد نفوذه انتهت إلى حله قانونياً في إجراءات برلمانية وقانونية بدأت في نوفمبر 1965 واكتملت في ديسمبر من نفس العام.
    كان نجاح الحزب في ذلك نجاح لكل مكونات اليسار وأفكاره في تربة قالوا إنها لن تقبل تلك الأفكار، غير أنها الأفكار التي حملت حرباً شعواء من قبل الإسلاميين والقوى التقليدية، فلو أن التربة لا تقبلها فلماذا كل تلك الحرب التي واجهتها أفكار الحزب الشيوعي؟ وكان من أكبر الأوقات التي شهدت ارتفاعاً لمد الحزب الشيوعي هي لحظات ثورة أكتوبر التي أفرزت أفقاً متوهجاً بالتفاؤل والثقة الزائدة بإمكانية استعادة (الأحلام الشاردة)التي تبددت بفعل ماحدث في السنوات التي أعقبت الاستقلال التي بلغت ذروتها بحكومة (السيدين) التي انتهت برئيس وزرائها عبدالله خليل بتسليم السلطة إلى الجيش في نوفمبر 1958م.
    نكسة أكتوبر
    ويضيف النور حمد: لم تدم حكومة أكتوبر الانتقالية، سوى بضعة أشهر. كانت حكومة جانحة يساريًا، كما كانت تفكر بعقلية الشيوعية الدولية، وبعقلية الشرعية الثورية، بأكثر مما كانت تفكر وفق نهج ديمقراطي حقيقي، أو بعقلٍ سودانيٍّ مدركٍ إدراكًا عميقًا للمقيِّدات limitations، التي تحكم الواقع السوداني الموغل في التخلف. ولذلك فعلى الرغم من رفع الشعارات القائلة "لا حزبية بعد اليوم"، و"لا زعامة للقدامى"، ورغم نجاح سلاح العصيان المدني، الذي يعود الفضل فيه للقوى النقابية التي كان يحركها اليسار، في اقتلاع الحكم العسكري للفريق عبود، إلا أن الواقع الموضوعي القائم على الحزبية الطائفية، أعاد النظام الحزبي الطائفي القديم، بكل سوءاته مرة أخرى، بل وأعطاه مبررات لإعلان حربٍ لا هوادة فيها على قوى اليسار، وعلى قوى الحداثة عمومًا". ويقول محمد علي جادين: إن أكتوبر مثلت ذروة ظهور اليسار على المسرح السياسي بالسودان، لكنه أعطى القوة المعادية له فرصة سانحة لضربه أو لتعطيله بطرحه شعارات يسارية صارخة وغير قابلة للتطبيق على الواقع السوداني. وعلى ذات النسق رفع الوزراء الشيوعيين شعارات دون أن يطرحوا برامج.
    اليسار يتراجع
    ويتابع النور حمد : من الدلائل على أن أكتوبر لم تكن ثورة كاملة النضج، أن نظامين عسكريين وصلا إلى الحكم من بعدها. بل إن نظام جعفر نميري العسكري الذي جاء بعدها بخمس سنوات فقط، في مايو 1969، وجد ترحيبًا شعبيًا منقطع النظير. وبسبب رفع جعفر نميري والضباط الذين كانوا معه، شعاراتٍ يسارية، وشعاراتٍ قومية عربية، وبسبب أن بعض الضباط الذين نفذوا معه الانقلاب كانوا من الشيوعيين، فقد وجد الشيوعيون أنفسهم مندغمين، طوعًا أو كرهًا، في ذلك الانقلاب. بل إن قطاعًا معتبرًا منهم ردد ما ردده الضباط الذين قاموا بالانقلاب، وهو أن ما جرى في مايو 1969، بواسطة جعفر نميري والضباط الذين كانوا معه، كان ثورةً وليس انقلابًا، بل هو امتدادٌ طبيعي لثورة أكتوبر، وتجسيدًا حيًا في الواقع لشعاراتها المعادية للحزبية والطائفية.
    تكررت ثورة أكتوبر في أبريل 1985، كما تقدم القول، وتكررت معها تجربة إجهاض الشعارات والرغبات والتطلعات الجماهيرية، وعادت الأمور الحزبية الطائفية إلى ما كانت عليه قبل مجيء جعفر نميري إلى الحكم.
    الثورة المضادة
    غير أن ثورات عظيمة في التأريخ الإنساني شهدت انتكاسات عظمى وعلى رأسها الثورة الفرنسية بفعل عناصر الثورة المضادة التي عادة مايكون أكثر تنظيماً وفاعلية وخبرة في نصب الفخاخ وتدبير المكائد وهذا ما ظهر جلياً في ثورات الربيع العربي التي كان اليسار على واجهاتها في مصر وتونس لكن الأخيرة سرعان ما استعادت وهج الثورة فيما ضاعت مكتسبات الثورة المصرية الوليدة بفعل سذاجة طرح الإسلاميين وعسف رجال المؤسسة العسكرية التي تدخلت بدافع بدأ ظاهرياً انحيازاً لمكتسبات الطبقة الوسطى التي أفرزته ثورة يوليو 1952م، لكن شكَّل في جوهره أن الجيش رافض تماماً لفكرة الخروج من دائرة الفعل السياسي.
    الفرز الضروري
    ويقول علماء السياسة: إن الثورات تمر بمراحل– مع اعترافنا أن كل ثورة لها طبائعها ومناخها وأحوالها- أهمها مايمكن تسميته بعملية الفرز الضروري ويتمثل في تمايز الصفوف بين الثوار الحقيقيين وبين الانتهازية أو الفئات القديمة، ويبدو أن هناك عوامل حالت دون أن تصل "أكتوبر" إلى تلك النقطة واتحدت في ذلك عوامل داخلية وخارجية كرهت أن يقود اليسار الساحة وتسود رؤاها السياسية والاجتماعية. ولايحسبن أحد أن عملية الفرز الضروري تستغرق يوماً أو بعض يوم فهي تحتاج إلى صبر وعمل دؤوب ونفوس كبار وعقول جبارة لتبلغ غاياتها لتخرج شعوبها من الظلمات إلى النور. مع الأخذ في الاعتبار أن هناك دائماً مساحة للخطأ لكن لابد أن تكون هناك دائماً آلية للتصحيح. وهذا ما لم يتوفر في أكتوبر، إذا لم يمض عام حتى تكالبت القوى الرجعية وتآمرت لحل الحزب الشيوعي.
    تقدم الإسلام السياسي
    ويمضي النور حمد ليقول : غير أن متغيرًا جديدًا دخل الساحة، وهو حصول الإسلاميين على واحدٍ وخمسين مقعدًا في الانتخابات التي جرت عقب الانتفاضة، ليحتلوا المركز الثالث في ترتيب الأحزاب السودانية من حيث الوزن الجماهيري. فقد اقترب الإسلاميون من حيث عدد المقاعد التي حصلوا عليها من الحزب الاتحادي الديمقراطي، وهو الحزب الثاني من حيث القاعدة الشعبية في البلاد، بعد حزب الأمة. كما تراجعت في نفس الوقت شعبية الشيوعيين تراجعًا ملحوظًا، إذ حصلوا على ثلاثة مقاعد فقط، مقعدين من دائرتين جغرافيتين في العاصمة الخرطوم، ومقعد آخر من دوائر الخريجين في إقليم بحر الغزال بجنوب السودان . ولا بد هنا من التذكير هنا أن الشيوعيين حصلوا في الانتخابات التي جرت في عام 1965، بعد عام واحد من ثورة أكتوبر، على أحد عشر مقعدًا، وحصل الإسلاميون على ثلاث مقاعد فقط.
    لو تتبعنا تبدل الوزن الجماهيري عبر الواحد وعشرين عامًا التي فصلت بين انتخابات 1965، وانتخابات 1986، لوضح لنا تراجع اليسار، وتقدم الإسلاميين، ومع أن الإسلاميين السودانيين هم الإسلاميون الوحيدون في العالم العربي الذين وصلوا إلى السلطة، ووصلوا إليها حين وصلوا، عن طريق الإنقلاب العسكري، إلا أنهم عملوا منذ شراكتهم الحكم مع جعفر نميري في تهيئة الوضع الذي يسمح لهم بالوثوب إلى السلطة. وعمومًا فإن تراجع اليسار، واقتراب الإسلاميين من السلطة لم يمثل حالة سودانية خاصة، وإنما كان جزءًا من ظاهرة "شرق أوسطية"، بل وظاهرة كوكبية.
    فقد تراجع اليسار العربي في تزامنٍ مع تراجع الخطاب اليساري في العالم، الذي صحب انهيار الشيوعية في الاتحاد السوفيتي السابق. غير أن الإسلاميين في الشرق الأوسط كانوا هم القوة التي اندفعت بقوة لتملأ ذلك الفراغ الذي حدث. لكن السؤال هل استطاعت؟!
    من سرق الثورة؟
    يؤكد شمس الدين ضو البيت في حديثه إلينا: إن الإسلاميين رغم فوزهم بكل تلك المقاعد في الديمقراطية الثالثة لايزالون أقلية وأن عدد الذين يؤمنون بفكر الأخوان المسلمين أو من يسمونه (حماة بيضة الإسلام بالسودان) لا يتجاوزون (12) ألف شخص وفقاً لتقدير أحد القيادات العسكرية المرموقة، وأن التفوق العددي يأتي دائماً عبر الترغيب والترهيب سيما بعد وصولهم إلى الحكم عبر إنقلاب 30 يونيو 1989م الذي سمح لهم ببسط سيطرتهم على جهاز الدولة عبر سياسة التمكين.
    ويضيف ضو البيت: إن حركة الأخوان المسلمين بدأت بالاتجاه الإسلامي ثم جبهة الميثاق الإسلامي في 1965م، ثم الجبهة الإسلامية في 1985م ثم المؤتمر الوطني في 1996م، ثم المؤتمر الوطني والشعبي والحركة الإسلامية في 2000م لكنها ظلت كلها مسميات لجماعة الأخوان بالسودان التي تحاول بشتى الطرق تجميع الآخرين تحت رايتها بطرح شعار الدستور الإسلامي والشريعة الإسلامية تارة وتوحيد أهل القبلة لمغازلة الطرق الصوفية والجماعات السلفية تارة أخرى. كما أن الإسلاميين استغلوا تعدد مرشحي الحزب الاتحادي الديمقراطي بالدوائر.
    ويؤكد ضو البيت أن جماعة الأخوان اجتهدوا لسرقة ثورة اكتوبر بأن نفثوا في روع الآخرين أن ندوة الترابي مثلت الشرارة وتغافلوا عمداً عن الحالة الثورية التي انتظمت البلاد قبل تفجر أكتوبر ولم يكونوا جزءاً من التحضير لها بطبيعة الحال لأنهم كانوا بلا وجود فاعل في الساحة السياسية أو على مستوى النقابات التي كانت عاملاً قوياً لنجاح الثورة ، وهذا ما ردده من قبل ميرغني النصري الذي نفى أن يكون للترابي دور مباشر في اندلاع شرارة الثورة، وقال: إن الترابي عقب الصلاة على جثمان القرشي أراد تهدئة ثائرة الطلاب فخاطبهم قائلاً : أيها الطلاب انصرفوا إلى بيوتكم ونحن أساتذتكم سننتقم لكم. ويذكر النصري أن أحد الاتحاديين كان يقف في "تندة" عربة "لوري" هتف قائلاً : إلى القصر حتى النصر .. فكانت تلك شرارة الثورة.

    في الحلقة القادمة.. خطيئة (ايار) واعصار (تموز)!!



    التيار



                  

02-22-2015, 01:55 PM

عمر صديق
<aعمر صديق
تاريخ التسجيل: 06-06-2008
مجموع المشاركات: 14776

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اليسار في السودان.. إلى أين؟ (Re: عمر صديق)

    اواصل في متابعة التحقيق الذي ينشر في حلقات علي صفحات صحيفة التيار
                  

03-08-2015, 10:40 AM

عمر صديق
<aعمر صديق
تاريخ التسجيل: 06-06-2008
مجموع المشاركات: 14776

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: اليسار في السودان.. إلى أين؟ (Re: عمر صديق)

    Quote: الحلقة الرابعة.. مايو.. إنك لن تستطيع معي صبرا !! خطيئة (ايار) وإعصار(تموز)

    تحقيق: خالد فتحي: علاءالدين محمود
    مايو اتولد
    فجر الجمعة (25) مايو 1969م انتبه رجل من غفوته على دبيب حركة غير عادية في طرقات أمدرمان.. لم يفعل الرجل سوى أن دعا قائلاً: يا الله انقلاب!!
    لكن لا أحد استفسر عن مشاعر الرجل عندما أسفر الصبح، وجاءت الأنباء أن الجيش تسلم السلطة بقيادة العقيد جعفر نميري، الذي ترقى سريعاً إلى رتبة اللواء للمزيد من إحكام السيطرة على الأمور. وبدأ انقلاب نميري ورفاقه أبيضاً لكنه لم يلبث إلا قليلاً حتى أصدر راياته البيض حمراً قد روينا بالدماء. وأخذ"سيف الفداء المسلول" يشق أعدائه عرضاً وطولاً.. وتباعاً حصد أرواح باقة من رجال الصف الأول في السياسة السودانية بعضهم بحوادث غامضة مثل إسماعيل الأزهري وبأعواد المشنقة مثل عبدالخالق محجوب وبزخات الرصاص مثل الإمام الهادي المهدي أو بداء الغربة كالشريف حسين الهندي.
    اشتراكية طوبة طوبة
    وبالرغم أن انقلاب مايو أو "نميري" جاء تعبيراً صارخاً لتحالف اليسار العربي أو القوميين العرب"البعث والناصريين" والشيوعيين لكنه لم يحز رضا قيادة الحزب الشيوعي السوداني خاصة زعيمه وروحه الملهمة عبدالخالق محجوب. ففي نفس اليوم الذي وقع فيه الانقلاب، أصدر الحزب تقويماً له جاء فيه: "أكد تكتيك الحزب الشيوعي أنه لا بديل للعمل الجماهيري ونشاط الجماهير واستنهاضها لاستكمال الثورة الوطنية، وليس هذا موضوعاً سطحياً عابراً فهو يعني أن الحزب الشيوعي يرفض العمل الانقلابي بديلاً للنضال الجماهيري الصابر والدءوب واليومي".
    ومن المنشور السابق نستشف أن الحزب رافض تماماً لفكرة "لوري الطوب" الذي جلبه رجال المؤسسة العسكرية إلى دار الحزب ليعاونوه على البناء الاشتراكي سريعاً بدلاً عن سياسة الخطوة خطوة التي ينتهجها الحزب بتأنٍ وروية.. وتناقلت الأوساط وقتها حكاية مجادلة أقرب إلى الطرفة الشعبية: بأن نميري سأل عبدالخالق عن سبب رفضه تأييد مايو؟ فقال له عبدالخالق: لأننا نريد بناء الاشتراكية "طوبة طوبة".. فرد عليه نميري سريعاً: لكنني جئت إليكم بلوري طوب لتسرعوا في البناء.
    هناك حوادث أخرى تشير إلى أن نميري لم يكن ليهدأ قبل أن يسيطر على مجريات الأمور لكن ثمَّ واحدة منها جديرة بالتأمل. فقد سأل القيادي الشيوعي الراحل، عبد الكريم ميرغني الذي كان يشغل وزارة التخطيط في 1970م لماذا لم ينصِّبوه زعيماً للحزب الشيوعي السوداني أسوة بقائد الثورة الكوبية فيدل كاسترو؟ فرد عليه ميرغني بشيء من الجفاء : لكن أنت مازي فيديل كاسترو.. فأسرَّها نميري في نفسه لكنه عمل بدأب لتعميق الإنقسام الذي تسيَّد داخل الحزب الشيوعي السوداني بين تيار عبدالخالق محجوب وتيار "اليائسين والمغامرين" بقيادة أحمد سليمان ومعاوية سورج وفاروق أبوعيسى.
    استحكام الأزمة
    "بعد نجاح الانقلاب أعلن القادة الجدد حل بقية الأحزاب في السودان، وعيَّن وزراء من أعضاء الحزب الشيوعي في الحكومة الجديدة التي تألفت من(21) وزيراً بينهم فاروق أبو عيسى وزير شؤون الرئاسة وجوزيف قرنق وزير التموين ومحجوب عثمان وزير الإرشاد القومي، وقد أثار تعيينهم ضجة مما اضطر رئيس الوزراء بابكر عوض الله أن يصرح بأن الحكومة لم تختر هؤلاء لانتمائهم إلى الحزب الشيوعي لأن الحكومة السابقة حلته والأشخاص الذين عينوا تم اختيارهم بسبب كفاءاتهم وطاقاتهم، بل لقد أصدر جعفر نميري نفسه إعلاناً بهذا المضمون عد فيه الوزراء المذكورين أعضاءً”كانوا ينتسبون إلى أحزاب سابقة”، واختيارهم للحكومة تم بناءً على إخلاصهم ووطنيتهم وأمانتهم".
    لكن هذا الإصرار من نميري على تعيين هؤلاء الوزراء لم يكن بسبب تلك الأهداف البريئة وحدها، فقد كان يهدف لتعميق الانقسام على طريقة(فرق تسد).
    وبالفعل انقسم الحزب الشيوعي بعد هذه التعيينات التي تمت رغماً عن زعيم الحزب عبد الخالق محجوب، ولم تؤيد أغلبية اللجنة المركزية موقف عبدالخالق ".
    وتزعَّم الوزراء اتجاهاً مناوئاً له بعدما جمد عضويتهم لأنهم قبلوا الوزارة بغير موافقة الحزب، وقاد حملة عنيفة ضدهم ووصفهم بعدم الانضباط وتفضيل السلطة على النضال، وردوا عليه بأنه رفض التعاون مع السلطة وأن نميري أخَّر إعلان الحكومة 12ساعة على أمل إقناع عبدالخالق محجوب باختيار الوزراء بنفسه ولكنه رفض ذلك.
    في حكاياتنا مايو
    والمتتبع لمجريات الأحداث في تلك السنوات المفعمة بالإثارة يجد أن انقلاب مايو وضع الحزب الشيوعي في موقف لا يحسد عليه كما فصَّل المؤرخ محمد سعيد القدال في سفره القيم :(معالم في تأريخ الحزب الشيوعي السوداني) والصحفي اللبناني ذائع الصيت فؤاد مطر في كتابه ( الحزب الشيوعي السوداني: نحروه أم انتحر؟) الذي يحتوي على وثائق انقسام 1970م.
    ولم يتوقف نميري ونظامه عند تعيين الوزراء فحسب، بل بدأ يغذي شرايينه بانتهازية واعية بتراث الحزب الذي تراكم بفعل نضالات السنين الطوال فتبنى بيان التاسع من يونيو 1969م وثيقة أساسية لحل مشكلة الجنوب بطريقة مثلى المُتمثلة في الحُكم الذاتي حلاً لمُشكلة السودان في الجنوب وزاد تنسم القيادي الشيوعي جوزيف قرنق الذي تحوَّل من وزارة التموين لوزارة شؤون الجنوب، الشعور بأن حكومة نميري جادة للغاية في البحث عن حل جذري للأزمة التي أقعدت السودان طويلاً.
    وطالب البيان بشروط لتنفيذه: (1) توفير وضمان الديمقراطية الكاملة للجماهير في الجنوب (2) وضع برنامج للتنمية حسب واقع الجنوب وقدرات البلاد (3) المساعدة في بناء حركة للقوى التقدمية في الجنوب. وأخيراً إعلان العفو العام.
    كما استفاد من الرصيد الجماهيري الذي جذبته الشعارات اليسارية المرفوعة في 2 يونيو 1969م. نظم اتحاد عام نقابات عمال السودان الوثيق الصلة بالحزب الشيوعي و أحد أبرز واجهات ثورة أكتوبر 1964م موكباً جماهيراً ضخماً لتأييد مايو . وفيما بعد سيقارن الشيوعيين بين هذا الموكب والذي خرج تأييداً لانقلاب هاشم العطا في 22يوليو 1971م كما يقول الدكتور صدقي كبلو في كتابه " ذكريات معتقل سياسي في سجون نميري": كان الموكب كبيراً ولكنه لم يكن بحجم موكب 2 يونيو الذي نظمه اتحاد النقابات لتأييد 25 مايو، ولكن خطاب هاشم العطا كان خطاباً جديداً لقائد انقلاب عسكري".
    ولم يكتف نميري بالجماهير والشعارات والجوانب النظرية، بل تحوَّل حتى لضروب الفن والإبداع.
    ولم يمض وقت وجيز حتى أهدى الموسيقار محمد وردي وشاعر الشعب محجوب شريف و- الاثنان عضوان بالحزب الشيوعي السوداني- الانقلاب الوليد نشيد (في حكاياتنا مايو) ومن مقاطعه التي لا تنسى:
    أنت يا مايو
    بطاقتنا التي ضاعت سنينا
    أنت يا مايو
    ستبقى بين أيدينا وفينا
    لم تكن حلماً
    ولكن كنت للشعب انتظاراً
    وسرعان ما اتبعوه بـ (يا حارسنا وفارسنا)..
    ويبدو أن النشيدين كانا عرضاً لـ(أمراض الطفولة اليسارية) على حد تعبير لينين الشهير. ومن المهم جداً الإشارة إلى أن وردي وشاعر الشعب أصبح فنهما من لدن تلك الواقعة (قوساً بيد الشعب). وفي محاولة للظهور بمظهر المثقف الثوري استرضاءً للشيوعيين، عكف نميري على الاستماع إلى أحاديث لعبد الخالق مسجلة على أشرطة "كاسيت " ليزيد من وعيه في كيفية فهم القضايا وتحليلها.
    التأييد الخارجي
    ولعل الأهم أن نميري ونظامه استفاد أيما فائدة عبر تبنيه توجهات يسارية من التأييد السياسي والدبلوماسي والعسكري من الاتحاد السوفيتي والكتلة المشايعة له، كما استفاد من تأييد اليسار العربي المتمثل في الثقل الأسطوري لجمال عبدالناصر الذي رأى في انقلابيّ مايو بالسودان وسبتمبر 1969م في ليبيا بعثاً جديداً للأمة العربية التي ظن أعدائها أنها انكسرت وانحسرت أحلامها بعد نكسة يونيو 1967م.
    وفي الاحتفال الأول بذكرى انقلابه وصل عبدالناصر إلى الخرطوم لمشاركة قادة الحكم الجديد احتفالهم وانتهز جعفر نميري الفرصة ليظهر لعبدالناصر مدى ثوريته بإعلان قرارات التأميم والمصادرة بما فيها (6) فروع لبنك مصر الذي (أطلق عليه بعد التأميم بنك الشعب التعاوني. لكن فعلة نميري لم تربك عبدالناصر، بل زاد تصفيقه قوة من موقعه في منصة ملعب إستاد الخرطوم الذي احتضن الاحتفال الضخم عندما شمل قرار التأميم بنك مصر.
    ويعترف الدكتور منصور خالد "أحد سدنة معبد مايو " كما يصف نفسه في كتابه (السودان والنفق المظلم) بتأثير المشنقين على عبدالخالق وحزبه على تفكير نميري إذ يقول: (لقد وجد النميري سنداً قوياً في معركته مع الشيوعيين من داخل الحزب الشيوعي نفسه، خاصة من جانب المجموعة المنشقة بقيادة أحمد سليمان وزير التجارة الخارجية، ومعاوية إبراهيم وزير الدولة للشؤون الخارجية ووزير العمل، وحاولت تلك المجموعة إحراز نصر على الحزب الشيوعي بقيادة عبدالخالق بالضغط من أجل التأميم الشامل والمصادرات والذي قام بإعداد تفصيلاتها أحمد سليمان بمعاونة المستشار الاقتصادي لمجلس قيادة الثورة أحمد محمد سعيد الأسد).
    لكن أحداً من أولئك الذين خططوا لذلك "القرار الصدمة" كما كان يسمي نميري قراراته الكبرى التي يفاجئ حتى الدائرة الضيقة حوله.. لم يسأل حتى نفسه هل واقع المجتمع السوداني، على الصعيد الطبقي، هو نفسه الواقع الرأسمالي الذي بنى عليه ماركس نظريته؟-هل المجتمع السوداني هو مجتمع رأسمالي؟ وهل وصلت البرجوازية هنا إلى مستوى السيطرة على وسائل الإنتاج الصناعي؟
    وقبل أن تفيق السلطة من سكرتها وجه عبدالخالق انتقادات شديدة لتلك القرارات وطالب في مقالة بجريدة (أخبار الأسبوع) بعد عودته من المنفى بضرورة التمييز بين التأميم والمصادرة، فالتأميم في البلدان المتخلفة يستهدف أمرين، الأول وضع يد الدولة على أنشطة بعينها بهدف توفير فائض اقتصادي يسهم في تحقيق خطة التنمية، والثاني وضع يد الدولة على مراكز استراتيجية في الاقتصاد الوطني لتحريره من القبضة الأجنبية، ويشمل هذا بالنسبة للسودان المصارف والتجارة الخارجية وشركات التأمين، أما المصادرة في هذه المرحلة الوسطية من الثورة الوطنية الديمقراطية، يعتبر عقوبة اقتصادية على الرأسماليين الذين يخرجون على قوانين الدولة الاقتصادية يضعفون بذلك التخطيط المركزي، وبما أن هذا الإجراء خطير في وقت مازالت فيه العناصر الرأسمالية مدعوة للإسهام في ميدان التنمية، فيجب أن تحاط المصادرة بإجراءات قانونية، كما أن التمويل الذي يقوم به الرأسماليون المنتشرون في كل بقاع البلاد ومواصلته أمر حيوي، لا بالنسبة لاقتصاد البلاد فحسب، بل بالنسبة لأمن السلطة ومستقبلها.
    وزاد من الأزمة أن القرارات جاءت بنتائج عكسية وطرحت ثماراً مرة كما تؤكد برقية من ثيودور اليوت، بالمكتب التنفيذي، لوزارة الخارجية الأمريكية، إلى هنري كيسنغر، مستشار الرئيس للأمن الوطني: "لاحظنا أن نميري شعر أنه يحتاج إلى مساعدات اقتصادية منا ومن دول غربية أخرى. خاصة بعد تدهور الاقتصاد السوداني بعد أن أمم نميري شركات وبنوك رئيسة".
    لكن رجال السلطة كانوا لايزالون في غيهم سادرون كما نرى في رد عمر مصطفى المكي على مقالة عبدالخالق. وعمر هذا الذي دخل في مساجلات حامية ضد الشاعر صلاح أحمد إبراهيم الذي قال وقتها : إن عمراً تمكنت منه انتهازيته كما تمكنت منه شلوخه.. فانظر كيف قلبت السلطة وبريقها هؤلاء الرجال من النقيض إلى النقيض.
    عبدالخالق في المنفى
    ولعل وجود عبدالناصر الذي عاد إلى الخرطوم مرة أخرى للمشاركة في احتفالات الاستقلال في يناير 1970م دور كبير في احتواء الخلافات بين تيار عبدالخالق محجوب وبين العسكريين واظهارهم من الانقساميين، وفي أبريل 1970 أقلت الطائرة عبدالخالق محجوب والصادق المهدي إلى منفاهما بمصر وهناك التقى الرئيس جمال عبد الناصروقال له: أنا أربأ بمصر أن تكون منفى للوطنيين. ورد عليه عبدالناصر: إن مصر وطنه ويمكنه أن يبقى فيه ما شاء. فقال عبد الخالق إنه يرغب في العودة للسودان، وعاد بالفعل بعد أسابيع ولم يستطع نميري أن يفعل له شيئاً وفيما بعد اعتقله في سلاح الذخيرة بالشجرة جنوبي الخرطوم قبل أن يقوم الحزب بتهريبه سراً بعد أن تفشت شائعات عن تدبير السلطة لاغتياله بالسم.
    وبشأن موقف اللجنة المركزية فقد اجتمعت في اليوم التالي لنفي عبدالخالق، وقال أحمد سليمان ومحاسن عبد العال : إن نفي عبد الخالق تم لأسباب شخصية وليس له علاقة بالحزب، وهددا بعدم الالتزام بقرارات اللجنة إذا صدر منها بيان يهاجم السلطة، ونتيجة لذلك صدر بيان هزيل من اللجنة المركزية يناشد السلطة بمراجعة موقفها، فقامت منظمات الحزب في منطقة الخرطوم وأصدرت بياناً آخر، جاء فيه إن اعتقال عبد الخالق عمل موجه ضد الحزب، وأنه رد فعل لمذكرة اللجنة المركزية في 18/3/1970 لمجلس قيادة الثورة حول أحداث الجزيرة أبا، وأن اعتقال عبد الخالق يكشف التطور الجديد لأساليب الخيارات، كما يكشف عن غفلة الحزب تجاهها!! لكن السؤال هل كانت غفلة أم تغافل؟
    لقد كدت تركن إليهم
    والشاهد أن الصراع الأيديولوجي داخل الحزب الشيوعي كان حاداً وعميقاً. ورغم أن الحزب مازال حزباً واحداً من الناحية التنظيمية، إلا أن في داخله تيارات تتماوج وتصطرع كما يؤكد د. محمد سعيد القدال.
    لكن الانقساميون لم يكونوا وحدهم فقد كاد نفر من تيار عبدالخالق نفسه أن يركن إليهم قليلاً ولسان حالهم يقول له: ها أنت تطلب مجداً يطول وأنه ليس همك وحده لكنه هم جيل فجيل.. فخذ الآن ما تستطيع.. قليلاً من الحق في هذه السنوات القليلة. بل أوشك أحد رموز الحزب الكبار الذي رحل منذ سنوات قليلة أن يقبل بطرح السلطة لو لا أن تداركته برقية عبدالخالق العاجلة من مصر بكلمات مقتضبة وقاطعة : الفرق بيننا وبينهم أننا ماركسيون. ويقول الرواة الثقات إن الرجل اقتمع وجهه لكنه لم ينبس ببنت شفة!!؟
    إقصاء الضباط الثلاثة
    في 16 نوفمبر 1970م لم يستطع نميري وأنصاره صبراً فقرر إقصاء بابكر النور وفاروق حمد الله وهاشم العطا، وسماهم العناصر المعوِّقة واتهمهم بنقل مايدور في أروقة السلطة لعبدالخالق . ويؤكد الصحفي ذائع الصيت محمد علي صالح الذي نشر سلسلة مقالات بعنوان : وثائق أمريكية عن السودان".. في 26 نوفمبر 1970م السفير الأمريكي في الخرطوم الأتي:"حسب معلومات من مصادرنا الخاصة، هناك تساؤلات عما إذا كان نميري يريد حقيقة التخلص من الشيوعيين. قالت لنا هذه المصادر: إن نميري قبل قرار العزل اجتمع مع مائة من كبار ضباط القوات المسلحة. وتساءل بعضهم إذا كان نميري يريد التخلص من الشيوعيين لأسباب عقائدية، أو يريد حماية نفسه. لهذا، رأينا كالآتي:
    أولاً: صار واضحاً أن نميري يظل يلعب لعبة موازنة مع الجانبين الذين يعتمد عليهما: الشيوعيين، والعسكريين.
    ثانياً: ربما حقيقة يريد نميري ألا يعتمد على الشيوعيين. وأمس، قالت أخبار: إن نميري سيعلن مصادرة شركة حامد الأنصاري التي تشترك في تمويل الحزب الشيوعي.
    ثالثاً: هل يريد نميري التخلص من الشيوعيين؟ أو يريد تقسيمهم؟ وإذا كان يريد التقسيم، هل يقدر جناح أحمد سليمان على تقديم دعم كاف له؟ إذا نجح أحمد سليمان، نعتقد أن نميري سيقلل الاعتماد على القوات المسلحة. وإذا فشل أحمد سليمان، نعتقد أن نميري سيعزله وفاروق أبو عيسى وغيرهما، ويعتمد اعتماداً كاملاً على القوات المسلحة، وهي، طبعاً، تقليدية وليست يسارية أو حتى ليبرالية".
    لكن يبقى سؤال ماذا كان عبدالخالق فاعل لوقف هذا التدهور التنظيمي؟ وكيف السبيل إلى الاحتفاظ بزمام المبادرة الذي أوشك أن ينتقل بفعل ضرورات الوضع الجديد الذي أفرزته سلطة مايو؟ ولماذا اكتنف موقف الاتحاد السوفيتي كل هذا الغموض بالطريقة التي بدت كأنها أشارات متقطعة إلى من يهمهم الأمر بأنهم لايمانعون في إزاحة عبدالخالق حتى لا يكون عقبة في طريق الثورة التقدمية.. وهل عليه أن يفعل كما فعل حسن الترابي الذي صبر حتى أعياه صبره من سيطرة العسكر فطفق يقدم نفسه نائباً للرئيس فيما يشبه التسليم بسلطتهم ؟ وهل تجاهل عبد الخالق نصيحة لينين بأن المغامرة الثورية إذا وقعت يجب أن يجتهد الثوار لتبلغ مداها. تساؤلات شتى سنأتي على تفاصيلها في الحلقات القادمة.
    الحلقة القادمة .. مصادر النيران ضد عبدالخالق محجوب
    التيار
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de