الأستاذ محمود محمد طه: أنموذج المثقف الحر (مقالات للنور حمد)

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 05-08-2024, 07:47 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف للعام 2015م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-22-2015, 05:47 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الأستاذ محمود محمد طه: أنموذج المثقف الحر (مقالات للنور حمد)

    (1)
    تمر بنا، هذه الأيام الذكرى الثلاثون لحادثة اغتيال الأستاذ محمود محمد طه، بحكم قضائي معد مسبقًا، لم تتوفر فيه أدنى شروط التقاضي والعدالة. بذلك الاغتيال وصل العنف بالمخالفين فكريًا وسياسيًا، في حياتنا السياسية السودانية مداه الأقصى. وبطبيعة الحال، لم يكن ذلك هو الاغتيال الأول، فقد قتل السياسي الجنوبي وليم دينق في حادث غامض في الجنوب. وقتل كثيرون، من قبله ومن بعده، من عسكريين، ومدنيين، عقب محاكم إيجازية سريعة، لم تتوفر فيها أدنى شروط العدالة، ما يجعلها تدخل باب الاغتيال من أوسع أبوابه. غير أن الاعتداء والظلم الذي وقع على الأستاذ محمود محمد طه كان شاذًا، وغريبًا، واستثنائيًا. حوكم الرجل لأنه أصدر منشورًا ينتقد فيه ما سمي زورًا وبهتانًا "تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية". يضاف إلى ذلك، أن الأستاذ محمود كان داعية عتيدًا، من دعاة اللاعنف، كالمهاتما غاندي، ومارتن لوثر كينغ. فلم يكن في نهجه، ولم يكن في مجموعتنا نحن الجمهوريين، الملتفين حوله، ما يعدد النظام القائم. كل ما في الأمر أن صفة السلمية واللاعنف، جعلته الهدف الأقل كلفة. ولذلك تقصده نظامٌ فاقدٌ للمروءة، بعد أن انهارت كل مقومات بقائه، وأخذ في الترنح. كان هدف جعفر نميري، وقضاته "العاطبون"، كما وصفهم الدكتور منصور خالد، إلى ارتكاب تلك الفعلة الشنيعة، هو ظنهم أن تلك الفعلة ستمنحهم تأييدًا شعبيًا داخليًا، ورضىً من الدوائر السلفية الإقليمية، في حين ترسل، في ذات الوقت، رسالةً قوية في إرهاب المعارضين.فإذا بها تصبح السبب في انهيار نظامهم، بعد حوالي الشهرين والنصف.
    أود أن تكون مساهمتي في إحياء ذكرى الأستاذ محمود محمد طه، هذه المرة، منصبة في نموذج المثقف الحر، الخارج عن قبضة السلطة وملحقاتها، الذي قدمه، في طرحه النظري، وعاشه، وجسده، في كل جزئيات حياته التي عاشها،باتساقٍ نادر الشبيه. ولربما لا يعلم كثيرون، أن الوقفة الباسلة، التي وقفها الأستاذ محمود محمد طه، على منصة الإعدام، في 18 كانون الثاني/يناير من عام 1985،لم تكن سوى الحلقة الأخيرة، في سلسلة طويلة من التشمير المستمر، والمواجهات، امتدت على مدى أربعين عامًا. فهي امتدادٌ طبيعيٌّ، لنسق واحد، ظل الرجل يلتزمه،طيلة حياته الغريبة، عن مألوف حيوات الناس.وبما أنني تتلمذت عليه، وعايشته، معايشةً لصيقةً، لثلاث عشر سنة متصلة، أقول، وبكل ثقة، إنني لم أر في حياتي، مثيلاً له البتة، لا في الجد والعزيمة، ولا في التصميم والهمة التي لا تعرف الفتور، ولا في الاتساق بين الفكر والقول والعمل، ولا في الثبات على المبدأ، ولا في الطمأنينة، والرضا، والتسليم للإرادة الإلهية. لقد كان، كما في المصطلح الصوفي، متحققًا، في الدم واللحم، بـ "لا إله إلا الله". كان مجسدًا لوحدة البنية البشرية، بصورة تستوقف الفكر في حضرتها،وترتهنه، وتملأ القلب حتى يفيض.
    محاولتي في هذه المقالات المتسلسلةـ،أن أدعو من عرفوه، ومن لم يعرفوه، لتدارس تراثه الفكري الثر، وأنموذج حياته الاستثنائي، ومزاوجة فكره بفكر الآخرين، الذين تطابق رؤاهم جانبًا من رؤاه، وايضاح العناصر المستقبلية في رؤيته الرائدة. فحالة الواقع الإسلامي، والواقع العربي، بل والواقع الكوكبي الراهنة، أخذت، جميعها، تلهج بلسان الحال، قبل لسان المقال، بالحاجة إلى الاسترشاد بفكره الناصع، ونموذجه الحياتي الساطع. فقد قدم الرجل نموذجًا للمثقف غير مألوف. ويبدو أن التراجعات التي حدثت في مفهوم المثقف وواجبه ودوره، وتضعضع النموذج الملهم، الذي ينبغي أن يكون عليه المثقفون، عبر عقود العشرين، وبداية القرن الحادي والعشرين، كلها تدعونا، وبإلحاح، لتأمل تجربته الفريدة.
    ارتباك مفهوم المثقف:
    يمكن القول، بصورة مجملة، أن القرن العشرين شهد ارتباكًا كبيرًا في مفهوم المثقف، بعد أن شهد القرن التاسع عشر بروز المفهوم وتبلوره في صيغته الحداثية. وقد كان التبلور الذي جرى في القرن التاسع عشر امتدادًا لإرث الثورة الفرنسية. غير أن المفهوم والممارسة اجتاحتهما، عبر عقود القرن العشرين، عواصف هوجاء. فقد كان القرن العشرين قرنًا حيًّا، ملتهبًا، ومليئا بالتحولات الكبيرة. فلقد شهد مبتدؤه اندلاع الثورة البلشفية في روسيا، وشهد منتصفه سقوط أوروبا في قبضة النازية والفاشية. ومع هزيمة النازية والفاشية، ارتفعت كبر المعسكر الشيوعي، وارتفعت مكانته ي السياسة الدولية، وبدأت حقبة الحرب الباردة. أعقب ذلك، اشتعال حركات التحرر الوطني في كل أرجاء العالم، وانتشار حروب الوكالة، التي تغذي نيرانها، في كل قارات العالم، الكتلتان الكبيرتان. ولكن، قبل منتهاه انهارت التجربة الشيوعية، وبسرعة لم يتوقعها أحد. انهارت الثنائية القطبية إلا قليلا، وأصبح العالم تحت هيمنة قطبٍ واحد، إلا قليلا أيضًا. هذه التحولات الدراماتيكية المتتالية أثرت على مفهوم الثورة، وعلى مفهوم المثقف، ودوره. ووصلت الأمور في بدايات القرن الحادي والعشرين، في ما يتعلق بتعريف المثقف ودوره، إلى درجة الالتباس والانبهام.
    يمكن القول، إن المثقفين الفاعلين، المنشغلين بقضايا التغيير، نوعان: فهناك مثقفون اصلاحيون يعملون من داخل بنية الأنظمة، لتحويلها نحو الأهداف المنشودة التي تخدم الكثرة، والصالح العام، وهناك المثقفون الراديكاليون الذين يرون أن الإصلاح غير ممكنٍ، إلا عن طريق اقتلاع الأنظمة المعتلة بنيويًا، والفاسدة، من جذورها. بانهيار الشيوعية وما ثار من شكوك حول نهاية حقبة الأيديولوجيا، فقد النهج الراديكالي طاقة دفعه، وازداد دفق النهج الإصلاحي. وبانفتاح الباب أكثر في وجهة النهج الإصلاحي، الذي كان مسيطرًا على جملة الكتلة الغربية، تداخل الإصلاح، مع الإبقاء على ما هو قائم. وهكذا غامت الرؤية حول الخط الفاصل بين مثقفي الإصلاح الأصلاء، وبين المثقفين الانتهازيين.
    دخل مفهوم المثقف، ودوره في إشكالية كبيرة،على مستوى التنظير، منذ ثورة الشباب في فرنسا في أيار/مايو 1968.فاجأت تلك الثورة الشبابية مجاميع المثقفين اليساريين، وعلى رأسهم، جان بول سارتر، فيلسوف الوجودية المعروف. أدت تلك الثورة إلى تنامي الارتياب في دور المثقف، وبدأ المثقفون يحسون أن المثقف ودوره، في طريقهما إلى الاختفاء. ومن هناك تولد الحديث عن "موت المثقف". قال سارتر، لحظتها، إن التفكير نيابة عن الآخرين، سخفٌ يُبطل فكرة المثقف ذاتها. وبعد ذلك بسنوات، ردّد ميشيل فوكو ما قاله سارتر، وقعّد له نظريًا بفصاحته، وقدراته المعروفة على "الفلفلة"، والتفكيك. ورويدًا رويدًا، أخذ النظر إلى دور المثقف يتقلص من الأراضي الشاسعة التي احتلها في السابق، بوصفه "رسول تغيير"، لينحصر أكثر، فأكثر، في دور المتخصص الخبير، والمستشار.
    أشار إلى تراجع مهمة المثقف، ومسؤوليته، وتبدلها، إدوارد سعيد،حين قال، إن فكرة "المثقف المحترف" الذي يُكافأ على خدماته، أدت إلى انجذابٍ مدهشٍ نحو مراكز القوى في الولايات المتحدة وأوروبا. فدور المثقف أخذ ينحصر في خانة الخبير الذي يؤدي دورًا في السياسة، أو في رسم السياسات، أوفي تشكيل الرأي العام، ويجري كل ذلك في إطار النظام القائم. فالمثقف تحول، أكثر، فأكثر، إلى موظفٌ ذو خبرة ومعرفة، يقدم خبرته ومعرفته، من موقعه في مراكز الأبحاث، أو الجامعات، أو منافذ الإعلام، عند الطلب، لمن يطلب، نظير وضع مميز في إطار ما هو قائم. ولقد ازداد الطلب على المثقفين بهذه الصفة، لأن تفاهمًا ضمنيًا، غير منطوق، وغير مكتوب، تشكل بين الجهتين؛ المثقف، من جهة، وطالبي خدماته كالشركات عابرة القارات، والحكومات، ووسائط الإعلام المرتبطة بالحكومات وبالشركات عابرة القارات، من الجهة الأخرى. ويرى إدوارد سعيد، أن دور المثقف هو:"أن يرتقي بالوعي، وأن يصبح أكثر إدراكًا للتوترات والتعقيدات، وأن يتحمل مسؤولية مجتمعه"، مضيفًا،أن دور المثقف بهذا المعنى لا علاقة له بالتخصص، لأنه متصلٌ بقضايا تتخطى حدود المجالات المهنية المحترفة.
    هذا الارتباك الذي اعترى دور المثقف، نتيجة للاعتقاد بموت الإيديولوجيا، انسحب على العالم النامي انسحابًا غير مبرر، فأضر بالتطلعات، وبترقب التغيير الذي يمس صورة المستقبل في العالم النامي. لقد كان سحبًا اعتباطيًا، لإشكالات سياق في طريقه إلى التداعي، وهو السياق الغربي، إلى سياق يتململ ليصعد، وهو سياق العالم النامي. وسأعود إلى هذه الجزئية، التي أرى أنها تحتاج ايضاحًا أكثر، في جزءٍ لاحق من هذه السلسلة. فلو نحن نظرنا إلى العالم العربي الإسلامي، لوجدنا أن الدين لا يزال فاعلا ومسيطرًا. ولا سبيل البتة، للمقارنة بين وضعية الدين في العالم الغربي، وقد أصبح أبعد ما يكون من كونه مرجعية للقيم، وكونه طاقة مؤثرة على المجال العام، وبين وضعيته في الفضاء العربي والإسلامي.
    ظن المثقفون الذي اشتروا مرجعية المركزية الأوروبية، من العلمانيين، خاصة اليساريين، إن طريق تطورنا، هو نفسه طريق تطور الغرب، وأن تأثير الدين سيموت موتًا طبيعيًا، كما جرى في أوروبا. وما من شك، أن المفاهيم الإسلامية الموروثة لم تعد تصلح لمواجهة تحديات التحديث والنهوض. غير أن أغلبية، المثقفين العرب والمسلمين، خاصة من اجتذبهم نموذج الدول الغربية الرأسمالية، ومن اجتذبهم الفكر الماركسي وتفرعاته لدى البعثيين والقوميين العرب، أداروا ظهورهم للدين، كلية، وبقوا واقفين على السياج، منتظرين موته الطبيعي.
    كان الأستاذ محمود من أول من تنبهوا إلى ضرورة اكتساب الحداثة عن طريق الإصلاح الديني، من داخل بنية الفكرة الإسلامية نفسها، وليس عن طريق استجلاب نموذج من الخارج. صدع الأستاذ محمود، منذ منتصف القرن الماضي بالقول، إن الرأسمالية والشيوعية هما طرفان لشي واحد، فهما تتشاركان مرجعية واحدة، هي الفكرة المادية عن الوجود. بانهيار الشيوعية، وتبني دول المنظومة الشيوعية،الأوراسية والآسيوية، السابقة، نهج اقتصاد السوق، ذابت الشيوعية طواعيةً في بنية الرأسمالية. فالشيوعية التي بدت، طيلة فترة الحرب الباردة، لغير المدققين، نقيضًا للرأسمالية، انتهت، من الناحية العملية، وهذا مهم جدًا، إلى تذويب نفسها في الطرف الآخر، الذي صمد للتحدي في حقبة الحرب الباردة، وكسب الجولة، وهو الرأسمالية. فنقيض الإثنين خارجهما، وهو ما شغل فكر الأستاذ محمود، وشكل نموذج عيشه. فالرؤية الثاقبة،وتقديم نموذج للمثقف الروحاني، الحق، هو الذي جعل الأستاذ محمود مفكرًا نسيج وحده، ومثقفًا، نسيج وحده وسط المفكرين، والمثقفين، العرب والمسلمين.
    (يتواصل).
    mailto:[email protected]@gmail.com
    .
                  

01-22-2015, 11:46 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ محمود محمد طه: أنموذج المثقف الحر (مقالات للنور حمد) (Re: عبدالله عثمان)

    محمود محمد طه: أنموذج المثقف الحر(2)

    اختط الأستاذ محمود محمد طه لنفسه نهج المثقف الحر منذ البداية. فلقد كان، طيلة مسيرته السياسية والفكرية، مستقلاً استقلالاً تامًا عن سلطة العقل الجمعي؛ أعني بسلطة العقل الجمعي، معتقدات وعادات المجتمع المتوارثة، ذات الحمول السالبة، المعوقة لحرية العقل، وللنهوض وللتفتح، ولجهود نيل الحرية، والتطلع نحو الكمال. أي، أنني لا أعني، بنية العقل الجمعي من حيث هي. فلابد أن يتشارك المثقف قسطًا كبيرًا من بينة العقل الجمعي مع المجتمع الذي يعيش فيه، وإلا كان ذلك المثقف منبتًا تمامًا. هذا القسط الكبير من البنية الثقافية المشتركة، بين المثقف والجمهور، هو منصة الانطلاق التي يستكشف المثقف، استنادًا عليها، الآفاق الجديدة.

    حين جئت إلى الأستاذ محمود، وأنا في سن العشرين، جئته من جهة اليسار، والفكر الماركسي. كنت، مثل كثيرين غيري، ممن عاشوا مرحلة الاستلاب تلك، أظن أن المعرفة بالماركسية والوجودية، وتيارات الحياة الغربية المعاصرة، الفكرية، والأدبية، تعنى، بالضرورة، أن تدير ظهرك بالكلية للتراث الإسلامي. ولكنني حين قابلته في منزله، وجدت رجلًا يعرف، في هذه الأمور، أكثر مما أعرف، بكثير. ومع ذلك، بقي سودانيًّا، حتى مشاش العظم، مسكنًا، ومطعمًا، وملبسًا، وحركةً وسكونا. بل هو أقرب في مظهره، إلى عامة الناس، في كل شيء، منه إلى من يسمون بـ "المثقفين". لم تُبعد المعارف الغزيرة بالحضارة المعاصرة، وبتياراتها الفكرية، الأستاذ محمود، قط، عن هويته الحضارية، الصوفية الإسلامية، بل، كما هو واضحٌ، من كل شيءٍ متعلقٍ به، فكرًا، ومسلكًا، أنها أكدتها، ورسختها، وخلقت منها رؤية تكاملية، تأخذ خير ما في التراث البشري، وخير ما في جوهر الفكرة الإسلامية. ما لم ينتبه إليه، سوى قليلين، أن رؤية الأستاذ محمود، التي اتسمت بالمزاوجة الحضارية، وطول النظر، والبصيرة النافذة، حدثت في وقت مبكر جدًا. أي؛ حين كانت "المثقفية" العربية، منقسمةً بين اليسار العربي الماركسي والعروبي، الرافض للإسلام، جملةً وتفصيلاً، وبين تيار الإخوان المسلمين الرافض للحضارة الغربية، ويراها مجرد "جاهلية".

    النضال على جبهتي السلطة والجمهور
    لمقاربة إشكالية المثقف والجمهور، من منظورٍ تركيبي، يمكن القول، إن المثقف ليس بالضرورة هو الفرد المدرك، الواقف ضد السلطة، وحسب، وإنما هو أيضا الفرد المدرك، الواقف أحيانًا، ضد الجمهور، حين يقتضي الأمر. فهو، إذن، محاربٌ يدير حربه على جبهتين متقابلتين، من موقعٍ يمثل، في حقيقة الأمر، قلب أتون المعركة. فليس كل ما في معسكر الجمهور، أو المجتمع صحيحٌ دائمًا، وليس كل ما في معسكر السلطة خطأٌ، دائمًا. فالعلل تكون أحيانًا في الجمهور المحكوم، بأكثر مما تكون في السلطة الحاكمة، والعكس بالعكس. ويمثل هذا طرفًا مما من أجله قيل: "كيفما تكونوا يُولّى عليكم". ولذلك فإن المثقف ذو الحس النقدي الحقيقي، والرؤية المركبة، هو المثقف القادر على أن يخترق، جيئة وذهابًا، حوصلة التخندق في ثنائية السلطة والجمهور. هذه الحوصلة، غالبًا ما يسود فيها الاعتقاد، أن الحق مرتبطٌ، عضويًا، بحيث يقف الجمهور، بزعم أن الحق، وحيث يقف الجمهور، أمران متلازمان لا ينفصلان أبدًا. وهذا ما أشار إليه عزمي بشارة، حين قال، إن المثقف، الذي يقارع السلطة، يحتاج أحيانًا أن يقف ضد الثورة عليها. فالمثقف الذي لا يقول ما يُغضب، في بعض الأحيان، قطاعًا من جمهوره، مثقفٌ زائفٌ يتسقّط الرضاء العام. وهذا النوع من المثقفين يكرس الحالة الراهنة، ويعوق جهود التغيير.

    أدار الأستاذ محمود جهاده الفكري، ونضاله السياسي، على جبهتي السلطة والجمهور، بمكوناتها المختلفة، سواء بسواء. لم يسع الأستاذ محمود إلى السلطة إطلاقا، وإنما ظل مهتمًا باستنهاض الجمهور، وتغيير بنية وعيه. فحين كان أعضاء مؤتمر الخريجين يتبادلون المذكرات مع البريطانيين مطالبين بالجلاء، اختار هو تحريك الجمهور، وتحميسه للنضال على مستوى الشارع، من أجل نيل الاستقلال. وحين كانوا يرون أن أمامهم إما البقاء تحت التاج المصري، أو خلق تاج سوادني، تظله بريطانيا، نادى هو بالجمهورية، وسمى حزبه "الحزب الجمهوري".

    لم يرد الأستاذ محمود أن يكون الاستقلال انجازًا صفويًا، يتم بمعزل عن مشاركة الشعب في صناعته. وبالفعل جاء الاستقلال انجازًا صفويًا فوقيًا، هلل له الجمهور عاطفيًا، وغنى له، من غير معرفةٍ حقيقية ماذا يعني، وما هي تحدياته، وكيف يدار بناء الدولة المستقلة، على الصعيد الداخلي، والإقليمي، والدولي. ولا حاجة بي للحديث عن، إلى أين وصل بنا الاستقلال، الذي جاء بتلك الكيفية، بعد مضي تسعة وخمسون عامًا عليه. ودعونا نقارن بين استقلالنا واستقلال الهند، الذي سبق استقلالنا بتسع سنوات فقط.

    كان رصفاء الأستاذ محمود من الخريجين يحبذون الطرق القصيرة إلى كرسي الحكم. فابتلعوا نقدهم للطائفية وانضموا إلى ماكينتها السياسية، التي سرعان ما ثلمت الحد القاطع في مثقفيتهم، وحولتهم إلى أدوات تابعة. أيضًا، هناك زعمٌ سائد، يرى أن السلطة تغير الناس. أي: اِمسكْ بالسلطة أولا، ثم استخدمها أداةً في إحداث التغيير. وتعبر عن هذا النهج المقولة المنسوبة إلى عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، رضي الله عنهما: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن". وهي مقولة يسحبها البعض، من سياقها التاريخي، على الواقع الراهن، بينما تكاد أن تنعدم المقارنة بين السياقين. سيطر في الواقع السياسي السوداني، لحقبة ما بعد الاستقلال، نهج تسلم السلطة من أعلى، واستخدامها أداة في صياغة الناس، وفق قالب تعده قلة، أكثر ما سيطر، على عقل الدكتور حسن الترابي. عمل الترابي، بدأب يحسد عليه وفق هذا المنهج. عمل على اضعاف السلطة الديمقراطية القائمة، وهز أركانها، ثم وثب عليها بانقلاب عسكري. ودعونا نرى أين أوصله، وأوصلنا، هذا النهج المعوج.

    السياسي والرهان على الراكد
    من إشكالات العمل السياسي، استثمار السياسيين في العقائد السائدة، واحتضان الراكد، والإعلاء من شأنه، وتجنب نقده، لنيل الرضا، من أجل تحقيق المصالح السياسية الآنية. ولذلك، قليلاً جدًا ما يشتغل المثقفون الحقيقيون بالعمل السياسي. فالعمل السياسي، في صيغته السائدة في العالم اليوم، يتطلب كثيرًا جدًا، من محاباة الجمهور، وتملقه، ومجاراته، حتى في اعتقاداته الخاطئة. فالذين يشتغلون بالعمل السياسي عادةً، وينجحون فيه، هم من يعرفون كيف يحركون العواطف، ويجمدون العقول، ويحيدون صوت الحق. ومن أمثلة ذلك نجاح المؤتمر الوطني الحاكم في السودان في السيطرة على مقاليد الحكم لربع قرن. وعلى المعارضة السودانية أن تدرس هذه الظاهرة إن كانت الدراسات تهمها. فالهيمنة الثقافية،ـ التي تحدث عنها لينين، ودفع بها قدمًا أنطونيو غرامشي، أصبحت أدواتها اليوم متاحةً بصورة غير مسبوقة. وحين ترتبط الهيمنة الثقافية بالخطاب الديني، وتملق التعميمات الدينية الفجة السائدة، يُصبح الأمر أفدح، وبما لا يقاس.
    يفضل السياسيون، عمومًا، اتباع الأسلوب "الشعبوي" populist، في تملق العقائد السائدة، والعزف على النغمة التي يفضل الجمهور الرقص عليها. وهذا بطبيعة الحال تكريس للأحوال القائمة، وتجنب للصدام مع العلل، لا بل استثمار العلل، للإبقاء على الأوضاع حيث هي. والهدف من هذا النهج الذي يهادن علل الواقع، واحد: هو الكسب السياسي الآني. فالسياسيون، في غالب حالهم، قليلا ما يحتكمون إلى معرفتهم كمثقفين، أو إلى ما يعرفونه من مبادئ، وإنما يستعيضون عن ذلك بالتكتيكات التي تكسب الجولات في المعارك الانتخابية. بهذا النهج، يعمل السياسيون، بصورة غير مباشرة، على الإبقاء على الأوضاع القائمة، بدلا من تغييرها. فما دام الواقع القائم، مهما بلغ حاله من التخلف والتردي، والركود، هو الذي يأتي بهم إلى كراسي الحكم، فانهم لا يحرصون على تغييره.

    أيضًا يمكن القول، بصورة عامة، أن هذه الأوضاع التي كرستها الممارسة السياسية، بما تضمنته دائمًا، من طبيعة انتهازية، أبعدت المثقفين المبدئيين، دعاة التغيير والنهوض بوعي الشعوب وأحوالها، عن مراكز صنع القرار، بل وضيقت عليهم في أداء دورهم التعليمي والتنويري الذي لا غنى عنه في إدارة مجريات النهوض والتغيير الصحيح. فهؤلاء المبدئيون، لا يكسبون سياسيًا، لأنهم يمارسون العمل النقدي في الجهتين: جهة السلطة، وجهة الجمهور. ولقد سمعت الأستاذ محمود محمد طه يقول، ذات مرة، إن العلماء، لم يحكموا العالم بعد. فالذين ظلوا يحكمونه، منذ فجر التاريخ، وإلى اليوم، هم أواسط الناس. وإذا ما تأملنا من يحكمون الدول النامية، خاصة الدول العربية، والإفريقية، فإننا نجد من يحكمون، من حيث القدرات المعرفية والكفاءة، دون الوسط بكثير، بل إن بعضهم بلا معرفة، بل يمكن أن نقول، ونحن مطمئنون جدًا، إنهم بلا عقولٍ قابلة للتعلم المطلوب، أصلا. فلننظر فقط، إلى صدام حسين، ومعمر القذافي، وبشار الأسد، وعلي عبد الله صالح، وعمر البشير، وسلفا كير، والقائمة تطول. ولننظر إلى ما آلت إليه بلدانهم.

    بطبيعة الحال هناك مثقفون، ومدركون حقيقيون، تبوأوا مناصب حكم مرموقة، ولكنهم يظلون أغراب على سياق مؤسسة الحكم. كما أنهم، مع غربتهم على هذا سياق الحكم المعلول بحكم بنيته ذاتها، يصبحون، في غالب الحال، أسرى مرتهنين لآراء الاختصاصيين، والمستشارين، وصانعي الخطاب السياسي، الذين يعرفون كيف يخططون لكسب الرأي العام، ولكسب الانتخابات. فإحراز النصر في الانتخابات، بأي سبيل، أهم بكثير، لدى هذا النوع من السياسيين، من الالتزام بالمبدأ، أو جانب الحقيقة، أو الوقوف مع ما ينبغي أن تكون عليه الأمور في المستقبل. باختصار شديد، ما دامت ديناميات الواقع القائم، وسائر الأمور التي تكرس الحالة القائمة، هي التي تأتي بهم إلى الحكم، فإنه لا مصلحة لهم في تغييرها. وهكذا يتحول السياسي إلى طاقة للتعطيل، بدل أن يكون طاقة تلهم التغيير والنهوض بأحوال الناس.

    في المخطوطة، غير المنشورة، التي كتبها الأستاذ محمود محمد طه، وهو في المعتقل، قبل إعدامه بشهور، ورد قوله: "إن قصور تجربتنا الديمقراطية مرده الأساسي إلى قصور الوعي ـــ وعي الشعب، ووعي القلة التي تحكم الشعب ـــ مما أفرغ مدلول كلمة الديمقراطية من محتواها". ويضيف الأستاذ محمود، في ذات السياق، إن فشل الديمقراطية في البلدان المتخلفة، أدّى، في النصف الأخير من القرن العشرين، إلى الانقلابات العسكرية، في كل مكان، وليس في الانقلابات العسكرية حل. كما تحدث، في نفس المخطوطة، عن تضليل السياسيين للجمهور، بدلا من تنويره. فأورد نموذجا مما جرى في الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة الأمريكية، في ثمانينات القرن الماضي، وأحب أن أورد ما كتبه، بنصه: "لاحظ المعلقــون السياسيون أن مناظرات الرئيس ريغان، ومنافسه على الرئاسة، المستر مونديل، قد كانت تتجه نحو المواقف المسرحية، أكثر مما كانت تتجه نحو تنوير الشعب‏.‏‏ وقالوا إن هذه المناظرات ستربـك الشعب أكثر مما تنوره، وتوعيه‏‏. وقالوا إنه لمن الغريب أن يختلف المرشحان حول حقائق تاريخية كل هذا الاختلاف، حتى لكأنما قد حضر أحدهما من كوكب الزهرة، والآخر من كوكب المريخ‏. ولقد أوردت مجلة الحوادث 2 نوفمبر1984م أن بين السكرتير الصحافي لنائب الرئيس "بوستن" وبين فريق الإعلام الذي يقوم بتغطية حملة "بوستن" أزمة شديده، سببها موقـف هذا السكرتير من التصريحات المنافية للحقائق التي يطلقها المرشحون في مناظراتهم التلفزيونية‏‏‏. فقد استفسر الصحافيـون من السكرتير عن عــدة وقائـع منافيـة للحقيقـة سردها "بوستن" في مناظرته مع منافسته جيرالدين فيرارو‏. فكان رد السكرتير: وماذا يهم؟ يمكن الإدلاء بأي شيء في مناظرة تلفزيونية، ويستمع إليك 80 مليون مشاهـد‏. وإذا ثبت عدم صـدق ذلـك، فمـن سيقرأ التصحيح؟؟ ألفان، أو ربما عشرون ألفا، لا أكثر!! وعلقت صحيفة واشنطن بوست على ذلك بقولها: "لا نذكر في تاريخ الولايات المتحدة أن صدر مثل هذا الاحتقار، والاستهزاء بالشعب الأمريكي!!". (انتهى نص الأستاذ محمود).

    غرس الأستاذ محمود راية التنوير، وتفيأ ظلالها الوارفة، وراهن على المستقبل. قاوم السلطات، استعمارية ووطنية، بكل طاقته، ودفع حياته ثمنًا لذلك، وكان راضيًا تماما. غير أنه بذل في وجهة تنوير الجمهور، وتغيير بنية وعيه، جهده الأكبر. كان يعلم أن تلك مهمة شاقة وطويلة. لكنه كان يعلم أنه بذر البذرة الصحيحة في الحقل الصحيح؛ أي، بذرة التنبيه إلى ضرورة الإصلاح الديني، الذي يمثل الترياق الوحيد ضد سرطان الهوس الديني، الذي ما انفك ينتشر، منذ انهيار التجربة العروبية اليساروية. كما كان يراهن على أن الإصلاح الديني هو السبيل الوحيد لمحو معوقات النهوض ولعلل الثقافة السائدة. فالعلل التي هي في القوى الحاكمة يعود جزء كبير منها إلى العلل في بنية الثقافة السائدة، التي يعتنقها الجمهور.
    (يتواصل)
                  

02-01-2015, 06:32 AM

عبدالله عثمان
<aعبدالله عثمان
تاريخ التسجيل: 03-14-2004
مجموع المشاركات: 19192

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: الأستاذ محمود محمد طه: أنموذج المثقف الحر (مقالات للنور حمد) (Re: عبدالله عثمان)

    شهدت عقود الخمسينات، والستينات، والسبعينات، من القرن الماضي، هيمنة يساروية، ماركسية، عروبية، على مجريات السياسة، والفكر، والثقافة، في المنطقة االعربية. أدغم الشيوعيون، واليساريون والعروبيون العرب، على اختلاف بينهم في التنظير، حالة الأنظمة العربية الشمولية، التي أخذت تنتشر في تقليدٍ للنموذج الناصري، في مصر، تحت عباءة "مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية"، كما يسميها الشيوعيون. هذا، مع ملاحظة أن العلاقة بين الأحزاب الشيوعية العربية، وبين هذه الأنظمة الشمولية، كانت مضطربة. فأحيانًا يتم تقريب الأحزاب الشيوعية، وأحيانًا يجري ابعادها. كما تصل درجة الخصومة مع الشيوعيين، درجة سوقهم إلى منصات الإعدام. الشاهد، أن المرحلة كانت مضطربة. فالتنظير للثورة العربية، تحت هذه المظلة اليسارية العريضة، غير المنسجمة، أضافةً إلى نهج نقل التنظير من سياق سوسيوبولوتيكي، وسوسيوثقافي مختلف؛ أعني سياق المنظومة الشيوعية في شرق أوروبا، ومحاولة تطبيقه على الواقع العربي المختلف، والمتخلف، وغير المنسجم داخليًا، خلق هذه الحالة من الاضطراب، داخل البنية العريضة، لليسار العربي.

    مع كل هذه الملاحظات، يمكن القول، إن لوثة يساروية، ذات مرجعية ماركسية، تشتد هنا، وتخف هناك، قد انتظمت هذا الفضاء العربي، من المحيط إلى الخليج. ولم يقتصر الأمر على السياسة، وإنما انتظم الثقافة، أيضًا. فقد تبنت المؤسسة الإعلامية المصرية الناصرية، الأقوى في الوطن العربي، حينها، خطًا تثقيفيًا يساريًا واضحًا، وسم الإذاعة والتلفزيون، والصحف والمجلات، والدوريات المتخصصة، بل وما تنشره دور النشر الحكومية، كالدار القومية للطباعة والنشر والترجمة. انتشر الفكر اليساري والثقافة اليسارية، والأدب اليساري، في منافذ الإعلام المصرية ذات الانتشار الواسع في الفضاء العربي. كان الأفق الذي يلهم حراك التغيير، وسط المجاميع المثقفة، والمتعلمة، في غالبه الأعم، أفقًا سوفيتيًا. وإنني لممن يرون، أن هذه المرحلة العربية من الاستلاب الفكري والثقافي، ومن تغييب الهوية الإسلامية، لم تجد النقد الكافي بعد. هذا، على الرغم من أن آثارها الممتدة، لا تزال تمثل جزءًا كبيرًا من مسببات تفكك المشهد العربي الراهن، وارتباكه وفوضاه، التي لا تنفك دوائرها تنداح.

    اعتلى جزء معتبر من النخب العربية، المثقفة المؤثرة، والنخب المتعلمة ظهر هذه الموجة، إيمانًا ورغبة، وجاراها كثيرون آخرون رهبةً، خاصة في بلدان الأنظمة الملكية العربية المرتبطة بنيويًا بالكتلة الغربية. أيضًا، تم لف الأمر كله، حول القضية الفلسطينية، ما أسهم في زيادة الالتباس. أيضًا قوى جانب اليسار، دعم الاتحاد السوفيتي للحق الفلسطيني، وتقديمه السلاح والخبرة الفنية العسكرية، لمصر، رأس الرمح في الصراع. في موجة التغني بصداقة الاتحاد السوفيتي للعرب، تناسى المتغنون أن الاتحاد السوفيتي كان من أول الدول التي اعترفت بدولة إسرائيل، وأن روسيا هي أحد أكبر موارد إسرائيل من اليهود المهاجرين، إلى فلسطين. أيضًا تم لف كل شيء في الفضاء العربي، حول زعامة جمال عبد الناصر، الذي أصبح المتحدث الرسمي، باسم العرب، والفاعل الرئيس في النضال من أجل فلسطين. رسخ الإعلام المصري، زعامة جمال عبد الناصر المطلقة على العرب، في عقول وقلوب أكثرية الجمهور العربي من المحيط، إلى الخليج. هكذا اكتملت "اليوفوريا" الناصرية، وعلا في أوج سطوتها شعار: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". وهكذا، انحبست قوى العقل العربي في هذا القمقم ذي الجدران السميكة. وأصبح من ينتقدون الأوضاع، لا ينتقدونها إلا لواذًا، وحين يفعلون ذلك، تتم شيطنتهم بكل سبيل ممكن.

    في هذا الجو الكابت للرأي الآخر، علا صوتان بديا نشازًا، آنذاك؛ هما صوت الأستاذ محمود محمد طه، داعية التجديد والنهضة السوداني، الذي تقف وراءه مجموعة صغيرة، هي مجموعة الجمهوريين، والرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، مع اختلاف في الرؤيتين. أصدر الأستاذ محمود محمد طه كتابه "مشكلة الشرق الأوسط"، عقب هزيمة حزيران/يونيو 1967، وأنتقد القومية العربية، وقيادة جمال عبد الناصر للعرب، في وقت كان فيه عبد الناصر معبود الجماهير العربية، والمثقفين العرب. قال الأستاذ محمود، ضمن الكثير الذي قاله، إن عبد الناصر انحاز للكتلة الشيوعية، وأفقد العرب ميزة الحياد، وحمّل، مدفوعًا بجنون الزعامة، العرب من العداوات فوق ما يطيقون. كما أنه تسبب بتحدياته واندفاعاته غير المدروسة، وخطبه العاطفية النارية، في أسوأ هزيمة للجيوش العربية في التاريخ الحديث. كما دعا الأستاذ محمود، للصلح مع إسرائيل، والاعتراف بها، وقيام دولتين متجاورتين متسالمتين، مع ضمان عودة اللاجئين، وتعويض من لا يريد العودة. ويمكن الرجوع إلى كتابه "مشكلة الشرق الأوسط" لمعرفة المزيد من تفاصيل ما كتبه، من مقترحات تحفظ للعرب ماء وجوههم، وتجنبهم الصراع الطويل مع الغرب وإسرائيل، ما يبدد طاقاتهم، ويقود إلى تدهور الأحوال، ويضر بالقضية الفلسطينية. في تلك الفترة المحمومة بالعاطفة الملتهبة، إلى كتابه المذكور.
    برر الأستاذ محمود رؤيته، التي ضمنها كتابه "مشكلة الشرق الوسط، المشار إليه آنفًا، بأن الصراع بين العرب وإسرائيل، صراع حضاري، يحتاج فيه العرب إلى أن يشتروا هدنة، يبنوا خلالها أنفسهم، وينهضوا حضاريًا. وأكد أن الصراع ليس مع إسرائيل وإنما هو، لدى التحليل النهائي، مع الغرب الذي خلق إسرائيل ووقف وراءها. ولم يجد، اليساريون العرب، بما فيهم الحزب الشيوعي السوداني، أمام النقد الصريح، وتبيين الأخطاء الشنيعة لناصر، وسوء تقديره للأمور، وتعويله الساذج على الاتحاد السوفيتي، وعدم معرفة وزن قوته بإزاء أوزان القوى الكبرى، إضافة إلى دعوته للصلح مع إسرائيل والاعتراف بها، سوى أن يتهموا الأستاذ محمود محمد طه بالعمالة للصهيونية والإمبريالية العالمية!

    كان الأستاذ محمود محمد طه، المثقف العربي والمسلم، الوحيد الذي تجرأ، في تلك الحقبة الملتاثة بعبادة الفرد، ليقول، على الملأ إن، "البغلة في الإبريق". فعل ذلك، في وقتٍ لم يكن ليجرؤ فيه مثقف، أو غير مثقف، أن يجهر بمثل ذلك القول، شفاهًا أو كتابة. بعد أربع سنوات من هزيمة يونيو جزيران 1967، توفي جمال عبد الناصر فجأة، وآلت القيادة لأنور السادات الذي نقض غزل الناصرية أنكاثا، فاغتاله المتطرفون الإسلاميون أمام عدسات الكاميرات العالمية، وهو يحتفل بذكرى العبور الثامنة في 6 أكتوبر 1981. ومنذ تلك اللحظة، أخذت مصر والعالم العربي يدفعان حصاد هشيم الناصرية، حتى يومنا هذا.

    لقد كان الأستاذ محمود محمد طه يتقدم العقل العربي الإسلامي، فكريًا، وسياسيًا، في حقبة الستينات، بسنين ضوئية. وهناك ملاحظة جانبية أود أن أبديها هنا، وهي أن انفلات الحبيب بورقيبة من قبضة الناصرية، ومن العقل الجمعي العربي، الذي شكلته الناصرية، وتجرؤه عليه، إضافة إلى انفلاته من قبضة المؤسسات الدينية كالأزهر وغيره، هي الأسباب التي مكّنته من البناء الحديث للدولة التونسية، وللمجتمع التونسي. فقلد وضح الآن أن تلك البنية للدولة وللمجتمع، هي الأرسخ، مقارنةً ببقية الدول العربية، بما فيها مصر، التي كانت تمثل رأس الرمح، آنذاك. ولذلك، لا غرابة أن تكون تونس هي الدولة العربية الوحيدة، التي اتخذ فيها المسار، عقب ثورات الربيع العربي، طريقًا صاعدًا. وما تصويت التونسيين في الانتخابات التونسية الأخيرة، للباجي قايد السبسي، البالغ من العمر تسعة وثمانين عامًا - أمد الله في عمره - سوى احتفاء وامتنان للحقبة البورقيبية، ودورها في بناء تونس الحديثة، رغم إشكاليات البورقيبية التي تجلت، أكثر ما تجلت، في حقبة زين العابدين بن علي.

    كان الأستاذ محمود مدركًا لعلل الماركسية، وتجربتها الشيوعية في الكتلة الشرقية، وواثقًا أشد الوثوق من انهيارها. جرى منه هذا، في وقتٍ كانت أكثرية المثقفين العرب، ترى أن أفق الثورة العالمية، بصورةٍ عامة، وأفق الثورة العربية بصورةٍ خاصة، لا وجهة له سوى وجهة الثورة البلشفية، في روسيا، على نحوٍ، أو آخر. وحين ابتعد، المثقفون العرب، عن الإسلام؛ وأعني هنا المستلبين يساريًا من جهة، وغربيًا، من الجهة الأخرى، بقي هو مع الجوهر الحضاري للفكرة الإسلامية. قدم الأستاذ محمود من جوهر الفكرة الإسلامية، طرحه الفريد، لتطوير التشريع الإسلامي، الذي حاول أن يخرج به الجمهور المسلم، من قبضة عقول السلف، وآراءهم المجترة عبر القرون، التي خلفتها الحياة الحديثة، وراء ظهرها.

    لم يعرف الإخوان المسلمون، ولم يهمهم أن يعرفوا، أن الأستاذ محمود محمد طه، هو أقوى، من وقف، من الناحية المعرفية، ضد المد الشيوعي في المجتمعات الإسلامية. وأنه أفضل من قدم طرحًا يزاوج بين الأصالة والمعاصرة، يحفظ جوهر الهوية الحضارية العربية الإسلامية من جهة، وينسجم مع السياق الكوكبي الحديث من الجهة الأخرى. لم ينتبهوا إلى تنبيهاته المتكررة، في كتاباته الغزيرة، عن الخطر الشيوعي، على الفضاء الإسلامي. فقد رفضوا، بحكم ضمور ثقافتهم وأحاديتها، أن يروا فيه سوى مهرطقٍ خارجٍ عن الإسلام. كما رأوا فيه، على صعيدٍ آخر، منافسًا سياسيًا قويًا، منطلقًا من منصة الإسلام التي كانوا حريصين على احتكارها.

    ظل الأستاذ محمود يردد أن الطائفية، والفهم المتخلف للإسلام، هما ما يدفع بالشباب العربي المسلم، دفعًا، إلى أحضان الشيوعية. غير أن الإخوان المسلمين، تشاركوا كراهية طرحه مع الشيوعيين، بل وعملوا على ابتذالها وتشويهها. فالشيوعيون كانوا يرون فيه مفكرًا، يقدم الإسلام بوجهٍ جديد، في صورةٍ عصرية، تجمع بين الاشتراكية والديمقراطية، ما يمثل خطرًا على جاذبيتهم للقوى الحديثة والشباب في الأقطار العربية الإسلامية. وحتى بعضهم الذي كان يستحسن أفكاره التقدمية، لا يلبثون أن يخلصوا إلى شطبها، برميها في سلة "المثالية"، وفق تبسيطات الماركسيين الدوغمائية، المتفشية في أوساطهم، وقتها. أما الإخوان المسلمون فهم مصابون أصلاً برهاب التجديد، كما أنهم رأوا فيه عقلا جبارًا يفكك خطابهم الهلامي العاطفي، من داخله، وبأدواته ذاتها، وقامة أخلاقية لا يستطيعون مجاراتها. واجتمعت ضده، مع كل هؤلاء، في حلف غير مكتوب، الحكومات العربية، والمنظمات والأجهزة التابعة لها. وهكذا بقي الأستاذ محمود مفكرا حرًا، مستقلاً، وحيدًا، معزولا.

    استعصى الأستاذ محمود محمد طه، على الإرهاب والتخويف من جهة، كما استعصى على الترغيب والتدجين من الجهة الأخرى. وحقيقة الأمر، لم يقترب منه أحد لترغيبه أو تدجينه. فقد كان الجميع يعرفون صلابة معدنه، حق المعرفة. فرغم تواضعه، ولين عريكته، كان مهابًا من خصومه، بصورةٍ لم تتفق لمثقف سوداني قط. لذلك لم يطمع فيه أحد قط. لقد بسط الأستاذ محمود سلطان المعرفة، وأكد جلالها، وهيبتها، بصورة أبعدت عن ساحتها، في المستوى الذي تحقق به، كل متطفل. ولذلك، لا غرابة أن قل نصراؤه. ولذلك، أيضًا، ذهب إلى منصة الإعدام وحيدًا. غير أنه كما رأينا جميعنا، ذهب راضيًا، بل ومبتسمًا. فمعرفته الراسخة بطول مشوار التغيير في الفضاء الإسلامي، وصعوبة المهمة، وجسامتها، جعلته موقنًا، منذ مطلع الخمسينات، من القرن الماضي، من مصيره الشخصي، ومتصالحًا معه، على النحو الذي عاش به، والنحو الذي مات به. فلقد ظل يعد نفسه لذلك المصير، طيلة حياته.

    حكت لي زوجتي، ابنته أسماء، ولعلني ذكرت هذا في كتابةٍ سابقة، أنها زارته في السجن قبل التنفيذ مباشرة، وكانت تقول له إننا، أي تلاميذه الجمهوريين، نجري اتصالات مكثفة بالنقابات، والقوى السياسية، والهيئات، للعمل المكثف، من أجل الحؤول دون تنفيذ الحكم. قالت أسماء، أنه نظر إليها بإشفاق، وقال لها: "الناس ما بجوا معاكم في الضربة الأولى". لقد كان مشفقًا عليها، في تقديري، من أن تتعلق بأملٍ، كان هو يعرف، يقينًا، أنه لن يتحقق. ولقد ظللت أفكر لوقتٍ طويلٍ حول قوله: "الضربة الأولى". فما هي إذن الضربة الثانية المتضمَّنة في عبارة "الضربة الأولى"؟ هل كان يتوقع أن يصمد الجمهوريون الأربعة الذين كانوا معه، على مبدئهم، مثلما صمد هو، وتكون تلك هي الضربة الثانية التي يقف فيها الناس مع الجمهوريين؟ خلاصة الأمر، أنه ذهب وحيدًا، ودخلنا، نحن تلاميذه، في زمرة من أنكروه، رغم نعينا الانكار على المنكرين الآخرين، ومعرفتنا باختلاف الإنكارين. لقد تنصلنا عنه نحن تلاميذه، حين حصحص الحق، وجد الجد، وهكذا يؤتى الحَذِرُ من مأمنه.

    سمعته يقول عن الآية الكريمة: "وينصرك الله نصرًا عزيزا"، إن النصر العزيز: "هو النصر الذي لا يكون لأحدٍ به مِنَّةٌ عليك"، وكان يقولها هكذا، بالفصحى. ظل الأستاذ محمود طيلة حياته عابدًا متبتلا متهجدًا في صومعته، لا ينام من الليل إلا أقله، واستمر على تلك الحال، لعقود طوال، معدًا نفسه لتلك الوقفة العظيمة. وبالفعل، أكرمه الله بالنصر العزيز. فقد مشى وحيدًا أعزلاً، لم يستطع أن يقف إلى جانبه أحد؛ لا ولا أكبر تلاميذه. نعم، لقد نصره الله النصر العزيز، الذي لم يكن لأحدٍ، سوى الله، مِنَّةٌ به عليه. انتصر لنفسه، وللإنسانية، مقدِّمًا، إنسانًا، ومثقفًا، من طرازٍ فريد، أيقن، على مستوى حق اليقين، الارتباط العضوي الذي لا ينفصم، بين عدوتي الغيب والشهادة، في مقامٍ عزيزٍ، لا يطاله وسواس الشكك، ونقص الثقة في الله. فدى الأستاذ محمود محمد طه، السودانيين، عامتهم، وخاصتهم، ففُدِّي من جانب الحضرة العلية، أكبر فداء، وجوزي بالرضوان العظيم، فسلامٌ عليه في الخالدين.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de