|
Re: حيثيات الواقع الإقتصادى – الإجتماعى فى السودان، وآفاق التغيير السياسى (Re: الصادق عبدالله الحسن)
|
مرحباً بكم الأخ الأستاذ الكبير (حسين أحمد حسين) نتابع البوست، ونرجو تثنية الإخوات والإخوة الزملاء الكرام وتأييدهم لجعل البوست ثابتاً أعلى المنبر.
الأستاذ الجليل الصادق عبد الله الحسن، ألفُ تحيةٍ وشكر.
يا سيدى أنا ممتن لحسنِ ظنَّك ولحفاوتك وترحيبك ولإهتمامك بهذه المداخلة، والتى أرى أنها عادية إذا ما قورنت بكتابات عديدة من أساتذة كبار هنا.
وأنا أجدد شكرى لك على كل حال، مع خالص الود والإحترام.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حيثيات الواقع الإقتصادى – الإجتماعى فى السودان، وآفاق التغيير السياسى (Re: حسين أحمد حسين)
|
الخطاب الليبرالى والتشكل الإقتصادى - الإجتماعى فى السودان:
لقد كانت إتجاهات التشكل الإقتصادى/الإجتماعى العالمى بعد إكتمال تمدد النظام الرأسمالى فى المركز، أن يتم الزحف إلى الأطراف (Peripheries)، لتلافى ظاهرة ميل الأرباح للتناقص، وبالتالى كان ذلك سبباً فى الإستعمار المباشر للمستعمرات، أبَّان شراهة القومية الإقتصادية أو قل الرأسمالية التجارية.
وفى السودان، حينما جاء الإستعمار الإنجليزى بنهاية القرن التاسع عشر، وجد أنَّ التشكُّل الإقتصادى الإجتماعى السابق لمجيئه قد أوجد واقعاً كانت فيه مجموعات التجار (القوية إقتصادياً إلى حدٍ ما) وزعماء القبائل، الطرق الصوفية (المؤثرة إجتماعياً)، والأنصار (المنهزمين من الحكم الثنائى الذين كانت لهم السيادة) هى الفئات الإقتصادية الإجتماعية الأقدر على البقاء والتماسك حتى صبيحة الإستعمار. وكان على الإستعمار أنْ يختار توازناته بين هذه القوى الإجتماعية لِإعادة إنتاج نظامه الجديد (فرح حسن أدم 1987).
وبالطبع كانت هذه المجموعات، هى الأقدر (نسبياً) على تحريك واستنهاض الفلاحة الزراعية بطبيعة وجودهم كقادة بين سكان الريف السودانى. كذلك رأى المستعمِر أنَّ إستخدام هذه الفئات فى الجهاز الحكومى سوف يقلِّل من التكلفة الإدارية. هذا إلى جانب أنَّ فئات التجار (من الطرق الصوفية كالختمية) والمرابين (كالمصريين، الأغريقيين، السوريين) قد رسم لها المستعمر دورَ القيام برسملة الإقتصاد المعاشى وتحويله إلى إقتصاد نقدى، ولو جزئياً فى هذه المرحلة من الإستعمار (تيسير محمد أحمد على 1989).
ولغرس وترسيخ النظام الرأسمالى بين الأنماط الإنتاجية القبل – رأسمالية، فإنَّ المستعمر البريطانى قد رسم نموذجاً محدَّداً لعمل ذلك؛ وهو نموذجاً يحملُ طيَّهُ بواكير سيناريوهات الخصخصة الجارية الآن فى السودان؛ بل أنَّه مارساها قبل أن ينجلى فى عام 1953. وهذا النموذج بهذه الصفة المُخصخِصة، والذى لم تَشِرْ إليه أيَّما دراسة سابقة فى حدود الإطلاع القاصر، قد قام فى البدء على إستنزاف فوائض القيمة (كما أشارت دراسات عديدة) بتكريس العمل وأدوات الإنتاج المتاحة آنئذٍ لخدمة النظام الجديد تحت نظام جبرى، ثمَّ سمح للقطاع الخاص الوليد أن يُشاركه فى العمليات الإستثمارية تحت رقابته، ومؤخراً وسَّع للقطاع الخاص بأن يضم فئات إجتماعية جديدة، ومشروعات جديدة؛ وبدأ المستعمر فى بعض الأمثلة ينسحب من بعض مشروعاته ويُملكها للقطاع الخاص؛ وبذلك يكون المستعمر هو أول من قام بعملية خصخصة فى السودان.
والجدير بالذكر هنا، أنَّ الإنتقال من مرحلة إلى مرحلة، لم تكن مسألة فوقية (كما سنرى لاحقاً إن شاء الله)، وإنَّما مسألة عميقة التجذُّر فى التشكُّل الأقتصادى - الإجتماعى الذى بدأ يطرأ على أنماط الإنتاج. وإذا كانت السواقى والشواديف وغيرها من أدوات الإنتاج المحلية البدائية فى المرحلة الأولى من الإستعمار هى الطابع السائد آنئذ، فإنَّ المرحلة الثانية قد شهدتْ تطويراً فى أدوات الإنتاج (طلمبات)، ونوعية العمل (نال نوعاً من التدريب)، وبالتالى علاقات الإنتاج (التى أصبح طابعها رأسمالياً، وتراجع الطابع القبل - رأسمالى).
أمَّا المرحلة الثالثة فقد ذهبت إلى أبعد من ذلك؛ وذلك ببداية إدخال الحزم الإدارية التقنية للمشروعات، وبداية دخول المستعمر مستثمِراً فى مشاريعَ بعينها، وبأدوات إنتاج أكثر تطوراً، وبعمل أكثر تدريباً وأوسع خبرةً، وانتفتْ صِفة القبل – رأسمالية التى لازمت علاقات الإنتاج فى المرحلتين الأولى والثانية، وصرنا نتحدث فى أسوأ الأحوال عن علاقات إنتاح لا - رأسمالية.
إذاً، لتنزيل هذا النموذج على الأرض، فقد كانت هناك قبضة محكمة على الموارد بإدخال تقنيات إدارية صارمة المركزية فى الفترة الإولى من الإستعمار، ثمَّ إستمرت ذات القبضة المحكمة مع السماح لبعض الفئات الخاصة (الأجانب ثم من بعد ذلك السكان المحليين) بتملُّك المشاريع الخاصة (زراعية/تجارية) فى المرحلة الثانية من الإستعمار، ثمَّ عمد الإستعمار فى الفترة الثالثة إلى الإستمرار فى المركزية الإدارية، وفى بعض الأحيان نُفِّذت تلك المركزية بأيدى سودانية، خاصةً حين تراجعتْ الدولة الإستعمارية من بعض مشاريعها فى عام 1953م فى مناطق الزراعة المطرية. وفى هذه الحقبة الثالثة تم توسيع دائرة السماح للفئات الخاصة بحيازة مشاريع خاصة (كزعماء القبائل والعشائر والإدارة الأهلية، والوجهاء الإجتماعيين)، ومضاعفة المشاريع لبعض الفئات الخاصة القديمة.
ولعلَّ إنزال ذلك النموذج على الأرض، وإيجاد واستيعاب وكلاء محليين من تلك الفئات الكمبورادورية للعمل وفق منظومته الرأسمالية؛ أؤلئك الذين أُوكِلَتْ لهم مهمة الإستمرار فى تمديد النظام الرأسمالى وسط الأنماط القبل - رأسمالية، قد شجَّع المستعمر على جدولة الأستعمار. لِمَ لا، والنظام العالمى الرأسمالى، قد بدأ يعمل ذاتياً داخل المستعمرات؛ إلى جانب علو صوت حركات التحرر الوطنى، وتحوُّل خط الخطاب الرأسمالى من القومية الإقتصادية الحمائية المُحْتَكِرَة، إلى الخط الليبرالى تحت قيادة أمريكا (Dunn 1974). هذه الفئات الكمبورادورية، شكَّلتْ بواكيرِ تَخَلُّقِ الشرائح الإقتصادية - الإجتماعية فى السودان. وتشير الدراسات إلى أنّ الأنصار ومناصريهم قد حُظوا بالقدر الأكبر من المشاريع الزراعية، وأنَّ طائفة الختمية (إلى جانب المشاريع الزراعية التى منحها لهم المستعمر) ومناصريهم قد نالوا الحظ الأوفر من المشروعات التجارية، ومن الأستخدام فى الخدمة المدنية فى ذلك الوقت (تيسير محمد أحمد، المرجع السابق).
فى هذا الأثناء من تاريخ التشكل الإقتصادى - الإجتماعى على مستوى العالم (المركز والأطراف)، لعِبَتْ الكينزية دوراً مهماً فى حث العالم على الإنفاق عموماً ونقل التقانة والإنفاق الأستثمارى، فإنبرتْ نظريات التحديث التنموى للمهمة.
وعلى غير المقصدِ النبيلِ للإقتصادى جون مينارد كينز (مبتدع بريتون - وُدْس)، فقد أراد السياسى أنْ تكون مهمة نظريات التحديث التنموى فى الأطراف مهمة أمنية (تكافح الآثار الناتجة من الإستعمار المباشر وغير المباشر ريثما يكتمل تمدد النظام الرأسمالى بشكل نهائى، تكافح الشيوعية، تفتح أسواقاً للمنتجات الصناعية الأمريكية والأوروبية تحت الإملاءات المؤدية إلى ذلك من قِبَل مؤسسات التمويل الدولى) وبعيدة كل البعد عن الإفعال التنموى.
وأهم نظرية من بين نظريات التحديث التنموى ذات البعد الأمنى المباشر هى نظرية مراحل النمو لِرُسُّو (ولتْ وِتْمان رُسُّو)، والتى أطلق عليها "البيان غير الشيوعى لتحقيق النمو". تلك النظرية لم تُعرض على جمهور إقتصادى أوّل ما عُرضت فى عام 1961، وإنما عُرضت على جمهور من خبراء المخابرات البريطانية بجامعة مانشستر. وفوق ذلك فإنَّ رسو نفسه هو أحد العسكريين الأمريكيين، وقد خدم فى وزارة الخارجية الأمريكية أيضاً، وكان من ضمن السيناريوهات المنوطة به مكافحة الشيوعية، وفتح أسواق جديدة للبضائع الصناعية الأمريكية (رسو 1959، 1990).
ولذلك ليس من المستغرب أن تجى نظرية مراحل النمو (وكل نظريات التحديث التنموى) فى السياق الأمنى. وما يدلل على هذا المنحى فى التحليل أنَّ المبالغ (3.5 مليون دولار) التى خصصتها أمريكا فى عهد الرئيس ترومان لما يُعرف بـ "عصر التنمية" ضئيلة للغاية قِبالة المبالغ (19.3 بليون دولار) المخصصة لإعمار أوروبا فى نفس الفترة. بالإضافة لهذا، فإنَّ مجموع المبالغ المخصصة لتنمية العالم الثالث قد قلَّت بشكل كبير للغاية بعد أنْ ضَمِنَ النظام الرأسمالى أنَّ حلقات تمدد نظامه قد إكتملت فى كل جزءٍ من هذا الكوكب (يؤرَّخ لها فوقياً بنهاية الحرب الباردة). كذلك يجب ألاَّ يفوت علينا أنَّ المبالغ التى صرفتها الدول الغربية ومؤسسات التمويل الدولية لتنقذ اليونان من الإنهيار الإقتصادى فى عام واحد منذ سنتين، أكثر من ديون أى بلد نامى على حِدة، منذ إستقلاله حتى يوم النَّاس هذا.
كان لابد إذاً أن يؤدى غرس ذلك النموذج الرأسمالى الإستعمارى فى الواقع السودانى إلى خلخلة الأنماط الإنتاجية القبل - رأسمالية، وخلق تشكيلات إقتصادية - إجتماعية جديدة على نحوٍ ما مغاير (ربما نسبياً) لسابقاتها.
يُتبع ...
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حيثيات الواقع الإقتصادى – الإجتماعى فى السودان، وآفاق التغيير السياسى (Re: حسين أحمد حسين)
|
محصلة الخطاب الليبرالى والتشكل الإقتصادى/الإجتماعى فى السودان:
لعلَّ ما يُمكن أن يستفيده الباحث من هذه الحيثية، أنَّ تحقيب التاريخ لا يتم بأحداث فوقيةً عارضة، وإنَّما هو عملية أكثر عمقاً مما هو جارٍ أمام أعيننا، إذْ أنَّه يرتبط إرتباطاً وثيقاً بالتشكُّل الإقتصادى الإجتماعى. فأحداث كثيرة مرَّتْ علينا فى حياتنا السودانية قد تمَّ تفسيرها بشكل جزئى، إن لَّمْ يكن بشئٍ من التسطيح. ومن بين هذه الأحداث: إستقلال السودان، تصورنا للتنمية، وظاهرة الإنقاذ. هل نحن أنجزنا إستقلالنا، أمْ أنَّ المستعمر أنجز مراده وخرج؟ من منا كان يعتقد أنَّ التنمية التى أُتيحت قد كان مقصودٌ بها تأمينَ سيادة النظام الرأسمالى على غيره من التشكيلات الإقتصادية الإجتماعية القبل– رأسمالية؟ من كان يعتقد أنَّ الإنقاذ تحكم السودان ربع قرن من الزمان؟
إذاً، فالمستعمر مُحرض الذهن بنموذج يود حقنه فى واقعنا الإقتصادى الإجتماعى (قطرة من السم الذى شحنتم به شرايين التاريخ، كما قال الأديب الطيب صالح). وقِوامُ هذا النموذج هو: إعادة إنتاج قسرية فى بادئ الأمر (Subjugation) لِأجل أن يتموضع النموذج على أرض الواقع، إعادة إنتاج بالشراكة مع المجموعات الإقتصادية الإجتماعية القابلة للمساهمة فى النظام الجديد، ومن ثمَّ إعادة إنتاج ذاتية من الداخل يقودها القطاع الخاص فى نهاية التحليل. ولا غروَ إذاً، أن يترك لنا المستعمر نموذجاً للخصخصة مستتراً فى المرحلتين الأولى والثانية من الإستعمار، وسافراً فى المرحلة الثالثة كما تمَّ فى عام 1953 (حسين 2001).
وبُناءاً على هذا الفهم، فإنَّ هناك أحداثاً قد جرتْ فى مسار التاريخ المادى للسودان، قد تمَّتْ قِرأءتها على نحوٍ خاطئ. فمثلاً، إنَّ مصادرة أراضى الأنصار فى المرحلة الأولى من الإستعمار (1899)، وإستمالة الختمية والتجار الأجانب، ثمَّ دعم الأنصار الواضح والكبير فى المرحلتين الثانية والثالثة (والختمية وفئات أُخرى بدرجات متفاوتة)، لا يُفَسَّر إلاَّ بأنَّ المستعمر كان يجرى توازناته التى تصون النظام الوليد وتحميه، آخِذاً فى الإعتبار حقائق التشكل الإقتصادى الإجتماعى السابق لمجيئه، وضرورات ومتطلبات إعادة إنتاج النظام الجديد الذى ينشده. لذلك فإنَّ الإتهامات التى كانت تُطلق من وقت لآخر بين المجموعات الإقتصادية الإجتماعية الوليدة بأنَّ فلاناً أو علاناً، ذيل للمستعمر، قد أُسِّسَتْ على قرآءات غير عميقة لهذه الحيثية.
كذلك، فإنَّ هذا الفهم وهذا التحليل، يجعلنا نقول بكلِّ طُمأنينة أنَّنا لم نجبر الإستعمار على الخروج من بلدنا، خاصةً وأنَّه حاول إسكات ثورتنا بمشاريعه الإعاشية على امتداد النيل الأزرق والأبيض والنيل الرئيس، وقد خرج وفق جدول وضعه هو لنفسه ليكون متزامناً مع العمل التلقائى لنموذجه المتغلغل حديثاً.
أقول ما أقول، دون المساس بثورة 1924 المجيدة، والمد الثورى للجبهة المعادية للإستعمار، والتى تَيَقَّظَ على أثرهما المستعمر ليُعادى الراديكاليين أثناء وجوده المادى بإستمالة اليمينيين إلى جانبه وتقوية شكيمتهم، أو أثناء وجوده بالوكالة بجعل الفترات الديمقراطية التى من خلالها يمكن أن يُطل الراديكاليون برأسهم أقصر عمراً، كما سنرى ذلك لاحقاً.
يُتبع ...
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حيثيات الواقع الإقتصادى – الإجتماعى فى السودان، وآفاق التغيير السياسى (Re: حسين أحمد حسين)
|
محددات التشكل الإقتصادى/الإجتماعى الرأسمالى المهيمن:
1- حول دور الدولة:
لن أسوق القارئ الكريم إلى ذلك التنظير المستغرق فى التجريد عن طبيعة الدولة الرأسمالية ومزاعم إستقلالها النسبى وعدمها، عن الطبقات المسيطرة فى المجتمع. ومن أراده، فليقرأ عن الدولة؛ فالكتابات عنها كثيرةٌ، فعلى سبيل النّذر لا الحصر: فِردريك أنجلز، لينين (بدآئيات الحديث عن الدولة). ألتوسير، بولانزاس، قرامشى (الحديث العميق عن الدولة). سمير أمين، مهدى عامل، كارشيدى (الدولة فى محك التشكل الإقتصادى/الإجتماعى الرأسمالى). حمزة أَلَفى، مخطوطة الدكتوراة لدكتور الصديق عبد الباقى حسين (الدولة فى دول العالم الثالث/السودان). محمد إبراهيم نقد (الدولة المدنية، وإنتاج معرفة جديدة بشأن الدولة الرأسمالية) ... إلخ. ولكن دعونا نتعرف على الدولة الرأسمالية فى محك التشكل الإقتصادى/الإجتماعى وصراع الطبقات فى السودان، فهل يا تُرى كانت بدعاً من أَخَوَاتِها؟
ما تجدر الأشارة إليه هنا بادئ ذى بدء، هو أنَّه مع هيمنة النظام الرأسمالى على غيره من أنماط إنتاج وإخضاعها للعمل وفق نمط الإنتاج الرأسمالى لِأداء وظيفة رأسمالية، يصعب مع هكذا واقع الحديث عن أنماط قبل - رأسمالية، أو عن حالة إزدواج فيها قطاع رأسمالى حديث وآخر تقليدى (قبل - رأسمالى) يعملان فى إتجاهين متضادين، كلاهما لصالح تشكيلته. فالشاهد أنَّ الأنماط القبل - رأسمالية لا توجد كأنماط إنتاج، بل كعناصر إنتاج وذلك بفعل تعطيلها بسيادة النظام الرأسمالى الجديد عليها وإستغلال عناصرها الإنتاجية (العمل وأدوات إنتاجها البدائية) لخدمة النظام الرأسمالى الجديد (Poulantzas 1978).
ولكن مع واقعٍ كهذا، فقد حُقَّ لنا أن نتحدثَ عن أنماط إنتاج لا- رأسمالية وليس قبل – رأسمالية. ولمعرفة أنَّ نمطاً ما من الأنتاج رأسمالى بالكلية أم لا، فإننا ننظر فى ثلاثة مستويات فى بنية النظام السائد: الدولة، علاقات الإنتاج، والتشكيلة الإجتماعية. فإنْ كانت الثلاثة مستويات رأسمالية فإننا نقول هذا النظام رأسمالى مائة بالمائة. غير أننا فى التشكل الإقتصادى/الأجتماعى الرأسمالى الذى ساد بعد الإستقلال فى السودان، نجد أنَّ الدولة فيه رأسمالية، علاقات الإنتاج رأسمالية، ولكن التشكيلة الإجتماعية مازالت قائمة على أساس قبلى/عشائرى، وليس على الأساس الإقتصادى أو القطاعى. وهذا ما يجعلنا نصفها باللا – رأسمالية، أو قل غير مكتملة الرأسمالية.
إذاً، على أيامِ الجلاء، فإنَّ النظام الرأسمالى كان سائداً على أنماط لا- رأسمالية (أنماط غير مكتملة الرسملة) خاصة فى الريف السودانى. لذلك نجد؛ أنَّ الفئات المستأمنة على صيانة النظام الرأسمالى قد وجدت نفسها وجهاً لوجه مع حالة من التناقض الإجتماعى الحاد بين فئات المجتمع، والتى كان يغطى عليها الأستعمار بقبضته الحديدية ومشاريع الأمن الإعاشية، لحين تمدد النظام الرأسمالى وطغيانه على غيره من أنماط الإنتاج.
ومع هذه الحالة من الرسملة غير المكتملة، كان لابد من الأستمرار فى المركزية القابضة، وإنْ جاءتْ هذه المرة بإسم الوحدة الوطنية والصالح العام (لخدمة كافة وكلاء التشكل الإقتصادى الإجتماعى). لذلك فالمحافظة على الوحدة واستقرار الدولة طغى هو الآخر على التناقضات والتطور اللامتكافئ بالنسبة للمجتمع.
فالشاهد، أنَّ للقبضة المركزية أهدافها من وجهة نظر النخبة الأقتصادية (حلف القوى الإقتصادى) المختلفة من وجهة نظر شركاء العملية الإنتاجية (العمال/القوى الحديثة)، وهى المحافظة على واقع مراكز القوة التى حُظيتْ بها من قِبَلِ المستعمر. أمَّا من وِجهة نظر العمال/القوى الحديثة، فإنَّهم رأوْا فى إستمرار تماسك الدولة الوطنية مصلحة عليا تطغى على مصالحهم الفئوية (وهذا فهم طليعى). كما أنَّ تفكيك الإستعمار وإزالة إستبداده وديمقرطة الأنشطة الإقتصادية/الإجتماعية والسياسية هو فى حد ذاته يمثل ميزة لهم مقارنة بالوضع المائل الذى كان سائداً أبَّان الأستعمار. وتتداخل مع هذا الواقع رغبة أُخرى للخطاب الليبرالى وهى القضاء على أنماط الأنتاج اللا - رأسمالية (عليلة الليبرالية).
هذا الواقع جعل البعض يعتقد بأنَّ الدولة الوطنية الرأسمالية فى السودان تقف على مسافة متساوية ومستقلة عن القوى الإجتماعية السودانية، وأنها تقوم بعملية الإنفاق الحكومى لمصلحة كل المجتمع. ولكن الأستقصاء الدقيق يكذِّب هذه الحيثية. إذْ أنَّ تلك المركزية كانت تخفى وراءها حقيقة أنَّ السياسات الإقتصادية كانت موجهة لخدمة مصالح حلف القوى الأقتصادى حتى منذ حكومة الحكم الذاتى 1952 - 1954م. ولما كانت هذه الحكومة تُدار بواسطة بيروقراط معظمهم من طائفة الختمية، فقد وجدنا أنَّ عدد المشاريع التجارية الممنوحة للأفراد قد زاد على عدد المشروعات الزراعية (راجع ملفات المسجل التجارى لتلك الفترة).
وبذلك يمكننا القول بأنَّ برجوازية الدولة كانت منذ الوهلة الأُولى تتبع نظاماً تنموياً يُراعى مصالح حلف القوى الإقتصادى على حساب الفئات الضعيفة. وبمرور الزمن، فإنَّ المركزية بدأت فى التلاشى ليس لمصلحة البرجوازية الوطنية وحسب (النخبة الإقتصادية)، بل لمصلحة مراكز القوى العالمية أيضاً (International Power Block).
إذاً، فشلت النخبة الإقتصادية فى خلق إقتصاد قومى متجانس وذلك منذ وقت مبكر (1952-1956)، الأمر الذى أدى إلى تفاقم الفروق الإجتماعية بين أفراد المجتمع، خاصةً بين الحياة المدنية وبين الدولة والمتحالفين معها. فالآن النموذج الإستعمارى يتكرر على أيدى وطنية ولمصلحة حلف القوى الإقتصادى (The power Block).
وكما هو متوقع أن يزداد الأنفاق الحكومى بعد الإستقلال إلى نهاية الحرب الباردة، لِأجل تمديد النظام الرأسمالى على كافة أصعدة التشكل الإقتصادى/الإجتماعى فى السودان ومحاربة الشيوعية، فذلك يعنى أنَّ وكلاء جدد للإنتاج الرأسمالى تتم إضافتهم بإستمرار لمجتمع الرأسمالية السودانية. وكنتيجة لذلك، فإنَّ المجموعات الإقتصادية الناشئة بدأت تدريجياً تزيد من مطالبتها بتوسيع دورها فى عمليات إتخاذ القرار.
فالعمال بدأوا يسألون شريحة الدولة (تلك التى من المفترض أنها تعمل لصالح كل وكلاء العملية الإنتاجية الرأسمالية، أى العمال والرأسماليين معاً) تحسين أوضاعهم، وبدأوا يتدخلون فى الكيفية التى تدار بها العملية الإنتاجية؛ فنادَوْا بإنصاف العمل، وطالبوا بدور أكبر فى إدارة أوضاعهم. وأيضاً، فالنخبة الإقتصادية (كأكبر دافع للضرائب) بدأت تطالب بتحسين مناخ جيد للإستثمار، ليتسنى لها دفع الضرائب التى تطالبهم بها الدولة.
ولعل تجارب الحكم المتعاقبة فى السودان، وكما جاء آنفاً، تعكس حدة الصراع بين الفسطاط الذى يملك أو قادر على تملك وسائل الإنتاج، والفسطاط الآخر الذى لا يملك سوى قدرته التنظيمية الجمعية للحصول على مكتسباته الإقتصادية والسياسية. ولما كانت شريحة الدولة فى كل الأوقات منحازةً للشرائح الرأسمالية، فإنَّ حلف القوى الإقتصادى لا يستطيع أن يصل إلى وسائل الإنتاج وزيادة مكتسباته ومصالحه الإقتصادية، إلاَّ بشلِّ الصراع الإجتماعى وإخراص صوت العمل والغريم السياسي الذى يتحدث بإسمه. وما كان للطبقات الغنية أنْ تفعل ذلك إلاَّ بتحالفها مع شريحة الدولة. ولذك كان المنتصر دائماً هو حلف القوى الإقتصادى. ويتجلى ذلك بوضوح من عمليات الإنفاق الحكومى، التى وُجدَ أنَّ 60% منها يخدم الطبقات الغنية (إبراهيم الكرسنى 1986م)، خاصةً الشريحة ذات الهيمنة (على أحمد سليمان 1975م). وحتى فى الفترة ذات التوجه الإشتراكى 1969-1971 فقد وُجد أنَّ الخاسر هو الفئات الضعيفة (الصديق عبد الباقى حسين 1986م). وذلك بحسبان أنَّ الليبرالية العالمية ما كانت لتسمح بنظام إشتراكى فى السودان فى ذلك الظرف الدقيق من مرحلة التشكل الرأسمالى على مستوى العالم، خاصةً فى السودان الذى يضم أخطر الأحزاب الشيوعية على مستوى أفريقيا والوطن العربى.
ولقد بدأت تتنامى عندى قناعة، أنَّ هذه النخب الإقتصادية عاجزة عن العيش فى مناخ ديمقراطى. فالديمقراطية تعنى أنَّ شريحة الدولة عليها أنْ تقف على مسافة متساوية من كل القوى الإجتماعية، وتدير العملية الإنتاجية لصالح كل شركاء العملية الإنتاجية. ولكن النخب الإقتصادية السودانية (وبالطبع من بينها برجوازية الدولة) لا تريد ذلك، والخطاب الليبرالى العالمى لا يريد ذلك، على الأقل فى هذه المرحلة من التشكل الرأسمالى. لذلك، فسرعان ما كان يوحى هذا الخطاب الليبرالى العالمى للشريحة ذات الهيمنة أنْ تسلم السلطة إلى عسكريين من إنتخابها هى. وذلك لأنَّ الديموقراطية فى السودان مطلب (مع نبله) غير مأمون العواقب فيما يتعلق بتمديد النظام الرأسمالى، وتمرير بضائع الغرب الليبرالى، ومحاربة الشيوعية داخل السودان وخارجه. فقد كان النظام الليبرالى العالمى يتخوف من صُعود الراديكاليين بالقنوات الديمقراطية، وبالتالى يُعيقون تمدد النظام الرأسمالى. ولا غروَ إذاً، أن نَّجد أنَّ مجموع فترات الحكم الديمقراطى فى السودان 11 سنة، ومجموع فترات الحكم العسكرى الشمولى أكثر من 46 سنة.
عليه فإنَّ النتيجة الحتمية للسلوك الإقتصادى للدولة القاضى بدعم شرائح النخبة الإقتصادية (خاصةً الشريحة ذات الهيمنة)، يؤدى إلى وضعية أنَّ القادرين على تراكم أموالهم فى الماضى بدعم المستعمر لهم (على علاَّت ذلك الدعم التوازنى)، سيصبحون الأقدر على تراكم رؤوس أموالهم بتحالفهم مع شريحة الدولة فيما بعد. وذلك يعنى أنَّ المستثمرين الخاصين الذين تدعمهم شريحة الدولة، سيدخلون مرحلة جديدة من عمليات التراكم الرأسمالى، وهى التركُّز الرأسمالى. ومع بداية هذه المرحلة يكتمل تخلق الطبقات الإجتماعية بكافة شرائحها.
يُتبع ...
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حيثيات الواقع الإقتصادى – الإجتماعى فى السودان، وآفاق التغيير السياسى (Re: مني عمسيب)
|
Quote: الرصين \ حسين ..
لك التحية والشكر علي هذا الموضوع الجذري .
متابعة واكتساب ..
ولي قدام . |
الأستاذة منى عمسيب، التحايا العطرة.
فى البدء شكراً على الإطلاع وشكراً على الإطراء. وأرجو أن يجد النَّاس ولو منفعة جزئية بإعادة إنتاج هذه التفاكير. وعلى فكرة هذه الأطروحة قديمة منذ 5 سنوات مضت، ولكن فقط أنا الجديد على سودانيز أونلاين.
والشكر من ثان على المتابعة.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حيثيات الواقع الإقتصادى – الإجتماعى فى السودان، وآفاق التغيير السياسى (Re: حسين أحمد حسين)
|
1-3 الإنقاذ (شريحة رأس المال المالى)، ما لها وما عليها منذ عشية إنقلابها إلى الوقت الراهن:
لعلَّ إنقلاب الإنقاذ هذا، من أكثرِ الإنقلاباتِ حظاً فى تاريخِ الإنقلابات الرأسمال - عسكرية فى السودان، لأنَّه جاء والعالم كل العالم، مشغول بإنهيار المعسكر الإشتراكى فى عام 1989م. فزوال الشيوعية المتزامن مع قيام الدولة الدينية فى السودان فى ذات العام، إعتبره كثيرٌ من البسطاء بركةً أحلَّتْ عليهم من السماء، فراحوا يعتنقون المشروع الحضارى.
كذلك فإنَّ إعلان الإنقاذ الباكر والصريح لسياسة التحرير الإقتصادى، حبسَ الغرب عن ممارسة أىِّ فعل مادى يتجاوز الشجب والإدانة، فصبَّ كلُّ ذلك فى مصلحة الإنقلاب ومناصريه.
كما أنَّ المعارضة السودانية، كما سيجئ لاحقاً، كانت فاقدة لِأىِّ نوعٍ من أنواع القدرة المفضية إلى إستعادة السلطة الديموقراطية المغتصبة، كونها واقعة خارج مناخ الحرب الباردة بعد إنهيار المعسكر الإشتراكى، مع ما يعنيه ذلك من إيقاف الدعم لكلِّ حركات المُمَانعة ومجموعات الضغط التى خُلِقتْ لحفظ التوازن العالمى فى السابق. فالعالم الآن متجانس، تسودُهُ كلَّه الرأسمالية، فما جدوى الإنفاق على مثل هذه الحركات الآن! فلتُتْرَكْ لقدرها، لسأمها، ولحروبها الداخلية، "للحروب بين النَّاس".
يتبع ...
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حيثيات الواقع الإقتصادى – الإجتماعى فى السودان، وآفاق التغيير السياسى (Re: حسين أحمد حسين)
|
3- 1-1 الإنقاذ ما لها وما عليها عشية الإنقلاب:
يتفق معظم الإقتصاديين على أنَّه لم يكن هناك ثمَّةَ ضررٍ وشيكٍ يُحيقُ بالأُمَّة السودانية عشية إنقلاب الإنقاذ المشئوم، ليجعلها على أعتاب تغييرٍ دراماتيكى، لينقذها ممَّا هى مقبلةٌ عليه. والحدث الجلل الوحيد هو أمطار وفيضانات العام 1988م. والمعروف عن مثل هذه الكوارث أنَّها تُحدث ربكة لوجستية، حتى إنْ كان كلُّ شئٍ فى وفرة، وقد تمَّ تجاوزها. فلا يوجد شئ، غير المصالح الذاتية والأنانية، فى إطار صراع الطبقات، ليشكل دافعاً لِإنقلاب عسكرى.
الأيديولوجى:
من الناحية الأيديولوجية لعلَّنا نلاحظ أنَّ العدمية والإنتباذية من الصفات الملازمة للعقل العقائدى فى السودان. فالنبر الحاد الإقصائى المضمَّن فى حيثيات خطاب ثورة مارس – أبريل 1985م المجيدة: "كنس آثار مايو"، و "تصفية البنوك الإسلاربوية"، هو نبرنا نحن، نبر الأحزاب التقدمية، وليس بالطبع نبر شرائح النخب الإقتصادية (التجارية، والزراعية) التى تواطئت معنا (أو تواطئنا معها) لِإسقاط النظام المايوى. فشرائح النخب الإقتصادية لا تُقصى بعضها البعض (إقصاءاً دائماً) فى اللعبة السياسية، فكثيراً ما تُقدِّمُ سبتاً لتجده أحداً يوماً ما. ولكنها إكتفتْ بفعل قانون الغِلاب الطبيعى والتلقائى (The Crowding out)، فى إخراج الجبهة الإسلامية من حلبة السوق. وهو على أىِّ حال نوع من الإقصاء الناعم المشروع، الذى لم تحتمله الجبهة الإسلامية القومية، ناهيك عن النِّية المبيتة أصلاً لتصفيتها إقتصادياً كما نادى بذلك نبرنا الراديكالي وأيديولوجياتنا السياسية.
هذا الإقصاء، والذى تحول، بعد عام من إنتفاضة مارس - أبريل، إلى برنامج عمل فى عام 1986م، بموجب مقتضيات برنامج الإنقاذ الرباعى هو، فى تقديرى المتواضع، الذى حفَّز شريحة رأس المال المالى (ذات التوجه العقائدى) لتقوم بإنقلابها المشئوم فى عام 1989م. إذْ كيف، بعد سنواتٍ من زواج المتعة بين برجوازية الدولة المايوية وشريحة رأس المال المالى المهيمنة، والذى أكسبها ما أكسبها من نعيمٍ مقيم، تسمح الجبهة الإسلامية بتصفية مُقدَّراتِها الإقتصادية؟
إذاً، الهَمُّ الأكبر لهذه الشريحة هو إيجاد وسيلة تحافظ بها على مقدَّراتها الإقتصادية، والتى لا سبيل للمحافظة عليها هذه المرة بالتحالف مع شريحة الدولة المُسيْطَر عليها بواسطة الغريمين التقليديين (الشريحة الزراعية والشريحة التجارية) اللذان يبيتان النية لمحاكمة هذه الشريحة على فسادها؛ فلا مناص من الإنقلاب العسكرى.
الإقتصادى:
أمَّا من الناحية الإقتصادية، فلم يكن الوضع الإقتصادى عشية الإنقلاب، بالسوء الذى روَّجتْ له أيديولوجيا الجبهة الإسلامية القومية، خاصةً لبلد خارج للتو (قبل أربع سنواتٍ فقط) من أسوأ أنواع الديكتاتوريات، وكل عثراته آنئذٍ هى من تداعيات النظام السابق، وافتعال الأزمات بواسطة تجار الجبهة الإسلامية القومية أبان الديموقراطية الثالثة، والذى شهِدَ به بعضهم، بأنَّهم كانوا يلقون بالسكر والغلال فى جوف النيل. ولعلَّ برنامج الإنقاذ الرباعى كان كفيلاً بأنْ يخرج البلد من المستنقع المايوى، ذلك الذى خلَّف للديموقراطية الثالثة 14.3 مليار من الديون الخارجية، ومجتمع يرزح تحت وطأة الفقر.
لم تثبت أىُّ حالة من حالات الفساد ضد أِّى شخص فى فترة الديموقراطية الثالثة، وقد فنَّد القضاء كل مزاعم السلطة، وفضح أمرها. ولكن يؤخذ على الديمقراطية الثالثة، إرتهانها الكامل لمؤسسات التمويل الدولية، والقاضى بإيقاف الصرف على التنمية وتقليل الصرف على الخدمات الإجتماعية، مقابل تجنيب بعض العملات الصعبة لمقابلة سداد الديون.
هذا الأمر أدَّى إلى وجود واقع شبه إستاتيكى، وربما معدل نماء سلبى للإقتصاد القومى فى ذلك الحين، ومردُّهُ بالأساس كما جاء أعلاه إلى الخضوع الكامل لمؤسسات التمويل الدولية. ولكنَّ النجاح المنقطع النظير للموسم الزراعى 1988/1989م، قد جعل البلد تتوازن قليلا، لو لا سرقة الديموقراطية تحت ليلٍ بهيم.
السياسى:
سياسياً، لايوجد مبرر للجبهة الإسلامية القومية بأنْ تقوم بإنقلاب البتة، فهى شريك فى السلطة بعدد من الوزراء، يوازى حجمها فى البرلمان. وهى مسئولة، على قدم المساواة، من أىِّ ضرر يلحق بالسياسى والإقتصادى معاً. فكانت تفتعل الأزمات الإقتصادية لتهيئ لواقع سياسى معين كانت هى النشاز فى كل معادلاته السياسية بما تضمُرُهُ وتُحيكه فى الظلام ضد هذا الشعب الكريم، الذى من حقه عبر حكومته المنتخبة أنْ يتقصَّى من حالات الفساد ويُبترها بالطرق الديموقراطية والقانونية المشروعة.
أقولُ ما أقول، وكل الأحزاب السياسية المشكلة للحكومة (بما فيها الجبهة الإسلامية القومية) وقئذٍ لا تخلو من التحاصص، وجيشها فى غاية الإرباك والإنهاك، بسبب الضربات المتلاحقة من قِبَل قوات الحركة الشعبية، ونقص الإمدادات العسكرية و الغذائية، مما أدى إلى سقوط الكرمك وقيسان، وبعض مدن الجنوب.
غير أنَّ كل ذلك لم يكن كافياً ليبرر إنقلاباً على نظام ديموقراطى، وكان من الممكن معالجة تلك القضايا برلمانياً، كما تجلَّى ذلك فى مسعى السيد محمد عثمان الميرغنى (رضى الله عنه) وإتفاقية كوكادام. والدليل على عدم توفر أركان مسوغ للإنقلاب، هو أنَّ الإنقلاب أفقد الإنقاذ كلَّ معنىً للشرعية السياسية فيما بعد، وجعلها فى وضع لا تُحسد عليه، خاصةً فى سنوات عمرها الأولى. وإلى اليوم الإنقاذ تحت الحصار الإقتصادى والعسكرى من قِبَل العالم الخارجى، ويُضيَّقُ عليها دبلماسياً بسبب سِجِلاَّتِ الإرهاب وحقوق الإنسان، ومن ثمَّ الملاحقة الدولية بسبب جرائم الحرب المتصلة والمتلاحقة ضد منسوبى النظام إلى يوم النَّاس هذا.
محصلة هذا المشهد، هو أنَّ الإنقاذ جاءت إلى الوجود، لتنقذ المقدّرات الإقتصادية للجبهة الإسلامية القومية من التصفية وليس لِإنقاذ البلد، وبالتالى تبديد الإقصاء المُضمَّن فى الخطاب الأيديولوجى لثورة ماريل (مارس/أبريل) 1985م. وكما سيجئ لاحقاً فإنَّ كل سلوكيات الإنقاذ، لا تمت إلى إنقاذ البلد بصلة، بل كانت معنية بإنقاذ القوة الإقتصادية للجبهة الإسلامية القومية، وحمايتها والتمكين لها.
فاجتمع المجلس الأربعينى للجبهة الإسلامية القومية (والعهدة على السيد أحمد عبد الرحمن، خيمة الشروق 2010م)، وزيَّن لنفسه الباطل، وقال فى دعائه: "يا الله، لئن تهلك هذه العصبة، فلن تُعبد فى الأرض". ولنرى فيما يلى كيف وبأىِّ عملٍ تقرَّبتِ العصبةُ الحاكمة للهِ عزَّ وجلَّ الطيِّبِ، الذى لا يقبل إلاَّ الطيِّب.
ينبع ...
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حيثيات الواقع الإقتصادى – الإجتماعى فى السودان، وآفاق التغيير السياسى (Re: حسين أحمد حسين)
|
Quote: فاجتمع المجلس الأربعينى للجبهة الإسلامية القومية (والعهدة على السيد أحمد عبد الرحمن، خيمة الشروق 2010م)، وزيَّن لنفسه الباطل، وقال فى دعائه: "يا الله، لئن تهلك هذه العصبة، فلن تُعبد فى الأرض". ولنرى فيما يلى كيف وبأىِّ عملٍ تقرَّبتِ العصبةُ الحاكمة للهِ عزَّ وجلَّ الطيِّبِ، الذى لا يقبل إلاَّ الطيِّب. |
أهلاً وسهلاً بالنطاسي الحُسين بن الحُسين نتابع ونترقب تكملة الحديث لنتناقش سويا قطعاً فيك صحبة ماجد فلا تطيل الغياب في أمان الله _____ الحليلة
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حيثيات الواقع الإقتصادى – الإجتماعى فى السودان، وآفاق التغيير السياسى (Re: elhilayla)
|
Quote: أهلاً وسهلاً بالنطاسي الحُسين بن الحُسين نتابع ونترقب تكملة الحديث لنتناقش سويا قطعاً فيك صحبة ماجد فلا تطيل الغياب في أمان الله _____ الحليلة |
الأستاذ الحليلة تحياتى،
أجدنى فى غاية الأسف عزيزى الحليلة وجميع الأعزاء لهذا الغياب القسرى، وأنا أتداخل هنا بين شقوقِ انشغالٍ شديد.
لكنَّك الليلة، بإذن اللهَ، لن ترجع خالى الوِفاض. والشاهد كنتُ قد تداخلت منذ يومين بحيثية أخرى من الموضوع، وفى أثناء تحميلها ضاعت لسبب لا أعرفه.
فللجميع العُتبى.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حيثيات الواقع الإقتصادى – الإجتماعى فى السودان، وآفاق التغيير السياسى (Re: حسين أحمد حسين)
|
1-2-1-3 وقفة مع خطاب الرئيس البشير فى 30/06/1989م:
كعادةِ كلِّ الأنقلابيين، أطل علينا الرئيس البشير فى 30/06/1989م بخطاب (راجع مقتطفاته الرئيسية هنا: http://www.alsahafa.sd/details.php?articleid=30403andispermanent=0http://www.alsahafa.sd/details.php?articleid=30403andispermanent=0) أيديولوجى، ترشحُ منه مكراً أيديولوجيا برجوازية الدولة المتظاهرة بأنها فى نأى عن الطبقات المسيطرة فى المجتمع السودانى، أو على مسافةٍ متساويةٍ من كلِّ الطبقات الإجتماعية. وكان ذلك كذباً صُراحاً؛ إِذْ أنَّ الرئيس يعلم مسبقاً ومنذ الوهلة الأُولى أنَّه يقود إنقلاباً عسكرياً بإسم الجبهة الإسلامية القومية. إلاَّ أنَّه أراد أن يكتبَ، أوَّل ما يكتبُ، فى صحيفته السياسية أنَّه كذَّاب. قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيكذب المسلم؟ قال لا". وهذا النفى القاطع من الصادق المصدوق "صلوات ربى وسلامه عليه"، ينفى وينسف أىَّ صفة إسلامية تتنطع بها الإنقاذ (الجبهة الإسلامية القومية) حتى إشعار آخر.
إذاً، هذه الصفة وحدها، التى يُظهر فيها البشير خلاف ما يُبطن، تستوجب جداراً سميكاً من الأيديولوجيا، لتغطية التناقض الذى على محمول النفاق (أُنظر الفقرة الأخيرة من الخطاب).
كذلك فالطابع الأيديولوجى لخطاب البشير تؤكده حقيقة إصابته بالأمية الديجيتالية، والإكتفاء بدغدغة العواطف الحماسية المُدِرَّة للتعاطف مع إنقلابه فى بادئ الأمر. وبذلك نجد أنَّ مفردة القوات المسلحة ومترادفاتها والمعطوفات عليها، ذُكرتْ أكثر من 77 مرة فى متن الخطاب، والإقتصاد ومترادفاته أكثر من 74 مرة، والسياسة 24 مرة. وذلك يعكس مسبقاً ما يُراد أن يُعمل بالعسكرى والإقتصادى.
كذلك من الأُمور التى تبرهن على الطابع الأيديولوجى لخطاب البشير، هو عدم إستطاعة البشير ومعه كافة أجهزته الحكومية، من إعادة ذلك الخطاب على الشعب السودانى ولو لمرة واحدة (كما كان يجترُّ الإعلام اللَّزج خطاب نميرى مثلاً). وقد خلت كل الإعياد السنوية لذكرى حكومتهم المشئومة من ترداده؛ وذلك ببساطة لأُنَّ المفارقة بين ما قال وما فعل، فاضحة لشأنهم وغير قابلة للتجسير.
ولم يمضِ وقتٌ طويل (بل هى أشْهُرٌ معدوداتٌ) على ذلك الخطاب المُحايد مخاتلةً، حتى أشهَرَتْ الجبهة الإسلامية القومية المحبوسُ عرابِّها تمويهاً، أنَّها الفصيل السياسى للإنقلاب العسكرى. ومن يومها إختلط حابل الدين بنابل الدولة، ليؤسس لدولةٍ إسلاميةٍ إسماً؛ كونها غير متأسِّية بالإسلام الحق المُتَشَرَّبِ كسلوك ومعاملة (الذى رسَّخه حبيبنا النبى محمَّد، صلوات ربى وسلامه عليه، وصحابته الأكرمين)، وغير قادرة على/متجنبِّة لتفسير الإسلام النصوصى على الوجه الصحيح؛ ولذلك لجأت لصناعة أيديولوجيا مفصلة على مِزاجها الخاص؛ مِزاج دنيوى صراعى من الدرجة الأولى، وبعيدٍ من النصوص والسلوك معاً. وذلك لأنَّ الإيديولوجيا أهم من النَّص والسلوك فى المراحل الأولى من تشكُّل دولتهم الوليدة. وهذا يثبت ثانيةً الطبيعة الأيديولوجية لخطاب البشير.
لذلك لم يتورع الترابى من أن يقول (وهو العاجز عن تفسير الإسلام النصوصى): "أنا تعلمتُ أكثر مِمَّا تعلم الصحابة، وانفسحتُ عنهم". بل حتى صِبيانُهُ لم يتورعوا من قول "نحن رجال والصحابة رجال"، وقد سمعنا ذلك منهم. وهذا القول ليس فيه تأسِّى بالإسلام، ولا بنبىِّ الإسلام، عليه من الله أفضل الصلوات والسلام، ولا بصحابته الكرام. هذه أيديولوجيا محضة، هذا هو المشروع الحضارى.
عليه هذه العقلية الإسلاموية تحب العيش فى فضاء الأيديولوجيا، وتهرب من النَّص والتأسّى السلوكى فى وقتٍ متزامنٍ، لا قبل ولا بعد. وذلك لأنَّ مخالفة النَّصَّ يسببُ حرج/مشكلة عقدية، وإذا تعفَّر النَّصُّ بالواقع (أى إذا تأسَّى بالإسلام الصحيح)، أنتجَ معرفةً ماديةً حقيقيةً فاضحةً لسلوكهم المفارق للجماعة، عصريةٍ كانت أم سلفية.
والمحصلة، أنَّ الإنقاذيين يهتمون بالأيديولوجيا الدينية أكثر من إهتمامهم بجوهر الدين الحق (نصوص/سلوك)؛ وقد "أجمعوا أن يجعلوه فى غيابة الجب" (أى الدين)، ليخلو لهم وجهُ أبيهم. ومن السهل أن يُدرك المرء، أنَّ إسلاميىِّ السوادن يتعبدون بالمشروع الحضارى، ولا يتعبدون بالكتاب والسنة. والشاهد، كيف لمسلمٍ يتحقق بالكتاب والسنُّة، يسمح بأنواع الفساد التى طفحت خلال الربع القرن المنصرم، والتى شهِدتْ بها أقلامُهم هم، ووثائقُهم هم، دعك عن أقلامِ الغرماء السياسيين ووثائقِهم.
يُتبع ...
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حيثيات الواقع الإقتصادى – الإجتماعى فى السودان، وآفاق التغيير السياسى (Re: حسين أحمد حسين)
|
2-2-1-3 التمكين:
لعلَّه بات من المعلوم فى أدبيات الإقتصاد السياسى، أنَّ العيشَ فى فضاء الأيديولوجيا يُخوِّلُ القائمين على أمر البلد من غير شرعية، المساس بحقوق الآخرين، وإعطاء أنفسهم فوق ما يستحقون، تحت مسمى الشرعية الثورية/الأيديولوجية (أفضل الشرعية الأيديولوجية، لأنَّ الثورى المُحَقِّق لا يسرق).
غير أنَّه لا أحد كان يتوقع أنْ تكون أُولى الأموال التى تدخل فى تمكين هؤلاء القوم (ومن قبل فى تمويل إنقلابهم) مسروقةٌ من أموالِ الله - من أموال الزكاة. هذا الأمر وحده كافٍ لأن يقاتلهم السودانيون حتى إزالتهم من السلطة. وهى حجة ثانية نُشهرها فى وجه علماء السلطان الذين يُشهرون فى وجوهنا حديث عدم الخروج على الحاكم كلما دارت على النظام الدوائر. وإذا كان الكذب يُخلى طرف نظامهم من الصفة الإسلامية كما جاء بعاليه، فإن سرقة أموال اللهِ أحق بأن تنزع منهم هذه الصفة وتحضُّ النَّاسَ على مقاتلتهم.
وحين نتكلم لكم عن "الإقتصاد السياسى للزكاة فى السودان" فى مُقبل الأيام إن شاء الله، سيدرك الجميع كيف أنَّ هذا النظام الوليغَ فى الفساد، قد عمد إلى تضخيم صرف أموال الزكاة على مصارف دون غيرها متجاوزاً بذلك الترتيب الإلهى "لآية الصدقات". فنجد مثلاً أنَّ مصارف العاملين عليها، وفى سبيل الله والمؤلفة قلوبهم قد إستحوزت على جل أموال الزكاة، وتُركَ الفقراء والمساكين يتكففون دواوين الزكاة، ومنهم من مات على أعتابها دون أن يحصل على جنيهٍ واحدٍ.
أقول ما أقول، وهناك دراسة للعالم الجليل بروفسير الطاهر محمد نور (وهو ليس إسلاموى) عن الزكاة تبرهن بأنَّ أموال الزكاة فى السودان (تلك التى خارج الدورة الإقتصادية لحكومة السودان)، كفيلة بإزاحة الفقر كليةً عن السودان، إذا ما رُوعىَ فيها الترتيب الوارد فى الأية الكريمة. ولكن هيهات، فتوزيع الزكاة على الفقراء والمساكين، سيحرمهم من الصرف على دواعش الكوكب.
أمَّا على مستوى الدورة الإقتصادية لحكومة السودان، فإنَّنا نلحظ تماهى الحزب الحاكم فى الدولة. وبالتالى صار الحزب الحاكم يعتبر أموال الدولة أمواله، وموظَّفيها خُدامه؛ وبدأ يَمُدُّ يدَه بسرقة المال العام دون خِشْيَةٍ أو ورع. ولقد إبتدعت الإنقاذ لذلك سُبلاً شتى: الإعفاء من الضرائب والجمارك والزكوات، التجنيب الضريبى، التهرب الضريبى، التحصيل الضريبى بدون أورنيك (15)، الصرف خارج الميزانية (التبرعات)، الديون الهالكة، إنشاء الصناديق التمويلية خارج وزارة المالية (صندوق دعم الولايات، دعم الشريعة، دعم الطلاَّب، المعاشات، وغيرها)، إشراك بعض المتنفذين فى مجالس إدارات بعض الوحدات الحكومية من غير وجه حق، والقائمة تترى على سبيل النذر لا الحصر.
غير أنَّ أعظم عمليات التمكين قبل إستخراج البترول تمثلت فى عمليات الخصخصة. فقد تبنَّتْ الإنقاذ سياسات التحرير الإقتصادى واختارت لها شعاراً أيديولوجياً برَّاقاً هو "تحريك جمود الإقتصاد السودانى". وقد ثبتَ أنَّ الغرض منها ليس تحريك الجمود فى الإقتصاد السودانى، بل تحريك ممتلكات الدولة من الملكية العامة إلى الخاصة، وبالتالى السيطرة على مفاصل الإقتصاد السودانى وتمكين أعضاء النظام إقتصادياً.
فالتحرير هو أيسر الطرق للسيطرة على الإقتصاد السودانى لا سيما والجبهة الأسلامية القومية تمتلك أموال سائلة طائلة، خاصةً بعد أنْ جمدت أرصدة الخصوم السياسيين عقب تغيير العملة الإول فى مطلع التسعينات من القرن المنصرم والسيطرة عليها بالكامل؛ وقد بدأت تروج لبيع مؤسسات الدولة، وهى البائع والمشترى. لذلك شهد برنامج الخصصة أبشع أنواع الفساد التى يمكن أن تخطر على بالِ بشر.
فمثلاً، معظم المؤسسات تم تأهيلها، لِأغراض البيع، بأموال طائلة مقترضة من الدول الأجنبية، وبيعَتْ بالقيمة الدفترية، بيعاً آجلاً، مقسطاً، وبقروضٍ حسنةٍ ميسَّرة من بنوك الدولة والكثير منها هلك، وقد تم ذلك البيع فى غير أُطره المؤسسية والقانونية للمناقصات. وبعضها أُهدى لحكومات الولايات ومؤسسة الشهيد. وتجدر الإشارة إلى أنَّ المؤسسات الحكومية التى بُدئَ ببيعها هى المؤسسات المدِرَّة للربح، كمؤسسة المواصلات السلكية واللاسلكية والبنوك كنموذج. ولقد وجهتُ سؤالى لمدير عام البنك التجارى السودانى "هل البنك التجارى خاسر؟"، فكانت إجابته أنْ أجهشَ بالبكاء (حسين 2001).
وحينما نعلم أنَّ الأموال المتحصلة من بيع 139 مؤسسة حكومية يساوى (1) مليار و (34) مليون جنيه سودانى (أقل من 53 بيت من نوع بيت وزير المالية الأسبق الذى اشتراه من د. عصام البشير)، بحسب إفادات اللجنة الفنية للتصرف فى مرافق القطاع العام، يتضح لكم حجم التمكين الذى نالته هذه الفئة على حساب جموع الشعب السودانى.
وكما جاء من قبل، فإنَّ الإنقاذ لا شرعية لها بإحداثها لهذا الإنقلاب. وعلى عادة النظم الشمولية، فإنَّها عادة ما تسعى للشرعية السياسية على صهوة الإقتصاد. ولكن كيف؟ فالدولة محاصرة إقتصادياً، وفى حالة مقاطعة شبه كاملة. إذاً السبيل الوحيد هو بإقتطاع الأنفاق على الخدمات الإجتماعية وتصيُّد تحويلات السودانيين العاملين بالخارج، وهذا ما فعلته الإنقاذ بالضبط مع قليل من أموال الزكاة. وهذا الإجراء نفسه له مردود عكسى على الشرعية إذا كان الحاكم ظالماً وفاسداً؛ إذ أنَّ ذلك قد يؤدى إلى زيادة الحنق والغبن الأجتماعى.
وهنا يجئ دور الإيديولوجيا عموماً والدينية خصوصاً، وأهميتها فى شغل النَّاس بخطاب أيديولوجى مهووس يروج لحرب دينية، عنصرية، وجهوية. فاكتساب الشرعية السياسية بالمنجزات الأقتصادية يحتاج لوقتٍ طويلٍ نسبياً، وطول أمده يضر بالشرعية السياسية المنشودة نفسها؛ ذلك لعمرى لغز الشرعية عند الأنظمة الشمولية.
فالأنقاذ عديمة الأخلاق بحثتْ عن شرعيتها عن طريق الإقتصاد، متخذةً القهر والحرب كلاهِيَيْن للنَّاس عن عما تمَّ إستقطاعه من صحتهم وتعليمهم. والحرب كما يقول مارك دوفيلد "هى المحور السرمدى لأغراض إعادة صياغة الشعوب" (Duffield 2008). فليمُتْ من يمُتْ تحت شعارها الأيديولوجى "هى لله هى لله، لا للسلطة ولا للجاه"، و" سلام البنادق"، حتى يتم إنجاز المشروع الأقتصادى الذى يكسبهم شرعية فاعلة.
وعلى فكرة، فإنَّ المنجزات الإقتصادية قد دعمت الشرعية المتهافتة لدول شمولية كثيرة. فكوبا وفياتنام بهما واحد من أحسن أنواع الخدمات الصحية فى العالم. كما أنَّ سوريا الأسد (الأب)، بها مثال نادر لتنمية ريفية إنتفع بها سكان الريف السورى، وخففتْ كثيراً من وطئات الهجرة من الريف للحضر التى إنتظمت معظم دول العالم الثالث منذ بداية ثمانينات القرن المنصرم.
وعلى العموم، حينما جاء الوقت لتوزيع عائدات المنجز الإقتصادى (النفط)، تمَّ توزيعه بشكلٍ مجحفٍ للغاية. فـ 95% من عائدات البترول تمَّ توزيعها على تنظيم المؤتمر الوطنى بشكلٍ صرف كما جاء آنفاً. وتقاسمت الحكومة الـ 5% المتبقية مع الحركة الشعبية. وعند هكذا مرحلة، لابد من إخراج الوعى الزائف، والشعارات الأيديولوجية المكذوبة. فالأيديولوجيا الدينية التى قالت أنْ "هى لله هى لله"، لم تعد قادرة على ستر عورات النظام وسوءاته، ولابد من إستبدالها.
وليس غريباً عند هذه اللحظة بالذات، أن يرى المرئ أنَّ الأنقاذ بلا أيديولوجيا ثابتة، بالرغم من وجودها إبتداءاً. لأنها ببساطة بدأت تتخلص منها، من وعيها الزائف. فالخطاب الأيديولوجي الجهادى، قد أدَّى دوره بالكامل، وهو شغل الناس بالحرب حتى موعد الأتيان بالشرعية السياسية على صهوة المنجزات الإقتصادية.
وقد كان من الممكن للمنجزات الإقتصادية، كما أشرنا أعلاه، أنْ تجلب شيئاً من الشرعية السياسية للنظام، لو أنَّه إتصف بصفة العدل. وذلك لم يحدث، لأنَّ عائدات المنجز الإقتصادى قد تم توزيعها بذلك الشكل الضيزىّ، والذى يؤسس لحقيقة مهمة، وهى: أنَّ هذا النظامُ نظامٌ غير سوى، ويتمتع بقدر لايضاهيه قدر من فساد الأخلاق وفساد العقيدة وبالتالى شغفه بالفساد المالى. وكل ذلك مشفوع بعقيدة إنتقام من الشعب السودانى، ما أنزل الله بها من سلطان. إذ لا يوجد تنظيم على وجه هذه البسيطة يأخذ مال الإنفاق على الخدمات الإجتماعية للشعب، وكذلك عائدات السودانيين العاملين بالخارج، ويمول بها مشروعه الأقتصادى (النفط)، ثمَّ يحرمهم بالكلية من عائدات ذلك النفط التى بلغت أكثر 250 (100 مبيضة) مليار دولار (النفط نفطى إستخرجته وحدى، وسوف أنتفع به وحدى. وحدك كيف؟ ألم تموِّل البترول باستقطاع مال الخدمات الإجتماعية وعائدات المغتربين؟)، ويبنى لهم بعض المشاريع ذات الجدوى الإقتصادية الخرقاء بالإستدانة من العالم الخارجى، حتى بلغت ديون السودان بحسابات بنك السودان المركزى 43.8 بليون دولار ، وقد كانت قبيل مجئ هذا النظام الفاسد 14.3 بليون دولار.
إذاً، فالأمر لم يكن لله، ولم يكن ديناً ولا شيئاً من ذلك. بل كان غطاءاً أيديولوجياً وظَّفَ الدين لتحقيق منجز إقتصادى يجلب الشرعية. ولمَّا لم يُراع التوزيع العادل لعائدات ذلك المنجز الإقتصادى، تكون بذلك قد باءت كل مجهودات الحصول على الشرعية السياسية بالفشل، وتحول المنجز الإقتصادى إلى محضِ تمكينٍ لم يرقب النظام فى مُمَوِّلَيْه (السودانى المقيم والسودانى المغترب) إلاًّ ولا ذِمَّة.
إذاً، المحصلة هى سقوط الشعارات الدينية، وأيديولوجيا تحريك جمود الإقتصاد السودانى، والتى تحت غطائهما مُكِّنَ لعناصر ما يُسمى بالجبهة الإسلامية القومية أن تسيطر على عصب الإقتصاد السودانى بطريقة لا تمُتْ للدين ولا بالمنافسة الحرة بصلة. وقد أخرجوا أسماء رأسمالية معروفة خارج حلبة الإقتصاد السودانى. وقد نُهِبَتْ البلد على نحوٍ لم يشهده السودان فى تاريخه الحديث أو القديم.
فها هى الإنقاذ إذاً تتخلى عن أيديولوجيتها الدينية التى فشلتْ فى ستر الفساد (وأخر شئ كان يتوقعه المسلم من حكومة ترفع راية الإسلام هو سرقة المال العام، وفساد الذمم، والمحاباة، والظلم، والرشوة، والإختلاس، وصرف الزكاة فى غير مصارفها) وتتحول إلى الأيديولوجيا الإقتصادية، وتصيرُ مثلها مثل أحزاب الدنيا إلى حزب دنيوى، يسعى للسلطة فى إطار حيثيات صراع طبقى عادية، وعارية عن أىِّ قدسية دينية.
والسؤال الذى لابدَّ من الإجابة عليه هو، أنَّ الإنقاذ فى حالة إنكشاف سياسى (فقدان الشرعية)، وإنكشاف أيديولوجى (سقوط القناع الدينى)، وإنكشاف إقتصادى (القسمة الضيزى للثروة)، وأخيراً الإنكشاف الدُّبلُماسى (الإنقاذ دولة إرهابية)، فلماذا يقبل زعماء قوى الإجماع الوطنى مع قدرتهم على تحريك جماهيرهم بالتفاوض مع نظام متهافت؟ لماذا نطيل عمر هذا النظام بالإشتراك معه فى إطار حكومة قومية/ذات قاعدة عريضة، حكومة لا تحاسبه على ما اقترف يُمنةً ويُسرى، وبذلك نعطى النظام وسيلة بقاء داخلية لم يحلم بها؟
هل السبب هو اليأس الذى يعترى التحالف النشاز بين الشرائح الرأسمالية والأحزاب الراديكالية لِأكثر من 60 عاماً؟ (أتمنى ذلك). وماذا لو إستطاع النظام أن يكسر الطوق الخارجى، هل ستكون الحكومة القومية فى مهب الريح؟ هل نلوم الجماهير فى عدم وجود بديل، والمتكلمون بإسمها فى حالة تحالف مع الشرائح الرأسمالية؟ لماذا تنصلت الإنتلجنسيا السودانية عن قيادة الجماهير؟ هل لأنها تذبذبت نحو الرأسمال؟ هل سممتها الحكومة؟
يُتبع ...
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حيثيات الواقع الإقتصادى – الإجتماعى فى السودان، وآفاق التغيير السياسى (Re: حسين أحمد حسين)
|
4- المحصلة: تعيين محدداتِ التشكُّل الإقتصادى/الإجتماعى:
1 – إنَّ دعم المستعمر لمراكز القوى السابقة لمجيئه، تحت مِظلَّة قبضته المركزية القوية، وتحويلها إلى كوادر كومبرادورية مستأمنة على تمدد النظام الرأسمالى، كان له الأثر الأعظم فى التشكُّل الإقتصادى - الإجتماعى فى السودان. بل إنَّ إستمرار القبضة المركزية القوية بواسطة الدولة الوطنية، فيما بعد الإستقلال، والرعاية الليبرالية لهذه الكوادر- المجموعات الإقتصادية، وحمايتها من خطر الشيوعية حتى نهاية الحرب الباردة؛ يعتبر من المحددات الأكثر تأثيراً فى معادلة العملية الإنتاجية فى السودان؛ لصالح رأس المال على حساب العمل، وبالتالى أثَّر ذلك فى التشكل الإقتصادى - الإجتماعى بشكل جدُّ محسوس.
2 - لعلَّ الصراع الأزلى بين الشرائح الرأسمالية والشرائح الضعيفة هو ثانى أهم محددات التشكل الإقتصادى - الإجتماعى فى السودان. بل هو الذى صبغ حياتنا السياسية بالتقلُّب بين الحياة المدنية والعسكرية لمدة 60 عاماً: هى عمر الحرية (الإنعتاق من الإستعمار المباشر) عندنا فى السودان. وإدارة هذا الصراع (والفشل فى إدارته) لصالح كل وكلاء العملية الإنتاجية (عمال + رأسمال = الإنتاج "فى الصيغة المبسطة") بشكلٍ عادلٍ مُزيلٍ للغبن الإجتماعى، يُشكِّل المحك والمحدد الرئيس لتحقيق التنمية، والسلام الإجتماعى، وبالتالى الإستقرار السياسى.
3 – ويترافق مع المُحدِّد أعلاه تأثيراً فى التشكل الإقتصادى - الإجتماعى، محدد الصراع على السلطة، وبالتالى التحالف مع شريحة الدولة لتجيير معادلة العملية الإنتاجية لصالح الرأسمال على حساب العمال والقوى الحديثة، أو العكس. فهذا من المحددات الرئيسة للتشكل الإقتصادى - الإجتماعى، ويمثل خصوصية الفارق فى القوة بين الشرائح الإجتماعية المتنافسة. وبإبتعاد الصراع على السلطة عن الأيديولوجيا والتنميط والأحكام المسبقة، فبإمكانه أن يتحول إلى صراع برامج لخدمة الشعب (لخدمة وكلاء العملية الإنتاجية). بمعنى آخر؛ فبدلاً من عاش فلان ويسقط علان؛ ماذا فى جُعبة فلان وعلان من برامج لخدمة الشعب (لخدمة كافة وكلاء العملية الإنتاجية)؛ وقابلة للحياة والتطبيق العملى العلمى. فالتنظيمات الحية تتنافس لخدمة شعوبها لا لنهبها.
4 – الشريحة الأطول تحالفاً مع شريحة الدولة، وبالتالى لها القدرة على التأثير فى قراراتها، هى الشريحة ذات الهيمنة، وصاحبة القَدْح المعلَّى فى التأثير على التشكل الإقتصادى - الإجتماعى فى السودان. وبذلك تشكل واحداً من أخطر المحددات تأثيراً فى الواقع الإقتصادى - الإجتماعى والسياسى.
5 – القدرة على تراكم رأس المال وإعادة إستثماره على المستوى العام أو الخاص، يشكل واحداً من أهم المحددات فى تشكيل واقعنا الإقتصادى والإجتماعى والسياسى فى السودان (قدرة الدولة على الإدخار "إستغناء الشعب عن جزءٍ من مال الخدمات الإجتماعية، كالإستقطاع القسرى لـ 50% من التعليم والصحة لتمويل البترول"، تراكم رأس المال الخاص (الإسلاطفيليات المالية)، وعائدات السودانيين العاملين بالخارج، مثالاً).
6 – غياب (ووجود) الخطط الإستراتيجية الوطنية الموجهة للإقتصاد نحو قطاعاته المنتجة (وغير المنتجة) يعد من الموضوعات المهمة فى مسألة التشكل الإقتصادى/الإجتماعى فى السودان.
7 – يترافق مع عاليه تأثيراً فى تشكلنا الإقتصادى - الإجتماعى فى السودان (مع غياب الديموقراطية - الرقابة المجتمعية والشفافية واستقلال السلطات)، دآءان عضالان هما الفساد واستشراء الطفيلية، بما يتركان من أثر سلبى على القيم الكلية للمجتمع.
8 – حدة النبر الأيديولوجى القائم على حدة التناقض الطبقى والغبن الإجتماعى، وبالتالى ربما الإنقلابات العسكرية الحارسة لمصالح الشريحة ذات الهيمنة المتحالفة مع الدولة بطبيعة الحال، تشكل واحداً من أخطر محددات واقعنا الإقتصادى والإجتماعى فى السودان.
9 – غياب التوازن فى العملية الإنتاجية (رأس مال + عمال = الإنتاج، فى صيغته المبسطة) بهيمنة الشرائح الرأسمالية عليها وعلى محصلتها (خاصة الشريحة ذات الهيمنة)؛ وبالتالى غياب الأحزاب العمالية، ضعف وعدم فاعلية الأحزاب التى تتحدث بإسمِ العمال فى إحداث التوازن فى العملية الإنتاجية، ومن ثمَّ فى العملية السياسية للظروف المذكورة فى الفقرة (1) بعاليه، ولظروف التحالفات السقيمة المزمنة للِأحزاب التى تتحدث بإسمِ العمال والإنتلجنسيا السودانية مع الشرائح الرأسمالية (خاصة الزراعية والتجارية) لِإنجاز مصالحهم المتناقضة مع هذه الشرائح الرأسمالية التى تحالفوا معها؛ كلُّ ذلك يُعقِّد المشهد السياسى السودانى ويشكِّلُ محدِّدَاً مهماً فى واقعنا الإقتصادى - الإجتماعى والسياسى.
إذْ، كيف يمكن للشرائح المستنيرة أن تتحالف/ (وتستمر فى التحالف) مع الشرائح الرأسمالية ولمدة ستين سنة ويزيد، لِإنجاز مصالح العمال والمستضعفين، دون أن نتوقع الفشل، بل والفشل المزمن فى إحداث ذلك التوازن المنشود فى العملية الإنتاجية؟ فأىُّ نتيجة غير الفشل، تصبحُ أُكذوبة الدهر. ولذلك يظل خطل التحالف السقيم للشرائح المستضعفة مع الشرائح الرأسمالية الذى يجرهم إليه المتعلمون السودانيون لِإحداث توازن لصالح هذه الفئات الضعيفة محدداً مهماً فى حياتنا السودانية.
وبعبارة أُخرى، فإنَّ فشل النخبة المستنيرة المتحدثة بإسم العمال وعجزها فى إحداث التوازن فى العملية الإنتاجية لستٍ من العقود ويزيد، يضيف بعداً مهماً فى عملية التشكل الإقتصادى - الإجتماعى فى السودان.
10 – لعلَّ تعاطى وكلاء العملية الإنتاجية وأحزابهم فى السودان مع الخطاب الليبرالى العالمى (قبل وبعد الحرب الباردة) يساهم فى تشكيل الواقع السودانى بدرجة كبيرة. ففهم كيفة إدارة العالم، والتعاطى الحكيم وفن التفاوض واللباقة السياسية فى التعامل مع القوى ذات التأثير على التشكل الإقتصادى - الإجتماعى العالمى، وبالتالى فى السودان، يساهم فى رسم واقع مفيد لكل شرائحنا الإجتماعية فى السودان، الغنية والفقيرة.
11- كما أنَّ عبء سداد الديون (المتوارث أصولها بطبيعة الحال من الفترات العسكرية بالأساس) والتجاذب والمفاضلة الصعبة بين الإنفاق على الخدمات الإجتماعية وخدمات الدين الخارجى، خاصةً فى الفترات الديموقراطية التى تكون فيها الفئات الراديكالية فاعلة، يشكِّلُ واحداً من أهم وأخطر محددات الواقع الإقتصادى - الإجتماعى فى السودان خاصةً على أيام الحرب الباردة، وحالياً بدرجاتٍ متناقصة. فمثلاً، حينما يتشدد الدائنون على سدادِ ديونهم بالضغط على قوت الشعب وخدماته الإجتماعية (وضعاً يلجأ إليه النظام الليبرالى العالمى حينما يقوى عود الراديكاليين)، فذلك يعنى أنَّ ثمة خطر وشيك على رأس المال وشرائحه، وبالتالى عليها أنْ تجعل العسكريين يتحسسون إنقلاباتهم على الديموقراطية، وهكذا دواليك.
12 – الدخول المفاجئ للصين فى أفريقيا؛ الدولة المحورية، ناعمة الإمبريالية حتى الآن؛ المؤمنة بالمنافع المتكافئة فى العملية الإستثمارية، والقادرة على حماية إستثماراتها ضد التغوُّل الإمبريالى الإنجلو - ساكسونى؛ بدأ يُشكل محدداً مهماً فى التشكل الإقتصادى - الإجتماعى فى السياق السودانى.
فبدلاً من أنْ ينمو السودان (أفريقيا) من وراء ظهر النظام الرأسمالى الليبرالى المكرس ضد رأسمالية الدولة (كما فعلت آسيا فى بادئ أمرها)؛ فتحت حماية الصين يمكن للسودان أنْ ينمو على عين تاجر الإمبريالية الغربية.
13- مع غياب حزب عمال وقوى حديثة سودانى، ومع وقوع كل رؤساء الأحزاب التى تتحدث بإسم العمال والقوى الحديثة وحلفائها من الشرائح الرأسمالية فى الفئة العمرية (70-85)؛ فإنَّ الديموغرافيا الحزبية السودانية، تكون فى حالة إختلال هيكلى حينما يكون الحديث عن التغيير، وتؤثر كمحدد فى التشكل الإقتصادى - الإجتماعى فى إطار الواقع السودانى.
فأهلُ هذه الفئةِ العمريةِ، مدبرون عن الحياة؛ يميلون إلى التوفيقيةِ، يخافون عواقبَ الأُمور، خاصةً تلك المتعلقة بولادةِ الفتن (يخافون التغيير). فيمكن أنْ نلحظَ بكلِّ بساطة، أنَّ كلَّ مفكرينا وسياسيينا وأُدبائنا الذين يقعون فى هذه الفئة العمرية، يميلون إلى الخيارات الأضعف بين البدائل المطروحة.
وإذا نظرنا لكلِّ أحزابِ التجمعِ الوطنى الديموقراطى قبل الإنفصال (باستثناء الحركة الشعبية لتحرير السودان، وفئة المؤتمر الوطنى بعد الإنشقاق) سنجد أنَّ هذه الأحزاب مسقوفة بهذه الفئة العمرية، ولهذا السبب بالذات، فشلتْ فى أنْ تُديرَ صراعاً ضد الحكومة يُفضى إلى تغيير.
والحركة الشعبية مستثناة ومعها فصيل المؤتمر الوطنى، لأَنَّ رئيسَيهما والقائمين على أمرِيهما، تجدهم كلَّهم خارج هذه الفئة، وأفكارُهم حبلى بالنزوع إلى التغيير. ولكن هبْ أنَّ أبِل ألير، مازال رئيساً لهذه الفئة، وكذلك الترابى، إذاً لاختلفَ الأَمر جِدا.
ويُدلِّلُ على هذا القول، حالات الأنقسامات التى طالتْ كلَّ الأحزاب السياسية السودانية. وهى على فكرة ليستْ بإنقساماتٍ نابعةٍ من تبدُّلِ المواقف الفكرية أو الأيديولوجية، ولكنَّها نابعةٌ بالضرورةِ من صراعاتِ الأجيال (الفئات العمرية المختلفة). فالذين يحملون جُرثومة التغيير فى تضاد مع الفئة العمرية المحافظة (حالة حق/ الحزب الشيوعى، حزب مبارك الفاضل/حزب الأُمة القومى، مؤخراً شباب الختمية بأمريكا/الاتحاد الديمقراطى، المؤتمر الوطنى/المؤتمر الشعبى).
وإذا أردنا ذلك على مستوى دورة حياة الفرد، نجده أيضاً منطبقاً وبكلِّ الوضوح. فمثلاً، الطيب صالح عندى لم يُغيرْ موقفَه من النظام البتَّة فى آخر مقابلة تلفزيونية، http://www.youtube.com/watch?v=wqf2IZrv6U4andfeature=player_embeddedhttp://www.youtube.com/watch?v=wqf2IZrv6U4andfeature=player_embedded
ولكنْ غيَّرَ بدائلَه لوقوعِهِ فى ذات الفئة العمرية، أضف إليها حالة الضعف والوهن المصاحبة للمرض. فالرجل أُجرىَ معه اللقاء وهو للتوِّ خارج من غيبوبة مرضِهِ. ومن الطبيعى فى وضعٍ كهذا أنْ تميلَ النفسُ البشرية إلى اللين، هذا إذا وعتْ فى الأصل ما قالتْ وما سوف تقول..
وما يحزن، هو إنصباب اللَّوم والتقريح على الطيب صالح وهو فى تلك الحال، ولم تُقال كلمة واحدة فى حقِّ هذا النظام القبيح الخبيث الإنتهازى الذى يحاول أن يستغلَّ حالةَ الضعفِ التى يمرُّ بها سياسيونا ومفكرونا وأُدباؤنا ليخلقَ منها حالة مؤازرة لواقعِهِ المتهافت. بل أصبحَ يُدخلُ شبابَنا فى حالة من اليأسِ والتيئيس من إحداث التغيير، بترويجِهِ إنعدام البديل المكافئ له، إذا كان سيجئ بأُناسٍ من الفئة العمرية المدبرة عن الحياة، لا سيما وأنَّ النظام يحمكنا بالفئة المُحْدِثة للتغيير (الجيل الثالث والرابع والخامس، بعد عزل الترابى وزمرتِهِ).
مثال آخر على دورة حياة فرد، هو حالة الأُستاذ محمد إبراهيم نُقُد (نسأل اللهَ أن يرحمه بالرحمة الواسعة). فانظر إلى البديل الذى اختاره فى لقاء جامع من الزملاء والزميلات، إِذْ يقول: "نرجو من الذين يُصلُّون منكم، والذين يذهبون إلى الحج، أن يسألوا الله فى السجود والمَواطِنِ التى يُستجاب فيها الدعاء، أن يُخلصنا من هذه الإنقاذ"، حديثُهُ بهذا المعنى ().
ربما يقرأُ قارئٌ مَغْروض، أنَّ هذا تغيير فى الموقف الأيديولوجى والسياسى والفكرى للسيد محمد إبراهيم نقد، بإعتبار أنَّ الحزبَ الثورى مناطٌ به التغيير الثورى. ولكنِّى أرى أنَّ الأُستاذ محمد إبراهيم نُقُد، لم يَحِدْ عن أفكارِهِ قيدَ أُنملةٍ، وحاشاه. فالرجل كما عرفناه صلِداً وجلِداً، ولكنَّ خياره من بين الخيارات المطروحة هو خيار هذه الفئة المدبرة عن الحياة، خيارٌ هينٌ ولين، وعلينا أن نعى ذلك.
وذلك بالطبع ينطبق على أستاذ الأجيال المرحوم محمد عثمان وردى حين إلتقى الرئيس البشير، وينطبق حتى على الموقف الأخير للأُستاذ الدكتور بشرى الفاضل الذى فرِحْنا لنيلِهِ جائزة الطيب صالح للقصة القصيرة، وحَزِنَّا حتَّى طارتْ عصافيرُنا، لأَنَّها من عطايا الطفابيع. ولكن هى قدرية الوقوع فى هذه الفئة العمرية يا عزيزى القارئ، إلاَّ منْ رُحم، وقليلٌ ما هم (من أمثال الأستاذ التيجانى الطيب).
وكما يعلم القارئ الكريم، فإنَّ جلَّ كتابات المفكر والأديب الطيب صالح، تدور حول دورة حياة الإنسان. فانظرْهُ وهو يشرح عنوان روايتِهِ بندرشاه (ضو البيت/مريود) إذْ يقول هى: "أُقصوصة عن كون الأب ضحية لِأَبيِهِ وإبنِهِ". فتلبية حاجيات الأبناء، تُؤثرُ تأثيراً بالغاً على طورنا المنتج - طور التغيير فى حياتنا (الفئة العمرية 15-45)، وذات الطور يتأثر تأثيراً حادَّاً بسلوكِ/إملاءاتِ الفئة التى تسبقه، خاصة فى ظل نظام أبوى ينعدم فيه الضمان الحكومى. ولعلَّ أستاذنا الطيب صالح يرمز إلى حقيقة وُجودية وإلى طابع صراعى جدلى للشخصية السودانية، بشكلٍ خاص.
فهل نلوم أُدباءنا ومفكرينا وسياسيينا، على عجز فئتِنا العمرية وتقاعسها عن أداء واجبها فى التغيير؟ ربما كانت الإجابة فى الفكاك من هذا النظام الأبوى بشكل لا يخدش هؤلاء الأكابر، مستصحبين حكمة الشاعر محمد مدنى: "أَحتاجُ دوزنةً تَفُكُّ حِبالَكم عنى وتُربِطُنى بكم". كذلك، لا يكتمل الحديث عن هذه الجزئية إلاَّ بتشخيص حالة الجبهة الإسلامية القومية، إذْ كانت هى الأُخرى مسقوفة بأفراد من ذات الفئة العمرية التى تحدثنا عنها بعاليه. ولم تنزع إلى التغيير، حالها كحال بنات عمها، إلاَّ بعد حدوث شيئين إثنين: الأول، هو تهديد مصالحها الإقتصادية الوارد فى حيثيات برناج الإنقاذ الرباعى لعام 1986م القاضى بتصفية آثار مايو، وتفكيك الإقتصاد الطفيلى، وذلك أمرٌ يحتاج إلى مغامرين. والثانى، هو إيجاد من يُنيبون عنها فى إحداث التغيير من العسكريين (المغامرين) الواقعين ضمن الفئة العمرية المناط بهم التغيير، وقد كان ما كان فى عام 1989م. ومن يومها، فالسودان محكوم بالفئة العمرية المناط بها التغيير داخل منظومة الدولة، وتنازعها الفئة العمرية السابقة لها (أى الجيل الأول والثانى من الجبهة الاسلامية القومية) قيادة البلد حتى منتصف التسعينات من القرن المنصرم.
وعلى أيام الفصل الدرامى الأول من هذه الحكومة المتنازع عليها من الداخل، حشد الترابيون التكنوقراط مناصريهم فى شكل مليشيات عسكرية موازية للعسكر، وضامنة لبقائهم فى الحد الأدنى ضمن معادلة شاخصة من توازن الرعب، وقادرة على إفعال تغيير حين يحين التغيير، وقد تم كل ذلك باستغفال التكنوقراط للعسكر.
ولمَّا لم تجد الفئات العمرية المناط بها التغيير داخل تنظيم الجبهة الاسلامية القومية (الجيل الثالث والرابع والخامس) بُدَّاً من عزل الفئات المحافظة المشوشة لها فقد فعلت، وذلك بعزل وإبعاد الجيل الأول والثانى (الترابى وصحبه) من جهاز الدولة. وهى أول سابقة من نوعها فى تاريخ التربية السلوكية السودانية، حيث عُزِلَ الروَّادُ بواسطةِ أتباعهم. وأنظر إلى ما جرَّه ذلك من فتن (تلك التى تورَّع عنها أصحاب البصائر، وكان الطيب صالح كثيراً ما يجهر بخوفه من هذا النوع من التغيير) قسَّمتِ الوطن، ووقع باقى جحيمها على أبرياء دارفور والنوبة والأنقسنا وغيرهم (وجرمٌ جرَّهُ سُفهاءُ قومٍ، فحلَّ بغيرِ جارمِهِ العذابُ).
لقد فعلتْ هذه الفئة فَعلتها التى فعلت، وبدأت تُثَبِّطُ همم التغيير المتوقع من خارجها بكلِّ الوسائل، الإعلامية منها، والأمنية، وما عُرِفَ مؤخراً بالجهاد الإلكترونى. وكانت تُكرِّس لِأيديولوجيا اليأس وإنعدام البديل لدى الأحزاب الأُخرى المسقوفة بأُؤلئك الشيوخ الميئوس مع وجودهم إحداث التغيير، بل وبدأت تُجنِّد وتستميل أنصار تلك الأحزاب من الشباب لصالح مشروعها المتهافت بكلَّ الوسائل. وما لم يحدث تغيير فى ديموغرافيا الأحزاب السياسية الممانعة، يسمح بصعود الفئات القادرة على جلب التغيير، فإنَّ التغيير سيكون محكوماً عليه بالفشل.
فكلُّ رؤساءِ أحزاب التجمع الوطنى الديمقراطى التى خرجت فى عام 1989م لتعارض النظام عسكرياً ومدنياً، لا تستطيع أنْ تتبنى ذلك الخيار الآن وهى بتركيبتها الديموغرافية الحالية. وانظر لحالها: حزب الأمة من الجهاد العسكرى، إلى الجهاد المدنى، إلى المشاركة فى السلطة، وربما مصاهرتها. الإتحاد الديمقراطى من القبول لكل أنواع الجهاد السابقة بحكم ترؤس رئيس الحزب (رضى الله عنه وأرضاه) للتجمع الوطنى الديمقراطى إلى المشاركة فى السلطة. الحزب الشيوعى من سلاح التغيير الثورى إلى سلاح الدعاء، وعلى ذلك قس (موقف الأمام الصادق فى نداء السودان، هو بإيعاز من جيل د. مريم الصادق).
وحتى الجبهة الإسلامية القومية التى تحكمنا بعناصرها الحية من ربع قرن، والتى شاخت الآن، قد فطنت إلى حقيقة أنَّها بتركيبتها الحالية ستصبح غير قادرة على صناعة التغيير أو مجابهة ذلك التغيير القادم من خارجها، فصعدت منذ أقل من عام، كوادرها الشابة تلك التى طالبت بالتغيير، لتقود مقاليد الأمور بالبلد. إذا،ً فالجبهة الإسلامية، شئنا أم أبينا، تتقدم علينا بمسألة الإنتباه للعمر حين استدار الزمان دورته. ففى ظل 25 سنة، هاهى تصعِّدُ القوى الحية مرتين، ونحن فى سُباتنا/يأسنا العقيم. العالم من حولنا، يحترم هذه الفئة التى نحن بصدد تغييرها، ولا يخرج عليها ولا يغمطها دورها، كما فعلت الجبهة الإسلامية القومية العآقَّةُ بعرَّابِها، ويُحولها إلى فئات إستشارية، فئات حكماء، وإنْ شئتَ فقل مجلس شيوخ (حالة أمريكا) أو مجلس لوردات (حالة بريطانيا). ونحن فى عالمنا الأبوى هذا وما عليه من أخلاق سودانية، علينا ألاَّ نُقصى أكابر قومنا على طريقة الجبهة الإسلامية القومية، ولكن عليهم أن يترجلوا طواعيةً لأَنَّهم غير مفيدين فى عملية إحداث التغيير. وإن لم يفعلوا (وذلك يصب فى مصلحة النظام)، فعلينا أن ننتظر، "فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر وما بدَّلوا تبديلا".
وأنا من الموقنين بأن ليس بين هؤلاء الأكابر من بدَّل فكره، أو موقفه من هذا النظام اللعين اليَجتهد فى إنتزاع حالات مناصرِة له من الضعف الإنسانى لخصومِهِ، ولكنَّها الشيخوخة.
يُتبع ...
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حيثيات الواقع الإقتصادى – الإجتماعى فى السودان، وآفاق التغيير السياسى (Re: حسين أحمد حسين)
|
قراءة تحليلية للتشكُّل الإقتصادى/الإجتماعى والطبقى فى السودان: 1- لعلَّ من أَهمَّ الملاحظات المتعلقة بالتشكُّل الإجتماعى وبالتالى بالصراع الطبقى فى السودان، هو فشل شريحة الدولة منذ الإستقلال فى الوقوف على الحياد من الشرائح المسيطرة إقتصادياً فى السودان، بل انحازتْ إليها على حساب الطبقات الفقيرة، مما أدَّى إلى خلق إقتصاد قومى غير متجانس، وزادتْ على أثره الفروق الإجتماعية بين أفراد المجتمع، وبين الريف والحضر (المركز والهامش)، وتعمَّقتْ حدة الصراعات الطبقية التى وصلتْ إلى مرحلة الحروب الآن.
2- لقد كانت الشريحة التجارية تحت قيادة التجار الأجانب فى البدء ومن ثمَّ تحت قيادة تجار الختمية، كما رأينا بعاليه، وتماماً كما قالت جانيت من قبل، هى الأكثر إلتصاقاً بشريحة الدولة والحاضن الرؤوم للعناصر الطفيلية حتى من دون علمها كما ذكر أعلاه. وبالتالى ظلَّتْ على الدوام شريحةً مهيمنة، أو قريبة من مركز الهيمنة. كما أنَّها كانت تتبادل مركز الهيمنة هذا مع الشريحة الزراعية (بقيادة الأنصار ومن جاء خلفاً لهم بعد مشروع الهندى للإصلاح الزراعى)، ومع برجوازية الدولة التى كانت تتبع بالأساس للختمية.
لم يحدث أنْ تبادلت الشريحة التجارية مركز الهيمنة هذا مع الشرائح العُمالية والقوى الحديثة على كثرة أفرادها (85% من الشعب السودانى). ومردُّ ذلك إلى غياب حزب عمال وقوى حديثة ينافح عن هذه الشريحة. أما الأحزاب التى تتحدث بإسمها، فهى أحزاب عقائدية (والعقائدة مسألة غير جاذبة لسائر العمال/أهل السودان، أصحاب التدين الصوفى الغالب. اللهم إلاَّ القلة القليلة المعتنقة لتلك العقائد) صغيرة الحجم بيد أنها كثيفة الفاعلية، مُحارَبَة من قبل الليبرالية العالمية، ويُغيِّبها عن ساحة العمال والقوى الحديثة تحالفها المرحلى العتيد (60 سنة) مع الشرائح الرأسمالية لإنجاز قضايا العمال والقوى الحديثة السودانية.
كما أنَّ لاعباً جديداً قد ظهر فى حلبة الصراع الإجتماعى منذ سبعينات القرن المنصرم، وهو شريحة رأس المال المالى بقيادة الجبهة الإسلامية القومية، وقد بدأ يُزحزح القيادة التقليدية لهذه الشريحة (تجار الختمية)، خاصةً بما اقترف من ممارسات طفيلية ومعاملاتٍ فاسدة. كما أنَّه إتخذ من الأحزاب العقائدية التى تتحدث عن العمال والقوى الحديثة غريماً، وناصبها العداء منذ بواكير النشوء؛ هذا إن لَّم يكن هذا اللاعب قد صُنع خصيصاً لمحاربتها كما تشير بعض الدراسات.
3- على الرغم من الإنفاق الحكومى الداعم لِإتمام التمدد الرأسمالى وحماية الشرائح المسئولة عن تمدده بعد خروج المستعمر وحتى نهاية عام 1989م، والداعم أيضاً لمحاربة الشيوعية بإنشاء مشروعات بالكاد تكفى لتغبيش الوعى الطبقى بإيعاز من النظام الليبرالى العالمى، إلاَّ أنَّ الوعى الطبقى بين الفئات المستضعفة كالعمال والموظفين، والفئات المستنيرة (الإنتلجنسيا السودانية)، كان عالياً؛ ويرجع الفضل فى ذلك للأحزاب التقدمية. وقد بدأ شركاء العملية الإنتاجية من هذه الفئات يُطالبون الدولة بتحسين أوضاعهم.
وبالمقابل، ولأغراض مكافئة الأثر الناجم عن المطالبة العمالية، فقد بدأتْ الشرائح الرأسمالية مطالبة الدولة بتوفير مناخ جيِّد للإستثمار، على ما يعنيه ذلك من ضبط الحركات المطلبية التى تنادى بخفض الأسعار، وزيادة الأجور الأمر الذى قد يؤثر على الأرباح. ولمَّا كانت شريحة الدولة دائمة الإنحياز للطبقات الغنية على حساب الفئات المستضعفة، فقد إستطاعتْ شرائح النخبة الإقتصادية أنْ تُجيِّر عائدات العملية الإنتاجية لصالحها، وذلك بالتغوُّل المستمر على حقوق الفئات المستضعفة، وإخراص أصواتِهم بوسائل غير ديموقراطية (كحل النقابات المتكرر أو تجاهل مطالبها، أو حل الأحزاب التى تتحدث بإسمها) آخرها نقابة المنشأة المتناقضة المصالح، والتى يرأسها الوزير أو المدير فى المنشأة المحددة، ويكون العمالُ تبعاً متابعاً فقط.
4- النخب الإقتصادية فى السودان (وفى جميع دول العالم الثالث) غير قادرة على العيش فى مناخ ديموقراطى. إذْ أنَّ الديموقراطية تقتضى وقوف شريحة الدولة على مسافة متساوية من طبقات المجتمع، وتدير العملية الإنتاجية لصالح كلِّ الشركاءِ فيها. وهو أمرٌ لم يحدث قط فى تاريخ التشكُّل الإقتصادى/الإجتماعى فى السودان، وذلك ببساطة لأنَّ هذه النُّخب لا تريده (ما غَنِىَ غنىٌّ إلاَّ على حسابِ فقير)، والخطاب الليبرالى العالمى أيضاً لا يريده، على الأقل فى المراحل الأُولى من التشكل الرأسمالى فى السودان. وذلك لأنَّه عبر الديمقراطية فى السودان، قد يأتى إلى سدة الحكم صوت راديكالى ينادى بمحاربة النظام الرأسمالى، ومحاربة البضائع الرأسمالية، ويا طالما تمَّ قمع هذا الصوت لهذه الأسباب.
لذلك نجد أنَّه كلما علا صوتُ الراديكاليين (المتحدث بإسم الشق الآخر من شركاء العملية الإنتاجية) فى الفترات الديموقراطية، أوحى الخطاب الليبرالى العالمى للشريحة ذات الهيمنة أنْ تسلِّم السلطة إلى عسكريين من إنتخابها هى. لذلك لم يتجاوز مجموع عمر الديموقراطيات فى السودان فى الفترات المختلفة 11 سنة، مقارنةً بـأكثر من 46 سنة من الحكم الديكتاتورى. وكثيراً ما نجد وشائج إرتباط طبقية/حزبية بين الشريحة المهيمنة والأنقلاب العسكرى التالى لها.
5- ولكن الآن، وبعد أنْ إكتمل تمدد النظام الرأسمالى على البسيطةِ كلِّها، لم يعد الخطاب الليبرالى العالمى راغباً فى إجهاض الديموقراطيات. فدعم الديكتاتوريات من قِبَل النظام الرأسمالى، فوق كونه يُمثِّل حالة من التناقض المذهبى وازدواج المعايير، فقد وُجِدَ أنَّه يضرُّ بعمليات تراكم الأرباح فى المدى الطويل.
فوجود ديكتاتوريات فى مرحلة الليبرالية الجديدة (Neoliberalism)، يُعتبر عائقاً فى سبيل مضاعفة الأرباح، ويسمونه الرأسماليات "عليلة الليبرالية" (Ill -Liberalist Forms of Production)، وتُشنُ ضدها حروب واسعة الآن؛ أسميها حروب رأس المال، والليبرالية العالمية لِأَغراض تسويق تلك الحروب تسميها حروب الربيع العربى.
إذاً، المناخ من الناحية العالمية مواتٍ الآن لِإنجاح أى ديموقراطية قادمة. فلنستثمر شبح الحرب الرأسمالية الحتمية القادمة (ربَّ ضارةٍ نافعة) على بلدنا ونستغلَّها لصالح القضاء على هذا النظام الديكتاتورى الذى لايعى ما يدور من حوله. والذى أزعُم أنَّه لو إنتبه، سيتنازل عن الحكم نظير السلامة، ونظير عدم محاكمته لما اقترف من جرائم، ببساطة لأنَّه يحب الحياة. فما فائدة سرقة كل هذه الأموال ثم يموت ويتركها وراءه.
كما أنَّ فقراء تنظيم النظام الحاكم، لن يموتوا نيابةً عن أغنيائه كما فعلوا فى حرب الجنوب، أيام الأيديولوجيا الدينية فى أوجها. ولكنَّ الأيديولوجيا تلك، قد ذهبتْ الآن أدراج الرياح، وليس ثمة شئٍ مقدسٍ فى حقيقة الأمر. بل الأمرُ برمَّته صراع طبقات إجتماعية على السلطة، إستُخْدِم فيه الدين ليُغطى على ممارسات دنيوية ملئها الفساد المالى والإخلاقى، وتعدَّى الأمر إلى إفساد عقيدة أهل السودان السنِّية، بإشاعة التشيُّعِ بينهم، فخرجَ كثيرٌ من النَّاس عن جادَّةِ الدِّين.
إذاً، لن يلدغ بروليتاريا الجبهة الإسلامية القومية من جحرِ تنظيمهم مرتين، بإفتراض أنَّهم عقلاء (ومتدينون صادقون)، وقد رأوا من فسادِ قادتهم ما يجعلهم يحجمون. تماماً كما فعل فقراء الأنصار "المستنيرون" فى يومٍ من الأيام، حينما سألهم أحد أئمة الأنصار أن يأتوا ليذودوا عنه مقابل شبرين فى الجنَّة، فقالوا له: "لا لا، نريدهما فى الملازمين".
6- لعلَّ القمع المستمر بواسطة الخطاب الليبرالى العالمى للأحزاب المتحدثة بإسم الفئات الحية العمالية والمستنيرة فى السودان حتى عام 1989م، والتحالفات العليلة، والقمع المتواصل لهذه الفئات بواسطة الشرائح الرأسمالية والديكتاتوريات العسكرية الموالية لها لأكثر من 46 سنة، أدى إلى غياب الدور الفاعل/المثمر للأحزاب المتحدثة بإسم الشرائح العمالية والقوى الحديثة السودانية (المغيَّبة عمداً فى المشهد السياسى السودانى) فى أنْ تنجز مشروعها الديموقراطى (أو قل الثورة الوطنية الديموقراطية). واكتفت بدور تابع لأحزاب الشرائح الغنية، عبرت عنه الأحزاب المستنيرة المتحدثة بإسم العمال والقوى الحديثة "بالتحالفات المرحلية" والتى استمرت لمدة 60 عاماً، آخرها "التجمع الوطنى الديموقراطى" فى المهجر، وتحالف "قوى الإجماع الوطنى" بالداخل، وأخيراً صيغة "البديل الديموقراطى"، ومؤخَّراً "نداء السودان" بشروط مختلفة قليلاً.
والمرء ليعجب كل العجب، كيف يتبع 85% من الشعب السودانى (بينهم مستنيرون) لإرادة 15% منه وهى كتلة الشرائح الغنية فى السودان (أُنظر إلى تناقض المصالح)؟ لماذا فشلت الأحزاب المستنيرة، رغم قواعدها الشعبية العريضة، فى إقامة حكم ديموقراطى يحقق طموحاتها لمدة 60 سنة ويزيد؟ أين الخلل؟ هل هو فى الشعب السودانى معلم الشعوب الحرية والنضال، وهو بالفعل كذلك، أم أنَّ الخلل فى أُطروحات الأحزاب المستنيرة؟ أنا أميل إلى وجهة النظر القائلة بوجود الخلل فى أُطروحات المتعلمين السودانيين وأحزابهم المستنيرة التى تتحدث بإسم العمال والقوى الحديثة (بإسم الشعب السودانى). فكيف يُعالج هذا الخلل؟ هل من أُطروحة سياسية جديدة مستنيرة تعيد التوازن فى العملية الإنتاجية لصالح كل الشركاء (إنْ لَّم تكن لصالح الفقراء والقوى الحديثة تخصيصاً، بأثر تعويضى)، وتريحنا من حلقات التحالفات المرحلية المفرغة مع الشرائح الرأسمالية؟
أخشى إن لَّم تنتبه القوى المستنيرة والأحزابُ المتحدثة بإسم العمال والقوى الحديثة، أن يتجاوزها الزمن. إذْ أنَّ تداعيات الأحداث، قد تأتى بالأطروحة الجديدة التى نتحدث عنها ومنذ زمنٍ طويل من خارجها، ووقتها لن يكون القول الفصل بيدِ القوى المستنيرة، وربما بيدِ إنتهازىٍّ من الذين تحارب، فنكونُ "يا بدرُ لا رحنا ولا جينا"، ونعود ونستمر من ثانِ فى خبل التحالفات العقيمة. ولعلَّ ثورات ما يُسمى بالربيع العربى تؤيد ما نقول، إذْ أنَّها أتَتْ بموزاييك سياسى، الفاعلية فيه للذين يقدرون على إعادة إنتاج الحدث (الثورة)، وتجييره لصالح الفئات التى يُمثلونها؛ فأين نحن من ذلك؟
7- لقد ترتَّبَ على الخلل المصاحب لِأُطروحات النخبة المستنيرة فشلها المزمن (اللهم اشفِ أُستاذنا د. منصور خالد) فى إستجلاب عضويتها من العمال والإنتلجنسيا السودانية القابعة فى أحضان أحزاب النخب الإقتصادية لستٍ من العقود. كما أنها أخطأت التقدير مرتين وهى تدخل فى تحالفاتها المرحلية مع الشرائح الرأسمالية بعد عام 1989م.
التقدير الخاطئ الأوَّل يتمثل فى أنَّ المعارضة (التجمع الوطنى الديموقراطى) كانت تتوقع دعماً لا محدوداً من الغرب نظير الإعتداء على ديموقراطيتها. وقد كانت تجهل أنَّ الإنقضاض على ديموقراطيتها فى الأصل قد تمَّ بإيعاز من الغرب للشريحة ذات الهيمنة. كما نسيت حقيقة مهمة وهى أنَّ الغرب كان يقدم الدعم التنموى وغيره للدول الفقيرة وحركات التحرر وجماعات الضغط، فى إطار حرب باردة تتطلب توازناتها بين الغرب المهيمن والشرق المقاوم للهيمنة، تمرير بعض الجرعات التنموية ذات الطابع الأمنى لكى لا يُعاق تمدد النظام الرأسمالى، والإنتقال به من مرحلة إعادة الإنتاج البسيط (Simple Reproduction of Capital)، إلى مرحلة إعادة الإنتاج المعقد/التراكبى (Extended Reproduction of Capital). وقد إكتملت حلقات ذلك الإنتقال بإنهيار المعسكر الإشتراكى فى عام 1989م، وبعدها ما عاد دافع الضرائب الغربى يسمح بأىِّ دعم يذهب للعالم الخارجى بدعاوى تمديد وإعادة إنتاج النظام الرأسمالى، والذى بات يتمدد بشكل ذاتى. وقد إنحسر دعم الدول الغنية للفقيرة إلى أقل من 1.1% بعد عام 1989م (بعض أسخياء النظام الرأسمالى (كبِلْ قيتس) فاقت إعاناتهم لفقراء العالم الثالث إعانات الإدارة الأمريكية). حتى أنَّ بعض الكتابات بدأت تتكلم صراحةً عن موت الأيديولوجيات التى تبرر ذلك الدعم (فوكاياما 1992م)، وأُخرى تحدثت بَواحاً عن موت التنمية ( رِستْ 2002م).
إذاً، تُركت المعارضة (التجمع الوطنى الديموقراطى) لموتها السريرى، ولِملَلِها الداخلى، إلى أنْ بُثَّتْ فيها الروحُ من جديد بتداعيات حروب رأس المال الجديدة فى المحيط العربى المجاور.
التقدير الخاطئ الثانى هو أنَّ التجمع الوطنى الديموقراطى لم يدرك أنَّ خروجه من السودان كان داعماً للنظام المحاصر إقتصادياً وعسكرياً من وجهتين. الأولى تقليل الإحتكاك اليومى بالمعارضة، والثانية أنَّ تحويلات السودانيين العاملين بالخارج قد ساهمت مساهمة فعالة فى عمليات تمويل إستخراج البترول (50% من تمويل البترول إستقطعت من قطاعى التعليم والصحة، والباقى من تحويلات السودانيين العاملين بالخارج) الذى بدأ يُكسِبُ النظام بعضاً من شرعية على صهوة المنجز الإقتصادى، أو قُلْ بدأ يُكْسِبُهُ قيمة مضافة سياسية.
8- ولعلَّ المعارضة قد أخطأت أيضاً فى تقدير ثبات الشرائح الغنية (التجارية والزراعية) كفصيل معارض لشريحة غنية أُخرى (شريحة رأس المال المالى) ومن ثمَّ إسقاط نظامها. فذلك الملل الداخلى الذى أصاب التجمع، أصاب أول ما أصاب، الشرائح الغنية المعارضة. فمنها من إنشقَّ ووالى النظام، ومنها من إهتدى (تهتدون) ووالى النظام، إلى أنْ إستوت مجتمعةً كلُّها الآن فى خندق/حلف النظام.
وذلك لعمرى مكانُها الطبيعى فى إطار التشكل الإقتصادى/الإجتماعى. وما هو غير طبيعى هو إنتظار الأحزاب المتحدثة بإسم الفئات المستضعفة والمستنيرة لتحالف جديد مع أحزاب النخبة الإقتصادية (كوثيقة البديل الديمقراطى/نداء السودان)، لينجز لها مشروعها الديموقراطى. أىُّ خطلٍ هذا!! أما آن الأوان لهذه الأحزاب المستنيرة أنْ تبحث لها عن صيغة تلبِّى الطموحات المادية والمعنوية لفئات المستضعفين والقوى المستنيرة فى البلد، وتجمعهم فى حزبٍ واحدٍ واعدٍ مستنير!
لا تُعيدوا علينا هذه الأسطوانة المشروخة، وجددوا أُطروحاتكم، واخرجوا علينا بصيغةٍ تجمع كل العمال والقوى الحديثة فى السودان تحت رايةٍ واحدة تلبى كل تطلعاتهم، الروحية منها والمادية. فأحزاب الشرائح الرأسمالية لا تمثلنا، وتتناقض مصالحها مع مصالحنا، فلماذا نتحالف معها (على الأقل فلنتحالف معها بشروطنا نحن)؟ 9- لا يمكن إنجاز حكم ديموقراطى (والحديث موجه للموقعين على وثيقة البديل الديموقراطى/نداء السودان من الأحزاب المستنيرة) بالتحالف مع شرائح رأسمالية عاجزة عن العيش فى مناخ ديموقراطى. إذاً، لابد من عمل يكافئ/يوازى هذا العجز، ولا بد من عمل شئٍ يجعل شريحة الدولة فى غنىً عن أنْ تتحالف مع أىٍّ من الشرائح الإجتماعية السودانية. وذلك فى تقديرى يكمن فى وجود حزب جامع لكلِّ العمال والإنتلجنسيا السودانية يوازن معادلة العملية الإنتاجية، ويشارك فى مراقبة حيادية شريحة بورجوازية الدولة؛ كما يكمن فى وجود خدمة مدنية مجزية ومستقلة، جيش قومى مستقل ذى هيبة، وبوليس عفيف ومستقل، وقضاء فى كامل الإستقلالية.
10 – التحالف مع شرائح النُخبة الرأسمالية العاجزة، بالتجربة، عن العيش فى مناخ ديمقراطى، يجعل الشعب السودانى مُحِقَّاً (خاصةً قواه الحية العمالية والمستنيرة اليائسة يأس السنين (60 سنة) بسبب ضعف التوظيف والقيمة غير المُجزية لسعر العمل؛ التى ترى من يُمثلها من أحزاب، غير فاعل فى إحداث توازن فى العملية الإنتاجية لصالح كافة شركائها؛ لِما عانته هذه الأحزاب من قهرٍ وحيفٍ وظلم، وللخلل البيِّن فى أُطروحة هذه الأحزاب عن أن تجتذب أعضاءها طرف أحزاب الشرائح الرأسمالية، وللتحالف المزمن مع أحزاب شرائح النخب الرأسمالية هذه) فى أن يسأل عن البديل. نعم البديل هو أنتَ وأنا والجميع؛ ولكن تحت أىِّ مظلة من مظلاَّت الأُطروحات السياسية المبذولة الآن؟ هل التحالفات المطروحة تشكل بديلاً حقيقياً للعمال والقوى المستنيرة فى السودان، أم أنَّها تحمل بذرةَ فنائها بداخلها؛ وبالتالى نكون على أعتاب إنقلابٍ جديد؟
أنا فى تقديرى المتواضع، أرى البديل فى تكوين أُطروحة سياسية (حزب/كيان سياسى) قادرة على تلبية كافة مصالح العمال والقوى الحديثة الروحية والمادية، وبالتالى قادرة على إحداث توازن فى العملية الإنتاجية. وإذا تمَّ إحداث ذلك التوازن، نستطيع أن نَّبنى السودان بإذنِ الله. 11- لعلَّ من الأمور التى لا تُخطئها العين، هو إهتمام شريحة رأس المال المالى (الجبهة الإسلامية القومية) بقطاع الشباب. وهو أمر تنفردُ به فرادةً تجعلها الأكثر تأهيلاً لصناعة التغيير. تعتنى هذه الشريحة بكوادرها، تحرص على تعليمهم وتفوقهم، تنفق على تدريبهم وتأهيلهم لنيل أعلى الدرجات. لم نسمع بين كوادر هذه الشريحة من تمَّ تفرغيه للعمل الحزبى المحض، أو عُطِّلَ تخرجه ليقوم بمهام حزبية داخل المؤسسات الأكاديمية (ومن فُعِلَ به ذلك، زُوِّرتْ وحُرِّرَتْ له الشهادات التى تثبت تفوقه فى غيابه).
وبالمقابل، تحرص القيادات الشائخة للشرائح الرأسمالية الأخرى (وحلفاؤها) كالشريحة الزراعية والتجارية (الأنصار والختمية) على تعليم وتأهيل أبنائهم هم كأُسر، على حساب القطاعات الشبابية فى أحزابهم. والبعض من هذه القطاعات يعمل فيما يمكن نعته بالسُخْرَة (فيما يشبه التفرغ للعمل الحزبى عند الأحزاب التقدمية) لخدمة آل بيت هذه الطوائف. وعليك أن تتصور التغييب الذى يحدث لقطاعات الشباب هذه. كما أنَّ الأحزاب التقدمية التى تتحدث عن العمال والقوى الحديثة حين تُفرغ أعضاءها للعمل الحزبى، فهى بالأساس تؤدى إلى إعاقتهم من الناحية الفنية العملية والمعرفية؛ والقليل جداً من بينهم من حظى ببعثات تعليمية وتدريبية خارج بلدهم مقارنة بأعضاء شريحة رأس المال المالى. والمحصلة هى يأس الفئات المناط بها التغيير داخل هذه الأحزاب.
أما العمال والقوى الحديثة السودانية أهل الوجعة، فلا أحد يهتم بهم، لعدم وجود حزب نابع منهم، يحمل إسمهم، ويشارك فى عملية إحداث التوازن فى العملية الإنتاجية الذى من شأنه أن يجعلهم فى دائرة الإهتمام تعليماً وتدريباً وخبرةً. إذ أنَّ الشرائح الرأسمالية مشغولة بتأهيل أعضائها من الشباب والشباب من أفراد أُسرها، كما أنَّ التدريب الذى تناله الأحزاب التى تتحدث بإسمهم لا يعنيهم فى شئ، وبالتالى يتحولون إلى عالمِ منسىٍّ بالكلية.
هذا الواقع من الديموغرافيا الحزبية المختلَّة: كهول يتقدمون التغيير فى أحزاب الممانعة، وشباب يائس وضعيف التعليم والتدريب والتجربة، وقابع فى المقاعد الخلفية للتغيير؛ كلُّ ذلك يجعل مسألة التغيير فى غاية التعقيد، ما لم تكن هناك أُطروحات حزبية جديدة مناهضة لهذا الواقع.
يُتبع ...
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حيثيات الواقع الإقتصادى – الإجتماعى فى السودان، وآفاق التغيير السياسى (Re: ibrahim alnimma)
|
Quote: شكرا يا استاذ حسين علي هذه السياحة الاقتصادية والسياسية العميقة والتي وضعت حلولا عميقة وجادة ........ اعتقد انه من اجمل ما قرات عن الحالة السودانية وهو بصراحة مطئن جدا ان بالسودان انس يشغلون انفسهم بقضايا الفقراء ولصالح الفئة الاكثر ظلما في المعادلة السودانية االاجتماعية شكرا مرة اخري وساظل متابع لهذا المجهود الجبار والعصف الذهني العميق |
الإستاذ الكريم ibrahim alnimma تحياتى،
يا سيدى أنا ممتن لك على القراءة أولاً، وعلى كل مفردة تحمل ثناءاً وتشجيعاً ثانياً، بل أنت الجدير بالفضل والثناء، وهذا الشعب يستحق منا الكثير.
ميمون حضورك ههنا.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حيثيات الواقع الإقتصادى – الإجتماعى فى السودان، وآفاق التغيير السياسى (Re: elhilayla)
|
Quote: الأخ حسين وضيوفك الأكارم نترقب الحلقة الأخيرة للمواصلة مشكور علي تثقيفك لنا إقتصاديا ودعني أحي عبرك الأستاذ نصر فهو خير عون لك في هذا الخيط لأنه نطاسي آخر أوسكار يا حسين ______ الحليلة |
الأستاذ الحليلة تحياتى،
يا سيدى أنت من يُشكر على الإهتمام والتشجيع، وعلى تقديم شخصك الكريم والأستاذ نصر بتلك اللغة التى يُنبئ محمولُها بأنَّا موعودون بتثقيف أوسع وأهم.
ممنون.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حيثيات الواقع الإقتصادى – الإجتماعى فى السودان، وآفاق التغيير السياسى (Re: حسين أحمد حسين)
|
Quote: خاتمة: هذا تحليل ناقص بالضرورة، ولن يكتمل إلاَّ بأرائكم الثاقبة. وليعذرنى القارئ الكريم على التقصير إنْ جاءت هذه المساهمة أكثر تواضعاً مِمَّا يطمح إليه. وفقط أُنوِّه بأنَّ هناك محلقين* عن معادلة التغيير وحزب العمال والقوى الحديثة السودانى، سيتم إرفادهما لاحقاً، حال الفراغ من الرد على المداخلات. تمَّتْ. |
شكراً جزيلاً الأخ حسين وبالطبع خاتمتك من باب تواضع أهل العلم سنعود إن شاء الله
*هل هناك خطأ طباعي أم هي هــكذا؟ ____ الحليلة
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حيثيات الواقع الإقتصادى – الإجتماعى فى السودان، وآفاق التغيير السياسى (Re: حسين أحمد حسين)
|
حيثيات الواقع الأقتصادى - الإجتماعي في السودان وآفاق التغيير السياسي
معادلة التغيير:
هذه المعادلة هى تلخيص للمداخلة الطويلة الواردة أعلاه، وبواسطتها نستطيع أن نعرف من أين يبدأ التغيير السياسى فى واقع التشكل الإقتصادى - الإجتماعى، وذلك بالإستعانة بمعادلة الإنتاج الشهيرة (الإنتاج = العمل + رأس المال + الأرض + التنظيم + عوامل أخرى بالطبع) فى صيغتها المختزلة التالية:
فى الواقع الإقتصادى الإجتماعى: (العمال/القوى الحديثة) + (رأس المال/المدراء) + (...) = الإنتاج/العملية الإنتاجية/الثورة الوطنية الديموقراطية فى نهاية التحليل.
فى الواقع السياسى (أ): (لا يوجد حزب للعمال والقوى الحديثة) + (توجد أحزاب للشرائح الرأسمالية) + (...) = عملية إنتاجية متحيِّزة لصالح رأس المال.
فى الواقع السياسى (ب): (توجد أحزاب تتحدث باسم العمال والقوى الحديثة، ومتحالفة مرحلياً مع أحزاب الشرائح الرأسمالية لِإنجاز قضايا العمال) + (توجد أحزاب للشرائح الرأسمالية) + (...) = عملية إنتاجية متحيِّزة لصالح رأس المال.
فى الواقع السياسى (ج): لابد من تغيير يؤدى إلى: (توسيع مواعين الأحزاب التى تتحدث باسم العمال والقوى الحديثة لتدافع عن وتشمل كافة العمال والقوى الحديثة حتى تلك المنتمية لأحزاب الشرائح الرأسمالية/أو إنشاء حزب للعمال والقوى الحديثة يدافع عن إستحقاقات هذه الفئة) + (أحزاب الشرائح الرأسمالية) + (...) = (توازن فى العملية الإنتاجية لصالح كل شركاء العملية الإنتاجية) = (إنتاج قريب من مستوى العمالة الكاملة) = (أستقرار إقتصادى/إجتماعى، إستقرار سياسى/ديموقراطية مستدامة، ثورة وطنية ديموقراطية فى نهاية التحليل).
حاشية: (...) = (عوامل الإنتاج الأخرى وضعناها فى الصيغة الصفرية للتبسيط).
هذا المعادلة لا تحتاج لِأىِّ تعقيدات عقائدية ولا أيديولوجية، وإنما تحتاج لإرادة سياسية لتحقيق العدالة الإجتماعية، وهذه الإرادة السياسية إمَّا أنْ تأتى بالتى هى أحسن (من قبل النظام الحاكم بأن يحكم بالقسط)، أو بالتى هى أخشن (بثورة تغيير من قِبل المسحوقين). ولن تخرج من الملة أىُّ فئة عمالية/قوى - حديثة طالبت بحقها عن طريقة الثورة حين يمتنع النظام الحاكم عن بسط العدل بين النَّاس. ولن تُثنينها الشتائم العقائدية ولا الأيديولوجية (بأنَّها كافرة أو ملحدة أو علمانية) عن المطالبة بإستحقاقاتها كشريك أُصيل فى العملية الإنتاجية. بمعنى آخر، لو خلا هذا البلد من العلمانيين بالجملة، فهذه الفئة لن تترك لهذا النظام الفاسد إستحقاقاتها فى العملية الإنتاجية مهما كلفها ذلك.
هذه المعادلة أزلية وتحكى الواقع منذ أن ترك الإنسان إقتصاد الجمع والإلتقاط، ولكنَّ إكتشافَها جاء متأخراً على عهد الإقتصاديين الكلاسيك. وسُقناها هنا لنبين للناس من أين يبدأ التغيير. إذاً، ما يهمنا هنا بالطبع هو إدارة هذه المعادلة بما يُلبى مصالح كل شركاء العملية الإنتاجية. وهنا يبرز دور بورجوازية الدولة. وشريحة بورجوازية الدولة (خاصةً فئاتها العليا) لها ميل طبيعى لشرائح رأس المال على حساب العمال بحكم تكوينها، وكل هذه الشرائح فى المجموع (بما فيها بورجوازية الدولة) تكون ما يُعرف بـحلف القوى الإقتصادي (Power Block). وحلف القوى الإقتصادى هذا، بحكم الدين (ما غنىَ غنىٌّ إلاَّ على حساب فقير) والتجربة (الإستغلال الدائم للعمال بواسطة رأس المال) لا يرقب فى الفقراء إلاًّ ولا ذِمِّة إذا إنعدمت مؤسسات الرقابة الديموقراطية. فالديموقراطية من وجهة نظر الفقراء هى ضرورة دينية وطبقية لمراقبة شريحة بورجوازية الدولة والشرائح الرأسمالية الأخرى (حلف القوى الإقتصادى) وذلك لتحقيق التوازن فى العملية الإنتاجية.
ومع غياب حزب للعمال والقوى الحديثة فى السودان، ومع غياب الديموقراطية، فإنَّ حلف القوى الإقتصادى (الذى تمثله الجبهة والأمة والإتحادى فى المشهد السياسى الآن) ينفرد بكل القرارات الإقتصادية وغيرها ويُجيِّرها لمصلحته خاصة لمصلحة الشريحة ذات الهيمنة (شريحة رأس المال المالى/الجبهة الإسلامية القومية).
وكان من الممكن للأحزاب التى تتحدث بإسم العمال والقوى الحديثة السودانية (أحزاب البورجوازية الصغيرة) أن توسع من صِيَغِها الحزبيةِ لتحُلَّ هذا الإشكال، لكنَّها تمسَّكتْ بدوغمائيتها السياسية والأيديولوجية. ولما عجزت عن إبتداع صيغة حزبية تجمع جميع الفقراء تحت مظلتها (خلا المنتمين إليها عقائدياً) لظروف محتومة ومعلومة، إضطرت هذه الأحزاب للتحالف مع بعض الشرائح الرأسمالية (الشريحة التجارية والزراعية) لأكثر من 60 سنة. وذلك لعمرى ينسجم مع طبيعة هذه الأحزاب كأحزاب بورجوازية صغيرة؛ كونها لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ تتحدث بإسم العمال وتتحالف مع الرأسمال.
وهذه الأحزاب؛ أحزاب البورجوازية الصغيرة، لم تجربْ أبداً، أبداً لم تجربْ أنْ تتحالف مع فقراء الأنصار أو الختمية أو ما يُسمى الجبهة الإسلامية القومية؛ تحالفاتها كلها مع أعيان هذه الأحزاب، ولعمرى لو فعلت لحدث التغيير. فأمام هذه الأحزاب فرصة أخيرة أن تبتدع صيغة حزبية تستوعب كافة العمال والقوى الحديثة، خاصةً تلك القابعة فى أحضان الشرائح الرأسمالية (الجبهة، الأمة، الإتحادى)، وأن تفسخ تحالفها المرحلى المزمن مع شرائح رأس المال، خاصة بعد أن تكشَّفَ لها أنَّ وطنية رأس المال تكون على المِحَك، وغير قادرة على التماسك فى غياب دور طليعى للبورجوازية (بورجوازيتنا تهدم ولا تبنى، تسرق ولا تستثمر)، وفى غياب الديموقراطية ومؤسساتها التى لا تحبها الشرائح الرأسمالية، ومع تدهور البِنى التحتية وانتشار الفساد.
وإذا لم يحدث هذا، فهذه الأحزاب سيتجاوزها التاريخ (ولات ساعة مندم)، وسيقوم مقامها حزب لكلِّ العمال والقوى الحديثة، يتناغم مع كافة إحتياجات العمال والقوى الحديثة المادية والروحية (لا يعنيه عِرْقهم ولا لونهم ولا دينهم ولا لا- دينهم). وستكون الحسرة كبيرة لو أنشأت هذا الحزب فئة من لصوص البلد الذين نحارب. ولذلك سنحتفظ بحق ملكيتنا الفكرية فى الحديث عن حزب العمال والقوى الحديثة، فلربما احتاجته أحزابنا التقدمية يوماً ما.
بعض الملاحظات التى يُبرزها هذا التحليل الطبقى:
1- هناك إشكالية فى التحليل والمقارنة يقع فيها حتى الباحثون التقدميون، ولم يسلم منها أحد. وهى مذكورة بعاليه وسنعيدها هنا من باب حفظ الترتيب. وهى أنَّنا حينما نقارن بين الأنقاذ والأنظمة السابقة لها، فإننا ننسى أنَّنا نقارن فقط بين أنظمة مثَّلتْ شرائح رأس المال (شريحة رأس المال المالى/الجبهة، الشريحة التجارية/الإتحادى، الشريحة الزراعية/الأمة، شريحة برجوازية الدولة/نظام عبود، نظام نميرى)، ولم تمثل شريحة العمال والقوى الحديثة المغيبة عمداً فى المشهد الإقتصادى - السياسى السودانى.
وكلُّ هذه الأنظمة قد قامت على الإبتزاز الإقتصادى والسياسى والإجتماعى المباشر للعمل حينما ننظر إليها من وجهة نظر التحليل الطبقى (من وجهة نظر العمال والقوى الحديثة السودانية). وهى لم تفِد شريحة العمال والقوى الحديثة بأىِّ حال من الأحوال حتى فى فتراتها الديموقراطية، كونها فترات لتحديد موضع الهيمنة بالنسبة للشرائح الرأسمالية، ومن ثمَّ سرقة ديموقراطية الشعب من جديد (شرائح رأس المال لا تفيدُ كثيراً من الديموقراطية والمنافسة الحرة فى السودان/دول العالم الثالث (كونها بورجوازية غير خلاقة) ولذلك هى دائمة الإنقضاض على الديموقراطية). وذلك يحدث ببساطة لأنَّ العمال والقوى الحديثة فى السودان ليس لهم حزب يُمثلهم؛ الخطأ التاريخى الذى تواطأت عليه الأحزاب التقدمية وأحزاب الشرائح الرأسمالية على السواء.
2- تزيد وتتعقد أعباء التغيير كثيراً بسبب غياب حزب للعمال والقوى الحديثة فى المشهد السودانى: وفى البدء، غياب هذا الحزب هو العامل الرئيس فى أنَّ أعداد غفيرة من العمال والقوى الحديثة إنضوت تحت الأحزاب الرأسمالية، وهو السبب أيضاً فى التحالفات المرحلية التى ابتدعتها أحزاب البورجوازية الصغيرة مع شرائح رأس المال (وبالطبع هناك عوامل أخرى). ويكمن التعقيد فى كون أنَّ الخروج على ظلم الشرائح الرأسمالية بواسطة العمال والقوى الحديثة فى تحالفها مع الأحزاب التقدمية، قد أصبح وكأنَّه خروج على هذه الأحزاب التقدمية التى ظلت تنادى بحقوقهم ردحاً من الوقت وقد ضحت من أجلهم بالنفيس، وما فى ذلك شك.
كذلك فإنَّ الأستمرار فى تلك التحالفات المرحلية (التجمع الوطنى، الإجماع الوطنى، البديل الديموقراطى) فى هذا الوقت الدقيق من الفرز الطبقى الحاد، قد أربك مسألة التغيير وزاد من كلفتِهِ (210 شهيداً فى سبتمبر 2013)، إذ الفقراء يقتلون الفقراء. ولا أحسب بأنَّ الأحزاب التقدمية تتضرر من قيام حزب للعمال والقوى الحديثة، بل هو سندها وعمقها الطبيعى، والسبيل الآمن للتغيير والقليل الكلفة، مالاً ووقتاً.
3- التحالف مع شرائح رأس المال هو عينُ التَّسيُّب السياسى؛ فقد ثبت لنا من إستقصائنا لواقع التشكل الإقتصادى الإجتماعى فى السودان، أنَّ أحزاب الشرائح الرأسمالية (خاصة الشريحة ذات الهيمنة) غير معنية بالديموقراطية كَهَم أوَّل. إذ ما نالته بالديكتاتورية، لم تنله بالديموقراطية، تلك التى تزيد من الحركة المطلبية للعمال والقوى الحديثة، وتزيد من إمكانية حدوث توازن فى العملية الإنتاجية لمصلحة الجميع، وبالتالى يُقلِّل ذلك من عمليات تراكم رأس المال.
فى واقعٍ كهذا، فإنَّ تحالف أحزاب البورجوازية الصغيرة المرحلي مع الشرائح الرأسمالية لإنجاز قضايا العمال والتوازن فى العملية الإنتاجية وبالتالى الثورة الوطنية الديموقراطية (لا مع الشرائح العمالية والقوى الحديثة المنتفعة من الديموقراطية) هو عين التسيب السياسى، ويأتى بنتائج عكسية: يُكرِّس للديكتاتورية، يُفرِّخ اليأس، ويُعشى النَّاسَ عن البديل.
4- البورجوازى الصغير يكون فى حالة خطل سياسى وكذبة عظيمة وخيانة بيِّنة للعمال، حين يتحدث باسمهم دون حثِّهم وتوجيههم إلى تكوين حزبهم. وقد غيَّبتْ هذه الكذبة/الخيانة/الخطل دورهم فى المشهد الإقتصادى السياسى السودانى منذ الإستقلال إلى يومِ النَّاس هذا. وتتعاظم هذه الكذبة/الخيانة/الخطل بالإمعان فى الحديث عن العمال، وبذلك صرفهم وإلهائهم عن تكوين حزبهم، ومن ثمَّ التحالف مع شرائح رأس المال لإنجاز قضاياهم.
وبالمحصلة، فإنَّ وصفَنا ووصمَنا الدائم للعمال الذين حَمَلْناهم بصنيعنا هذا على الإنضمام لأحزاب الشرائح الرأسمالية وللأحزاب التى إنضموا إليها بالجهل وبالإستلاب وبالأفينة (وقد فعلنا ذات الشئ بالتحالف المرحلى مع هذه الشرائح)، وتحميلهم كلَّ أسباب فشلنا وتقاعسنا عن أداء أدوارنا عند كلِّ صغيرةٍ وكبيرة، لن يُبرئنا من تراكُبِ خياناتنا لهم، ومن ذات الجهلِ والإستلابِ والأفينة، وإن سوَّدنا صحائفَ التاريخِ كلَّها بالحديث عن قضاياهم. فيا أيها البورجوازى الصغير، ساعد العمال فى إنشاءِ حزبِهم، فلن يُضيرَك حزبُهم بشئ، بل يعزِّز مواقفَك ويقوِّيك. وإن لَّم تفعل، فالعمال على أهبة الإستعداد لتكوين حزبهم.
5 – العمال والعملية الإنتاجية أكثر إنتفاعاً من ديموقراطية البروليتاريا، إذا ما قُورِنت بديكتاتورية البروليتاريا وذلك للآتى: أولاً، مجرّد الإختلال فى معادلة الإنتاج أعلاه (ناهيك عن ديكتاتورية أىٍّ من ملاَّك قوة العمل أو ملاَّك رأس المال) يربك التوليفة المُثلى لعوامل الإنتاج، وبالتالى يؤدى إلى تشوهات هيكلية فى الإقتصاد القومى فى المدى الطويل وربما أعاقت العملية التنموية برمتها.
ثانياً، كما هو معلوم أنَّ النظام الرأسمالى تاريخياً قام على إبتزاز العمل، وسوف يظل يجنح إلى ذلك كلما بعد المجتمع عن الديموقراطية والمؤسسية (أى به ميل طبيعى للجبرية والقهر/للديكتاتورية/الفساد). هذا الواقع يجعل العمال الأكثر حرصاً على الديموقراطية من الرأسماليين، وذلك لإبعاد شبح الإبتزاز الملازم للنظام الرأسمالى. وفى ظل ديكتاتورية البروليتاريا، فإنَّ شريحة/بورجوازية الدولة هى التى ستلعب دور الرأسمالى فى الشئون الداخلية (كالتجارة والتوظيف وغيرهما) والخارجية (التبادل مع العالم الخارجى)، وبالتالى هى من سيجنح للديكتاتورية لا سائر العمال/البروليتاريا.
وإذا علمنا أن شريحة الدولة هى بالأساس تنتمى للطبقة البورجوازية فى التصنيفات الحديثة (أو على الأقل بها ميل للتحالف معها)، إذاً يتعذر قيام ديكتاتورية بروليتاريا، وستنهض مكانها ديكتاتورية رأسمالية أشرس من الرأسمالية فى ظل نظام ديموقراطى. وهنا تنتفى الحاجة والمسعى إلى ديكتاتورية البروليتاريا، إذ الأصلح للبروليتاريا هو الثورة الوطنية الديموقراطية وحسب.
ثالثاً، إنَّ الدول التى وصلت بالتوازن فى العملية الإنتاجية إلى مستوى العمالة الكاملة (كدول جنوب شرق آسيا/ماليزيا منذ عام 1995)، أو إلى مستوىً قريباً من ذلك (كالدول الإسكندنافية، كندا، وبريطانيا أبَّان حكومة العمال الأخيرة)، وحققت بذلك معدلات نمو منظورة، لن يقبل عمالُها بأىِّ ديكتاتورية من أىِّ نوع، لِما حققوه من مكاسب مادية ومعنوية فى ظل النظم الديموقراطية. فالعالم من حولنا مليئ بالتجارب الغنية التى حصل فيها العمال ما لا يمكن أى يحصلوا عليه فى ظل الديكتاتوريات التى شهدها العالم.
رابعاً، من الصعب أن يتنازل العمال (وغيرهم) من المزايا التى توفرها الثورة الوطنية الديموقراطية، والتى تعمل باتِّزانٍ وعدل لصالح جميع شركاء العملية الإنتاجية وتدفع بالإقتصاد القومى إلى آفاق رحبة من التطور والنَّماء. وبالطبع إذا أُجبر رجال الأعمال على توزيع أرباحِهم بما يُغلِّب مصلحة العمال، فإنَّ ذلك حتماً سيٌقعِد بالإنتاجية وبالإنتاج. وإذا رفض رجال الأعمال تلك التوليفة المتحيِّزة عُمالياً، وبالتالى تمّتْ مصادرة أموالهم بواسطة الدولة العمالية الديكتاتورية لجهة ذلك التحيُّز، وتحت إمرة شريحة/بورجوازية الدولة الديكتاتورية، فإنَّ ذلك سيقود إلى تأخُّر حتمى فى الإقتصاد القومى بسبب فقدان الحافز الذاتى وتثبيط الدوافع الخلاقة للمساهمة فى العملية الإنتاجية كما حدث فى بعض الدول.
خامساً، يتضح من هذه القراءة أنَّه فى ظل ديكتاتورية البروليتاريا يتم إستبدال شريحة رأسمالية بشريحة رأسمالية أقل كفاءة، فتضعف القدرات الإنتاجية والتنموية للبلد، وتقل القدرة التنافسية له مع العالم الخارجى، وسيدخل فى حلقات لانهائية من الكساد المؤدية إلى إنهيارِهِ إقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.
سادساً، المحصلة؛ هى أنَّ ديكتاتورية أىٍّ من شركاء العملية الإنتاجية، لا سيما العمال ورجال الأعمال، لا يصبُّ فى مصلحة التنمية فى المدى البعيد، وربما يُعرِّض الكوكب بأثرِهِ لأخطار لا يُحمد عقباها؛ من عِوَز ومجاعات وحروب وكروب وكوارث بيئية وغذائية وغيرها إذا تكررت هذه التجربة فى أقطار أُخرى؛ ولا شئَ يعدل التوازن فى العملية الإنتاجية.
6- عدلُ الحاكم الشخصى مرتبطٌ بوَرَعِهِ، أمَّا عدل دولتِهِ ومجتمعِهِ فيرتبطان بمؤسسات الديموقراطية والشفافية. ولذلك يجب ألاَّ يُترك التوازن فى العملية الإنتاجية لقدرية وَرَع/عدل الحاكم. إذْ لا يكفى أن يكون الحاكمُ وَرِعاً لتكون دولتُهُ ومجتمعُهُ عادليْن وديموقراطيين (التاريخ المحسوس يطلعنا على تجارب من الظلم بين ظهرانَىْ حكام إتصفوا بالعدل والوَرَع). والعكس صحيح، إذْ بمقدور المؤسسات الديموقراطية أنْ تخلُقَ حاكماً وَرِعاً، ودولةً وَرِعة، ومجتمعاً وَرِعاً.
وبالتالى يجب ألاَّ ينخدِع العمال بالحاكمية لله وبديكتاتورية البروليتاريا: فأىُّ نظام غير ديموقراطى ليس فى مصلحتهم. ويجب على العمال أن يكون لهم القول الفصل (بالأصالة لا بالوكالة) فى علاقات الإنتاج لِإحداث التوازن فى العملية الإنتاجية. ويجب أن تكون لهم منظوماتهم القطاعية (نقاباتهم الفئوية) القائمة على شراكتهم فى العملية الإنتاجية؛ إذْ أنَّ نقابة المنشأة التى ابتدعتها الإنقاذ هى المسخ والإخصاء المتعمد بواسطة الشرائح الرأسمالية (خاصة الشريحة المهيمنة) والطمس المستمر على العمال بألاَّ يكون لهم دَوْر فى العملية الإنتاجية. كذلك يجب أن يكون للعمال/القوى الحديثة حزبهم؛ إذْ أنَّ أحزاب البورجوازية الصغيرة (بالتجربة) لا تستطيع الصمود طويلاً فى المنافحة عن العمال، ونقول ذلك لا تخويناً لِأحد، ولكن بحكم طبيعة تكوينها الطبقى.
إنتهى.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حيثيات الواقع الإقتصادى – الإجتماعى فى السودان، وآفاق التغيير السياسى (Re: حسين أحمد حسين)
|
ما سقط سهواً:
يسعى حزب العمال والقوى الحديثة السودانى إلى إخراج أكبر عدد ممكن من العمال والقوى الحديثة من دائرة الفقر إلى دائرة الغِنى. وبالتالى يدعم الحزب كلَّ من استطاع أن يتزحزح بكسبه الشريف من شريحة العمال والقوى الحديثة إلى شرائح الراسمال.
والشاهد أنَّ المهاجرين من طبقة العمال إلى طبقة الرأسمال (على ما هم عليه من التراحم المكنون فى سودانويتهم)، سيكونون الرصيد الواعى بقضايا التوازن فى العملية الإنتاجية/الإقتصاد القومى لكل شرائح العملية الإنتاجية، وبالتالى يساهمون فى منع انحياز شريحة الدولة للشرائح الرأسمالية، بجعل ذلك الإنحياز لكل شرائح العملية الإنتاجية. والضامن الوحيد لكلِّ ذلك هو وجود حزب العمال والقوى الحديثة السودانى نفسه فى التوليفة الإقتصادية - الإجتماعية والسياسية، وآليات الديموقراطية ومؤسساتها.
هذا الواقع سيُفضى بالضرورة إلى خلق إقتصاد قومى متجانس وقريب من وضعية العمالة الكاملة، وسوف يزيد من تكريس الديموقراطية واستدامتها بلوغاً إلى مرحلة الثورة الوطنية الديموقراطية، وربما إلى نوع من أنسنة الرأسمالية نفسها.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حيثيات الواقع الإقتصادى – الإجتماعى فى السودان، وآفاق التغيير السياسى (Re: حسين أحمد حسين)
|
ملحقات: هل العسكرة (المؤسسة العسكرية السودانية) مُحَدِّد مُهِم من مُحدِّدات التغيير؟
مدخل:
لعلَّ تجربة الإنقاذ الشاخصة أمامنا الآن، تجعل الواحد منا يقضى بكلِّ طُمأنينة بأنَّ فصل الجيش عن السياسة – كما فصل الدين عن الدولة - هو الأصلح للمؤسسة العسكرية من الإنغماس فيها. ولو عرف العسكريون هذا الأمر قبلاً، لقاتلوا عليه بالسيوف. إذ لم يسبق أنْ أُهينت القوات المسلحة من قبل، مِثل ما أُهينتْ فى زمان الحكم هذا وإن تنطَّعَها المتنطِّعون بأنَّها خطٌ أحمر.
لم نسمع عبر التاريخ العريق للقوات المسلحة السودانية منذ إنشائها فى عام 1925، أنِ اعتدت مليشيات خاصة، أو فردٌ منها، على ضابط محترف من القوات المسلحة السودانية، إلاَّ فى عهد الإنقاذ البئيس. بل كلُّ العسكريين المحترفين فى القوات المسلحة السودانية قد تمَّ تسريحهم/استبدالهم بمليشيات ذات عقيدة حزبية أخوانوية على نحوٍ لم نره من قبل. الأمر الذى يجعل الوطن، كلَّ الوطن، فى حالة إنكشاف عسكرى/أمنى لا تخطئه العين.
وقد رأينا بأُمِّ أعينِنا إسرائيل تعتدى على السودان أكثر من مرة، فى عمقِهِ وفى أطرافِهِ، والحكومة لم تحرك ساكناً (تحتفظ بالرد، أو فى أحسن الأحوال ربما ردَّت بالنظر)، طالما أنَّ مصالحها الضيقة لم تُمس بأذى؛ أمَّا السودان والسودانيون، ففى ستين ألف داهية كما يقول لسان حال الإنقاذ.
أقول ما أقول، ولم تسلم القوات المسلحة السودانية حتى من أذانا نحنُ أصحاب ما يُسمى بالوعى التقدمى؛ وياكم سلقناها بألْسِنةٍ حداد، ويا كم ألبسناها كلَّ خيباتنا حين عجزنا عن تفسير ظاهرة إنقضاضها على الديموقراطية.
وفى هذه السطور محاولة لتبرئة ساحة القوات المسلحة السودانية مِمَّا يُنسب إليها، وهى ليست بذاك العمق الذى تنتظرون، ولكن حسبى أنَّها جهد المُقِل، وشئٌ خيرٌ من لا شئ.
متن:
من قراءتى المتواضعة للواقع السياسى السودانى أنَّ التغيير يحتاج إلى عسكرة، ولو من باب توازن الرعب. فالعسكرة المكافئة لدرجة تَعَسكُر النظام أو القريبة منه (ولو لم تُطلقْ بارودة واحدة) مهمة لتحسين الموقف التفاوضى للمعارضة السياسية، وتشكل الضامن الرئيس للتغيير السلمى (وإنْ دعا داعى الفداء لن نخن). ودعونى أُدَلِّل على هذا الطرح من واقع حيثيات التشكُّل الإقتصادى الإجتماعى فى السودان (نرجو مراجعة الحيثيات أعلاه لكى لا نُكرِّرَ أنفسَنا هنا).
فمن الإستنتاجات المهمة التى يفضحها التحليل الطبقى للمشهد السودانى، أنَّ كل الإنقلابات العسكرية فى السودان، وكل اللحظات التى إنحازتْ فيها القوات المسلحة للجماهير الثائرة، كانت وراءها الشريحة المهيمنة فى المجتمع. فحين يَضيقُ الشعبُ ذرعاً بالشريحة المهيمنة، تَهْرعُ هذه الشريحة للبحث عن عسكريين تنتخبهم إنتخاباً وتُسَلِّمُهم السلطة بغرض المحافظة على مركز الهيمنة (قاطعةً الطريق على إنحياز وشيك للمؤسسة العسكرية لشعبها)، ثمَّ تزدهر فى كنف النظام العسكرى الجديد، من جديد.
الآن، فقد ضاق الشعب بالشريحة المهيمنة ضيقاً عظيماً، غير أنَّ الشريحة المهيمنة هذه المرة أكملت عسكرة نفسها (فقد أدركت أهمية العسكرة باكراً على عكس الشرائح الضعيفة)، وسرَّحَتْ المؤسسة العسكرية، لِكَىْ لا يَحْلُمَنَّ الشعب السودانى ثانيةً بأىِّ إنحياز من المؤسسة العسكرية له. وبهذا الإجراء، فقد ضمِنَتْ الشريحة المهيمنة لنفسها عمراً مديداً فى السلطة. وحتى إنْ ضَغَطَ الشعبُ باتجاه التغيير، فستلجأ الشريحةُ المهيمنة فى إطار إجراء شكلى/أداتى إلى أخذ السلطة من نفسها بيد، لتُعطيها لنفسها بالبيد الأخرى، وتصبح بذلك مستمرة وفاعلة ومتجددة.
وبالمقابل كلُّ هبَّات الشعب السودانى لم تجد من ينحاز إليها من العسكريين ولمدة ربع قرن (باستثناء لحظات الإنحياز الخاطفة لشهداء رمضان البواسل فى بواكير هذا النظام الغادر)، فأصبحت ثورة الشعب نَزِقةً، وخديجةَ النتائج، وغير فاعلة، وسَهْلاً القضاء عليها. وهنا يتكرَّسُ السؤال: هل العسكرة (المؤسسة العسكرية السودانية) من مُحَدِّدات التغيير فى السودان؟
وإذا كانت الإجابة بنعم، كما هو الحال فى تجربة السودان نفسها، وفى تونس ومصر وليبيا وسوريا، ومعظم دول الجوار (آخرها بوركينافاسو)، فهناك خياران: إمَّا أن نبحث عن قوات مسلحة (وهى مسرحة للصالح العام كما فى حالة السودان الآن) تنحاز إلينا، وننحاز إليها رُغمَ قدحنا لها لمدة ستة عقود (القوات المسلحة الوحيدة التى ينالها التقريح من فئات شعبها فى العالم، هى القوات المسلحة السودانية، خاصةً من الفئات العقائدية. فالأخوانوية كسرتْ عظمَ ظهرِها، والتقدميون حطُّوا من قدرها)، ونبحث لها عن سلاح، وتلك مهمة السودانيين العاملين بالخارج/بنك المغتربين السودانيين فى حكومة المنفى؛ وإمَّا أن ننحاز نحن وتنحاز إلينا الفصائل المسلحة من المعارضة (فالكل يحمل السلاح).
ومن الواضح أنَّ الأجابة ليست بلا، وبالتالى فإنَّ التغيير يتطلَّب عدم الوقوع فى فِخاخ تنظيم الأخوان المسلمين العالمى، عن طريق الوسيط القطرى والجنوب – أفريقى، القاضى بإلْهاء المعارضة المسلحة (بعد أن هَشَّمَ المؤسسة العسكرية السودانية) بالحوار – وليس بالتفاوض – الدائرى المفرغ الحلقات، وجعلها ذاهلة عن الإنحياز للمعارضة المدنية لأطول فترة ممكنة مهما كان الثمن (فهو أقلُّ كُلفةً من قِتالها).
إذاً خِشيةُ النظامِ كلُّها من عسكرة المعارضة، وعلينا عسكرتها إن كان التغيير وِجهتَنا (فانظر ماذا فعل توقيع نداء السودان من اضطرابٍ فى كيان السلطة التى أزعم أنها تحكم الشعب السودانى سايكولوجياً: آلة إعلامية، إستعراض عسكرى، ضربة باطشة تستخدم لها الذين تُسميهم إستصغاراً واحتقاراً بالأمن السلبى)، وعلينا مراقبة ورصد الشريحة ذات الهيمنة مالياً وعسكرياً (فى الداخل والخرج) ورصد خطابها وحبائلها بشكلٍ دقيق (فهى لا تفكِّر بعقليتها السودانية المعروفة بالنسبة لنا، والسَّهْل التنبؤ بحدسها، وإنَّما تتغذى بتجربةِ تنظيمها العالمى وبتجربةٍ صهيو - صفوية)، ليسهل الأنقضاضُ عليها وشلُّها بالوسائل المشروعة فى الوقت المناسب.
وهنا لابد من كلمة إنصاف للمؤسسة العسكرية السودانية يُمليها علينا التحليل الطبقى للظاهرة السودانية، وبالتالى رفع العتب وكفَّ الأذى عنها مرةً واحدةً وإلى الأبد، والنظر بشكل جِدِّى فى أمر إصلاحها؛ لطالما أنَّها محدِّدٌ مهِمٌّ من محدِّدات التغيير.
لقد جاء بعاليه أنَّ كل الإنقلابات العسكرية واللحظات التى إنحازت فيها المؤسسة العسكرية للجماهير فى حالات الثورة، كانت بإيعاز من الشرائح الرأسمالية خاصة الشريحة ذات الهيمنة والمتحالفين معها منذ أكثر من 60 سنة.
وهنا أيضاً لابد من تذكيركم بما جاء آنفاً، بأنَّ شرائح رأس المال لا تحب العيش فى المناخات الديموقراطية (ما نالته بالديكتاتورية، لم تنلْه بالديموقراطية) التى تميل للتوازن بين كل شركاء العملية الإنتاجية وهو أمرٌ غير مٌحبَّبٍ بالنسبة لها (ما غنِىَ غَنِىٌّ إلاَّ على حسابِ فقير)، وبالتالى فإنَّ فترات الديموقراطية فى السودان هى فترات لتحديد موقع الهيمنة أكثر منه إقتناعاً بها (وذلك يُفسِّر قصرَها)، ومن ثمَّ الإنقضاض من جديد على الديموقراطية المُغيَّبِ حارسَها عمداً فى المشهد السياسى السودانى؛ ذلك حزب العمال والقوى الحديثة السودانى.
والمؤسسة العسكرية حين تنقض على الديموقراطية أو يُطلب منها الإنحياز لحركة الجماهير (وكلُّ ذلك يتم بإيعاز الشرائح الرأسمالية، تعييناً الشريحة المهيمنة، وحلفائها من البورجوازية الصغيرة المتحدثة باسم العمال والقوى الحية فى المجتمع بعد القراءة الدقيقة للمشهد السودانى)، تعتبر تلك رغبة كل الشعب؛ خاصةً فى ظِلِ غيابٍ كاملٍ لحزبٍ للعمال والقوى الحديثة السودانية. ولو كان هذا الحزب موجوداً لوقفت المؤسسة العسكرية على الحياد دون أدنى شك؛ وذلك لطبيعتها القومية، ولوقوع معظم فئاتها فى فئة العمال والقوى الحديثة نفسها.
إذاً الذى يُلام بالدرجة الأولى على تدخل المؤسسة العسكرية فى الشأن المدنى السودانى هو شرائح رأس المال المتنافسة على موقع الهيمنة (الذى أقصر الطرق لنيله وأقلها كُلفةً إقتصادية هو الإنقلاب العسكرى؛ فبالديموقراطية ربما أصبح بعيد المنال) ومن تحالف معها من أحزاب البورجوازية الصغيرة؛ وهذا الحلف هو نفسُهُ المسئول عن غياب حزب العمال والقوى الحديثة فى المشهد السياسى السودانى كما أثبتنا فى مداخلات أُخرى، الغياب الذى أعشى المؤسسات العسكرية والمدنية معاً عن رؤية الأهداف والرغبات الحقيقية لأكثر من 85% من سكان السودان (الديموقراطية/التوازن فى العملية الإنتاجية)، وعن سبل تكريسها واستدامتها فى الواقع السودانى. فَمَنْ يلومُ مَنْ يا تُرى؟!
خاتمة:
نرجو أن يكون تأسيس حزب للعمال والقوى الحديثة السودانى حافزاً لِإعادة بناء وإصلاح المؤسسة العسكرية السودانية (التى مسختها شرائح رأس المال، واغتالتْ شخصيتها أحزاب البورجوازية الصغيرة) على أساس قومى متكامل ومتين، وعلى أساس عقيدة جديدة قائمة على الحياد والتعاطى المتساوى مع كل شركاء العملية الإنتاجية، أى تُنشَّأ حارسةً للديموقراطية ومؤسساتها.
وبإسم العمال والقوى الحديثة السودانية، نُنَاشد كلَّ أحزاب الشرائح الرأسمالية، وأحزاب الوسط بخاصة بما تمتلكه من وعىٍ وعقلٍ طَلْعَة، أن تكُفَّ أذاها عن المؤسسة العسكرية السودانية حتى نستعيد هذا الوطن المسروق. وللمؤسسة العسكرية السودانية، ولمن أراد من ضباطها العِظام السعى للسلطة، فعليه أن يتميدن حتى ينالها أسوةً بالمدنيين الآخرين. ولابد من مراجعة المنهج الذى يَعِدُّ هذه المؤسسة، مراجعة دقيقة باتجاه تحقيق هذه الأهداف.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حيثيات الواقع الإقتصادى – الإجتماعى فى السودان، وآفاق التغيير السياسى (Re: حسين أحمد حسين)
|
قلق معرفى:
إذا ألقينا نظرة على الأسماء الحائزة على نشاطات إقتصادية زراعية وتجارية فى القرن المنصرم (أُنظر الجزء الأُول من هذه المداخلة)، نجد فى النوعين من الأنشطة الإقتصادية الموزعة (داخل وخارج الخرطوم)، تكرار لِأسماء أبناء الزبير باشا بشكل ملحوظ. وإذا أخذنا فى الإعتبار عمليات تراكم رأس المال (Reproducible Capital) المدفوعة بتحقيق الربح عبر الزمن ومنذ ذلك التاريخ لتلك الأسرة، فهل ثمة رابط بينه وبين النزوع للعنصرية البغيضة الناشئة الآن؟
بمعنى آخر، هل ترتبط عنصرية هذه الأيام بنوعٍ من أنواع التشكُّل الإقتصادى - الإجتماعى وسيادة بعض الأنساق، التى تستوجب معالجتها فيما بعد تفكيك قدراتها الإقتصادية لِاستئصال شأفتها مرةً واحدةً وللأبد؟
لا أملك معلومة ولا إجابة، مجرَّد قلق معرفى!!
| |
|
|
|
|
|
|
Re: حيثيات الواقع الإقتصادى – الإجتماعى فى السودان، وآفاق التغيير السياسى (Re: حسين أحمد حسين)
|
Quote: فالشاهد، أنَّ للقبضة المركزية أهدافها من وجهة نظر النخبة الأقتصادية (حلف القوى الإقتصادى) المختلفة من وجهة نظر شركاء العملية الإنتاجية (العمال/القوى الحديثة)، وهى المحافظة على واقع مراكز القوة التى حُظيتْ بها من قِبَلِ المستعمر. أمَّا من وِجهة نظر العمال/القوى الحديثة، فإنَّهم رأوْا فى إستمرار تماسك الدولة الوطنية مصلحة عليا تطغى على مصالحهم الفئوية (وهذا فهم طليعى). كما أنَّ تفكيك الإستعمار وإزالة إستبداده وديمقرطة الأنشطة الإقتصادية/الإجتماعية والسياسية هو فى حد ذاته يمثل ميزة لهم مقارنة بالوضع المائل الذى كان سائداً أبَّان الأستعمار. وتتداخل مع هذا الواقع رغبة أُخرى للخطاب الليبرالى وهى القضاء على أنماط الأنتاج اللا - رأسمالية (عليلة الليبرالية). |
الاستاذ حسين،، تحية طيبة.
تشكر على هذا البحث الرائع. وهو عمل يستحق الإشادة خصوصا وأنت تشرك أعضاء المنبر وزواره في هذا الطرح..
وأعتقد أن هذه الدراسة تعيد تأكيد أهمية علم الاجتماع السياسي Political Sociology في تشخيص المشاكل وإيجاد الحلول لها
في المجتمعات التي تعاني ما تعاني من صراع سياسي وفوارق اقتصادية واجتماعية.
كنتم موفقين في ربط القضايا التي يعالجها علم الاجتماع السياسي، مثل: القوى السياسية وعلاقتها بالفرد والمجمتع، وأيضا علاقتها بالسلطة الحاكمة وما يلازمها من شرعية وممارسات..
ومن المؤكد أن مداخلات الأخوة وردودكم العميقة عليها لها انعكاسات مفيدة على المتلقي..
التحية،، والى الأمـــــــــام...
| |
|
|
|
|
|
|
|