دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
سدود الشمال .... التنمية المدمرة
|
05:35 AM Nov, 05 2015 سودانيز اون لاين Medhat Osman-Washington DC.USA مكتبتى
المحتويات
مقدمة سدود الشمال من منظور محلي مدخل لجدوى السدود دراسات الجدوي و معايير صحتها دراسات سدود الشمال فوائد سدود الشمال في الميزان سلبيات سدود الشمال في الميزان سدود الشمال لماذا لأجل هذا مطلوب من المواطنين التضحية بأرضهم و عرضهم و لذوى الألباب في حلفا عبر .......فهل من معتبر؟
" الكاتب هو المهندس مصطفى عبد الجليل مختار شلبي, خريج قسم الهندسة المدنية جامعة الخرطوم, عمل بوزارة الري و تخصص في هندسة الموارد المائية من خلال دراساته في هولندا و تشيكوسلوفاكيا. عمل بادارات الخزانات و البحوث و التخطيط الى أن تم فصله للصالح العام مع بداية حكم الانقاذ, و لا يزال المهندس مصطفى يعمل في مجال هندسة الموارد المائية في كندا"
مقدمة دفعني لاعداد هذا الكتيب ما قرأته في كثير من المقالات و المقابلات الصحفية التي تدافع عن سدود كجبار , دال و الشريك, مقابل التغييب المتعمد للرأى الآخر. و قد أثار هذا الدفاع في نفسى أشجان كثيرة و عادت بي الذاكرة الى بواكير طفولتي و أنا أرى أهلي أبناء مدينة حلفا يثورون و يطوفون بمظاهراتهم كل مدن و أحياء السودان رفضا لجريمة اغراق مدينتهم العريقة, و الموقف الغريب و المؤلم حقا من الشارع السوداني الذي قابل هذه الكارثة بسلبية غريبة و استخفاف شديد عكسته مجموعة النكات التي أطلقت عن المظاهرات: " أملت الكبري يا أبود عشان نتزهلق يا أبود, يطلع د.... يا أبود". لم يكن اغراق حلفا الا تابعا لزلزال آخر هو اتفاقية مياه النيل مع مصر, تلك الاتفاقية المجحفة و الاستغلالية و التي قامت بتوقيعها منفردة الحكومة العسكرية الأولي في العام 1959, و هي اتفاقية ستعاني منها كل الأجيال الحالية و القادمة بدرجة كارثية, لكنها كذلك لم تحرك ساكنا. تواصل السلوك السلبي و شمل بناء مجموعة سدود شمال السودان, تلك السدود التي تجاوزت فيها الحكومة و طفلها الشرس المدلل (وحدة تنفيذ السدود) الخطة الشاملة لتنمية الموارد المائية, و داست على مواطنيها و استرخصت دماءهم. و لا زال مواطنو مناطق السدود يواصلون رفضهم و احتجاجهم بكل الوسائل, و قابلت الحكومة هذا الرفض بتكوين مليشيات للدفاع عن هذه السدود, فسقط الشهداء في كجبار و مروي و الشريك و فتحت أبواب السجون و بيوت الأشباح للتصدي للمواطنين. و لم تفلح كل الجهود المحلية و العالمية في اختراق جدار السرية المضروب على مخططات و دراسات و برامج تنفيذ هذه السدود, ناهيك عن اعتبار مواطني المنطقة شركاء في تنمية مناطقهم. المياه هي وقود الحرب العالمية القادمة, لكن السودان بدأ دخول هذه الحرب باكرا علي المستويين المحلي و الاقليمي من خلال معارك بناء سدود الشمال و التوتر المتصاعد مع دول حوض النيل. , و جد السودانيون بلادهم في قلب حرب المياه, يدفعها في ذلك وضعها المتميز و الحرج بين دول منبع النيل و مصبه, بالاضافة لسوء ادارة موارده المائية, و الذي تسببت فيه بشكل أساسى الهيمنة السياسية و طغيان الجموح السياسى و الطموح الشخصي على الحكمة الفنية و القدرة العلمية. يزيد من تعقيد الوضع غياب الاهتمام الشعبي, و سلبية المؤسسات الشعبية في مواجهة و تصحيح الأوضاع التي ألحقت و لا زالت تلحق بالمصلحة الوطنية ضربات موجعة. اذ لم يجد المواطنون المتضررون في معظم الأحيان أى تجاوب أو دعم من الشارع السوداني و الذي شهد تجاوبا عاليا مع أحداث البوسنة و غزة و تورا بورا, و غاب تماما عن التجاوب مع كثير من القضايا المحلية. وقد استفادت كل الحكومات الشمولية في السودان من عدم وجود رأى عام فاعل, فانفردت باتخاذ أخطر القرارات و تجاهلت المتضررين, كما يحدث حاليا في اصرار الحكومة على بناء سلسلة من السدود في شمال البلاد, متجاهلة كل الأصوات المعارضة.
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: سدود الشمال .... التنمية المدمرة (Re: Medhat Osman)
|
سدود الشمال من منظور محلي سكان المناطق المعرضة للغرق هم الأكثر تأثرا بسدود الشمال, و لذلك كان جل الخطاب الرسمي موجها لهم, فبالاضافة للردع المتواصل للمعارضين فقد كانت هنالك كثير من المحاولات لامتصاص موجة الغضب الشعبي و تحييد أهالي المنطقة بالحديث عن فوائد السدود لأهالى المنطقة, و التي يمكن تلخيصها في النقاط التالية, حسب ما ورد في عدد من اللقاءات الصحفية أو الندوات الرسمية علي لسان المسؤولين الحكومين: 1. توفير الكهرباء بأسعار رخيصة لجميع قرى و مدن المنطقة. 2. اقامة مشاريع زراعية ضخمة في مساحات تزيد على 14 مليون فدان 3. كهربة مشاريع الطلمبات لحل مشكلة الوقود المتأزمة بالمنطقة و زيادة انتاج المشاريع. 4. تطوير السياحة بالاستفادة من بحيرات السدود و جعلها مصدر رئيسى لاقتصاد المنطقة 5. الاستفادة من الثروات السمكية الضخمة بمناطق السدود و استثمارها لصالح المواطنين 6. اقامة مشاريع بنية أساسية مصاحبة للسدود و اعادة توطين المهاجرين للأسف كل هذه الفوائد لا تعدو كونها تلاعب بأحلام أهالي المنطقة و مداعبة لتطلعاتهم لحياة أفضل بعد أن عانوا من التهميش لأجيال عديدة, وهي لا تقوي على مواجهة التحليل المنطقي و العلمي, و لم يجرؤء القائلين بها على مواجهة الرأي الآخر, ففرضوا عليه التعتيم. و قبل الدخول في التفاصيل في الصفحات التالية من الكتيب, أورد ردا مقتضبا على االفوائد المحلية المزعومة أوجزه في التالي: 1. اذا كانت الحكومة حريصة على كهربة المنطقة, فيكفيها جزء يسير جدا يقل عن 1% من الكهرباء المتولدة من السد العالي و سد مروى, تلك السدود التي دمرت المنطقة و شردت سكانها و لم تتكرم عليهم بأدني فائدة, فلتبدأ الحكومة بامداد المنطقة من الكهرباء المتوفرة حاليا قبل أن تشرع في مشاريع جديدة. 2. حديث وزير الدفاع عن استصلاح 14 مليون فدان على نهر النيل هو حديث جزافي بعيد عن المنطق و العلم, و لا يستند الي اى دراسات أو حقائق علمية. و ربط هذه المشاريع الخيالية بسدود الشمال هو ربط قسرى لعدم قدرة هذه السدود مجتمعة على توفير المياه و لا حتى ل3% من هذه المساحة. و لو كانت الحكومة جادة في الاصلاح الزراعي لباشرت في حل مشاكل المشاريع القائمة و التي هي في أمس الحاجة للتأهيل و التحديث و بث الروح فيها بعد أن تدهورت انتاجيتها لأدنى حد بسبب الاهمال الحكومي. 3. كهربة مشاريع الطلمبات لا تحتاج الى سدود, فاستهلاك طلمبات المنطقة من الكهرباء لا يتعدى نسبة ضئلة جدا مما يوفره شمالا السد العالي الذي يحتل أراضينا من غير مقابل, و جنوبا سد مروي, و حتى بافتراض عدم امكانية توفير الكهرباء من السدود القائمة, ففي الامكان تشييد سدود صغيرة للتوليد الكهربائي للمنطقة من غير اغراق أو تهجير للسكان, و يمكن دعم ذلك بالاستفادة من امكانيات الطاقة الشمسية و طاقة الرياح. 4. كيف يمكن تطوير السياحة بهدم المقومات الأساسية و الوحيدة لها, كيف يمكن تصديق ذلك بعد أن تكل السدود المقترحة ما بدأه السد العالي و سد مروي في الانجاز الكامل على كل أثار الحضارة النوبية و التي كانت تجذب آلاف السياح سنويا قبل اغراق حلفا. و حتي بافتراض أن البحيرات يمكن استثمارها سياحيا, فماذا فعلت الحكومة في بحيرات السود القائمة و لماذ لم تبدأ عليها هذه المشاريع السياحية, و لماذ الانتظار حتى تكتمل كل السدود؟ 5. نفس المنطق ينطبق على الثروة السمكية, فحتى أسماك بحيرة النوبة التي كانت ترحل للخرطوم توقف مشروعها و توحشت الأسماك في البحيرة بسبب غياب مشاريع صيد الأسماك. أسماك بحيرة النوبة اذا تم استثمارها بصورة صحيحة يمكن أن تساهم حقيقة في تنمية المنطقة, و هي بحيرة يزيد حجمها على كل سدود الشمال مجتمعة, فلتبدأ الحكومة باستثمار هذه البحيرة أولا. 6. مشاريع البنية الأساسية أيضا لا علاقة لها بالسدود, و اذا كانت الحكومة راغبة في تشييد مشاريع للبني التحتية و الخدمات فالمنطقة واعدة و زاخرة بخير وفير لا يحتاج لسدود لاستثماره. لقد شهدت المنطقة تجربتي السد العالي و سد مروي, و هي ليست في حاجة لمزيد من التجارب لتقول كلمتها ضد قيام السدود و تهتف " مأساة عبود لن تعود". و عبود قد اعترف بنفسه بحجم هذه المأساة حينما زار مدينة وادي حلفا بعد التوقيع على اتفاقية مياه النيل, و في ختام هذه الزيارة لم يجد من الكلمات ما يعتذر به عن جريمته الا قوله :" لم أكن أدر بأن حلفا بهذا الحجم و هذا الجمال, و لكنها ارادة الله و لا راد لقضائه", فما أقبحه من عذر.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: سدود الشمال .... التنمية المدمرة (Re: Medhat Osman)
|
مدخل لجدوى السدود تنوي الحكومة انشاء 4 سدود في المنطقة الممتمدة من بربر جنوبا و حتى حلفا شمالا, منها سد مروى و الذي اكتمل تشييده عام 2008, سد دال جنوب وادي حلفا, سد كجبار و سد الشريك على الشلالات الثالث و الخامس. تهدف هذه السدود, كما تقول الدراسات الرسمية, لتوليد الكهرباء كهدف أساسي, و التنمية الزراعية كهدف ثانوي, و تنمية المنطقة بصورة عامة و جعلها جاذبة للمواطنين عن طريق اقامة عدد من المشاريع المصاحبة للسدود, و تشتمل على طرق و كبارى و مساكن و صناعات مختلفة, و تتولى هيئة تنفيذ السدود اختيار و دراسة و تمويل و تنفيذ هذه المشاريع. و قد دفعت الحكومة و ستدفع بسخاء غير معهود أكثر من 10 مليار دولار في فترة قصيرة نسبيا, و في مساحة صغيرة جدا من الوطن الكبير. وجدت فكرة بناء السدود معارضة قوية من أهالى المناطق المتأثرة, قابلتها الحكومة بتكوين كتائب أمنية للدفاع عن السدود¸ فسقط عدد من الشهداء في أمرى, كجبار و الشريك, و تم اعتقال أعداد كبيرة من المواطنين. و قد أدى ذلك ليتساءل الناس عن حقيقة هذه السدود و ما الجدوى من قيامها, و لماذا يرفضها البعض حتي يبذل روحه و ماله و سكينته, و يصر عليها آخرون حتى و لو على جثث الأبرياء. لمعرفة الحقيقة يلجأ المرء أول ما يلجأ لنتائج دراسات الجدوى, و قد صرح المسؤولون باكتمال دراسات مشاريع السدود المقترحة, و أنها قد أثبتت جدواها, و بالتالي تأمل الحكومة أن يكون ذلك كافيا لتخرس المعارضين للمشروع و تبرئ ذمتها . لو أن المسؤولين تحروا الصدق فيما قالوا فقد أوفوا و زادوا, و لأدت نتائج هذه الدراسات لاخراس المعارضين, بل أن الجميع كان سيقف خلفهم و يبايعهم, فما أجمل أن يكون اقتصادنا القومى قويا معافي, ونرى أحلامنا الوردية في وطن شامخ عزيز تتحقق. و لكن واقع الحال يقول أن هذه الدراسات لا يعول عليها لأنها فاقدة المصداقية, و بعيدة عن المنهج العلمي القويم. لا شك أن دراسات الجدوى من الأدوات الهامة جدا و خطوة حتمية لأى مشروع, بل أن المشاريع الكبرى تتطلب أكثر من مرحلة من دراسات الجدوى. لكن هذه الدراسات تعتمد الى حد كبير على مدخلاتها و ينطبق عليها القول garbage in, garbage out . فعدم صحة مدخلات و فرضيات الدراسة الأساسية يمكن أن يغير تماما من نتائجها, و قد يحدث ذلك عن حسن نية, و لكن أيضا من الشائع حدوثه عمدا بقصد توجيه الدراسة لخدمة أهداف مسبقة. و دراسات الجدوى مطية سهلة القياد اذا ما ساءت النوايا, و حل القرار الفردي محل القرار المؤسسي الذي يتسق مع الخطط الشاملة, و يعتمد على المنهجية و تضمنه الشفافية و يحرسه مبدأ محاسبة المسؤولين.
دراسات الجدوي و معايير صحتها لكي تصح دراسة الجدوى فلا بد أن يسبقها جهد فني شاق, و عمل متكامل يجمع بين كثير من مؤسسات الدولة المتخصصة, و ذلك حتى تتوفر المعلومات الصحيحة و الفرضيات الأساسية للدراسة. و كمثال لذلك فقد تقدمت الحكومة سنة 1987 بطلب للبنك الدولى لتمويل تعلية خزان الرصيرص, و كان الطلب مصحوبا بدراسة جدوى رصينة قام بها مكتب استشاري معتمد هو الاكساندر جب, لكن عند مراجعة خبراء البنك للدراسة لفت نظرهم أن معدل العائد الداخلى IRR يساوى 22% و هي نسبة عالية جدا لمشاريع السدود. كون البنك لجنة من الخبراء لمراجعة الدراسة بمشاركة الحكومة و المكتب الاستشاري, و انتهت المراجعة الى أن بعض المعلومات الأساسية عن كفاءة استخدام المياه و بالتالي العائد المادي لمشاريع الري غير دقيقة و لا تستند على خلفية علمية كافية, و اتفق الجميع على ضرورة تحديد هذه المدخلات من خلال دراسات مساعدة, يتم بعدها مراجعة جدوى المشروع و تعديلها وفقا لنتائج الدراسة. أوردت هذه الحادثة لأدلل على أن دراسة الجدوى, حتى و ان خلصت النوايا, يمكن أن تؤدى لنتائج خاطئة اذا لم يبذل الجهد الكافي لتوفير أرضية صلبة من المعلومات الأساسية. وهنالك مثال شبيه آخر من مصر الشقيقة, لكنه محفوف بسوء النية, فقد قامت الحكومة المصرية باستصلاح أكثر من مليون فدان في الصحارى المصرية, و اتفقت مع مكتب استشارى أمريكى لتقييم جدوى هذه المشاريع, و جاءت الدراسة ايجابية, لكن المكتب الاستشاري أوضح أن الدراسة تمت بفرضية أن سعر المتر المكعب للمياه .0.05 جنيه و هو السعر التشجيعى, بينما يبلغ السعر الحقيقى 4 أضعاف ذلك المبلغ. أكدت الدراسة أنه بافتراض السعر الحقيقي للمياه فإن معدل العائد الداخلي يتغير الى سالب, بمعني أن المشروع خاسر ماديا, و أن الحكومة المصرية تدفع مبالغ طائلة سنويا لابقاء المشروع على قيد الحياة . هكذا تحول المشروع من خاسر كبير الى رابح, و السبب محاولة الحكومة التأثير على النتائج بوضع فرضيات غير حقيقية. و قد بدأت الانقاذ عهدها و هي منكرة تماما لفكرة دراسات الجدوى, ففي عام 1991 ملأت الأرض جعجعة و هي تعلن قيام مشروع كنانة و الرهد, و لم نر أبدا طحينا لأن المسؤولين قفزوا على مراحل المشروع بالزانة و تخطوا دراسات الجدوى و بدائل المشروع و التصميمات الأولية و الدراسات الجيوفيزيائة. و عندما سئل وزير الرى في تجمع تنويري للمهندسين بدار المهندس عن هذه الدراسات, و هو يحمل درجة الدكتوراه في الهندسة من أمريكا, أجاب بأن حكومته لا تؤمن بدراسات الجدوى لأنها بدعة غربية. و الغريب أن هذا المشروع مضمن في الخطة الشاملة لمياه النيل, و التي قامت باعداد دراسات أولية عن عدد من البدائل و مجموعة كبيرة من السناريوهات لتنفيذ المشروع, لكن لأن الحكومة كانت تحتاج لأى مشروع يبرر انقلابها على الديمقراطية و أى ديكور تخفي به اخفاقها في احداث تغيير حقيقي و تخرس به معارضيها, لكل ذلك تعجلت الحكومة تنفيذ المشروع و وثبت وثبة كسرت عنق المشروع , فدارت جثمانه في صمت بعد أن شهد ميلاده أكبر ضجة اعلامية و صاحبه نفير غير مسبوق جمع عشرات الألوف من البسطاء من كل بقاع الوطن جاءوا لحفر الترعة بالأيدى بدعوى أن الحفر بالأيدى أجدى من الآليات!!!!! و رافقت المشروع أكبر حملة لجمع الأموال من خلال التبرعات القسرية التي طالت موظفي القطاع العام و الخاص و المغتربين, و أضيفت ضريبة ترعتي كنانة و الرهد لكل المعاملات الحكومية, و جمعت المليارات بغير حسيب و لا رقيب, لكن المشروع توقف بعد سنتين من بدء التنفيذ لأن مسار الترعة ,الذي تم اختياره بصورة غير مدروسة, يمر بمنطقة رملية عميقة لا يمكن تنفيذ الترعة عليها. ضاعت المليارات في شق ترعة لن تكتمل أبدا, و مليارات أخرى أخذت مسارها الى مصير مجهول بعيدا عن أعين الرقيب. في العام 1991 بدأ أيضا تنفيذ مشروع سندس و تبلغ مساحته مائة ألف فدان, وهو مشروع صغير بمقياس وزارة الري, لكنه كبير في الضجة التي صاحبته, و في طول فترة التنفيذ التي شارفت عشرين عاما, مسجلا بذلك رقما قياسيا. بعد 6 سنوات من بداية تنفيذ المشروع و نفاذ كل حيل جمع الأموال, لجأت ادارة المشروع لبنك التنمية الافريقي, و بما أن البنك يحتاج لدراسة جدوى فقد كلفت الادارة أحد المكاتب الاستشارية السودانية باعدادها, و هي دراسة لا معني لها لأنها من المفترض أن تسبق التنفيذ, ليتحدد وفقا لنتائجها قرار تنفيذ المشروع أو وقف العمل به. و من المدهش أن الدراسة قد أثبتت جدوى المشروع, بينما كل القرائن تؤكد عكس ذلك, ابتداء من نوعية التربة و التي بسببها استقطعت هذه الأراضي من مشروع المناقل, ثم طول فترة التنفيذ, اذ لا يعقل أن يتم تجميد رأس المال الابتدائى لمشروع صغير الحجم لفترة 20 عاما و لا يؤثر ذلك على جدواه, ثم أن حجم المنصرفات الادارية المنفلتة كانت لا تتناسب و حجم المشروع, ناهيك عن التسيب المالى و الذي عم خيره حتى صغار موظفي المشروع فتطاولوا في البنيان, كما أن كثير من منشآت المشروع من ترع و قناطر قد تم تشييده مرات عديدة بسبب توقف العمل لفترات طويلة, و أخيرا ضعف ادارة المشروع التي تفقد الكفاءة المهنية و الخبرة العملية في هذا المجال. لا شك أن دراسة مشروع سندس تجعلنا نتحسس عقولنا كلما تحدثت الحكومة عن دراسات الجدوى. مثال آخر يزيد من حيرتنا حيال دراسات الجدوى, وهو أن المسؤولين بولاية نهر النيل و ادارة السدود ما برحوا يؤكدوا جدوى سد الشريك لسنوات خلت, و أن الحكومة لن تتراجع لأنها تستند على دراسات قامت بها مكاتب استشارية عالمية أثبتت تماما جدوي قيام السد. و فجأة و من غير ضوضاء أطل علينا قبل أيام مسؤول يعلن ايقاف تنفيذ إنشاء مشروع سد الشريك و استبعاده من قائمة مشروعات التنمية المقترحة لعدم جدواه الاقتصادية. فقيام السد كان ضروريا لأن الدراسة أثبتت جدواه, و ايقاف التنفيذ أيضا ضروريا لأن الدراسة أثبتت عدم جدواه. فهي دراسة بلغت حدا من الاتقان يجعلها تتلون باللون الذي يتطلبه الظرف و الغرض. و أخيرا أشير لمقابلة صحفية تمت مع وزير الدفاع الحالي, صرح فيها أن الحكومة تقوم بتنفيذ عدد من مشاريع الطريق و الكباري بالولاية الشمالية بالرغم من أنها غير مجدية, و أن جدوى هذه المشاريع سوف تكتمل بعد سنوات طويلة. و ليت سعادة الوزير اكتفي بمسؤلياته الجسام في دولة يستأثر الأمن بنصيب الأسد من ميزانيتها, و أعرض عن مثل هذا الحديث, اذا لكفانا حيرة من هذا التصريح الغريب في دولة لا تجد قوت يومها و تنفذ مشاريع ثبت عدم جدواها. عندما نتأمل هذه النماذج نتأكد من أن الواقع الحالى, المتميز بغياب العمل المؤسسي, و الشفافية و محاسبة المسؤولين, يجعل من دراسات الجدوى مطية سهلة القياد, فهى يمكن أن ترفض من حيث المبدأ بحجة أنها بدعة غربية ( كنانة و الرهد), و يمكن أن ترفض مؤقتا ثم يتم اعدادها بعد أن يشارف تنفيذ المشروع نهايته ( سندس), و يمكن أن يمسى المشروع مجديا, ليصبح عديم الجدوى بناء على نفس الدراسة ( الشريك), كما يمكن أن تسهم الدراسة في تحسين صورة المشروع بسبب خطأ غير مقصود في المعلومات الأولية (تعلية الرصيرص), و يمكن أن تحول مشروع خاسر تماما الى مشروع رابح ( مشاريع استصلاح الصحاري في مصر), و أخيرا يمكن أن يكون المشروع غير مجدى باعتراف المسؤولين وبرغم ذلك يتم تنفيذه ( طرق و كباري الشمالية). هذه شواهد تلقى بظلال من الشك قاتمة على مصداقية دراسات جدوى السدود, و تفرغها من أهم عناصرها و هي المصداقية. لكن الضربات تتوالى على المصداقية و تكاد تصرعها عندما نعلم أن الاستشاري الذي تم اختياره ليتولى مسؤولية هذه الدراسات, و هو شركة لامير العالمية الألمانية, تم اصدار حكم بحقها في العام 1999 بمملكة لسوتو بجنوب افريقيا بتهمة رشوة المدير التنفيذي لهيئة تنمية لسوتو و ذلك مقابل نيلها عقودات دراسات هندسية و اشراف على تنفيذ مشروع مياه أعالي لسوتو, و هو مشروع ضخم شبيه بسد مروي, تبلغ تكلفته عدة مليارات من الدولارات بتمويل من البنك الدولي, و يشتمل على تشييد سد و محطة توليد كهرباء و قنوات رى. و قد تم تقديم شركة لامير و مدير الهيئة للمحاكمة و ادانتهم بتهمة الرشوة, و تم تأكيد الحكم لاحقا من قبل محكمة الاستئناف و المحكمة العليا عام 2003 . و تقدمت حكومة سوتو بشكوى للبنك الدولي ضد ممارسات شركة لامير, ففتح تحقيقا منفصلا في القضية أشرفت عليه ادارة سلامة أداء المؤسسات بالبنك, و بعد التأكد من ثبات التهمة أصدرت لجنة العقوبات بالبنك قرار بمنع شركة لامير من التقديم لمشاريع البنك لفترة 7 سنوات, و قد علق رئيس البنك الدولى على هذه القضية بقوله ( لقد أظهرت حكومة لسوتو شجاعة فائقة و قدمت نموذجا مشرفا لمحاسبة المفسدين من قادة الخدمة المدنية و كبار الشركات العالمية). يقول الحديث الشريف " لعن الله الراشى و المرتشى", و شركة لامير بذلك مطرودة من رحمة الله, مدانة من حكومة لسوتو و ممنوعة من التعامل مع البنك الدولي, و بالرغم من كل ذلك فهي مقربة من رحمة ادارة السدود, محتكرة لمعظم أعمالها. لقد اهتزت الثقة تماما في مصداقية دراسات جدوى السدود, لكن ذلك لا يكفي لندير ظهورنا لهذه الدراسات, فما زال هناك قليل أمل في أن يخرج لنا منبت الشك هذا نبتة خضراء. لذلك سأواصل التقييم حتى يتبين لنا الرشد من الغى و هذا ما يمليه علينا منهج تحري الحق و تقصى الحقيقة. خارطة الطريق لذلك تتضمن وضع دراسات الجدوى في ميزان موجهات اللجنة العالمية للسدود, يلي ذلك تقييم الفوائد المرجوة من السدود, و يتواصل الطريق بمراجعة سلبيات السدود, لننتهى بالاجابة على السؤال: هل هذه السدود فعلا مجدية و تصب في مصلحة الوطن و المواطن, اذا كانت كذلك, كفي الله المؤمنين شر القتال, و وحد وجهتهم فيما فيه خير الجميع. و اذا لم تكن كذلك يبرز السؤال : السدود لماذا؟ و من المستفيد؟ و هذا أيضا ما يجب تقصيه والاجابة عليه.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: سدود الشمال .... التنمية المدمرة (Re: Medhat Osman)
|
راسات سدود الشمال السدود منشآت عظيمة, فادت البشرية كثيرا, لكن لأنها تتطلب استثمارات مالية ضخمة و تتسبب في دمار واسع , و آثار بيئية و اجتماعية عميقة, فلا بد أن تسبقها دراسات متميزة و مفصلة لضمان تحقيق الفوائد المرتجاة منها, و لتفادى السلبيات التي تحيط بها من كل جانب. و هذا القول ينطبق أيضا على سدود الشمال, فلا يمكن لأحد أن ينكر أنها ستقوم بتوليد كميات كبيرة من الطاقة, و سوف تدخل هذه الطاقة بكاملها الشبكة القومية قبل أن يلج الجمل سم الخياط, و ذلك خلافا لما قيل على لسان المدير السابق للهيئة القومية للكهرباء, و سوف تخضر مساحات مقدرة من صحاري الشمال بمياه هذه السدود. لكن مثل هذه المشاريع تدخل في عمق النسيج الاقتصادى و الاجتماعي و البيئ, و لا يمكن النظر اليها الا من خلال هذا الترابط النسيجى, و من خلال التقييم الشامل لجدواها بموزانة هذه الفوائد مع السلبيات, و هي في مشاريع السدود كثيرة و متشعبة و معقدة. جدوى أى مشروع تعني قابليته للتنفيذ من الناحية الفنية, و تأكيد تفوقه علي غيره من الخيارات الممكنة لتحقيق الأهداف المعلنة, و أن تكون تكلفته في حدود الميزانية المعتمدة له, و أن يثبت تحليل عناصر التكلفة و العائد فائدة المشروع اقتصاديا و ربحيته ماليا. و تعتمد جدوى المشروع أول ما تعتمد علي صحة و دقة دراسات المشروع, و ثانيا على ادارة تنفيذ المشروع و ضبط تكلفته على مستوى عالى من المهنية و الكفاءة, و أخيرا على كفاءة عمليات تشغيله بعد نهاية التنفيذ. العامل الأهم في تحقيق جدوى المشروع هو مدى صحة و دقة دراسات المشروع, لذلك كان لابد لدراسات السدود أن تأتي على مستوى التحدى و على قدر المسؤولية, و أن تتسم بالصدق و التجرد حتى تنجح في تحقيق الأهداف القومية, و تتفادي السلبيات الخطيرة. ليتحقق ذلك كان من الضروري بدءا أن تتولى أمرهذه الدراسات الجهات المؤهلة لذلك بحكم تكوينها و وفقا لقوانين الدولة التي تنص على أن دراسة و تنفيذ و تشغيل السدود مسؤولية مشتركة بين وزارة الرى و الهيئة القومية للكهرباء, و هي قوانين موجودة و معتمدة و فاعلة, لكنها تقف عاجزة أمام التعدي اللامنطقى من قبل وحدة تنفيذ السدود التي استولت عل كل شئ فهي التي تختار المشاريع و تقوم بالدراسات و التصميمات و التعويضات و التنفيذ و التشغيل. انها مسؤولية تنوء بحملها أعتي المؤسسات مجتمعة, وحملتها وحدة تنفيذ السدود ظلما و جهلا. لقد جمعت الهيئة سلطات وزارات الرى, الكهرباء, الطرق و الكباري, الأشغال و المالية, و تمركزت هذه السلطات لدى شخص واحد يتبع مباشرة لرئيس الجمهورية, الذى هو نفسه لا يخضع للمساءلة, و بذلك تنال وحدة السدود سلطات مالية و ادارية غير محدودة, و في نفس الوقت تحجب عنها المساءلة الادارية و القانونية. ان مبدأ فصل السلطات الذي توافقت عليه البشرية منذ الثورة الفرنسية ينطبق بنفس القوة على المشاريع الهندسية, و نفس الفقه التشريعي الذي ينص علي ضرورة الفصل بين السلطة التشريعية و التنفيذية و القضائية, ينص هندسيا على الفصل بين ادارة المشروع و التصميم و التنفيذ. العالم الآن ينقسم بين دول متقدمة و دول نامية و أخرى دون ذلك, وبحكم وجودنا في الفئة الأخيرة فدائما ما يقفز للأذهان السؤال الجوهري: ما الذي يميز بين هذه الفئات من الدول؟ الاجابة في نظري و ببساطة هي: انه العمل المؤسسي المبني على تنظيم متين و مناهج فاعلة و قوانين نافذة , و يقوم على مبدأ المحاسبة و احترام القانون و الفصل بين السلطات. و ما تقوم به ادارة السدود هو بمثابة معول ضخم يهدم القليل الذي ورثناه من عمل مؤسسي, و يسبب خرابا وطنيا عظيما لا تبنيه سدود و لا كباري. دراسات مشاريع السدود يجب أن تتوافق مع المواصفات العالمية و تأخذ التجارب المحلية السابقة في الاعتبار, و من أكثر المواصفات شمولا و قبولا هو ما قدمته اللجنة العالمية للسدود بعد بحث شامل لتجارب السدود في العالم خلال قرن من الزمان, و قد أصدرت اللجنة تقريرها في العام 2000, متضمنا خلاصة التجربة العالمية تم صياغتها فى شكل عدد من الموجهات, و أوصت باتباعها عند القيام بدراسة أى مشروع لضمان نجاحه. و هذه الموجهات في مجملها بسيطة جدا, خالية من التعقيدات و تتسق مع المنهج الهندسي السليم و المنطق القويم, لذلك وجدت القبول عند معظم الدول و المؤسسات العلمية. و أهم موجهات اللجنة العالمية للسدود: التأكد من وجود حاجة حقيقية لأقامة السد, و أن يكون بناءه هو الحل الأمثل لتحقيق هذه الحاجة. اجراء دراسات مفصلة و تقييم شامل لكل البدائل المتاحة لتحقيق أهداف المشروع الشفافية في كل مراحل المشروع كسب القبول العام لقيام السد الاهتمام بالدراسات البيئية و الاجتماعية على قدم المساواة مع الدراسات الفنية و الاقتصادية. وضع مصلحة المتأثرين وانتفاع مواطني المنطقة ضمن أولويات المشروع.
اذا نظرنا للدراسات التي سبقت قيام سدود الشمال من منظور هذه الموجهات نخلص للآتي: الموجه الأول يتطلب التأكد من وجود حاجة حقيقية لقيام السدود, و أن يكون قيام السد هو الحل الأمثل: تقييم هذا الأمر يتطلب الرجوع الى الخطة الشاملة لتنمية الموارد المائية, هذه الخطة تضع سد مروي وحده كمشروع عاجل, و بقية المشاريع موجودة لكن في مؤخرة قائمة المشاريع المقترحة, و حتى سد مروى لا يوجد بالكيفية التي نفذ بها كما سيتم تفصيله لاحقا. و كان من حرص مؤسسة الدولة آنذاك ( في الثمانينات) أنها وضعت شروط لدراسات السد تطابق الى حد كبير موجهات اللجنة العالمية للسدود, بالرغم من أن اللجنة لم تكن موجودة في ذلك الوقت. الهدف من هذه السدود هو توليد الكهرباء و زيادة الرقعة الزراعية, و هي من غير شك تحقق هذه الأهداف, لكن ليست هي الحل الأمثل, و ليست هنالك دراسات بديلة للخطة الشاملة تبرر قيام هذه السدود و تضعها في مقدمة أولويات الدولة, لذلك فهي مخالفة للموجه الأول اذ أن الثمن الذي سيدفعه الوطن و المواطن أكبر بما لا يقاس من العائد, و حتي لا يكون القول جزافا, سوف أعود لتفصيل هذا الأمر في مقالات فوائد السدود و سلبياتها. الحاجة الوحيد التي أراها ليست هي حاجة السودان للسدود, و انما حاجة وحدة تنفيذ السدود لها, و المثل يقول: When all you have is a hammer, everything begins to look like a nail و ترجمة المثل اذا كان كل ما تملكه مطرقة فحسب, فسوف يتراءى لك كل شئ كأنه مسمار. امبراطورية السدود بنفاذها السياسي صارت تري الدنيا من خلال مصلحتها الخاصة و وهت كثير من امكانات الدولة الحالية و المستقبلية في طرق مساميره أو خوازيقه المسماة بالسدود. الموجه الثاني يقول بضرورة اجراء دراسات مفصلة و تقييم شامل لكل البدائل المتاحة لتحقيق أهداف المشروع: بدءا هيئة السدود ليست مؤهلة لاجراء هذه الدراسات و هذا التقييم, فهي تقوم بعمل وزارات الرى, الكهرباء, الزراعة, الطرق و الكباري, التخطيط الاقتصادي و المالية, من غير أن يكون لها الكوادر الكافية و الخبرة للقيام بهذه الدراسات بالكفاءة المطلوبة. من المفترض أن تتم دراسة بدائل و سيناريوهات تبدأ على المستوى القومى لتحديد أولويات تنفيذ المشاريع في القطاعات و الأقاليم المختلفة. بعد ذلك تنزل الدراسات الى مستوى القطاعات, فتدرس البدائل المختلفة لسد الفجوة في توليد الطاقة, و بدائل الاستغلال الأمثل لمياه النيل في رى المشروعات الزراعية. ثم تنزل الدراسات مستوى آخر لتنظر في بدائل و سيناريوهات السدود من حيث السعة التخزينية, المواقع, الأراضى المغمورة, حجم التوليد, المساحات المروية وفاقد التبخر. صحة هذه الدراسات مربوطة بأن تتصف الجهة المشرفة عليها بالحيادية, و الخبرة و التأهيل الفني, و هذا ما لايتوفر لدى وحدة السدود. و يقيني أن الدراسات لو تمت بهذه الكيفية لتساقطت مشاريع سدود الشمال في الطريق, الواحد تلو الآخر, و ما سيتبقي منها سيكون مختلفا تماما في ملامحه عما يتم تنفيذه حاليا. الموجه الثالث يؤكد ضرورة الشفافية في كل مراحل المشروع: و الشفافية تعني تمليك معلومات المشروع, و تداولها مع كل الجهات المتأثرة بالمشروع سلبا و ايجابا stakeholders . و تشمل هذه الجهات أول ما تشمل مواطني المنطقة, ثم المؤسسات الحكومية و من بعدها وسائل الاعلام و عامة المواطنين. المعلومات التي يفترض تمليكها تشمل منسوب الخزان, الأراضي المعرضة للغرق,الدراسات البيئية, برنامج انقاذ الآثار التاريخية, دراسات الجدوى, دراسات البدائل, برنامج اعادة التوطين, منصرفات المشروع. مراجعة قائمة المعلومات أعلاه يوضح بعد الهوة بين ما هو مطلوب لتحقيق الشفافية و ما هو متوفر, فحتى الجهات الرسمية خارج الدائرة الضيقة بهيئة السدود, لا تملك الحد الأدنى من المعلومة. أما مواطني المنطقة فتتقاذفهم أمواج الشائعات, و تقتلهم الحيرة و القلق على مستقبلهم المجهول و ماضيهم العريق المهدد بالدمار. الموجه الرابع هو كسب القبول العام لقيام السد: و هذا لا يتحقق من غير شفافية, و احترام للمواطنين و الرأى العام, و التواصل المستمر معهم و النقاش الهادف وصولا للمصلحة العامة. لم تجد السدود القبول لأن السلطات لم تسع لذلك بتمليك الحقائق و مشاركة مواطني المنطقة و المؤسسات العامة و الشعبية ذات الصلة. و لازالت الهوة ممتدة بين الطرفين لا سبيل لردمها اذا لم تسع السلطات بجدية لكسب القبول, و هو أمر لا يمكن حدوثه لأنها عندئذ ستضطر لكشف سلبيات و ممارسات مهنية و مؤسسية غير سليمة. الموجه الخامس هو الاهتمام بالدراسات البيئية و الاجتماعية على قدم المساواة مع الدراسات الفنية و الاقتصادية: قامت مؤسسة ايواق السويسرية الحكومية المتخصصة في مجال أبحاث البيئة و المياه, قامت بمراجعة تقرير الدراسات البيئية لسد مروى و الذى أعدته شركة لامير, و قد قامت بهذه المراجعة بمبادرة ذاتية كجزء من اهتماماتها العلمية و البحثية. و قد لخصت مؤسسة ايواق نتائج مراجعتها في الآتي: الدراسات البيئية التي قامت بها لامير بعيدة تماما عن تحقيق المستوى المطلوب لمثل هذه الدراسات حسب المواصفات الأوربية و العالمية, و تشتمل على كثير من العيوب. ركزت دراسة لامير على جانب اعادة التوطين فقط و أهملت الجوانب الأخرى من الدراسة. فشلت الدراسة في الاستفادة من المراجع العلمية الحديثة و التجارب المماثلة في هذا المجال. لم توضح الدراسة كيفية ادارة مشاكل الاطماء و استخدمت فرضيات مبهمة لا تستند على تحليل علمي لكميات الطمى و كيفية الحد من آثاره السلبية. لم تقدم الدراسة أى تحليل علمي للتأثيرات المورفولجية ( طبيعة النهر), المتوقعة نتيجة للتغيرات اليومية و الموسمية الكبيرة في مناسيب النهر أسفل السد, أوتقوم بتقدير حجم هذه المشكلة و لم تقدم حلولا لكيفية التعامل معها. لم تبذل الدراسة جهدا علميا في بحث الآثار الصحية على مياه بحيرة السد, و انبعاث الغازات الحرارية. لم تقوم الدراسة ببحث أثر قيام السد على حركة الأحياء المائية و كيفية الحد من الآثار السلبية. بالاضافة لذلك فالدراسات أهملت تماما واحد من أهم أركانها و هو دراسات الآثار التاريخية, و القليل الذي تم كان نتيجة لضغوط خارجية و مبادرات فردية. و قد شاركت كثير من المؤسسات الأجنبية في حملة انقاذ ما يمكن انقاذه, وسابقت الزمن لاكمال عملها قبل غمر الأراضي بالمياه, لكن الزمن كان هو الأسبق حسب ما روته بحسرة المصادر المشاركة في هذه الدراسات, و التي صرحت بأنها لم تتمكن الا من انقاذ جزء يسير جدا من الثروة التاريخية الموجودة في هذه المناطق ذات التاريخ العريق. و المصيبة أن نفس السيناريو سوف يتكرر مرة بعد الأخرى مع باقي السدود. الموجه السادس هو أن يضع المسؤولون مصلحة المتأثرين وانتفاع مواطني المنطقة ضمن أولويات المشروع: المتأثرون أدرى بمصلحتهم, و قد قالوا كلمتهم و أعلنوا رفضهم و وقفوا في وجه السلطة بكل جبروتها, و بذلوا أرواحهم فداء لمنطقتهم, فهل هنالك رد أكثر بلاغة من ذلك على القائل بأن السدود راعت مصلحة مواطنى المنطقى و انتفاعهم.
العامل الثاني لضمان جدوى مشاريع السدود هو ادارة المشروع أثناء مرحلة التشييد و ضبط تكلفته على مستوى عالى من المهنية و الكفاءة, فجدوى المشروع هو عملية مفاضلة بين المنصرف و العائد, و قد تضخم الصرف على سد مروى بصورة كبيرة نتيجة للسلطات المالية غير المحدودة الممنوحة للوحدة مع غياب المحاسبة, بالاضافة للاستغلال المضخم للسد في الدعاية السياسية, و سيل الوفود القادمة من كل فج عميق محمولة على ظهور الطائرات الخاصة و البصات المكيفة, و الدعاية الضخمة التي صاحبت السد منذ بدء تنفيذه. كذلك زادت التكلفة زيادة كبيرة نتيجة لابعاد الهيئة القومية للكهرباء من متابعة العمل , و الذي هو في الأصل من صميم مسؤولياتها, و قد نتج عن ذلك عبأ كبير على تكلفة السد بسبب التعديلات و الاصلاحات التي ما تزال جارية لتفاديى الأخطاء الغير المبررة و التي ستكلف دافع الضرائب مئات الملايين من الدولارات, و المصيبة أن الهيئة القومية للكهرباء قد تنبأت بحدوث ذلك الخطأ قبل سنوات من افتتاح المشروع, و قدمت مذكرة قبل 3 أعوام تنذر و تؤكد عدم امكانية دخول كهرباء مروي في الشبكة القومية, و تنادي بضرورة تفادي هذه الكارثة, و اقترحت الحلول لذلك, و لكن قد أسمعت لو ناديت حيا, و لا حياة لمن هو محصن من المحاسبة الادارية و المساءلة القانونية. بالاضافة للتكلفة المباشرة لمشكلة عدم دخول كهرباء مرو للشبكة القومية, فهنالك تكلفة تجميد رأس مال المشروع لفترة سنة كاملة كان من المفترض و حسب دراسات الجدوى أن يتم فيها انتاج الكهرباء, و بحسابات بسيطة نجد أن هذه التكلفة تبلغ عشرات الملايين من الدولارات. العامل الثالث في تحديد مدى جدوى السدود هو تشغيل السدود بعد الانتهاء من تشييدها, و هي المسؤولية التي آلت بكاملها لوحدة تنفيذ السدود, و ذلك في تناقض واضح حتى مع اسمها و الذي بدأ صغيرا تحت لافتة وحدة تنفيذ سد مروي التابعة لوزارة الري, ثم كبرت و صارت وحدة تنفيذ السدود و انتقلت تبعيتها لرئاسة الجمهورية, و تمددت بعد ذلك في صمت و اصرار لتستولى على المسؤوليات في كل اتجاه, و من ضمن هذه المسؤوليات ادارة و تشغيل السدود و محطات توليد الكهرباء و المشروعات الزراعية. و من المؤكد أن ذلك التوسع أكبر بكثير من قدرة وحدة تنفيذ السدود و لا يمكنها من ادارة و تشغيل هذه المنشآت بالكفاءة المطلوبة وبالتالي يضعف كثيرا من قيمة العائدات المتوقعة لهذه السدود, و يؤثر سلبا على معادلة الجدوى التي تسعى لخفض المنصرفات في احدى كفتيها و الى زيادة العائد في الكفة الأخرى.
فوائد سدود الشمال في الميزان لا شك أن لسدود الشمال فوائد كبيرة تحققها من خلال الهدف الأساسي و هو توليد الطاقة الكهربائية, و بصفتي مهندس سابق في وزارة الرى فقد شاركت في دراسات سد مروي و كنت أشد الناس حماسا لقيام هذا السد. كان ذلك في النصف الثاني من الثمانينات, و كان مخططا وقتها أن يقوم السد بتمويل من البنك الدولي, الذى تكفل بدراسة الجدوى و التي أعدتها شركة مونينكو الاستشارية الكندية, و أبدى موافقته المبدئية على تمويل السد, بشرط اجراء دراسات بيئية و اجتماعية مفصلة. و لو قدر لسد مروى أن يقوم وفقا للمواصفات التي وضعت في دراساته الأولية , و بناءا على الرؤيا الفنية وحدها, بعيدا عن التدخلات السياسية, لاختلف الحال تماما و لوجد الدعم من الجميع. أبدأ بتقييم الفائدة الأساسية و هي التوليد الكهربائي, فسدود الشمال سوف تحتوي على محطات بسعة اجمالية تقدر ب 2350 ميقاوات, منها 1250 من مروى, 300 من كجبار, 400 من دال و 400 من الشريك. سوف تعمل هذه المحطات في المتوسط ب 50% من طاقتها القصوي ليكون جملة انتاجها السنوي 10,000 قيقاوات ساعة في السنة. تبلغ سعة محطات توليد الكهرباء بالشبكة القومية, من غير هذه السدود, 1700 ميقاوات, منها 340 من السدود القائمة, و الباقي من محطات حرارية , غازية و ديزل. بعد اكتمال السدود سترتفع السعة الاجمالية الى 4050 ميقاوات, أى أن هذه السدود سوف تضاعف السعة الاجمالية لمحطات التوليد. بالاضافة لذلك تقول الدراسات أن التوليد الكهربائي من هذه السدود له ميزات تجعله يتفوق على غيره من البدائل, و يتلخص ذلك في الآتي: أقل تكلفة: تفيد دراسات السدود بأن تكلفة توليد و نقل الكهرباء تقل كثيرا عن غيرها من البدائل مثل التوليد الحرارى, الطاقة الشمسة و طاقة الرياح. تحقق ربحية عالية, اذ تشير الدراسات الى أن التوليد الكهربائى من سد مروى مثلا يحقق معدل عائد داخلي 31%, صافي ربح 57 مليار دولار لفترة العمر الافتراضي للسد و هى 50 سنة, و هى مؤشرات ربحية عالية جدا و جاذبة لأى مستثمر. أقل أعطالا من المحطات الحرارية, لذلك فهي توفر الثبات و الاعتمادية المطلوبة في محطات الكهرباء بصورة أكبر. أقل اضرارا بالبيئة و تتسبب في توليد كميات أقل بكثير من الغازات المدمرة للبيئة. هذه صورة وردية فعلا تجعل كل من ينظر اليها نظرة أحادية قصيرة المدي يعجب بجمال اللوحة و يتعجب من وجود معارضين لهذا المشروع الضخم. لكن تمعن النظر, و تجميع الأجزاء المخفية من اللوحة يغير الرؤيا تماما, و سيتضح هذا بعد تقييم السلبيات, لكن قبل ذلك أود أن ألقي الضوء على مجموعة نقاط جوهرية, أرى أن تقييم فوائد التوليد الكهربائى لا يكتمل من غير وجود هذه النقاط في الخلفية الذهنية للمتمعن في فوائد السدود: التوليد الكهربائي من سدود النيل يتميز بضعف استغلال السعة التصميمية للمولدات, و ذلك للطبيعة الهايدرولوجية للنهر الذي يتميز بفيضان عالى جدا مصحوب بكميات كبيرة من الطمي, يتسبب ذلك في انخفاض كبير جدا في التوليد في فترة الفيضان, لذلك نجد أن متوسط تشغيل المحطات السنوى هو 50% من سعتها القصوى. الدراسة أغفلت أو قللت من أهمية كثير من الجوانب التي تزيد التكلفة و تقلل من العائد و بالتالي تؤثر سلبا على المؤشرات الربحية الواردة أعلاه, أهم هذه الجوانب هى التعويضات و اعادة التوطين, الفاقد المائى, تكلفة ترويض النهر لتفادى الهدام و تغيرات المناسيب و مجرى النهر, انقاذ الآثار التاريخية, بالاضافة للعوامل الأخرى المفصلة أدناه. بسبب الانخفاض الكبير و الذي يمكن أن يصل الى 80% في فترة الفيضان لا بد من وجود احتياطي من التوليد الحرارى لمقابلة الاستهلاك العالي في هذه الفترة و سد الفجوة التي تمتد لأكثر من شهرين. هذا يعني و جود بديل أو بناء محطة حرارية ضخمة لا تعمل الا خلال أشهر الفيضان مما يزيد تكلفة التوليد الكهربائي. هذه الظاهرة معروفة تماما حينما كانت الشبكة القومية تعتمد على سد الرصيرص, فتحدث القطوعات المستمرة في الفترة من يونيو الى سبتمبر. تكلفة فاقد المياه في بحيرات السدود, ويقدر الفاقد ب5 مليار متر مكعب سنويا, و اذا اعتبرنا فرضا أن هذه المياه كانت ستستخدم لزراعة القمح, فانها تكفي لزراعة حوالي 1,7 مليون فدان, تنتج أكثر من 3 مليون طن سعرها الاجمالي 600 مليون دولار, و اذا اعتبرنا تكلفة الانتاج 50%, يصبح صافي عائد المياه المفقودة 300 مليون دولار سنويا تضيع بسبب تبخر المياه من السدود. فاقد المياه لا ينحصر عند التكلفة المالية بل يتجاوزها الى مردود خطير جدا هو التأثير السلبي في علاقة السودان بدول حوض النيل, فبالنظر للحرب التفاوضية الساخنة التي تدور بين دول منابع حوض النيل من جهة و السودان و مصر من جهة أخري, نجد أن هذا الفاقد بمثابة صب الزيت على النار المشتعلة بين الفريقين, لأن دول المنبع ستعتبره اهدارا غير منطقي لمواردها, و ذلك يعطيها مبررا اضافيا لتزيد من صلابة موقفها التفاوضى و الذي ينذر بنقص كبير في نصيب السودان من هذه المياه, و الشهور القادمة حبلي بالكثير في هذه القضية المحورية. بالرغم من أن الطاقة المنتجة من السدود هي الأقل ضررا للبيئة, لكن الدراسات التي قامت بها لامير حاولت تجميل صورة السد فقللت كثيرا من كميات الغازات الضارة بالبيئة الناتجة من بحيرة السد, و هي محاولة منحازة و ليست مبررة و تدل على انحياز الاستشارى حتى في الأمور الثانوية, لأن جملة الغازات الضارة بالبيئة التي تنبعث من السودان تعادل 0.3 طن, و هي أقل كثيرا جدا من المعدل العالمى, و بالتالي فالسودان لا يزال لديه هامش كبير للمناورة في هذا المجال. دراسات ما قبل الجدوى التي قامت بها شركة سويكو الاستشارية السويدية عام 1983 درست ثلاثة بدائل لسد مروى, الأول هو اقامة سد واحد كبير, و هو المشابه للذي تم تنفيذه الآن, البديل الثاني هو اقامة سدين أقل حجما, و الثالث هو اقامة ثلاثة سدود صغيرة بتخزين منخفض جدا على نمط ما يعرف بسدود جريان النهر , run of the river dams, و هي السدود التي تعمل على الاستفادة من الفارق الطبيعي في مناسيب النهر, و على وجود مرتفات جبلية تساعد على الحد من الانتشار الأفقي لبحيرة السد. و قد خلصت الدراسة الى أن الخيار الأخير هو الأفضل , يليه الثاني, أما الأول فهو غير مقبول على الاطلاق, و قد أمن خبراء البنك الدولى على ذلك و اعتمدت وزارة الرى الدراسة. و يتميز البديل الثالث على الأول بلتالي: يوفر كميات المياه الكبيرة التى تفقد بواسطة التبخر في السدود الحالية, و ذلك لعدم وجود بحيرة ضخمة. تجنب الآثار الكارثية المتمثلة في تهجير السكان, اغراق الأراضى, تدمير الآثار التاريخية. تجنب كل مشاكل الاطماء من ترسيب في بحيرة السد و هدام علي الشواطئ و المنشآت و فقدان للسماد الطبيعي. سرعة الاستفادة من رأس المال الابتدائي لقصر الفترة التي يتم فيها بناء السد مقارنة بالخيار الأول, و بالتالي دخول الكهرباء المنتجة للشبكة خلال فترة وجيزة. قبل 3 عقود بدأ عمل مشترك بين أثيوبيا و السودان, و بتمويل و دعم فني من الحكومة الفنلندية, يهدف هذا العمل الى التنسيق بين الدولتين لاقامة عدد من السدود الضخمة للتوليد الكهربائى في أثيوبيا, و تصدير الكهرباء عبر السودان مقابل أن يستهلك جزءا منها. توقف المشروع لأسباب سياسية, و لو قدر لهذا العمل الاستمرار لأسهم في التخفيف كثيرا من أزمة سدود الشمال. الطاقة الانتاجة الحالية للكهرباء تتيح للمواطن السوداني 100 كيلوات ساعة سنويا من الطاقة الكهربائية, و هذه الكمية تكفي فقط لانارة لمبة صغيرة,40 شمعة, 6 ساعات في اليوم لمدة سنة. بعد اكتمال سدود الشمال سيرتفع الرقم الى 220 كيلوات ساعة في السنة, أى أن المواطن سيكون موعود بانارة لمبة أخرى. الانتاج الحالى من الكهرباء يجعل الفرد في السودان من أكثر الناس في العالم افتقارا للطاقة الكهربائية, فمصر مثلا نصيب الفرد فيها يقدر ب (1,300), و يرتفع ذلك في السعودية الى (6,600) , قطر (16,600,) , و آيسلندا (28,000), و يبلغ متوسط استهلاك الفرد في العالم (4,000) كيلو وات ساعة, أى 40 ضعف نصيب المواطن السوداني. هذه الأرقام توضح بعد الهوة بين واقع انتاج الكهرباء في السودان و المتوسط العالمي, أو حتى الاقليمي, فلكي نماثل مصر نحتاج ل4 أمثال سدود الشمال مجتمعة, و لكي نصير مثل السعودية نحتاج الى سدود تساوى سدود الشمال مجتمعة 25 مرة, اما اذا تطلعنا الى المعدل القطرى فسوف نحتاج الى بناء سد في كل قرية و مزرعة في المساحة الممتدة من الخرطوم الى حلفا, و هذا غير ممكن علميا و عمليا و ماديا. من ناحية أخرى نجد أن نسبة الكهرباء المنتجة من سدود الشمال عند اكتمالها جميعا تساوى حوالى 20% من مجموع الطاقة الكهربائية المنتجة سنويا, سوف تتناقص هذه النسبة لأن التوليد من سدود الشمال ثابت على المدي القصير و متناقص على المدي الطويل ليتلاشى بانتهاء العمر الافتراضي للسدود و المقدر ب50 سنة, بينما التوليد من البدائل الأخرى متزايد و لا تحده حدود. فاذا افترضنا أن السودان سوف يحقق متوسط الاستهلاك العالمي في الكهرباء و هو 4,000 كيلوات ساعة, كما تخطط الهيئة القومية للكهرباء في العام 2030, فسوف تساهم سدود الشمال بأقل من 5% من الكهرباء المنتجة. أى أن هذه السدود سوف تحقق انجازا مؤقتا تتلاشى أهميته مع الزمن, بينما تبقي آثاره التدميرية مدى الحياة. في المقابل يمكن النظر الى المشروع الذي أكملته شركة بهارات الهندية مؤخرا بمدينة ربك بتمويل من الحكومة الهندية يبلغ 350 مليون دولار بسعة انتاجية 500 ميجا وات, و التأمل في هذا الخيار المتاح مع غيره من الخيارات الكثيرة التي مهما كانت آثارها السلبية, فهي لا تقارن مع سلبيات سدود الشمال. بالرغم من كل ذلك, فمن ناحية مالية سوف تحقق الكهرباء المنتجة من السدود عائدا ماليا أكبر بكثير من منصرفاتها, و تساهم في توفير الطاقة الكهربائية. لكن كان من الممكن تجنب كل السلبيات التي حولت هذه المشاريع التنموية الى مشاريع تدمير, و الذي يدعو للحسرة أن العمل كان يسير في الاتجاه الصحيح, حتى أمالته الأهواء السياسية. الهدف الثاني للسدود هو توفير المياه لرى حوالى 230 ألف فدان, منها تقريبا 150,000 في مروي, 20,000 في كجبار, 30,000 في دال و 30,000 في الشريك. و هو في نظري هدف لا مكان له في خانة الفوائد, اذ تقوم السدود باستصلاح هذه المساحات من الأراضي الصحراوية و تدمر أكثر من 30,000 فدان من الأاراضي النيلية, و هي بحساب القدرة الانتاجية و العائد المادي أفضل من الأراضي الجديدة, فالفدان النيلي يساوى , على أقل تقدير, عشرة أضعاف مثيله في الصحراء, و يمكن ايجاز الفارق الكمى بين الاثنين في الآتي: انتاجية الفدان على النيل أعلى بكثير, فالقمح مثلا انتاجه في الشمالية يزيد على 1.5 طن للفدان, بينما تنتج الجزيرة 0.5 طن, أما الأراضي الصحراوية فانتاجها أقل من ذلك. الأراضى النيلية تصلح لزراعة قائمة كبيرة جدا من النباتات, بينما الخيارات فيى أراضى الصحراء محدودة جدا. الأرض النيلية تستمد سمادها من الطمي الذي ينتشر عليها بهبة ربانية مع ماء النيل, بينما تحتاج الأراضي الصحراوية الى كميات كبيرة من الأسمدة تزيد كثيرا من تكلفة الانتاج. المنتجات النيليىة أعلى جودة و أكثر قيمة سوقية, بالاضافة الى انها منتجات عضوية يمكن أن تجد طريقها بسهولة للأسواق العالمية و بأسعار عالية جدا. الأراضي الصحراوية تستخدم مياه أكثر من الأراضي النيلية بسبب الفاقد الكبير في التسرب و في الكميات التي يستهلكها النبات. الأراضي على النيل تزرع بكثافة 200%, بينما لا تصل في المشاريع الصحراوية الى 70%, أى أن الفدان في الشمالية يزرع مرتين في السنة, بينما لا يزرع سنويا الا نسبة 70% من الأراضي الصحراوية مرة واحدة في السنة و تترك البقية بورا. الأراضي النيلية تمتاز بانتشار أشجار النخيل و الفواكه من أجود الأنواع و هي تشكل جزء أساسي من الحياة الاقتصادية و الاجتماعية للمواطنين. تكلفة رى الأراضي الصحراوية عالىة جدا مقارنة بالأراضي النيلية لأن المياه تنقل بالطلمبات لمسافات بعيدة و بفارق ضغط كبير. لكل هذه الأسباب مجتمعة أرى أن استغلال سدود الشمال في الرى غير مجد, و هو بمثابة استبدال ما هو أعلى بما هو أدني, لذلك تم استبعاد خيار الرى من الدراسات الأولية, لكن عاد الخيار مرة أخرى بضغوط سياسية. و لو قدر لتكلفة هذه المشاريع الجديدة أن تذهب في وجهتها الصحيحة نحو حل مشاكل الرى و الزراعة بالشمالية لساهمت حقيقة في اسعاد مواطني المنطقى و دعم الاقتصاد السوداني.
سلبيات السدود في الميزان السدود كغيرها من منشآت البنية التحتية لها آثارها السلبية التي تتفاوت في حدتها و اتساع تأثيرها, من هذه الآثار السلبية ما هو كامن في طبيعة السدود كمنشآت ضخمة تجثم بصدورها على الأنهار فتحدث بالضرورة تغييرات في المنظومة الطبيعية للأنهار و المناطق المحيطة بها. و منها ما ينتج بسبب السياسات الخاطئة التي تهدف لتحقيق اقصى ربح و تتجاهل كثير من عناصر نجاح المشروع لتتحول الى فواتير مؤجلة يتم دفع فواتيرها في صمت و تجاهل بواسطة مواطني المنطقة و الوطن عامة. هذه السلبيات يمكن تصنيفها من ناحية القيمة المادية الى عدة فئات, فمن الآثار السالبة ما يمكن تقدير قيمتها المادية بسهولة و بالتالي التعامل معها مباشرة بحساب الربح و الخسارة, مثال لذلك فاقد التبخر, و منها ما يحتاج الى مجهود علمي و دراسات مطولة قبل البدء في تقدير المقابل المادي لها, مثل التغيرات التي تحدث في طبيعة النهر و ما يصحبها من هدام و تفاوت في المناسيب. هنالك فئة ثالثة لا يمكن تقدير قيمتها المادية, و بالتالي يجب أن توضع أسس و موجهات عامة للتعامل معها حسب قيمتها التاريخية و الثقافية و الروحية, و من غير وجود مثل هذه الأسس و الموجهات فسوف يكون هذا التراث عرضة للضياع و التدميرعمدا أو جهلا. ذكرت هذه التفاصيل لأوضح أن سلبيات السدود بخلاف فوائدها, في كثير من الأحيان لا تقفز على السطح بمجرد تشغيل السدود, بل تمكث في الخفاء و تظل باستمرار تنخر في وظائف السدود و تحيلها الي مشاريع فاشلة. أى أن السدود قد تبدو في عنفوان شبابها و صحتها بينما الورم السرطاني الكامن فيها يهدد حياتها في صمت و مثابرة . كل هذه السلبيات, ما ظهر منها و ما بطن, لا بد من تقييمها و تقدير آثارها قبل الاقدام على تنفيذ السدود, و يجب أن تأخذ طريقها الى دراسات الجدوى في خانة تكاليف انشاء السد لتتم مقارنتها مع الفوائد و ادراجها ضمن التحليلات المالية و الاقتصادية للمشروع حتى تعكس هذه الدراسات الصورة الحقيقية, و يتملك الناس الحقائق كاملة قبل أن يقولوا كلمتهم مع أو ضد السدود. لكن مشاريع سدود الشمال أغفلت بعض هذه السلبيات تماما, و قللت من شأن البعض الآخر, وهي في الحالين لم تبذل الجهد العلمي الصادق و لم توف أمانة المسؤولية حقها في ابراز هذه السلبيات و معالجتها كما ينبغى في مثل هذه المشاريع الضخمة, و سوف أتناول فيما يلي بشئ من التحليل هذه السلبيات: اغراق الأراضي و تهجير السكان: سدود الشمال سوف تغرق معظم الأراضي السكنية و الزراعية في المنطقة من حلفا و حتى بربر, و سوف تترك جزرا سكانية متقطعة على طول النيل في مسافة تمتد مئات الكيلومترات. سيتم تهجير مئات القرى في مناطق المناصير و الدناقلة و السكوت و المحس من قراهم النيلية التى سكنوها على مدى آلاف السنين الى قرى في قلب الصحراء¸و ستلتحم المناطق المهجرة حديثا مع حلفا المهجرة قديما بلا فواصل. أثبتت التجربة العالمية للسدود, كما أكدت التجارب السودانية كلها أن الحكومات لا تفي بمسؤولياتها تجاه السكان المهجرين. بدأت التجربة السودانية بسد جبل الأولياء عام 1921, بالرغم من أن السودان لا حاجة له لهذا السد, فقد بنته و استفادت منه مصر, و لم تراعي أى شئ خلاف مصلحتها المباشرة, فعاني السودان عامة و سكان منطقة النيل الأبيض خاصة من هذا السد في كل أحواله, و لا تزال المعاناة مستمرة بالرغم من مضي أربعون عاما على استغناء مصر عنه , و ما زال السودان و سيظل طويلا يدفع في فواتير سلبيات هذا السد. سكان المنطقة لم تنصفهم الحكومة الاستعمارية و لا الحكومة المصرية التي شيدت السد, و لم يجد السكان تعويضا مناسبا و لا اهتماما بأوضاعهم, و لا زالت مشاريعهم و طلمباتهم و بيئتهم تعاني و لا تجد أدني اهتمام. و لو توقف ذووا الألباب لحظات لأخذ العبر من هذا السد مبكرا لتفادينا كثير من السلبيات اللاحقة. تكررت التجربة في مأساة وادي حلفا بعد بناء السد العالي, فبالرغم من أن تقديرات تعويض و تهجير أهالى حلفا كانت 50 مليون جنيها, الا أن الحكومة المصرية قد أصرت على دفع 10 مليون فقط, ارتفعت ل15 مليون بعد تدخل الرئيس عبود و مناشدته للرئيس المصرى, مؤكدة أن قيمة حلفا لا تزيد على ذلك !!!! و حتى هذا المبلغ ضاع جزء كبير منه في التعاملات بين البلدين. حقيقة خاب ظن الشاعر الذى قال أبدا ما هنت يا سوداننا يوما علينا, فأى هوان أكثر من أن تقرر مصر اغراق حلفا دون مشورة السودان و أهالي حلفا, و تقرر قيمة التعويض بما يساوي خمس التقديرات الحقيقية, و حتي هذه لا تشمل أهم بند و هو الآثار التاريخية, و تصر علي ذلك المبلغ و لا تتراجع, و تظل الوفود السودانية تسافر الى القاهرة تستجدي زيادة المبلغ الى عشرين مليون....و أخيرا يتدخل الرئيس المصرى شخصيا و بمكرمة منه يرفع المبلغ ل15 مليون !!!!! كيف يكون الهوان اذن ؟؟؟؟؟؟؟؟ نتيجة للتعويض المجحف تنكرت الحكومة لمعظم التزاماتها لأهالي حلفا و تركتهم بشقيهم المهاجر و المتمسك بأرضه يواجهون اقسي الظروف, بل قطعت كل الخدمات الحيوية عن وادي حلفا و تركت السكان يهيمون في الصحارى و الجبال لسنوات طويلة قبل أن يستقر بهم الحال في أعلى الجبال لينشؤوا بعزيمة و قوة من غير دعم حكومى أو دعوة لمنظمات اغاثة أو غيرها, أنشأوا في صمت و تميز حضارى مدينة تتفوق في تخطيطها و عمرانها على معظم المدن السودانية ذات الكثافة السكانية المشابهة, لكن استمرت الحكومة في حربها على السكان و ذلك ما سوف أفصله في المقالات الخاصة بمأساة وادي حلفا. تواصل التنكر الحكومي عند بناء سد مروى, فالحكومة لم تضع ميزانية كافية لتهجير السكان, و بينما سكان المنطقة يعانون في الصحراء, يصرح رئيس وحدة السدود بأن الوحدة لا تملك ميزانية للتهجير, فهى التي تملك أكبر ميزانية في السودان, بعد الأمن, و توفر الأموال بالملايين للدعاية و الزيارات السياحية و لأنشاء مشاريع لا علاقة لها بالسد, تفشل في توفير مبلغ لا يمثل قطرة في محيط ميزانية الوحدة, تصرفه لتوفر للسكان المهجرين حياة كريمة, بل تعدى الأمر ذلك فهاجمت الحكومة أهالى المنطقة و قتلت و جرحت و اعتقلت المئات. لقد أثبتت كل التجارب, العالمية و المحلية, أن السكان المحليين هم ضحايا بناء السدود, و أنهم يدفعون ثمنا غاليا ليستفيد الآخرين. و هذا ماسوف يتكرر في كل سدود الشمال لأن وحدة السدود تصر على اجترار الأخطاء, فهي لا زالت لا تحترم مواطني المنطقي و لا تتعامل معهم بشفافية و لا تملكهم المعلومات, و لم تشركهم في أى مرحلة من مراحل المشروع, و لذلك فهي تسير في نفس الطريق الذي خلق المعاناة في السدود السابقة, و الذي ينذر بمعاناة أكبر. القضاء على ثقافة شعب: لم يحدث في تاريخ العالم أن تم تهجير شعب بكامله و اغراق كل أراضيه التي تمتد مئات الكيلومترات في ما هو أشبه بحرب الابادة الثقافية, بل هو حقيقة لا يمكن تفسيره الا في هذا الاطار. يحدث هذا من 50 عاما خلت و لايزال للشعب النوبي, و هو شعب عريق له جذور ضاربة في عمق النيل, و له ثقافة متميزة تعبر عنها لغة من أقدم لغات العالم, و فن أصيل تغني به كل السودانيين و هم لا يتبينون طلاسمه " اك أى جل اكا مشكا", و عادات ساهمت في بناء ثقافة المجتمع السوداني و تجذرت فيه فمارسها السوداني و هو لا يدرى انه يمارس طقوس نوبية موغلة في القدم, و النماذج في ذلك كثر . الشعب النوبي تميز بالذكاء الفطرى و السلوك الحضارى الذي يسئ البعض تفسيره بالجبن و يغفل عن كونهم رماة أحداق و محاربين أشداء كانوا أسود جبهة الشمال منذ الفراعنة, مرورا بالهكسوس و عبد الله بن السرح و بوقفتهم ضد حكومة عبود العسكرية و تنظيمهم لأول مظاهرات شعبية اجتاحت أرجاء الوطن و هزت أركان الحكم العسكري و كسرت هيبته, لقد وصلت بهم الشجاعة الى حد اعتقال أعضاء المجلس العسكري عند زيارتهم لحلفا عام 1962 في أول و أكبر تحدي شعبي للحكومة العسكرية, و تم تهريب العسكر متخفين في جنح الظلام, و قد كانت مقاوتهم لحكومة عبود بمثابة الوثبة التي كسرت شوكة العسكر و مهدت لثورة اكتوبر. و لازال صمودهم يتوالي في ملحمة دال و كجبار التي لم تكتمل فصولها الدامية بعد. الانسان النوبي عرفه السودان بصفاته المتفردة, و هي نتاج هذه الحضارة و الثقافة, من هذه الصفات التي انفرد بها قدرته على الجمع بين الشئ و ضده في تناغم مستحيل, فهو صاحب الطرفة و الابتسامة, و هو الصارم الذي لا يسكت عن قول الحق و لا يخشي فيه لومة لائم. و النوبي هو ذلك البسيط الذى يفترش الأرض , و هو الممتلئ عزة و فخار لا يملأ عينه الا التراب, لكل مقام مقال و لكل حادثة حديث. فماهي قيمة الكهرباء المتولدة من هذه السدود, و ما قيمة أى مشروع آخر اذا ما قورن بما يدفعه أهل المنطقة من ثمن نتج عنه كسر شموخ و عزة هذا المواطن العزيز المسالم, و القضاء الكامل على ثقافته العريقة المتميزة, و تشريده بين القبائل, ليتحول الي غريب مكسور الجناح تتناوشه سهام أصحاب الأرض التي هاجر اليها. تدمير الحضارات التاريخية: كل شعوب العالم تقدر الحضارات القديمة و تتعامل مع الآثار التاريخية بكثير من الاحترام و التقديس, و بلاد الحضارات القديمة تفتخر بحضاراتها و تعتبرها من أكبر الثروات القومية عندها, فمتى ذكرت مصر قفزت للذهن الاهرامات و أبو الهول و رمسيس و آمون, و اليونان ارتبطت في الأذهان بامبراطوريتها القديمة و أباطرتها العظام و حكمائها و آلهتها, الاسكندر و ديجون و سقراط و باخوس و فيرودت, و لا أحد في ايطاليا يتخيل دولته من غير آثار الامبراطورية الرومانية بمسارحها و معابدها و قصورها و مدنها و قياصرتها و نيرون و يوليوس و مايكل أنجلو و ميكافيللي , و ايطاليا تدفع مئات الملايين من الدولارات من أجل هدف بسيط جدا و هو الحفاظ على ميلان برج بيزا, و مثلها لكي لا تغرق البندقية. هذا هو الحال في كل بلاد الحضارات القديمة مثل الصين و الهند و العراق و سوريا و المكسيك, تجد كل هذه البلاد تهتم بحضاراتها القديمة و تفتخر بها و تبذل الجهد و المال و الوقت لحمايتها و المحافظة عليها مهما تطلب ذلك. نحن في السودان حبانا الله بواحدة من أقدم و أعظم الحضارات, بل هي في رأى كثير من الباحثين أم الحضارات, و يؤكد كثير من العلماء أن حضارة النوبة سبقت الحضارة المصرية و كانت هى الأصل الذي انطلقت منه تلك الحضارة, بل أن كثير من ملوكها من أصل نوبي, و ظلت الممالك النوبية تتفاعل مع جارتها المصرية على مدى آلاف السنين, و تتفوق عليها في كثير من الآحيان. لكن الآن شتان ما بين الحضارتين, فالحضارة المصرية على كل لسان, ينظر اليها العالم بتقدير و اعجاب و ينعم عليها بلقب أم الدنيا, بينما الأم الحقيقية للحضارة تتعرض للاغتيال البدني و المعنوي من قبل أبنائها, و قد بلغ الجحود بهم أنهم صموا آذانهم عن صرخات الغرباء الذين هبوا من كل صوب لانقاذ أم الدنيا, و واصلوا عملية الاغتيال التي استمرت لأكثر من خمسين عاما و لا زالت في اصرار غريب على محو كل أثر لهذه الحضارة. انها جريمة كبرى لا يمكن أن تخفيها انجازات وقتية, فمنشآت السدود التي لن تعمر أكثر من خمسين عاما ستمحو الى الأبد حضارة سبعة آلاف عام, فأى منطق يمكن أن يسمى هذا انجازا؟؟ فاقد التبخر: كما أشرت في المقالات السابقة فان من السلبيات الأساسية لهذه السدود فاقد التبخر, و الذي يصل في مجمله من السدود الأربعة ما يزيد على 5 مليار متر مكعب سنويا. هذه الكمية من المياه يمكن تقييم قيمتها المادية بحوالى 300 مليون دولار سنويا و لكن ذلك يمثل الجانب الأصغر من المشكلة, أما الجانب الأهم فهو أن فاقد المياه هذا لا يمكن تعويضه, كما انه يشكل طعنة في خاصرة المفاوض السوداني الذي يجد صعوبة كبيرة في رفض طلب دول حوض النيل بالحصول على حصة من مياه النيل, فاذا كانت المياه لا تشكل أهمية بالغة للسودان بدليل أنه يعرض 5 مليار متر مكعب سنويا للتبخر من غير مبررات قوية, فدول منابع النيل أولي بهذه المياه و التي تحتاجها و لا تجد اليها سبيلا. ربما لا يشعر الناس حاليا بحجم المشكلة لأسباب عديدة منها أن السدود لم تكتمل, و لأن السودان لم يستغل كامل حصته من مياه النيل, و لأن المفاوضات مع دول حوض النيل لم تصل نهايتها و التي ستنتهي حتما بتخفيض حصة السودان من مياه النيل. لكن الأحداث تتسارع بشدة نحو أزمة حقيقية, فالرئيس السوداني لا يزال يصرح بأنهم ماضون في بناء السدود رغم أنف المعارضين, و السودان يفتح أبوابه للمستثمرين في مجال الزراعة المروية و يوزع اراضيه بسخاء غير عادي على كل الجنسيات, و بشروط استثمار متساهلة جدا تجعل كثير من الأجانب يسعون لنيل عائدات الاستثمار في السودان بالرغم من المخاطر الكبيرة. كما أن دول حوض النيل تزيد كل يوم في اصرارها على نيل حصتها و حقها المشروع في مياه النيل, و بذلك فان الأزمة تطبق علينا من جميع الجهات و نحن عنها شاغلون. بالاضافة لهذه السلبيات, هنالك ما فصلته سابقا و يتمثل في: فقدان الطمى تغير مناسيب النهر تغير مجرى النهر و الهدام الغازات الضارة بالبيئة و صلاحية المياه هذه السلبيات مجتمعة و لاشك تفوق بحجمها الفوائد المرجوة من السدود, و لكن الاعلام الحكومى أخفي هذه العيوب باستخدام كل أدوات التجميل و المساحيق, و ضخم من حجم الفوائد و بالغ في الاحتفاء بها و ارسال الوفود الرسمية و الشعبية و اصدار الدوريات و الملصقات فصار الناس ينظروا للسدود فلا يروا الا ما تريد لهم الحكومة أن يرونه. و كما أسلفت فان الحكومة لم تبذل حتى أقل الجهد في دراسة و تقييم السلبيات حتى يتسني لها وضعها في ميزان واحد مع الفوائد, فمن غير الممكن مثلا وضع 100 ميقاوات في كفة و تغير مجرى النهر و ظاهرة الهدام في كفة أخرى لأن أى معادلة لا تصح الا بتساوي وحدات قياس الطرفين. كما أنها لم تحاول وضع منهج لقياس السلبيات التي لا توجد لها قيمة مالية مباشرة مثل التدمير الثقافي و الحضارى و البيئي, و لم تتضمن الدراسات و التحليلات المالية صورة كاملة و علمية لحجم السلبيات, فطففت في الكيل اذ صارت تستوفى في كيل الفوائد و تخسر في كيل السلبيات. بعد كل هذا لابد أن يتساءل المرء, اذا كانت هذه السدود بهذا الحجم من السوء, و تكلف خزينة الدولة مليارت الدولارات جلها ديون ستتراكم مع فوائدها كأعباء على أجيال لم تر النور بعد, لماذا اذن الاصرار على اقامتها رغم الدماء الطاهرة التي سالت رفضا لها, لماذ تتجاوز الحكومة قوانينها و تحول كل المسؤوليات و السلطات من الوزارات المركزية الى وحدة السدود, لماذا مزقت الحكومة الخطة الشاملة لادارة الموارد المائية ارضاء لعيون وحدة السدود, لماذا جعلت الوحدة فوق المساءلة المالية و الادارية و الرقابة البرلمانية و تبعتها لرئيس الجمهورية؟؟؟؟؟؟؟؟
| |
|
|
|
|
|
|
Re: سدود الشمال .... التنمية المدمرة (Re: Medhat Osman)
|
سدود الشمال لماذا؟؟ سدود الشمال ستكلف الدولة أموالا طائلة, و سوف تدمر مناطق عزيزة من الوطن و تترك آثارا عميقة على المواطنين و البيئة, فلماذ اذا الاصرار على قيام هذه السدود؟ في ظل الانعدام التام للشفافية, و تغييب المعلومات و توجيهها لا توجد اجابة رسمية يمكن الركون اليها, لذلك لا بد من الغوص في أعماق هذه المشاريع و تحليل و تقيييم كل احتمال يمكن أن يشكل تبريرا لبناء هذه السدود. في رأيى أن هنالك 5 احتمالات قابلة لأن تكون مبررات لقيام هذه السدود, أولها أن تكون لها فوائد عظيمة تتفوق علي سلبياتها, الاحتمال الثاني أنها تساهم بقوة في تحقيق الأمن المائي في ظل المهددات الخطيرة التى تواجه السودان, الاحتمال الثالث هو ما يتردد لدي الكثيرين بأن السودان يقوم بتشييد هذه السدود بالوكالة عن مصر و بضغط منها لانقاذ السد العالي, الاحتمال الرابع هو أن الحكومة تسعي لخدمة توجهها السياسي و الفكري و تسعي لتعليب السودان في وعاء الثقافة العربية الاسلامية و نفي أى توجه خلاف ذلك بتدمير الحضارة و الثقافة النوبية, الاحتمال الخامس و الأخير هو أن هذه السدود تقوم بدافع تحقيق مصالح خاصة فردية و حزبية. بالنسبة للاحتمال الأول فقد أوضحت رأيى في المقالات الخاصة بجدوى, فوائد و سلبيات السدود, و أوضحت أن هذه السدود تأتي بفوائد مادية في مجال توليد الكهرباء لكنها فوائد وقتية تتلاشى أهميتها مع الزمن لتنخفض نسبة مساهمتها في التوليد الكهربائي في السودان في خلال عقدين الى أقل من 5%, بينما تتولد 95% من الكهرباء من مصادر غير مائية, و حتى هذه النسبة الضئيلة سوف تتلاشى نهائيا عند انتهاء العمر الافتراضي للسدود و المقدر ب50 عاما. مقابل هذا التوليد الكهربائي المتناقص تتعرض معظم مناطق شمال السودان من ملتقي نهر عطبرة و حتى الحدود المصرية للتدمير و التهجير, و يتم تهجير شعب كامل و تدمير كل أثر للحضارة النوبية التي تعتبر من أقدم و أرقي الحضارات الانسانية, كما أن البلاد ستفقد كميات ضخمة من ثروتها المائية نتيجة للتبخر, مما يؤجج الصراع مع بقية دول حوض النيل و يقوى من فرص تخفيض حصة السودان. هذه السدود لا يمكن أبدا اعتبارها مشاريع تنمية قومية, لأن المشاريع القومية لتنمية الموارد المائية يتم اختيارها وفق لدراسات متكاملة ومتناسقة مع الخطة الشاملة للموارد المائية, فإذا ما ثبت جدواها و تفوقها علي غيرها من مشاريع هذا القطاع تدخل مرحلة أخرى من المنافسة مع مشاريع القطاعات الأخرى من طرق و صحة و تعليم و أمن و غيرها. بالنظر لقطاع الموارد المائية نجد أن هنالك الكثير من المشاريع التي تتفوق على سدود الشمال من حيث الجدوى و الأهمية الاجتماعية و الاقتصادية, و هي مشاريع ايجابية لا تتسبب في دمار حضارى أو ثقافي أو اجتماعي أو بيئي, من هذه المشاريع زيادة الكثافة الزراعية لمشروع الجزيرة و اعادة تأهيله, سد ستيت و مشروع أعالى عطبرة و تأهيل مشروع حلفا الجديدة, تحديث و تأهيل مشاريع النيل البيض و النيل الأزرق و الشمالية, مشروع كنانة الكبري و امتداد الرهد. و حتى هذه المشاريع تتنافس مع مشاريع القطاعات الأخري و التي تنمي هذه القطاع مثل الصناعات و المشاريع الخدمية و التي يفتقدها المواطن تماما حيث تتردى الخدمات الصحية و تنتشر الأمراض الوبائية و لا يجد المواطن علاج أبسط الأمراض و تتلوث البيئة فينتشر الذباب و البعوض و تفقد المدارس معظم مقوماتها من مباني و أثاثات و معامل و كتب و تتأخر رواتب المعلمين بالشهور, هنالك الصناعات المتعطلة منذ سنوات و أهمها صناعة النسيج رائدة الصناعات التي شيعت الى مثواها, و هنالك خدمات الصرف الصحي المتدنية و تلوث مياه الشرب بالعاصمة و انتشار الأمراض الناتجة عن تلوث المياه في كل مدن و قري السودان لتصبح المياه الملوثة القاتل الأول متقدمة في ذلك على الحروب الأهلية, هنالك الانتشار المخيف للأمراض الخطيرة مثل السرطانات و الفشل الكلوى و الايدز و أمراض القلب, فما من بيت سوداني لا يعاني فرد منه من هذه الأمراض, هنالك العطالة التي طالت معظم شبابنا و حولت أصحاب المؤهلات الى "أمة الأمجاد" حسب تسمية د. حيدر أبراهيم. هنالك الجامعات التي تفتقر الى أبسط المتطلبات حتي صارت أقل امكانيات من المدارس الثانوية... القائمة كثيرة و كلها تتنافس على كل جنيه و كل دولار و تشكل منظومة متكاملة تعمل كالجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر و الحمى, فلا بد من خطط علمية سليمة لتوزيع الميزانيات المحدودة بتوازن و حكمة على هذه القطاعات و المشاريع لتحقيق أقصي فائدة للوطن و المواطن. الدول المتقدمة يقاس تقدمها بتكامل و كفاءة و مقدرة كل مواطن على الحصول على خدماتها من صحة و مياه شرب نقية و تعليم و كهرباء و مواصلات و مسكن, أما مشاريع التنمية فلا تعدو أن تكون وسائل لتحقيق هذه الأهداف, و ليست هي هدفا في ذاتها. فلا معنى لبناء عشرة سدود و أطفال المدارس يجلسون على الأرض و الملاريا تفتك بأجسادهم. مشاريع السدود تجاوزت كل نظم و مناهج و سياسات الدولة و كل منطق سليم, فلو أنها مشاريع مجدية و داعمة للاقتصاد لما احتاجت الحكومة لكل هذه التجاوزات و التخطيات و تغييب المعلومات, و لما قتلت و سجنت و شردت و تجاهلت مواطني المنطقة, لذلك ففرضية أن هذه السدود يتم تشييدها خدمة للاقتصاد السودانى و تحقيقا للمصلحة العامة هي فرضية لا يسندها منطق و بذلك يتم اسبعادها من قائمة الاحتمالات. الاحتمال الثاني هو أن هذه السدود تساهم في تعزيز الأمن المائي, و هو مطلب عزيز تهون أمامه كل الصعاب, فأيامنا القادمة حبلي بصراع سوف يعبث بكل الأوراق المائية و يتجاوز كل المقدسات و الخطوط الحمراء السابقة, و ما أحوجنا لكل ما يثبت من عزمنا لمواجهة ذلك. لكن الواقع أن سدود الشمال ستشارك في توجيه الضربات الموجعة للأمن المائي, فهي تقضى على ما تبقي لنا من نصيب في مياه النيل و تتجاوز ذلك بأكثر من مليارين, كما أنها تمثل وثيقة ادانة دامغة ضد السودان تتهمه بسوء استغلال الموارد المائية المشتركة لدول حوض النيل, و تعطى مبررات قوية لهذه الدول للمضي لنهاية مطاف مطالبتها بتقسيم عادل للمياه و خفض نصيب السودان و مصر, و هذا حديث لا أمل تكراره لأنه يشكل خطر كبير لا على مستقبل الأجيال القادمة فحسب بل على حاضرنا, و ما تم في اجتماعات شرم الشيخ لدول حوض النيل الأسبوع الماضي, و اصرار دول منابع النيل على توقيع اتفاق يلغي كل اتفاق سابق هو الانذار الأخير للسودان و الفرصة الأخيرة لاعادة كثير من الحسابات و المواقف, و لا يتأتي ذلك الا من خلال اعادة صياغة كاملة لسياسات ادارة الموارد المائية و احداث تغيير جذرى في الموقف التفاوضي. لهذه الأسباب أستبعد تماما أن تكون سدود الشمال وسيلة لتعزيز الأمن المائي, فهى بعكس ذلك تزعزع الأمن المائي في وقت نحن أحوج فيه لركائز اضافية تدعم موقفنا المهزوز و تخرجنا من دور الكمبارس للبطل المصرى. الاحتمال الثالث هو ما يتردد كثيرا من أن ضغوط مصرية تقف وراء مشاريع السدود بغرض انقاذ السد العالي و تدارك آثاره السالبة. لتقييم هذا الاحتمال لا بد من الاجابة على سؤال محورى هو هل تستفيد مصر فعلا من بناء هذه السدود؟ الاجابة تتطلب بدءا توضيح حقيقة هامة و هي الفرق بين السد العالي و سدود الشمال, فالسد العالى هو سد تخزين قرني, بينما سدود الشمال هى سدود تخزين موسمي. معني ذلك أن السد العالي يهدف لحماية مصر من سنوات الجفاف التي يقل فيها ايراد النيل عن المعدل السنوى الذى يقدر ب 84 مليار متر مكعب, و يتأرجح الايراد فيزيد في بعض السنوات ليتجاوز 100 مليار, و ينخفض في أخرى الى ما دون ال 50 مليارا, و يقوم السد العالي بخلق الموازنة بين الايراد المتذبذب و الاستهلاك الثابت عن طريق تخزين الكميات الزائدة عن الحاجة في السنوات التي يجود فيها النيل بأكثر من المعدل و استمرار التخزين سنويا حتي تمتلئ بحيرة السد, و يخلق هذا المخزون الكبير رصيدا للحماية من الجفاف و تعويض أى نقص قد يتسبب في خفض الانتاج. لقد قام السد العالي عمليا بحماية مصر لفترة امتدت لأكثر من 5 سنوات في ما بين عامي 1978 و 1983 و هي فترة الجفاف و التصحر المعروفة و التي أثرت على كل دول حوض النيل و انتشرت فيها المجاعة علي نطاق واسع بما في ذلك أجزاء كبيرة من السودان, في هذه السنوات العجاف كانت مصر تتمتع بحماية كاملة و تسحب من رصيدها الكبير في السد العالي. سدود الشمال تختلف نوعيا اذ أن موازنتها موسمية تنتهي بانتهاء العام و يتم تفريغ الخزان تماما عند نهاية الموسم ليبدأ التخزين في العام الجديد من نقطة الصفر. و هي كسدود موسمية لا يمكن أن توفر دعما للسد العالي لأنه قرني لا يتأثر بتوزيع المياه على مدار السنة و انما بالكمية الاجمالية للمياه الواردة, و سدود الشمال يمكنها التحكم في المياه خلال نفس العام لكنها لا يمكنها أن تغير من الكمية الاجمالية التي تنطلق منها الي مصر. و لذلك فان مصر و حسب اتفاقية مياه النيل لا تهتم كثيرا للتوزيع الزمني للمياه الواردة اليها من السودان, بل تتطلب فقط أن يصلها نصيبها السنوي كاملا, و للسودان حرية استخدام نصيبه من المياه في أى وقت خلال السنة. مصر لا تحتاج الى سدود في الشمال و انما تحتاج لتخزين قرني آخر شبيه بالسد العالي لكن في منطقة أكثر اعتدالا حتي تتفادي فاقد التبخر, و هذا الحل لا يتوفر داخل السودان و انما في الهضبة الأثيوبية, لذلك نجد أن الحكومة المصرية , و حتى قبل بناء السد العالي, فكرت في بناء سدود للتخزين القرني في أثيوبيا, لكنها تراجعت بسبب المخاطر الأمنية و السياسية. حاليا الأمن المائي المصري أصبح هاجسا في مصر أكثر من أى وقت مضي, لذلك عاد التفكير مجددا في السد الأثيوبي فكل الخيارات صارت مرة, و هذا الخيار يبدو الأقل مرارة. بالاضافة للسعة التخزينية فالشكوك أيضا تراود الكثيرين بخصوص دور مفترض لسدود الشمال في انقاذ السد العالي من تراكم الطمي, و هو أيضا افتراض غير صحيح لعدة أسباب أولها أن تصميم السد العالي يحتوي على 35 مليار متر مكعب من التخزين الميت, و هو الجزء السفلي من بحيرة السد و الذي يتم تخصيصه لمقابلة عمليات تراكم الطمي, و هو مصمم بحيث لا تتأثر عمليات السد ما دام مستوى الاطماء دون مستوي التخزين الميت, و هذا ما سوف يكون عليه الحال خلال 300 عام قادمة, بعدها يبدأ الطمي في الصعود فوق مستوى التخزين الحي و يبدأ تأثيره التدريجي في وظائف السد من توليد كهربائي و حماية من الجفاف و توفير مياه الرى, لكن هذا التأثير التدريجي بطئ جدا و يستمر حتى يتوقف السد نهائيا عن العمل بعد 1,000 عام هي العمر الافتراضي له. في المقابل العمر الافتراضي لسدود الشمال هو 50 عاما, و يحتوى سد مروي مثلا على 2,5 مليار م.م. تخزين ميت مقارنة ب35 للسد العالي مما يعني أن السد العالي سيكون في عنفوان الصبا حين تشيخ سدود الشمال و تحال للمعاش. السبب الثاني لعدم قبول تبرير الاطماء هذا هو أن سدود الشمال تختلف نوعيا كما أسلفت عن السد العالي, و بحكم أنها موسمية و صغيرة نسبيا فهي تقوم بتمرير ما لا يقل عن 70% من كميات الطمي الواردة اليها و ذلك بفتح بوابات المفيض كاملة عند بداية موسم الفيضان و حتى بداية انحسار النيل, لذلك فهذه السدود يتراكم فيها سنويا حوالي 30% فقط من الطمي بينما تواصل 70% طريقها أسفل النهر الى مصر, و لا يمكن لهذه السدود أن تحجز كميات أكبر من الطمي لأن ذلك سوف يؤثر على عمرها الافتراضي و تشغيلها بصورة خطيرة. فى الواقع لا يشكل تراكم الطمى في السد العالي مشكلة كبيرة للسد, بل أن المشكلة الحقيقية هى أن هذا التراكم يحرم النهر أسفل السد من الطمى, و يتسبب ذلك في عدد من المشاكل الخطيرة مثل التأثير السلبي على خصوبة الأرض, و تنشيط عمليات النحر و الهدام و تآكل المنشآت النيلية, و المشكلة الأكثر خطورة و التي تؤرق المصريين حقيقة هى مشكلة تراجع الدلتا, و يعتبر تناقص الطمى واحد من أهم أسباب هذه المشكلة و التي تهدد بغرق أجزاء من الدلتا و التي تعتبر مركز الثقل السكاني و الاقتصادي لمصر. لذلك فمصر لا تسعي لخفض كميات الطمي الوارد اليها بقدر ما تسعى لتحويل هذه الكميات لتصب مباشرة في النيل أسفل النهر متخطية مصيدة الطمي في السد العالي, و هذا واحد من المشاريع المتداولة في الأوساط المصرية التي تقترح حفر مجرى موازى للنيل في شمال السودان لتحويل جزء من نصيب مصر من المياه مباشرة الى شمال أسوان و بذلك تعود للنيل طبيعته التي افتقدها خلال فترة تشغيل السد العالي. أعود مرة أخرى للسؤال عن مدي استفادة مصر من سدود الشمال و أعيد صياغة السؤال كالآتي: هل تتضرر مصر من اقامة هذه السدود, و الاجابة قطعا تتضرر. السبب في ذلك هو أن السودان سيفقد من خلال هذه السدود 5 مليار متر مكعب, و سوف يؤثر ذلك على مصر من عدة جهات, أولا مصر كانت تستفيد من المياه التي تفيض من نصيب السودان و الآن ستفقد هذه الميزة و لا تستطيع الاحتجاج على ذلك لأن هذه المياه ليست من نصيبها. ثانيا السودان بعد بناء هذه السدود سوف يتجاوز نصيبه في مياه النيل, و سوف تكون كل الخيارات أمامه صعبة فهل يوقف السودان بعض مشاريعه الزراعية كمشروع الرهد مثلا أم يبدأ التفكير في التنصل عن اتفاقية مياه النيل, و لا شك أن الخيار الثاني سيكون الأرجح و ان طال الزمن, و مصر تسعى لتجنب المشاكل مع السودان ليدعمها السودان في معركتها مع دول منابع النيل, و لكن هذه السدود ستضطر السودان لتغيير موقفه و التفكير بجدية لتجاوز اتفاقية مياه النيل, ولو أراد السودان التحايل على الاتفاقية لما أعيته الحيلة, فهنالك أكثر من ثغرة يمكن من خلالها العبور الى الجانب الآخر من الاتفاقية و هذا ما يقلق مصر. ثالثا مصر و السودان بحكم اتفاقية مياه النيل يشكلان موقفا تفاوضيا مشتركا في صراعهم مع بقية دول حوض النيل, و اهدار مياه النيل بهذه الكيفية سيضعف كثيرا من القوة التفاوضية و يشكل نقطة ضعف يمكن أن تنفذ من خلالها هذه الدول لتنال نصيبا من مياه النيل. الخلاصة أن مصر لا يمكن أن تمثل القوة الخفية التي تدفع الحكومة السودانية لركوب الصعب و تنفيذ هذه السدود, فهي بكل المقاييس ضد مصلحة مصر و تشكل مصدر قلق كبير لها. الاحتمال الرابع هو أن الحكومة في سعيها لخدمة توجهها السياسي و الفكري تسعي لتعليب السودان في وعاء الثقافة العربية الاسلامية و نفي أى توجه خلاف ذلك, و الحضارة النوبية بلا شك هي العمق الحضارى و الثقافي الذي يعطى للسودان تميزا و وجودا متفردا علي الساحة العالمية, فكثير من الجامعات العالمية مثل جامعة شيكاغو لها قسم كبير خاص بالحضارة النوبية, و تنتشر المتاحف النوبية في مختلف مدن العالم في بوسطن و وارسو و فينا , و جمعيات الحضارة النوبية التي تتمدد في كل بلاد الدنيا و المؤتمرات الدورية عن الحضارة النوبية و أحدثها الذي سيعقد في لندن صيف العام الحالي. الحضارة النوبية بعمقها التاريخي و قوتها الثقافية و انتشارها الجغرافي تشكل هاجسا للتنظيمات التي تسعي لكى تقف عجلة التاريخ عند دخول العرب السودان, لذلك فهذه الحضارة تشكل هدف غير معلن لهجمات منظمة تسعي في صمت دؤوب لتدميرها. يؤكد هذا الأمر ما حوته مناهج التعليم المعدلة لمختلف المراحل, و هي مناهج و توجهات تقلل كثيرا من قيمة تاريخ السودان قبل الممالك الاسلامية. و يدعم ذلك التوجه الاعلام الحكومي الذى لا يوفر للحضارة النوبية مكانا و لو في أحد الأركان القصية للآلة الإعلامية المترهلة. كما أن الحكومة قد سعت بجد لاعادة صياغة الشارع السوداني و استبدال كل ما له صلة بتاريخ السودان القديم, حتى داخلية تهراقا بكلية الهندسية استبدل اسمها بعبيد ختم. و سارت وحدة السدود في نفس الاتجاه فلم تسع لانقاذ الآثار النوبية, بل لم تعترف حتى بوجودها, و كل المجهودات التي بذلت لانقاذ ما يمكن انقاذه تمت بمبادرات أجنبية و فردية, و لم تتكرم وحدة السدود بمنح هذه المبادارات الوقت اللازم لاكمال مهمتها رغم صرخات الاستجداء و النداءت المتكررة. من المؤكد أن فرضية سعي الحكومة لتدمير أى أثر للحضارة و الثقافة النوبية هي فرضية صحيحة, لكنها وحدها غير كافية لتبرير قيام كل هذه السدود و بهذه السرعة. يتبقى الاحتمال الخامس و الأخير و هو أن هذه السدود مطية لأغراض حزبية و شخصية, و في رأيى أن هذه الفرضية تشكل مع الاحتمال السابق الدافع الأكثر قبولا و الأقدر على الاجابة على الكم الكبير من الأسئلة الحائرة, فكلما تأمل الانسان في أى من هذه الأسئلة قاده التأمل الى مسار واحد يجمع بين كل الأسئلة و الاجابات, كل الخيوط تتناثر في مختلف الاتجاهات لتتجمع حول بؤرة واحدة أرى أنها المفتاح لفك الشفرة و لا أجد وسيلة للتعبير عنها الا بتهجين مصطلح موازى لغسيل الأموال و هو غسيل الفساد أو Corruption Laundering
لأجل هذا مطلوب من المواطنين التضحية بأرضهم و عرضهم بعد تقييم الاحتمالات الأربعة التي يمكن ان تفسر حماس الحكومة و تعجلها لبناء سدود الشمال, نصل الى الاحتمال الخامس أن بناء السدود يأتي بغرض تحقيق أغراض و مصالح حزبية و شخصية, هذه الفرضية هي الأكثر قبولا و الأقدر على الاجابة على كثير من الأسئلة الحائرة, فكلما تأمل الانسان أى من هذه السدود قاده التأمل الى مسار واحد يجمع بين كل الأسئلة و الاجابات, كل الخيوط تتناثر في مختلف الاتجاهات لتتجمع حول نقطة واحدة أرى أنها المفتاح لفك الشفرة و لا أجد وسيلة للتعبير عنها الا بتهجين مصطلح جديد هو غسيل الفساد أو Corruption Laundering. بدأت هذه الظاهرة و التي انتهت الى تحويل الملكية العامة الى ملكية خاصة بحزب الجبهة و أفراده و مؤسساته مع بداية الانقاذ و رفع شعار التمكين, بدأ ذلك بالسيطرة على الخدمة المدنية و القضاء و أجهزة الأمن, و استبدال كل القيادات بقيادات من التنظيم, و سارت حكومة الجبهة في عملية تصفية طويلة المدي باحلال كوادرها تدريجيا في كل مستويات التوظيف, و ساقت ما تبقي من الكوادر القديمة الى الاستكانة في محرقة الدفاع الشعبي و مهانة يوم الخدمة المدنية حتى دان جهاز الدولة لهم تماما. بعد ذلك قامت الحكومة باستغلال أجهزة الدولة و مؤسساتها و قوانيننها من ضرائب و جمارك و زكاة و أمن و بنوك و قوانين مالية, استغلت ذلك في تدمير مؤسسات القطاع الخاص القديمة و استبدالها بمؤسسات مستحدثة تابعة لتنظيم و أفراد الجبهة. كانت هذه المؤسسات المستحدثة حتي دخول البترول في الدورة الاقتصادية, محدودة العدد و الحجم, بعد ذلك تزايدت كما و حجما بمعدلات سريعة و صارت اللاعب الأساسي و الذي لا يمكن تخطيه في سوق العمل السوداني, و كل ما عداها يتصارع على فتات موائدها. بدخول عصر البترول صار للدولة امكانية ذاتية و مقدرة على الاستدانة من المؤسسات المالية الاقليمية و العالمية, فبرزمشروع سد مروى للوجود مرة أخرى و كان قد توارى بعد اكتمال التصميمات الهندسية عام 1992 لعدم توفر التمويل, و بدأ العمل الاعدادي للتنفيذ عن طريق هيئة تنفيذ سد مروي التابعة لوزارة الري. مشاريع البنية التحتية عموما تثير شهية الطامعين باستثماراتها الضخمة, و قد كانت أول محاولة لاستغلال مشروع سد مروي عام 1993 عندما فشلت الحكومة في توفير التمويل اللازم بسبب سوء علاقاتها الخارجية, هنا برزت جهة غير معروفة سمت نفسها بيت الاستثمار يملكها اثنان من أساتذة كلية الهندسة و قادة تنظيم الجبهة, قام بيت الاستثمار بحملة اعلامية واسعة للترويج لتنفيذ سد مروى عن طريق الاكتتاب العام. و طبعا من الاستحالة ماليا و هندسيا و اقتصاديا تمويل مشروع بهذا الحجم بجمع الأموال من المواطنين, فمن المستحيل جمع حتى عشر المبلغ المطلوب بمثل هذا النفير الفطير, كما أن هذه المشاريع تتم ادارتها بناء علي برامج عمل صارمة ومناهج لادارة الجودة و ضبط التكلفة تعتمد كلها علي برنامج سريان الكتلة النقدية, و أى أختلال في هذا البرنامج يؤثر على جودة العمل و يهدد سلامة المنشآت و هذا غير مقبول اطلاقا في السدود لأن معايير السلامة و الجودة بالنسبة لها عالية جدا, بالاضافة لذلك فان برنامج العمل المتسيب سوف يزيد التكلفة النهائية زيادة كبيرة و يقضي تماما على جدوى المشروع. لذلك تصدى مدير الهيئة القومية للكهرباء, الشهيد محمود شريف, بقوة لحملة بيت الاستثمار و أوقفها مبررا ذلك بأن السدود مشاريع قومية لا يمكن أن تؤول للقطاع الخاص بهذه الكيفية, و ماتت الفكرة لكن ظل صداها عالق بالأذهان يذكر الناس بأن استثمارات السدود تثير دوما شهية الطامعين. مع استمرار العمل الاعدادي و بدء تدفق الأموال تم تحويل هيئة تنفيذ مروى الى وحدة تنفيذ السدود, ثم صارت الوحدة تتبع لرئاسة الجمهورية مباشرة, و تطورت طموحات الوحدة فلم تعد تكتف بتنفيذ السدود بل قررت توسيع أعمالها لتشمل اختيار و دراسة و تصميم السدود, فجمعت من السلطات ما لا يمكن جمعه حسب الأعراف و القيم الهندسية. ثم صارت مسؤولة عن التمويل, و توسعت أكثر فضمت الى مسؤولياتها تشغيل السدود من ناحيتي المياه و الكهرباء, و لا زالت الوحدة تتضخم فاستحدثت ما عرف بالمشاريع المصاحبة للسدود من طرق و كبارى و مشاريع زراعية و انتاج حيواني. هكذا تضخمت هيئة تنفيذ سد مروى في سنوات قليلة لتصبح أكبر امبراطورية في السودان, و شابهت في ذلك جواد امرؤ القيس الذي وصفه الشاعر بأن له أيطلا ظبي و ساقا نعامة و ارخاء سرحان و تقريب تتفل, فقد وضعت مائدة المؤسسات الحكومية أمام وحدة السدود فاختارت الزبدة من كل وعاء, و شكلت هذه المنظومة المترهلة التي لا تشبه أى مؤسسة حكومية أخرى. صارت الوحدة من أكبر و أسخى أصحاب العمل, و ضمت قائمة المتعاملين معها كل أنواع الشركات الأجنبية و المحلية, و تخطت الصرفيات الشهرية التي تدفعها الوحدة لهذه الشركات عشرات الملايين من الدولارات, و بالنظر الى المؤسسات و الأفراد المستفيدين من هذه المشاريع نلاحظ الآتي: كل المديرين و رؤساء الأقسام و العاملين في وحدة السدود بجميع الأقسام و المواقع و المستويات من المنتسيبين للجبهة الاسلامية أو المقربين اليها و المرضي عنهم, و هم يتقاضون أعلى المرتبات و أحسن الامتيازات. كل الشركات المحلية العاملة بالمشروع تقريبا من شركات مقاولات و مكاتب استشارية تابعة لأفراد أو جماعات اسلامية, و كذلك مديريها و كبار موظفيها و معظم العاملين فيها. مثال لهذه الشركات دان فوديو , الدار الاستشارية لتطوير الخرطوم, شركة النصر للإسكان والتشييد شركة A and A للهندسة والإنشاءات, شركة هجليج, شركة قصر اللؤلؤ, شركة مام، شركة زادنا و شركة شريان الشمال. حتى الشركات الحكومية العريقة تم تهميشها عمدا, فمؤسسة أعمال الرى بالرغم من أنها تقدمت بأقل عطاء لتشييد المدينة السكنية, و بالرغم من أنها كانت و لوقت قريب أعرق و أكبر شركة في السودان متخصصة في أعمال المقاولات الخاصة بالسدود و الرى و المشاريع ذات الصلة, و هي شركة حكومية 100% و تابعة لوزارة الرى, لكن تم اقصاءها و ترسية المشروع على دان فوديو بالرغم من أن أن السعر الذي تقدمت به دان فوديو يزيد بأكثر من مليار جنيه, و لم تنجح محاولات المؤسسة في تغيير هذا القرار غير العادل. تم اختيار شركة الستوم الفرنسية لتصنيع المولدات و التوربينات, و معروف أن هذه الشركة العريقة كانت قد تعرضت لهزة مالية كبيرة و انهارت و أوشكت على اعلان افلاسها لولا تدخل الحكومة الفرنسية, و هذه الحادثة معروفة لكل من له علاقة بهذا المجال, و حدثت قبل فترة بسيطة من تعميدها للعمل في مشروع سد مروى, فلماذا تتم دعوة شركة على حافة الافلاس للتقديم لمثل هذا المشروع, و كيف تمت ترسية العطاء عليها في الوقت الذي كانت هذه الشركة تستجدى الحكومة الفرنسية و الاتحاد الأوربي لانقاذها من التصفية. كما ذكرت في السابق فان معظم الدراسات الهندسية لوحدة السدود تقوم بها شركة لامير الألمانية و قد تم التعاقد مع لامير في نفس الوقت الذي أصدرت محكمة في جنوب افريقيا حكما ضدها بسبب الرشوة, و أصدر البنك الدولى قرارا بتجميد التعامل مع لامير لنفس الأسباب, فما الذي يجعل وحدة السدود تفضل هذا الراشي على كل الشركات الهندسية العالمية. لا شك أن التركيز على الشركات المشبوهة يرفع كثير من علامات الاستفهام و التعجب. الشركات الصينية لها اهدافها و أجندتها الخاصة و في سبيل تحقيق ذلك ترفع شعار لا أرى, لا أسمع و لا أتكلم, لذلك هي لا عب مهم في كل مشاريع السدود لأنها تؤدي الدور المطلوب منها و لا تتجاوزه أبدا و لا حتى بدافع الفضول. و هي تؤدي نفس الدور في كثير من الدول بالرغم من اختلاف الأوضاع و الظروف. واضح مما سبق أن المستفيد الأول من هذه السدود ليس هو الاقتصاد الوطني, و لا المواطن السوداني و لا السكان المتأثرين, بل المستفيد الأكبر هو تنظيم الجبهة الاسلامية بموؤسساته و أفراده, و ما كان يمكن أن تتم هذه الفائدة الكبرى من غير هذا الزخم و هذه المشاريع التي قامت و هدفها الأساسي الغير معلن هو تحقيق هذه الفائدة, و ما عداها من أهداف فهو ثانوي, بالرغم من أنه يحتل الواجهة. لذلك غابت الشفافية و لف الضباب كل خطوات العمل و تم تهميش مواطني المنطقة و تغييب المعلومات, فلا صوت يعلو فوق صوت اقامة السدود التي لا بد أن تقام و لو على أجساد أبناء المنطقة و تاريخها. لا يمكن وصف ما يحدث بأنه فساد سياسي و لا بعمليات غسيل الأموال, فهو ظاهرة مستحدثة على مستوى العالم و تحتاج لمصطلح مستحدث لوصفها, يمكن مثلا أن نسميها بعملية غسيل الفساد Corruption Laundering . فغسيل الأموال هو عملية اكساب الشرعية لأموال تم الحصول عليها بطرق غير شرعية و ذلك بتحويلها سرا الى مصارف و مؤسسات شرعية ثم اعادتها الى أصحابها و قد تغيرت مصادرها و تحولت الى أموال شرعية غير قابلة للمساءلة القانونية و الأخلاقية. أما الفساد فيمكن تعريفه بانه إساءة استخدام السلطة العامة و استغلالها لأهداف غير مشروعة وعادة ما تكون سرية لتحقيق مكاسب شخصية. ما يحدث فى سدود الشمال يختلف عن غسيل الأموال بأن مصادر أمواله شرعية, بل هي من الدولة نفسها التي تملك أو تستدين هذه الأموال. و هو يختلف عن الفساد المعرف أعلاه لأن استغلال النفوذ لا يتم بطرق فردية و بعيدا عن أجهزة الرقابة الحكومية, بل أن المحركين لهذه العملية هم كبار المسؤولين عن ادارة أجهزة الدولة, يقومون و بشكل جماعي و منظم و مدروس باستغلال نفوذ الدولة و تحويل جزء كبير من هذه الأموال الى جهات بعينها تمتلك مؤسسات خاصة و تقوم بتقديم خدمات للدولة, و تأخذ هذه الأموال عن طريق القنوات المالية الشرعية للدولة. الذي يحدث هو بكل المقاييس الدينية و الدنيوية, المحلية و العالمية و الرسمية و الشعبية هو فساد و استغلال لسلطان الدولة في الحصول على أموال ضخمة, و هو فساد جماعي منظم و من خلال أجهزة السلطة المختطفة من قبل تنظيم الجبهة, و تقوم نفس الأجهزة بمحو آثار هذا الفساد و غسله و تزيينه بثوب الانجاز و اطلاق يد الآلة الاعلامية للحكومة لتدير العقول و تسحر القلوب بصور و أفلام و تقارير الانجازات و المعجزات, ليكمل الرئيس الصورة بالرقص و الهتاف و من خلفه صفوف المستفيدين ممزوجين بمجموعات الغبش تردد " الرد..الرد كبارى و سد" ليظل الشمال و الوطن هما الخاسر دوما.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: سدود الشمال .... التنمية المدمرة (Re: Medhat Osman)
|
و لذوى الألباب في حلفا عبر فهل من معتبر؟
بدأت مأساة حلفا مع اطلالة فجر الاستقلال عندما تنازلت عنها حكومة عبود كجزء من صك الهوان المعروف باتفاقية مياه النيل. الشعب السوداني لم يتفاعل مع الحدث بما يستحق, قابل هذه الكارثة بسلبية و استخفاف, حتي المكتبة السودانية لم توثق لهذه المأساة المدوية الا من خلال كتابات شحيحة لا تشفى غليلا. من أهم الكتب التي تحكى عن مأساة حلفا ما خطه قلم الأستاذ مصطفى محمد طاهر و هو من القيادات الشعبية في حلفا, رفض و قاوم و امتنع عن الهجرة, فقد وظيفته و زج به في السجن فلم تلن عزيمته, و كان الوحيد الذى وثق هذه الملحمة الشعبية الرائعة. قاوم الكاتب المرض ليكمل تدوين كتابه و هو على فراش الموت, و لم يمهله الردى ليرى الطبعة الأولي في العام 1999. لكي لا يعيد التاريخ نفسه لا بد من مراجعة بعض فصول مأساة حلفا بقراء سريعة في بعض صفحات هذا الكتاب. بداية المأساة: وثق لنا المؤلف ملحمة المقاومة و ملحمة البقاء في أقسي الظروف على شاطئ بحيرة تسعى الى أعلى من عام لآخر و في منازل مؤقتة يحركونها هربا أمام المياه كل عام الى أن استقر الوضع و استقرت القرى و استقرت الحياة على شاطئ تلك البحيرة و عادت الملاحة في مياهها و قامت الميناء المؤقتة, و عاود القطار مسيرته و عاد اسم وادي حلفا يحتل مكانه في خريطة السودان بفضل جهاد أولئك الذين أصروا على التحدي و مواجهة الصعاب يوم أن سمع النوبيون في كل أرجاء السودان عام 1959 أن السودان قد وقع مع مصر اتفاقا حول مياه النيل وافق بمقتضاه لمصر أن تنشئ سدا عاليا على النيل تغرق مياهه أراضيهم و كل ما فيها...تقضى على الزرع و الضرع و حضارة عمرها آلاف السنين, ما صدقوا آذانهم, بهتوا, أحسوا أن زلزالا عاتيا ضرب الكون بأسره. لم تكن المفاجأة في فكرة السد العالي, فقد سمعوا بها منذ سنوات, كانت المفاجأة في موافقة حكومة السودان على المشروع رغم معارضتهم و رغم مساعيهم و رغم لجانهم التي حاولت و ناقشت كل الحكومات, و هاهي حكومة عسكرية جديدة لا تجادل و لا تناقش و لا تسمع, توقع الاتفاق. سمعوا بالمشروع أول ما سمعوا به قبل ذلك بسنوات سبع, ففى أواخر ديسمبر عام 1952 نشرت جريدة الاهرام نبأ يقول أن مصر قررت أن تنشئ سدا عاليا على النيل عند الشلال الأول جنوبي أسوان, و أن المياه التي سيحجزها خلفه ستغمر المنطقة الممتدة من الشلال الأول حتى قرية كوشا في أرض المحس. أثار النبأ ثائرة أهل النوبة, اتصلوا بحكومة السودان يسألونها عن صحة النبأ, جاءهم الرد من مفتش وادي حلفا بأن الحكومة ليس لديها علم.
حديث عن الماضي القريب: لقد عاش النوبيون منذ القدم حياة الفة و مودة فيما بينهم, تربطهم أرض مشتركة و لغة مشتركة و تاريخ مشترك, و اقتصاد مشترك. و ظلت تلك المنطقة الممتدة من أسوان الى الدبة, تحكم كمنطقة واحدة متكاملة منذ أقدم العصور و حتى اعادة فتح السودان على يد دولتي الحكم الثنائي عندما تم تقسيم الحدود بين مصر و السودان عند خط العرض 22 على يد كرومر و كتشنر عام 1899 ارضاء لباشوات مصر و حكامها في ذلك الوقت, و تعويضا لهم عن الجنود المصريين الذين ماتوا في الفتح, أو لأنهم أرادوا أن يقسموا النوبة في أى موقع من المواقع في بلاد النوبة حتى لا يسهل عليهم اعادة تنظيم أنفسهم و القيام بزعزعة الحكم الثنائي طلبا لاعادة ملكهم و مجدهم الضائع, و حتى تختلف التركيبة المصرية و السودانية فتختلف نظرتهم الى الحياة و الي المستقبل في ضوء انتمائهم و واقعهم الجديد. الا أنه و بالرغم من تقسيم النوبة عند خط العرض 22 فان هذا التقسيم ظل وهميا بالنسبة للنوبيين, و لم يكن له أثر في حياتهم اليومية, كما ظلت مدينة وادي حلفا عاصمة النوبة على جانبي الحدود, فحتى الذين وجدوا أنفسهم على الجانب المصرى بعد التقسيم كانوا يتوجهون لحلفا للتسوق أو العلاج أو العمل. هكذا أصبحت وادى حلفا عاصمة لبلاد النوبة, الذين اهتموا بها كثيرا فقد كانت من أجمل مدن السودان و مصر, و كانت الحياة فيها عامرة , و وصل المستوى المعيشى للفرد النوبي حدا لم يبلغه غيره من حيث المسكن و الملبس و المأكل و المشرب, كما بلغ سلوك النوبيين و تعاملهم مع الآخرين مبلغا رفيعا, و كانوا يتصرفون في نطاق تقاليدهم و موروثاتهم الحضارية التي لا يمكن لهم الخروج عليها, و تعتبر منطقتهم في مقدمة مناطق السودان من ناحية قلة مخالفة القانون, اذ أنها بلغت مستوى راق من التعليم و الوعي الاجتماعي و السلوك الحضاري يقيها الميل الى الاجرام , حتى أن السكرتير القضائي في حكومة السودان كان يرى أنه لا داعي لوجود المحاكم الأهلية في وادي حلفا. كانت المنطقة تشهد وفودا من السياح الذين يأتون لمشاهدة أبو سمبل و بوهين و شلالات عمكة و حمامات عكاشة و زيارة المناطق الأثرية التي بدأ علماء الآثار يكشفونها عاما بعد آخر مما جعل المنطقة محط أنظار السواح من مختلف شعوب العالم. و بازدهار السياحة انتعش فندق النيل بوادي حلفا و الذي كان بحق من أجمل فنادق افريقيا و كان يعج بالسياح في مواسم الشتاء. هكذا بدأت المنطقة تنظر لمستقبل واعد في ثقة تامة, لكن يسبقها و تتعالى في الأفق همهمات بأن مصر سوف تبنى سدا في أسوان سوف يغرق المنطقة حتى كوشا جنوبا, و يضيع جزء هام من بلاد النوبة في اليم. هكذا تم تسطير أول حرف في مأساة النوبيين و هكذا كانت الارهاصات الأولى للسد العالي.
الارهاصات الأولى للسد العالي: كانت الحكومة البريطانية قد أطلقت يد مصر على مياه النيل لتنفرد هي بحكم السودان و تصبح مشاركة مصر شكلية, و قد استغلت مصر ذلك الى أبعد الحدود حتى صار نصيبها 48 مليار مقابل 4 فقط للسودان, مع حرمانه من أقامة أى مشروعات على النيل الا بموافقة مصر و ذلك وفقا لاتفاقية مياه النيل لسنة 1929 بين دولتي الحكم الثنائي و لم يكن السودان طرفا فيها. في عام 1951 كاد السودان أن يستنفذ كل حصته من الماء, و أصبح في حاجة ماسة لتعديل اتفاقية مياه النيل, خاصة و أن الحكومة كانت بصدد مضاعفة الحصة المزروعة في مشروع الجزيرة بامتداد المناقل و بناء خزان الرصيرص. توصلت حكومة السودان الى تفاهم مع الحكومة المصرية لتعلية خزان سنار و الموافقة المبدئية لبناء خزان الرصيرص, لكنها بدأت تتلكأ في الموافقة عليها و ظلت الحكومة تلهث وراء مصر للحصول على موافقتها, و عندها طلبت مصر أن تنال ثلثى ما سيخزن في الخزان الجديد لمدة عشر سنوات رغم أن حكومة السودان وحدها هى التي ستتكفل بنناء الخزان. كان الأمر عند هذا الحد لا يعني النوبيين في شئ الا بقدر ما يعنى بقية أفراد الشعب السوداني الا أن جاء في جريدة الاهرام التي صدرت يوم 26/12/1952 أن مصر قررت انشاء سد عالى جنوب أسوان و سيغمر كل المنطقة حتى قرية كوشا بمنطقة السكوت, و صار الناس صرعى الهواجس و الاشاعات, و لم يكون عند حكومة السودان أدنى علم بالأمر, اذ لم تتصل بهم حكومة مصر في هذا الشأن, بل أن الحكومة أصدرت بيانا تطلب من المواطنين الهدوء لأن هذا الأمر مجرد اشاعات.
مفاوضات حكومة الأحزاب مع مصر: بدأت المرحلة الأولى من مفاوضات مياه النيل في سبتمبر 1954 في الخرطوم, استمرت المفاوضات عدة أسابيع من غير أن يصل الجانبان لاتفاق و ذلك بسبب رفض السودان التام الموافقة على بناء السد العالي. في مارس 1955 تحدث المحجوب بمجلس النواب و شن هجوما عنيفا على الحكومة المصرية, و طالب الحكومة السودانية برفض الاعتراف باتفاقية 1929 لأنها وقعت بين طرفي الحكم الثنائي مصر و بريطانيا, و لم يكن حاكم عام السودان أو حكومته جزء من هذا الاتفاق, و لذلك فالحقوق التي اكتسبتها مصر بموجب تلك الاتفاقية هي حقوق مغتصبة و ليست مكتسبة.و يقول المحجوب في خطابه أن حكومة بريطانيا لم توقع بالوكالة عن حكومة السودان, و بالتالي فالاتفاقية ليست ملزمة لها. ذكر الاستاذ المحجوب في خطابه, و هو القانوني الضليع و السياسي المحنك, أن حكومة السودان و هي تفاوض مصر عليها ألا تفكر في تعديل اتفاقية 1929 أو تتخذها أساس للمفاوضات, بل عليها أن تعلن بطلانها و أن تفاوض مصر على النصيب الذي ينبغي أن يناله السودان من مياه النيل البالغة 84 مليار متر مكعب, و ليس ما تبقي منها نتيجة لاتفاق 1929. بعد ذلك دارت جولة أخرى من المفاوضات بمصر, الا أن مصيرها كان كسابقتها, و أعقب فشل المفاوضات تصاعد التوتر بين البلدين و تبادل الهجوم من خلال الصحف. و قد علق السيد خضر حمد رئيس الوفد السوداني على فشل المفاوضات بقوله: ( قطعنا المفاوضات لأننا لا نريد أن ننتحر, و لا نريد أن نقضي على السودان). استؤنفت المفاوضات مرة ثالثة, لكنها فشلت أيضا في التوصل لاتفاق فتصاعدت الخلافات أكثر من أى وقت مضى, و قامت الحكومة المصرية في فبراير 1958 بتقديم مذكرة للحكومة السودانية تطلب فيها عدم اجراء انتخابات في المناطق الواقعة شمال خط عرض 22. و قد تأزم الموقف و تواجه الجيشان على الحدود الشمالية و الشرقية, و لم يتنفس الناس الصعداء الا بعد سحب الجيش المصري من داخل الحدود السودانية. بعدها أطلقت الحكومة السودانية سراح الباخرة المصرية التي كانت محتجزة في حلفا لاختراقها الحدود دون اذن و عليها عدد من رجال الجيش و الأمن و الموظفين.
فشل المفاوضات : كان واضحا أن مصر قد وصلت الى قناعة الى أنه لا يمكن الوصول لاتفاق حول مياه النيل مع حكومة يشارك فيها حزب الأمة, خاصة بعد أن تعددت المشاكل و تشعب الخلاف. و من جانبها فان الحكومة السودانية كانت قد وصلت الى قناعة تامة من عدم جدوى المفاوضات في مثل تلك الظروف, و ذهبت خطوة بعيدة بأن قررت عدم الاعتراف باتفاقية 1929, و بعثت بمذكرة بهذا المعني للحكومة المصرية. و أكدت حكومة السودان نيتها فتح خزان سنار قبل أسبوعين من موعده لملء الترعة الجديدة للمناقل, فأدخل ذلك الحكومتان في معركة جديدة, و قامت الحكومة السودانية بطرد القنصل المصرى على خشبة و الذي اتهم قبلا بتدبير حركة عبد الكريم قاسم بالعراق. في هذه الأجواء أدلى وزير الأشغال المصري بتصريح لاذاعة ركن السودان بالقاهرة, اعتبرته الحكومة السودانية استمرارا للسياسات المصرية الخاطئة تجاه السودان, و قام السيد ابراهيم أحمد وزير الرى بالانابة بالرد عليه قائلا: " ليس هنالك علاقة مباشرة بين السد العالي و نصيب السودان من مياه النيل, و سيقوم السد العالي بتوفير الكهرباء لمصر و في المقابل سيغمر أحسن موقع لتوليد الكهرباء و هو شلال سمنة جنوب وادي حلفا. أما عن التعويض العادل عن منطقة حلفا, فمن الذي يمكن أن يقدر تعويضا عن بلد و تاريخ و حضارة. و رأيى أنه يتوجب على مصر أن تبحث لها عن بدائل أخرى للسد العالي".
انقلاب عبود و توقيع الاتفاقية: أعلن الجيش السوداني استيلائه على السلطة في 17 نوفمبر 1958 ¸و أعلن رئيس المجلس العسكرى الفريق ابراهيم عبود في بيانه الأول أنه سوف يعمل جاهدا لتحسين العلاقات مع مصر و حل جميع المسائل المعلقة و ازالة الجفوة المفتعلة. و رحب عبد الناصر بالحكومة الجديدة و أعلن فتح باب الاستيراد من السودان و الذي كان قد توقف عند بداية الأزمة. في سبتمبر 1959 بدأت المفاوضات بين حكومة عبود و مصر, و لم تستمر المفاوضات طويلا حتى وصلت الى العقبة التي تكسرت عندها كل المفاوضات السابقة و هي حصة السودان من مياه النيل و بناء السد العالي, و قد تأكد للوفد أن الأمر لم يكن سهلا كما تخيلوا, و رجع رئيس الوفد اللواء طلعت فريد للخرطوم مرتين خلال المفاوضات للتشاور مع المجلس العسكرى, و أخيرا و بتاريخ 8 نوفمبر 1959 تم توقيع اتفاقية مياه النيل, و التي تضمنت الموافقة على اغراق وادي حلفا و تهجير أهالى المنطقة, و القبول بتعويض 15 مليون جنيه, و هو تعويض لا يساوى ثلث المبلغ المقدر من الجانب السوداني. سيظل يوم الثامن من نوفمبر 1959 يوما لا ينسي و لا يمكن أن يتجاوزه المؤرخون لتاريخ وادي حلفا, و ستبقي ذكرى ذلك اليوم محفورة في قلوب و أفئدة الذين عاصروا تلك المرحلة و عاصروا أحداثها. لقد عم الحزن و السخط على حكومتي مصر و السودان, و عم الألم كل مناطق النوبة, و ألجم الألسن هول المصيبة, و ما أن أشرقت شمس التاسع من نوفمبر حتى تدفق الناس من كل حدب و صوب تجاه مركز مدينة وادي حلفا, و كأن داعيا قد دعاهم لعلهم يجدون هنالك من يملكهم من أمرهم رشدا, أو لعلهم يجمعون على شئ يحميهم من ذلك الغد المجهول. للأسف خاب فألهم و تم ترحيلهم في أكبر عملية تهجير جماعي في التاريخ. أتمنى ألا يأتي زمان نكتب فيه بقية أجزاء الكتاب لنحكى مأساة تهجير أهالى كجبار و دال و الشريك, و نبكي أعرق حضارة و أغني ثقافة ماتت تحت مياه السدود.
Emai
| |
|
|
|
|
|
|
Re: سدود الشمال .... التنمية المدمرة (Re: Medhat Osman)
|
السودان#السعودية#مصر#اثيوبيا سد الالفية العظيم والتغيرات الجذرية في نهر النيل وتاثيره علي مشاريع السدود في السودان المهندس/ مصطفي مختار شلبي ( خبير ومتخصص في مجال السدود) بدأت أثيوبيا تنفيذ سد الألفيــة العظيـــــم على النيل الأزرق بالقرب من الحدود السودانية، وهو من أضخـــــــــم مشاريع السدود في العالم، ويهدف الي توليد كهـــــرباء بطاقة قدرها 5250 ميجاوات. ينتهي العمل في تشييد الســد عام 2017 ليبدأ تخزين المياه ببحيرة الســــد التي تبلغ سعتها 62 مليار متر مكعب. سد الألفيــة سوف يحدث عدد من التغيرات الجذرية والتي ستجعل من نهر النيل نهرا آخر غير الذي عهدنــــــاه، التغيير الأول هو أن مياه النهـــــر سوف تتدفق بمعدلات ثابتة تقريبا طوال أيام السنة، وسوف تنتهي الى الأبد ظاهرتي انحســــار النيل وفيضانه، ستختفي الشواطئ الرملية وتصبح الدمـيرة من حكاوي الماضي. التغيير الثاني يتمثل في احتجاز السد لمعظم كمــيات الطمي الواردة الينا، وبذلك تنتهي معاناة تشغيل سـدود السودان في فترة الفيضان، وتزول مشاكل الاطماء في بحيرات الســـدود. يأتي هذا على حساب خصوبة الأرض التي ستفقد السماد العضوي المتجدد سنويا بتراكم الطمي عليها. التغيير الثالث هو نقص دائم وآخـــر مؤقت لكميـــات المــياه الواردة من أثيوبيا، النقص المؤقت، وهـو الأخطر، يكون في الســـــنوات الأولى والتي يمكن أن تمتد من خمسة الى عشر سنوات بعد بدء التشغيل، وهي الفترة المـطلوبة لملء بحيرة السد، تماما كما حدث في السد العـــــــــالي. هذه الفترة سوف تشهد نقصــــا كبيرا في المياه الواردة قد يصل الى 10 مليار م.م. سنويا. أما النقــــــــــص الدائم فهو الناتج من التبخر في بحيرة السد بالاضافة للمياه المـستخدمة في الرى، اذا ما رأت أثيوبيــــــــــا امكانية ذلك، وهو في كل الأحوال أقل كثيرا من النقص المؤقت. هذه هي مستجدات الأحوال، فما هي تبعاتها علي مشاريــع السدود في كجبار، دال والشريك؟ للاجابة على هذا الســـؤال نبدأ بتحديد وظيفة السدود، وهي باختصــــــــــار تنحصر في وظيفتين هما تخزين المياه في فترة الفيضان للاستفادة منـها في فترة انحســــــار النهر، ورفع منســوب المياه خلف السد لتوفير ضاغط مائي يستفاد منه في توليد الطاقة الكهربائية وفي نقل الميـــــــــــاه للأراضي الزراعيـــــة بالري الانسيابي. تؤثر المستجدات على وظيفتي التخزين ورفــــــع المنســوب لهذه السدود كما يلي: بناء سد الألفية سوف يحمل عبء الوظيـــفة الأولي تمـــامـــا بالنيابة عن السودان، ويقوم بالتحكم في الميـــــاه ومد النيل الأزرق بمعدلات ثابتة يوميا وموسميــا، تمامــــا كمــــا كانت ستفعل ســــدود الشمــــال. اذا ما عرفنا بأن هذه الوظيفة هي أم المشاكل، لأنــــها تعني الاغراق والتهجير بكل مـــا تحمله هاتين الكلمتين مــــن مآسي وتدمــير، فان سد الألفية سوف يقــــدم خدمة مجــانية عالية القيمة للسودان بتخزين المياه وضبطها ثم ارسالها تماما كما هو مطلوب من السدود. سد الألفية سيقوم بتوليد كميات ضخمـــــــــة من الكهرباء، تفوق احتياج أثيوبيا. وقد عرضت أثيوبيا علي السودان الاستفادة من هذه الكهرباء بأسعار منخفضـــــــــة، ويأتي هذا العرض كامتداد للتعاون الفني الممتد بين الدولتين منذ ثلاثة عـــــقود للاستفادة المشتركة من امكانيات أثيوبيا الهائلة في التوليــــد الكهرومائي. سوف يفقد الســــــــودان كميات كبيرة من مياه النيل نتيجة لمطالبة الجنوب بنصيبه من حصة السودان، ومـــطالبة دول حوض النيل بنصيبها من مياه النيل، بالاضــــــــــافة للنقص المؤقت والدائم النــــــاتج من تشييد سد الألفية. هذا النقص، الذي يمكن أن يلتهم معظم نصيب الســودان من المياه، يشكل تهديدا خطيرا وكارثيا للأمن المائي والقومي الســـوداني، ويجعل من الادارة الرشيدة للمياه أمر حيوى وبالغ الأهمية. في ظل هذا التهديد لا بد من مراجعة شاملة ومتأنية لخطط بناء سدود الشمـال، والتفكير الجاد في تفادي اهدار أكثر من 5 مليار متر مكعب من المياه بالتبخر في هذه السدود. المستجدات الحالية تتطلب من ادارة الســـدود والحكومـــة مراجعة هذه السدود والتي فقــدت أى مبرر لتشييدها، وفي رأيي أن هذه المستجدات تترك خيــــــارين فقــط لا بـد مـــــن دراستهمــــا وتبني أكثرهم جدوى، الخيار الأول هو صـــرف النظر تماما عن هذه الســــــــــدود، والاتفاق مع أثيوبيا على استيراد نفس كمية الكهرباء التي كان من المقدر توليدها من هذه السدود. ـ الخيار الثاني هو اختيار مواقع مناسبة لاقامة ســدود تعتمد على مبــدأ عـــدم التخزين، وهنالك عدد من هذه المـواقع تم تحديدهـــا في دراســـات ســـابقة. يعتمد هذا المـبدأ على رفع منسوب الميـــاه خلف السد لتوفير الضـــاغط المائي من غير التأثيــر على سريــان النهر، وقد أثبتت الدراســات الأوليــة جدوي مثل هذه السدود على نهر النيــــل في وضعه الراهن، أما بعد قيام سد الألفية فلا شك أن الجدوي ستتضاعف بسبب ثبات معدل التدفق طول السنة. ـ الخيار الأول هو الخيار الأمثل، فهو يحقق الهدف المنشــود من غير استثمـــار وبدون الدخول في قروض ربوية أو غير ربوية ، والأهــــــم من ذلك أنه يكفي المؤمنين شر الصراع والتشرد. هذا اذا كان الهــدف من بناء هذه السدود هو توليد الكهرباء وحسب كما هو معلن. ان كان لا بد من قيام الســــدود فالخيار الثــــاني هـــو أخف الضررين مقارنة بالتصميم الحالي للسـدود، وهو أقل تكلفة وأســـــرع عـــائد ولا يؤدي لتهجير الأهالي والقضاء على تاريخ المنطقة وآثارها وثقافتهاالمتميزة. في ظل المستجدات الحاليـة والوضع الاقتصــــاديى الســئ وفقدان عائدات البترول، بالاضافة للتدهور المريع في البنية الانتــــاجية، فان اصرار ادارة السدود والحكومة على اهـدار مــــوارد البلد بتنفيذ سدود تدميرية لا فائدة ترجى منها يعتبر مفسدة كبرى لا تجد لها ســـند منطقي أو علمي أو أخــــلاقي وترفع علامــــات الاستفهام عاليا: هل هذه السدود من أجــل الكهرباء حقا؟؟ اذا كانت كذلك فقد سحب البساط من تحتــــها وآن الأوان أن تطوي هذه الصفحة فورا والى الأبد. وان لم تكن كذلك فالشعب يريد تغييرالسدود..
| |
|
|
|
|
|
|