بالتالي فقد وردت تلك العبارات في رواية (سمراويت) على لسان أحد الشباب الذين هربوا من ظروف سيئة في أوطانهم بحثاً عن ظروف أفضل في السودان، أو ارادت أن تتخذ السودان مِعبَر إلى دول أخرى. و لكن رمى حظ هؤلاء الشباب العاثر في أيدي حرس الحدود السودانيين. كأنه لم يكفيهم ما لاقوه من معاناة خلال هروبهم عبر الحدود السودانية ألإريترية. وهي قصة هروب يبدو أنها تتكرر كل يوم و منذ زمن حيث يدفع هؤلاء البؤساء فيها ثمناً باهظاً من أموالهم و من أرواحهم. كما يدفعون ثمناً باهظاً من كرامتهم الإنسانية في تلك الحدود البعيدة. و بالرغم مما يلاقونه في تلك الرحلة التي كما جاء في أقوال الشاب المهاجر تستغرق سبع ليالي على ظهر الجمل كي يهربوا من جحيم هناك ،
و بدلا من أن يهربوا من ذلك الجحيم حيث يتفاجاوا بجحيم جديد هنا. و ذاكرة المهاجرين لا تنسى، و ذكريات المعاناة تحفر في الوجدان جراحاً غائرةً. و الإنسان و هو في غمرة العذاب و التعذيب يدرك بوعيٍ مُضَاعف من يمد له يد المساعدة و من يمد له يده كي يصفعه.
في المقابل حفظ التاريخ ذكريات و كتابات أريترية عديدة إشادة و عرفاناً بالجميل لعديد من الرموز السودانية ( في الزمن الجميل).و التاريخ يذخر بالعديد من الإسهامات التي قدمها السياسيون السودانيون( العقلاء) لإخوتهم الإريتريين في في سبيل تحرير بلادهم. من بين هؤلاء الزعيم اسماعيل الأزهري، و محمد عبد الجواد، و محمود محمد طه، و الصحفي عبد الله عبيد، و محمد أبو القاسم حاج حمد....إلخ.
بالتالي فإن ما فعله هؤلاء السياسيون يدل على وعي سياسي كبير بالإضافة غلى شهامة و صدق و استقامة كما ذكر بعض القادة الاريتريين في شهاداتهم. كما جاء ذكر المساعدات المالية التي قدمها هؤلاء الزعماء مما يدل على الشفافية و نصاعة الضمير و لم تمتد أياديهم لأموال عامة كان يمكن أن يقدموها باسمهم. كما جاء في تلك الكتابات الإريترية ما يدل على الوفاء بالوعود و التجرد و النزاهة مالية و طهارة اليد تجلت عند تقديمهم للمساعدة ( كما ذكروا بالتفصيل خاصة فيما يتعلق بالوزير السابق محمد عبد الجواد.
ما أردت أن أقوله أن الطليعة الإريترية المناضلة التي ساهمت في استقلال بلدها، و كذلك أفراد الشعب الإريتري يقّدّرون بشكل كبير دور السودان و دور رموزه و شعبه أثناء محنتهم أيام طغيان حاكم اثيوبيا السابق (منغستو هايلا ماريام ) و يُثمّنون تلك المساعدات و الدعم عالياً. و تحفظ ما قدمه السودان في الستينات و السبعينات و ما تلى ذلك.
إلا أنه في المقابل و للأسف تحفظ الذاكرة الإريترية الحديثة والناشئة الكثير من الصور المقيتة و الذكريات المرة.خاصة ممن رماهم حظهم العاثر في الحدود السودانية كمهاجرين و لاجئين في هذه الفترة الكالحة التي ساد فيها السلوك الهمجي و التصرفات البربرية في التعامل مع المهاجرين من جانب حرس الحدود و غيرهم من أجهزة رسمية. مما يعكس جهلاً بأبسط أساليب التعامل المهني و الإنساني. و بما يكشفه من ابتزاز و استغلال لظروف ضاغطة و طاردة دفعت بهؤلاء المهاجرين للهجرة.
بالتالي أن مثل هذه التصرفات بالإضافة إلى أنها تتناقض مع أبسط المباديء الإنسانية و مع ما عرفنا به من مروءة و نجدة،
فهي تعمل من ناحية على مسح كل ما قدمه الرعيل الأول من السودانيين و ما قدموه في السابق مما تحفظه الذاكرة الشعبية و الرسمية. و من ناحية أخرى تعمل على تثبيت صور أخرى سالبة في ذاكرة أجيال حديثة لم يسعفهم حظهم في ان يوجدوا بالسودان عندما كان السلوك الراقي و احترام كرامة الانسان هي السمات السلوكية السائدة .
و هي لعمري صور تتناقض مع الصور التي نحملها لأنفسنا و ما ندعيه عن أنفسنا في غرور و عرفنا به في السابق و ما نتشدق به دائما من كرم و حسن وِفَادة و احترام للغريب.
محمد عبدالله