دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
معاينة في اللوحة الإبراهيمية عبر كوة القراءة النقدية للإرهاق الخلاق
|
بسم الله الرحمن الرحيم هذه الحلقات هي عن قراءة نقدية نظمتها مؤسسة أروقة للثقافة والعلوم لكتاب الدكتور عبد الله علي إبراهيم "الإرهاق الخلاق". نشرت هذه الحلقات في جريدة الصحافي الدولي بدءا بنهاية مارس 2002م.. ابتدرت هذه الحلقات بعمود ناقش مشاكل الطبع في البلاد والتي ظهرت أبلغ ما ظهرت في الأخطاء المطبعية التي بلغت 102 خطأ في كتاب صغير لا تتجاوز صفحاته الثمانين، وقد طبعت الكتاب دار عزة للنشر والتوزيع، وصدرته بمقدمة ذكرت طموحها في الارتقاء بالطباعة في البلاد وتجاوز التدهور الفني في شتى ضروبه! إنني أنزل هذه الحلقات في هذا البوست وأرجو أن أجد قراء/قارئات ونقاد/ناقدات يفيدوني حول ما طرحت بعقولهم النيرة.. تفضلوا معي مشكورين: معاينة في اللوحة الإبراهيمية عبر كوة: القراءة النقدية للإرهاق الخلاق 1- طريق الوحشة وملامح الإبداع كنت ناقشت في منبر "بيننا" الأسبوعي- وهو اسم العمود الذي كنت أكتب فيه في جريدة الصحافي الدولي- شيئا عن القراءة النقدية التي نظمتها مؤسسة أروقة للثقافة والعلوم بتاريخ 20 مارس 2002م لكتاب دكتور عبد الله علي إبراهيم المعنون "الإرهاق الخلاق" والذي نشرته دار عزة للنشر في العام المنصرم. ووعدت بمواصلة النقاش، وها أنا ذي أفي بوعدي مع تغيير المنبر، فالعمود لا يسع كل الخواطر التي طرأت علي بشأن الكتاب وقراءته النقدية، وكونه أسبوعيا يفقده التتابع المطلوب ويضيع الخيط الرابط، وذلك استحسانا لنصيحة تفضل علي بها الزميل الأستاذ علاء الدين بشير. كتاب "الإرهاق الخلاق" مكون من مقالين كان الدكتور إبراهيم نشرهما في تواريخ مختلفة، فالمقال الأول الذي جاء في ثلاث حلقات نشرت في 1990 بعنوان في آخره طرفة: "الحكومة تطفئ شمعة والمعارضة تلعن الظلام"، اقتباسا من الحكمة المعروفة "أوقد شمعة بدلا عن أن تلعن الظلام" مع تحويل فعل الإيقاد إلى نقيضه "الإطفاء" إشارة للاحتفال بعيد الميلاد، وإدخاله في مفارقة بين موقفي النظام والمعارضة.. وقد جارت على هذه الطرفة الأخطاء الطباعية وصيرتها لمرات ثلاث: "المعارضة تعلن الظلام" كما أوردت سابقا. والمقال الثاني نشر عام 1997م وهو يحمل عنوان الكتاب: "الإرهاق الخلاق". عبدالله علي إبراهيم.. وطريق الوحشة عرف الناس إبراهيم عاملا بالسياسة، يساري التوجه شيوعيا في بداية سيره، ثم مفتونا بالإنقاذ وشعاراتها في جوانب عديدة الآن.. وهو في كل أحواله صاحب قلم جرئ يواجه المسلمات المدججة بأرتال القلوب المؤمنة وملايين السواعد الحامية (صامدا باسما أجردا)، وهكذا يرى في المنابر والمنتديات الفكرية يطلق بين حين وآخر ضحكته المربكة.. ويتحدث عن درب طويل به وحشة وسوء ظن.. لعلها مستلزمات تلك المواجهة.!.. وكثيرا ما يستخدم الضحك في عكس موضعه، وكما اشتهر المثل: شر البلية ما يضحك، قال ابن العلاف: ســهرت فتبـدي مـا أجـن المـدامع أداري بضحـكي عـن هـواك وربمـا ورغم أني سأمتحن وقفة إبراهيم الأخيرة وأحاول إظهار هشاشة أصلها، إلا أنني أعرف أن الرجل مؤمن بهذه "المحن" التي يدعو إليها. وهو يختلف في ذلك عن الكثيرين ممن فعلوا فعلته بسبب المفاضلة بين الفكر و"الفكة"، وذلك بتعبير قصيدة كانت ترددها زميلاتي الشيوعيات عن أحد قياداتهم التي فضلت عليهم النميري لأجل المناصب: واحد ناضل، آخرتا فاضل، ما بين فكره وأقرب سكة تجيب الفكة. وإبراهيم لم ينل تلك الفكة.. ولم يصب غير الشقوة والوحشة التي رحب بها لأجل فكره. ولن يخفف عليه إحتفاء أهل الإنقاذ بأفكاره تلك، فأولئك قوم لم يعد لطرحهم الفكري رنينا، وخبا وباخ بيد عرابه الأول، ودونك ما خطه الدكتور الترابي حول عبرة المسير لاثني عشر السنين، كما أن أكثرهم يحتوي على طبيعة طغموية "إشارة لما سماه الدكتور سياسة الطغم" وليسوا الملتهم المناسب لنتاج قلم إبراهيم الذي يتجلى في غير تلك السياسة ويتطلب تذوق كتاباته قدرا عاليا من الانفتاح العالمي والتفتح الذهني صبت عليه خطابات ما سمي بالتأصيل زيتا حارا وجمرا كلما نضج جلده، وأبدلته خطابا منغلقا، على الأقل في بدايتها. والانفتاح الذي جرى على الإنقاذ ما زال وليدا يحتاج لرعاية، بينما واصل إبراهيم مغازلته للإنقاذ منذ عامها الأول. أما الذين هم أقرب لتذوق كتابات إبراهيم وكم تلذذوا بها تصدمهم آراؤه الحالية ويحجمون عن الالتهام.. فهل أراد إبراهيم في تلك الوقفة الماردة تحقيق الفخر الشعبي الدارج: أنا الملاح الأبتو ستو؟!. لقد قدمت من ضمن القراءة النقدية المعنية مداخلة للأستاذ عبد الرسول النور –قطب حزب الأمة- الذي أشار لاستغلالية المثقفين وتغييرهم لأفكارهم جريا وراء المناصب، ورغم صحة هذه الملاحظة في مناح كثيرة، إلا أنني لا أرى أنها تصدق على حالة إبراهيم، وما ناله إثر هذه الوقفة العجيبة من شقاء يفوق ما حصل عليه من تقدير أهل الإنقاذ الناشف "محنة كت بلا لبن"، قياسا إلى ما تراه الأمهات البشر من أمومة الدجاج والدجاجة لا ترضع صغيرها ولا هي من ذوات الثدي. لقد كان إبراهيم زاهدا في لبن الإنقاذ (وهذا أفضل من ما فعلته مريم الصغيرة البلهاء في قصة فاطمة السمحة إذ شربت من لبن أمنا الغولة فتكسرت عظامها).. عظام إبراهيم لا زالت سليمة.. ولكن روحه حبيسة الغول!. إنني أعد نفسي من بين المتتبعين لكتابات دكتور عبد الله علي إبراهيم –ومعظم المهتمين بأمور الفكر والثقافة السودانية هم كذلك- منذ أمد بعيد، كان ذلك بداية بسبب دعوته الجديدة في تاريخ المهدية –وهو حسب علمي رائد حركة: نحو مشروعية لمعارضة المهدية- ثم لاحقا بسبب التحاقي بالدراسات الفولكلورية واطلاعي على بصماته الظاهرة في ذلك المجال. ولذلك فإني أجد المناسبة سانحة للمعاينة على تلك اللوحة كما بدت لي في كل سنين التتبع الماضية، عبر هذه النافذة المشرعة للجمهور الآن، وهي كتاب الإرهاق الخلاق، والقراءة النقدية التي نظمت له. والحقيقة أن مثل تلك المعاينة كانت تتطلب جهدا أكبر حتى تصيب فائدة في تفهم هذا القلم الفذ وتتتبع تجلياته المتعددة وكبواته بين حين وآخر. ولكن حرصي من جانب آخر على الإدلاء بدلوي في الزمان المناسب، جعلتني أكتفي بهذا القدر من القراءة الأولية والتي حجبت فيها الكثير مما خطر لي، لأنني لو اتبعت هواي في ملاحقة كل الصيد الحائم يوم القراءة النقدية لنفذت أسهمي وكل ساعدي وما نفذ.. هذه القراءة هي أشبه باستدعاء الأطياف منها نقل الصور، فإليها.. الخلقية في اللوحة الإبراهيمية الكتاب جدير بالاطلاع مثله مثل غيره من كتابات دكتور إبراهيم، ويأتي كحلقة في مجهوداته الفكرية التي أنظر لها الآن كلوحة متداخلة الألوان متعددة الإيحاءات. وتتسم مجهودات إبراهيم بالنظرات المتعمقة والوقوف أمام الدقائق، واللغة الجاذبة ذكية اللفظ مجددته، وبالدعابة والطرفة التي تدعك تحس أنه خاطبك مباشرة، وبتسليط الضوء على الكثير من المسلمات والوصول لنظرات جديدة للأمور، وهذه من أهم خواص الخلقية والإبداعية في الفكر، والخلقية هي من أهم عتبات التطور الفكري فلا يفيد الناس من اجترار أحاديث السالفين بدون تفكر وتدبر يعمل على اختبار تلك الأحاديث والشك في صدقيتها، الشك الذي فجره ديكارت في مذهبه العقلاني في الفلسفة الغربية وأطلق صيحته التي ربطت بين العقل وعمله (التفكير) وبين كون الإنسان ووجوده: "أنا أفكر إذن أنا موجود"، وما كان بدعا في الزمان فالنهج العقلاني هو أهم ما ميز العقلية القرآنية التي سبقته بنحو تسعة قرون، والتي ركزت على التفكر والتعقل والتدبر، وربطت ما بين العقل وما بين الإنسانية (وذلك هو الوجود فما يفيد المرء من حياته كزاملة)، قال تعالى: ( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)، ولفظت الفوطبيعيات كوسيلة للإقناع فهي لم تثبت جدارتها، قال تعالى: "وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون". والطريف أن ديكارت حسب رواية ريموند دي بيكر قد وصل إلى هذا النهج إثر ثلاث رؤى متتالية في نوفمبر 1619م تلقى أثناءها جوهر مبادئ مدرسته العقلانية!. لقد عرف الناس عبد الله علي إبراهيم رقما مضيفا للحركة الأدبية والنقدية والفكرية والتاريخية، منذ ريادته لمدرسة "أباداماك" الأدبية الواعية بالبعد النوبي في التكوين السوداني في الستينيات. ثم ما قدمه من نصوص مسرحية وقصصية.. ولكم شدتني مسرحية "الجرح والغرنوق" واللغة الجديدة التي حاولها فيها برغم اعتذاره عن تلك اللغة في المقدمة وتجريبه غيرها في "السكة حديد قربت المسافات وكثيرا"، وأكثر ما قد يستوقف الواحد (الواحدة) المهتم بالمهدية وأثرها الثقافي جمال الجرح في أحد شخوص مسرحيته تلك "قيدوم" المحارب في صفوف المهدية.. وجمال جرح قيدوم له ما وراءه في المخيلة السودانية وكرري.. ولكن حديث كرري له بقية لا تحتملها هذه السطور. والإبداعية في تفكير الدكتور عبد الله علي إبراهيم سمة تكثر شواهدها. ففي أبحاثه التاريخية للمهدية أطلق دعوة "نحو مشروعية لمعارضة المهدية" إبان بحثه للعلاقة بين المهدية والكبابيش. وبالرغم من أن المفهوم نفسه كان قد سبق بالوعي به الإمام عبد الرحمن المهدي فحاول إعادة المهدية لاعتبار الجانب الاجتماعي والثقافي الواقعي مع اتباع المثال الفكري والأخلاقي، إلا أن الحركة التاريخية للمهدية لاحقا أصيبت بعقدة الذنب جراء اتباعها لترهات ونجيت- قلم المخابرات البريطانية ومن لف لفه - في مهدها، وصارت تركز على الجوانب المثالية في المهدية مغفلة ذكر تجاوزها الواقع ومحاولتها القفز من فوقه بتحقيق المثال بأي ثمن، مما تسبب في مواجهتها لذلك الواقع براديكالية فتت في عضدها وأسقطت دولتها في النهاية.. ذلك الالتفات في حركة التأريخ كان إبراهيم من رواده، وإن كان قد صاحبه لون صارخ يظهر مشروعية المعارضة المستندة على الثقافة والموروث، مهما كان ذلك الموروث وتعارضه مع المثال والحلم، ويفوته ذكر المشروعية المهدوية المستندة على الفكرة أو الحلم بغد أكثر مثالية.. وبذلك يكون الصراع بين المهدية والكبابيش هو صراع بين مشروعيتان متنافرتان في أصلهما: مشروعية الواقع الثقافي والاجتماعي، ومشروعية الأيديولوجيا الهادفة للتطوير وللتأصيل في ذات الآن، هاتان المشروعيتان المتنافرتان، على الثقافة أن تصالح بينهما حتى تستبين الغد المأمول. ومن الشواهد على الخلقية والريادة في المشروع الإبراهيمي أيضا نظرته الثاقبة تجاه دعوة الآفروعروبية وتتبعه لخلفيتها الفكروية التي تستبطن الاستعلاء وتظهر التسامح، ونحلة "البدائي النبيل" التي تنتحلها الآفروعروبية ويرفضها أهل الشأن في الجنوب. وقد لقى مقاله عن الآفروعروبية هذا اهتماما بالغا من المثقفين، وتسبب في كتابات لاحقة، حتى أن ورقتين مقدمتين لمؤتمر "الثقافة والتنمية الشاملة" الذي نظمه مركز الدراسات السودانية في القاهرة في أغسطس 1999م كانتا تتخذانه محورا لأطروحتيهما (ورقة محمد جلال هاشم وورقة عبد المنعم عجب الفيا)، وإن كنت أظن أن الكثير من تلك الكتابات فاتها تفهم منطق المقال وما سعى له. وبالرغم من أن ذلك المقال كان لبحث هموم الثقافة السودانية، إلا أنه أصاب نقدا أدبيا رائعا وألقى الضوء على الكثير من درر شاعرنا عبد الحي في عودته إلى سنار. ومن الشواهد أيضا نقده لمفهوم الطائفية في كتابه "الإرهاق الخلاق" وحديثه عن أنها تنبع من صفات إذا اتسمت بها الممارسة السياسية كانت طائفية وليست حكرا على أشكال أو أحزاب بعينها. فقد وصل إلى أن الممارسات الطائفية موجودة حتى عند الأحزاب العقائدية. وغير هذه الشواهد تأتي الكثير من المقالات والنظرات المفرقة في كتبه العديدة، بل إن كتابه "عبير الأمكنة" هو حفل التقت فيه الأفكار النيرة والنظرات المفيدة، وهو يصك في كل حين وحين مفهوما جديدا، فإنه وهو يتحدث عن الشيخ أبو القاسم هاشم يصك مفهوم "المصانعة"، ثم وفي حديثه عن عيد الإذاعة السودانية يتحدث عن مزاج المثقفين "التبكيتي" وكيف أنهم يتوقعون من المؤسسات الوطنية أداء فوق الممكن إذا هي لم تدركه أصيبت بسهامهم المسمومة. وفي قراءاته العالمية يفضح عقلية والت ديزني وأبطاله ميكي وبطوط وغيرهما، وكيف أن ذلك المشروع التربوي الذي تغذينا على منتجاته بنهم في طفولتنا، ولا زال أطفالنا منه ينهلون، احتوى على جرعات تشويهية للثقافة الأسرية وتغييب الوالدين ودورهما في الأسرة، ناتجة عن عقدة في نفسية والت ديزني نفسه وحياته الشخصية.. وغير ذلك كثير مما لم يتم تداوله بين المهتمين بالعملية الثقافية والفكرية في السودان. وكثير من ذلك يصب فيما سماه إبراهيم "السياسة العادية" المهتمة بحياة الناس ومشاغلهم، والتي تطرقت لها في العمود الذي أشرت له في مطلع هذا المقال، على أنها لب السياسة ومدخلنا للتجويد والتطور. وأختم هذه القراءة المتعجلة لشواهد الخلقية باعتذار عن تركيزي على عبير الأمكنة والذي كان بسبب حداثة عهد إطلاعي به، ولا ينقص عن ذلك الكتاب كتابه عن الثقافة والديمقراطية في السودان.. ثم أني لم أطلع بعد على كل كتابات الدكتور إبراهيم حتى أدعي الإحاطة بمشروعه الفكري.. ولكن لي فيه بعض القراءات. وقبل الولوج في حديث أستدعي فيه خواطري حول الإرهاق الخلاق وقراءته النقدية، وهو حديث لججه أكثر من عفوه بسبب قراءة دكتور إبراهيم الحادة فيما يتعلق بتعليقه الأمل على نظام أراه آفلا –ولا أحب الآفلين- فإني أؤكد أن مثل كتابات دكتور إبراهيم تبعث على الترحيب رغم كل شيء، ذلك أنه صاحب نظرات تنزل الشك وتدك اليقين، وفائدة هذه مؤكدة: إذا واجهت ضلالا هدته، وإذا واجهت حقا أثبتته فبضدها تتبين الأشياء، وهو صاحب كتابات اجتهادية وللمجتهد حتى لو أخطأ اجر.
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: معاينة في اللوحة الإبراهيمية عبر كوة القراءة النقدية للإرهاق الخلاق (Re: رباح الصادق)
|
2- الشوف الشامل.. والإرهاق الخلاق الشوف الشامل أم جماعة الفيل؟ إبراهيم معجب بشعر قالته شاعرة شعبية تمدح الشيخ أبو القاسم هاشم قائلة :"سلامة شوفك الشامل"، نوه به في "عبير الأمكنة" وذكره في تعقيبه على النقد.. مما يعني أنه يقدر هذه الصفة جدا، ولكن ما يؤخذ عندي على المشروع الإبراهيمي هو فقدان هذه الصفة بالتحديد، أو اتباع استراتيجية "جماعة الفيل" وهم رهط من العمي وقعوا على فيل وما عرفوا ما هو فتلمس كل منهم جزءا فيه، فقال أحدهم: هذا شيء مسطح وكبير (فقد تلمس أذنه)، وقال الآخر بل هو شيء أسطواني طويل (عانيا خرطومه)، وقال رابعهم بل هو ضخم منفوخ (وقد لمس بطنه).. وهكذا. وأنا أنزه الدكتور عن العمي بل نظره ثاقب، ولكنه يركز في جانب ما ويتعمى عن الجوانب الأخرى- أي يحلل الأمور بشكل فيه تجزئة، وبتعبير علم النفس: بصورة انتقائية، فعلماء النفس يتحدثون عن أنواع الإدراك ومن بينها الإدراك الانتقائي selective perception، وهو أن بعض الناس إذا ركزوا على شيء احتجبت عنهم بقية الأشياء –وهو نوع من الإدراك أعاني منه على مستوى شخصي بصورة مؤلمة فإن وضعت انتباهي على مسألة تلاشت بقية الأمور بصورة قد تحجب عني الوجود، ويتندر على ذلك إخوتي لدرجة قيل معها أنني كنت ألون بين جمع أسري في الهواء الطلق، فصبت السماء وانتقل الجميع للداخل ولما تفقدوني وجدوني أواصل التلوين لم أدر أنها أمطرت أو أحس انهم تحولوا- وهذه إشانة سمعة فحسب، ولكنها تعكس ما يمكن أن يحدث لانتقائيي الإدراك!. هذه الخاصية قد تنسحب على العملية الفكرية. وبالطبع فإن مسألة الموضوعية في العلوم الإنسانية تمر ولا شك بقضية المنهجية. والمنهج الجزئي أو السوسيومتري الذي يصف ما أشرت له وأسميته بالانتقائية ينتقي موضوعا ما ويصب عليه اهتمامه.. والكثيرون يتطرقون للمنهج التخصصي بالإطناب، ولكن، وكما يقول أستاذي الدكتور قيصر موسى الزين فـ"إن ما يشاع عادة عن دقته القائمة على التحديد والتخصص مقارنة بالبحوث الكلية ذات المنظور الشامل هو أمر يكون موضع شك كبير". إن توجيه المفكر كل اهتمامه لأمر في نظرة قريبة، بدون محاولات جادة لإيجاد رابط أو للنظر من البعد ربما سبب لبسا أو تعارضا بين المدخلات المختلفة والمتداخلة، ويشبه ذلك عمل رسام لحيوان يركز في رسمه على عضو معين –الحافر مثلا- ويبرع في نقله. وفي مرة أخرى للذيل، وهكذا بدون أن يصنع من تلك الصور لوحة مكتملة، وقد تتقاطع رسوماته وتفشل في تتبع الشكل الكلي، وأسوق على ذلك بعض الشواهد: فالمشروع الإبراهيمي في "مقطوعيات" متناثرة يتحدث مرة عن "التنوع الثقافي كغبينة سياسية" فينتصر لأهل الغرب ولغتهم وحقها في العيش سودانيا، وفي "الآفروعروبية أم تحالف الهاربين" يفضح نحلة البدائي النبيل وينتصر للرؤية الجنوبية، ولكنه في تحقيقه لنسب الجعليين، يؤكد –مع فضحه لآليات التعديل والتبديل في سلاسل النسب مما يعني أنها أدب مخلوق أكثر من كونها سلاسل تاريخية صحيحة السند- أن لكل جماعة حقها في اتخاذ ما تريد من معتقدات بشان أصلها ونسبها وغيره فهذه ثقافتها وهذا حقها، متخذا نهج الفولكلوري الذي لا يهمه التحقيق التاريخي ونتائجه إلا لفهم عقلية ودوافع حاملي الثقافة المعينة، ومجافيا النهج التأريخي الذي يتتبع الأسانيد التاريخية والوثائقية وصحتها لإثبات حقيقة معينة أو نفيها. هذا النهج التصالحي مع الثقافة قد يحل معضلات بالنسبة للجماعات القبلية، ولكنه يسبب مناطحات عديدة بالنسبة للأمم.. وإن نكران نسبة معينة أو التبرؤ من النسب الزنجي أو الحامي رغم أنف الحقيقة له ثمنه عند الجماعات الزنجية والحامية، فهو يعني أنه تبرؤ من الأقل واحتقار له.. إنه يسبب مرارة طالما بدت في كتابات د. فرانسيس دينق. ومن ذلك ما حاوله في كتابه عن الدينكا: أفارقة بين عالمين، إذ حاول إبراز السمات الشرق أوسطية في التكوين الجنوبي، والسمات الإفريقية في التكوين الشمالي.. في تلك المحاولة إظهار لحدة الفوارق أن منشأها الوهم الذي يحمل في حدته استعلاء لا يخفى على الأعين. ودكتور عبد الله علي إبراهيم الذي قدم لقراءة كتابه النقدية مبررا عنفه الفكري على المعارضة بأن السبب هو كون المعارضة مشروع المستقبل، أما الحكومات فهي دائمة ملامة والضير أقل كونها مشروع الحاضر، لم يفسر لنا لماذا إذن في كتاباته التأريخية عن المهدية – خاصة بحثه بعنوان: نحو مشروعية لمعارضة المهدية: المهدية والكبابيش- ركز على انتقاد الجانب الحكومي الرسمي (دولة المهدية)، وغفر للمعارضة في حينها المتمثلة في النوراب (أرستقراطية الكبابيش) مخازيها العديدة التي جعلتها أداة لجيش الغزاة، فلم ترع إلا ولا ذمة، بل لقد كانت تخدم مصالحها الخاصة وتفوقها المادي والاجتماعي الذي حصلت عليه إبان التركية والذي هون عليها التعالي على الآخرين، وقد لاحظ ذلك هو ذاته في كتابه عن "الصراع بين المهدي والعلماء" فبين حظوتهم لدى سلطة التركية، وهذا ينطبق على النوراب الذين ساموا القبائل (التبع) كل الإذلال؟. ثم أن إبراهيم في فتونه بجزئية تاريخية أو معلومة معينة قد يغيب عنه الجزء الأكبر. لقد فغر فاهي دهشة إثر مقارنته –في محاضرة بمعهد الدراسات الإفريقية والآسيوية في منتصف التسعينيات- بين المهدية والإنقاذ، مشيرا إلى أن الناس في نهايات المهدية فقدوا الإيمان بها والقدرة على التضحية ودليله هو ما حدث بكرري في رواية الشيخ بابكر بدري المثبتة في مذكراته بعنوان "حياتي". مغفلا في احتفائه بتلك الشهادة أن الشيخ بابكر –وهو من رجال السودان العظام- رجل تبز فرديته جمعيته بدرجة لا يمكن القياس عليه (أي أنه عينة يصعب التعميم عليها بلغة أهل العمل الميداني في العلوم الاجتماعية). ففي الحين الذي تماوت بدري وصاحبه تلافيا للموت استشهد عشرة آلاف سوداني (في شأن الله والرسول) بتعبير الحاجة مدينة والدة الشيخ بابكر إذا أصابتها مصيبة وهي في طريق الجهاد. وكيف يمكن إغفال شهادة ونستون تشرشل (الذي إن عرف الله فهو لا يعرف الرسول) والذي انبهر كمراسل حربي للجيش الغازي ببسالة وصمود هؤلاء القوم الذي شعر بأنهم انتصروا رغم كل شيء فقال: لم نهزمهم ولكنا دمرناهم بقوة السلاح.. وهذا ما قرره القوم ببساطة في أغانيهم في مقبل الأيام.. قرروا خيانة الحدث لأجل الحقيقة في تصورات قد ترى عبثية إذا قورنت بالوقائع: "كرري تحدث" وفيها ": خاضوا اللهيب وفتتوا كتل الغزاة الباغية".. ثم "كيف لا أروي شعري ورائع الدرر" وفيها: " كم هزموا الأعادي وجندلوا القادة".. وهكذا.!. ود. إبراهيم الذي التفت للتشابه في التجربة الإنسانية عبر الحقب وقلل من تهول الناس بالعولمة في ذكره لأنه اطلع على تعليق كتب إثر اكتشاف التلغراف يشابه ما يكتب الآن عن العولمة، لم يسحب ذلك القياس في كون التجربة الإنسانية عتبات يتم تجاوزها في المراحل المختلفة بشكل تصاعدي –يختلف مع مقولة أن التاريخ يعيد نفسه ولكنه لا يتبع الديالكتيك القائم على اتخاذ ممرات جديدة بالمرة- لم يسحب تلك النظرة الثاقبة على القضية السودانية وتعقدها الآن. فرأى الإرهاق الخلاق توأما لحالة "نهاية السياسة" باعتبارها حالة لم تمر بالبلاد من قبل- بالرغم من استشهاده بفترة نهاية نظام مايو لوصف حالة نهاية السياسة- ولن نعدم الدلائل من الأدبيات التي كتبت في حالات مفصلية في تاريخ بلادنا حديثة التكوين، تؤكد أن "نهاية السياسة" هذه حالة رآها السودانيون قبيل انقلاب عبود، وقبيل انتفاضة أكتوبر، ومع كل مفصلية في تاريخنا الحديث.. وإن تغيرت المعطيات واختلفت درجات التعقيد. الإرهاق الخلاق.. خواطر متفرقات الإرهاق الخلاق مكون من مقالين مطولين كما أشرت سابقا. أهم ما في المقال الأول الذي كتب بعد إكمال نظام الإنقاذ عامه الأول الآتي: أن الإنقاذ نظام برئ من هواجس الجبهة الشيطانية، وعلى رأسه البشير الذي لاحظ مشاكل حقيقية أتى لإزالتها. وبعد جرد لحساب الإنقاذ من محامد لمآخذ رجح بالأولى، وخاطب لإزالة الأخيرة. أنه يقدم مبادرة لحل مسألة المواجهة بين المعارضة والنظام تقتضي أن يقف الاقتتال والاستقطاب، وأن يتنازل كل طرف عدة تنازلات فصلها. وأن مبادرته للمصالحة الوطنية تنبني على دعامتين: الوطنية السودانية، والتسامح والموهبة في التنازل. وأهم ما في المقال الثاني الذي كتب عام 1997م، وهو أطروحة متصاعدة عن المقال الأول، الآتي: - أن الوضع في السودان وصل حالة نهاية السياسة التي يقتتل فيها أطراف الصراع كعقارب مسمومة محبوسة في زجاجة تنتهي بنهايتها جميعا. - أن حالة نهاية السياسة أشعرت الجميع بحالة من الرهق والإعياء يمكن اهتبالها لتجاوز حالة نهاية السياسة، والوصول لحل.. إذا حدث هذا الحل فستدخل البلاد حالة أمل جديدة. ولذلك فهذا الإرهاق الحالي يكون خلاقا إذا أحسن الناس التعامل مع الحالة الراهنة. وأرى مفهوم الإرهاق الخلاق يكون أكثر تعبيرا عن الحال السوداني إذا ارتبط بشبيه الفكرة عند آرنولد توينبي المؤرخ البريطاني الشهير، وحديثه عن التحديات التي تواجه الأمم، وقد تجابهها بكفاءة فتتخذ قوة، أو تفشل فتذوي. وبما يسوقه المثل السوداني بكل بساطة: "السترة والفضيحة متباريات".. واعتراضي ليس على وجود الحالة، بل على تسميتها.. فالنهاية التي نعرفها هي القيامة، وحتى تأتي فإننا لا نعلم في المدى والحلم والأمل الإنساني نهاية.. مع أن كلمات الدكتور إبراهيم وربطها بين الإرهاق الخلاق كحالة يصل لها الناس في عهد نهاية السياسة إذا هم أحسنوا اهتبال الرهق تذكر بالقيامة على النسق الذي صاغه الشاعر المجيد – غير شائع الصيت- عبد العزيز سيد أحمد حين قال: زد فوقها حطبا، فليل الهول تعقبه القيامة!.. إن اللجج الذي قد أخوضه هنا –لا خصومة بل مقابلة الحدة في الإيمان بالإنقاذ، بشيء من الاستنكار- لا يستنكر قراءة "الإرهاق الخلاق" في مجملها، ولكنه يمتحن بعض جوانبها بمداخلات تتبع.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: معاينة في اللوحة الإبراهيمية عبر كوة القراءة النقدية للإرهاق الخلاق (Re: رباح الصادق)
|
الأخت رباح
لكي التحايا
وأرحب بكي وإن جاءت متأخرة، وأحييك لهذا الجهد الرائع، وبلا شك أن محاولة سبر غور أفكار مفكر بقامة الأستاذ عبدالله علي إبراهيم، متعدد المواهب والقدرات، يطرق كثيرا المناطق الأكثر وعورة في ثقافتنا السودانية، ويترك لنا مجال التأمل والتفكير ولا يصادر حق الإتفاق والإختلاف ككثير من مفكرينا. وأقف إجلالا حين تأتي هذه المحاولة من نواحي الهامش الثقافي وأعني المرأة ولا أعتذر حين أعلن إنتمائي لهذا الهامش، ومحاولتي لنصرتها حتى ولو كانت ظالمة، وما أندر أن تكون.
أختي أرجو أن ترفدينا بمثل هذا الإبداعات والحوارات كاملة الدسم، علها تزيل بعض روماتيزم الذهن ومغائص الغربة والمغتربين
والتحايا للأخت سارا فقد إلتقيتها في حوار جميل إبان زيارتها للدوحة
| |
|
|
|
|
|
|
|