دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
التهميش في السودان:مرافعة لصالح الحقيقة والعدالة والوحدة
|
د . حامد ابراهيم البشير
( 4 من 14 )التحيزات الجهوية والإثنية في بنية ميزانية التنمية القومية في السودان
سادساً: إن تركيبة وبنية ميزانية التنمية القومية في السودان خاصة خلال السبعة عشر عاماً الأخيرة من عمر الإنقاذ قد عكست نفس التحيزات والتشوهات الجهوية والإثنية الضيقة.
وهناك ما نشره قبل أشهر في الصحف الدكتور صديق ام بده رابح الخبير بالهيئة العربية للاستثمار بأن نسبة الصرف من ميزانية التنمية القومية على دارفور خلال ذات الفترة الزمنية لم تتعدى 2% من جملة ما صرف في السودان. اذن لقد أضحت التنمية على قلتها واضحة الانحياز الجهوي بصورة تجافي نظرة الإنسان العادل الذي يرى السودان بعيون واسعة تشمل كل أقاليمه واثنياته وقومياته. ان الدولة التي إستعصى عليها أن تحقيق العدالة بين جميع الناس كان حري بها أن تساوي الناس في الظلم. وكما ذكر الشيخ حسن الترابي في جريدة السوداني العدد 6/مايو 2007: بأن الظلم قد لحق بدارفور التي تأوى 6 مليون نسمة ولم تحظ بطريق الإنقاذ الغربي في حين أن ولاية لا يتعدى تعداد سكانها 1.5 مليون تحظى بشارعين أساسيين خلال العقدين الأخيرين وهذا غير السدود والخزانات التي أصبحت شعار المرحلة رغم مجافاتها للأولويات التنموية في البلاد ومجافاتها للمعايير الأخلاقية في أساسيات الحكم والإدارة التنموية.
وهناك حادثة طريفة لابد من إيرادها في هذا السياق لتأكيد ما ذهبت اليه: مع بداية الألفية الحالية ذهبت إلى نيويورك ثم دلفت إلى واشنطن لزيارة الأخ والصديق الباحث الاقتصادي في البنك الدولي الدكتور إبراهيم البدوي عبد الساتر والذي كان يقيم لي مأدبة إفطار صغيرة مع بعض اصدقائه السودانيين في تلك المؤسسة. وعند مدخل البنك الدولي التقينا صدفة انا والدكتور إبراهيم مجموعة من الإخوة والاصدقاء العاملين بوزارة المالية السودانية والذين حضروا للمشاركة في اجتماعات في البنك الدولي وربما في صندوق النقد أيضاً. وتسامرنا بعض الوقت عند مدخل البنك الدولي إلى ان ذكر أحدهم وهو شخص مشهود لـه بالذكاء والتميز الأكاديمي والتجرد، ذكر بالحرف الواحد: "بأنني في يوم من الأيام سألت السيد وزير المالية وقلت لـه يا سيدي الوزير: هل انتم لا تريدون دارفور وبعض الأقاليم الطرفية ان تبقى في السودان مستقبلاً؟ فرد عليه الوزير وماذا تعنى بذلك؟ فرد عليه صديقنا قائلاً: أعنى أننا في خلال عقد من الزمان ركزنا التنمية بصورة كاملة في بعض اجزاء القطر دون الأخرى وخاصة دارفور. فسكت الوزير ولزم صديقنا المهني التكنقراط الجريئ حدود اللياقة مع رئيسه المباشر. وبعد ذلك بأربع سنوات ثارت دارفور ضد التهميش والاقصاء وظلم الحكام في الخرطوم وما هدأت. وعندها انطلقت رصاصة الجهاد ضد التهميش والذي يبدو انه سيستمر إلى ان ينال المجاهدون احدى الحسنيين: اما تحقيق الدولة المدنية الديمقراطية التي يتساوى عندها الجميع؛ أو تقسيم السودان إلى دويلات على نسق يوغسلافيا وحينها ستصبح دارفور هي صربيا وجبال النوبة هي الجبل الأسود والنيل الأزرق هي ماسيدونيا وفقط في ذلك الأثناء ستجلس النخب الإسلامية في الخرطوم وهي مملوءة بالحسرة على ما فرطت فيه مثل أمراء الأندلس "الفاشلين". وعندها ستردد النخب في السودان بحسرة بالغة أغنية الربوع: ام در يا ربوع سوداننا…. وحينها لن يتبق من (تربيعة) السودان إلا قطعة رقيقة على خاصرة النيل سماها إنفصاليو الشمال بالسودان المحوري (وذلك شأن أخر سنفرد لـه مساحة أيضاً).
سابعاً: كان حرى بعلماء الانسانيات والتنفيذيين والخبراء الذين يستشيرهم نظام الإنقاذ في سياساته وتحديد أولوياته التنفيذية ان يقولوا كلمات صادقة وجريئة في حق الوطن وفي حق العدالة. كانت الامانة تقتضى على كل الخبراء بما فيهم الخبراء في وزارة المالية والتخطيط وعلى رأسهم الأخ والزميل الوزير الحالي الزبير محمد الحسن والأخ الصديق الشيخ المك والذين سبقوهما ان يتساءلوا أسئلة نقدية للذات وللواقع الذي حولهم وهم القابضون على زمام الأمر الاقتصادي والمالي بالبلاد: أين تنمية غرب السافنا؟ ذلك المشروع الطموح والذي يعتبر الأول والأخير من نوعه في الشمول على طول حزام السافنا الغربي في كل كردفان ودارفور حيث أشتمل على الزراعة وتربية الحيوان معاً. إنه المشروع التنموي الوحيد في سافنا دارفور وفي سافنا كردفان وقد حُكم عليه كغيره من الكائنات في دارفور بالإبادة في بداية التسعينيات بدعوى الاستخصاص وتصفية القطاع العام. اذن الناس في دارفور اليوم يموتون ويحتربون لغياب التنمية وللفقر وللفاقة وللتهميش و"لحراق الروح" أيضاً من جراء ذلك.
في عام 1992م أوكلت إلي مهمة تقييم الجزء الخاص بحيازات الأراضي وبالثروة الحيوانية في مشروع السافنا في جنوب دارفور والذي كان يديره وقتها البروفيسور القدير بابو فضل الله (آدام الله لـه العافية والصحة). وقد قمت باعداد الدراسة الضافية وفي توصيتي الأخيرة حول مستقبل المشروع قلت لهم: أتركوا مشروع السافنا قائما في جنوب دارفور لعدة أسباب:
(أ) إنه المشروع الريفي التنموي المتكامل الوحيد (زراعة رعي) خارج نطاق نموذج مشروع الجزيرة في المنطقة المروية والنماذج التي تلته على ذات النهج في غرب الجزيرة والمناقل وخشم القربة وحلفا الجديدة والفاو. ذكرت لهم بالحرف الواحد : دعوه يعيش حتى يكون نموذجاً يحتزى في كل حزام السافنا الفقير والمكتظ بالسكان في أن واحد.
(ب) إن مشروع السافنا هو الوجود التنموي الوحيد الذي يشعِر المواطن في دارفور بوجود الدولة في صورة مشروع يستهدف حياة الإنسان وميعشته (livelihood) وتلك في حد ذاتها قيمة معنوبة ورمزية كبيرة لاتقاس ولا تقدر بثمن. وأيضاً ذات مردود في تأكيد شرعية الدولة وفي تأكيد ولاء المواطن لدولته وشعوره بأنه مواطن ذو قيمة.
(ج) وبالعامية السودانية وكما ذكرت في مرافعتي في عام 1992م لصالح مشروع السافنا قلت لهم بالحرف الواحد: أتركوا مشروع السافنا على الأقل "لزوم الغُلاط" (والمغالطة مع أهل دارفور حينما يتهمون حكومة المركز في يوم من الأيام بغياب التنمية وعدم "الإعتنا" والتهميش). وقبل أن أغادر نيالا تمّ معى التحقيق من قبل الأجهزة الأمنية وأنا في مطار المدينة مما سبب حرجاً بليغاً لمضيفي البروفيسور بابو فضل الله وذلك شأن آخر عفوت عنه من أجل الوطن وأهله ومن أجل مشروع السافنا. ورغم ذلك حَلَّت الدولة مشروع غرب السافنا بعد أقل من عام وصدقت نبوءتي حينما قامت دارفور بجرد الحساب مع المركز الذي كان خالي الوفاض ومعدوم الرصيد لمقارعتها الحجة. وانفجرت دارفور غضباً وسالت شلالات الدم من جبل مرة الذي حتى قبل وقت قليل كان يعتصر من اعاليه عصيراً للحب وللعشاق حتى تغنى بها الكابلي: لوزرت مرة جبل مرة. والآن لقد أصبح ذلك الجمال مرتعا للعنف وللحرب ولشلالات الدم وأصبحت تقطنه الكيانات المتحاربة وهجره المواطنون الذين عاشوا فيه أنضر سنوات حياتهم ليعيشوا في المعسكرات المهينة حول أطراف المدن وفي صقيع الصحراء القاحلة في دارفور.
وعلى أصدقائي الذين ذكرتهم عاليه ان يتساءلوا: أين مشروع ساق النعام لتنمية وتطوير المراعي في دارفور وتوأمه مشروع جريح السرحة غرب ام بادر حاضرة الكواهلة في بادية كردفان الشمالية؟ وقد أصبحا كلاهما أثراً بعد عين ولا أثر فيهما حتى لمباني قديمة تدل على وجودهما في قديم الزمان أو تدل على أن هذا الجزء من الوطن كانت لـه حقوق كما للآخرين. وتلك قسمة ضيزي ولدت الأحقاد الناتجة من الشعور بالظلم وقادت إلى إقتتال الأخوين في دارفور. ولأنّ "المتجاورات متعاورات" فالحرب قادمة نحو كردفان لا محالة. وعلى الدولة إن كانت لها مشروعات تنموية في دارفور وكردفان لتنمية القطاع الرعوى غير هذين المشروعين الذين حلتهما في التسعينات فعليها الرد والتوضيح. والمشروع الأول (غرب السافنا) كان الوحيد في كل دارفور من الصياح وفوراوية والطينة شمالاً حتى ام دافوق جنوباً ومن الجنينة غرباً وحتى اللعيت جار النبي. والمشروع الثاني كان هو الأوحد في كل كردفان من سودرى شمالاً إلى الليري جنوباً ومن ود عشانا شرقاً حتى غبيش غرباً.
ثامناً: وفي مجال التنمية الزراعية أين مشروع تنمية جبال النوبة في كردفان أو ما عرف في السابق بمؤسسة جبال النوبة الزراعية والتي أنشأت عام 1925م وتعتبر الباعث الأول للنهضة الزراعية في ذلك الجزء من الوطن وساهمت بفاعلية في تحديث الاقتصاديات الريفية وفي استقرار الرحل وفي هجرة المجموعات النوبية من سفوح الجبال إلى الوديان وفي تمدد الاقتصاد النقدي وفي زيادة الاستهلاك ونمو المدن وفتح الطرق وترابط المجتمعات وزيادة وتيرة التداخل والتوادد الإثني وغيرها من بواعث وإشراقات التنمية والنهوض الريفي والمجتمعي. رغم ذلك لم يتبين القائمون على الأمر الأهمية الاستراتيجية للتنمية حتى في شكلها ووجودها البسيط وللوجود الفاعل للدولة في جبال النوبة خاصة في شكل الخدمات الأساسية ذات الدلالة الرمزية في دولة حديثة التكوين وهشة الأوصال ومترامية الأطراف مثل سلاحف النينجا. وعليه, فحينما تمرد أبناء النوبة في منتصف الثمانينات واستعرت الحرب في التسعينات كان المخزون الاستراتيجي للدولة من الحجج والمشاريع التنموية التي تقارع بها المتمردون الحجة وتتودد بها إلى المواطن العادي (غير المتمرد) كان ذلك المخزون قد نضب مع حل ذلك الجسم التنموي العملاق (مؤسسة جبال النوبة الزراعية). وبالمقابل لقد أصبحت الدولة كالمحتال الذي يبيع للمواطن في جنوب كردفان الخطط التنموية والنوايا الحسنة مثل إنشاء الطريق الدائري منذ العام 1990م وحتى الآن إلى أن خرج ذلك الطريق من دائرة الاحلام إلى مربع احلام اليقظة والذي سيتطور إلى احتجاج وربما إلى عنف وتمرد في المستقبل.
وتساءل الناس كثيراً في تلك الانحاء عن ماذا قدمت الدولة للزراعة الآلية التي ربما أتت في المرتبة الثانية أو الثالثة بعد القضارق والدمازين. لم تصرف الدولة فلسا واحداً في التنمية خلال عشرات السنوات في تلك الانحاء المهمشة من السودان. ولا غضاضة أنه حتى بعد السلام إن الشباب, خاصة من القبائل العربية, قد اختاروا الانضمام للحركة الشعبية بدلاً من الوقوف في خانة الحكومة التي يرون فيها صورة (راجل الأم) الظالم الذي فقد مقومات العدالة في التوزيع بين أبنائه وأبنائه بالتبني (Step children). ورغم التعبئة التي أستمرت لعشرات السنين, اختار الشباب من القبائل العربية في غرب السودان (خاصة قبائل البقارة) الذين كنتم – يا رجال الإنقاذ – تضعون عليهم أعينكم وأيديكم, أختاروا الإنحياز "لعدو الأمس" والذي ربما توسموا فيه العدالة "والخير" اكثر من "حليف الأمس" وهم الحكام رافعي شعار المشروع الحضاري. أما كثير من الشباب من الطرف الآخر من النوبة فقد أظهر قدراً من العداء ليس لمشروعكم الحضاري بل حتى للثقافة العربية والإسلامية لدرجة الاستعداء الغير مبرر أحياناً وذلك زرعكم وحصدكم في تلك الانحاء من السودان.
وبعد حل مشروع تنمية جبال النوبة ومن قبله مؤسسة جبال النوبة الزراعية إنهارت أيضاً الزراعة الآلية وهجرها المستثمرون. وفي الوقت الراهن أصبح لا وجوداً تنموياً للدولة تقارع به أهل جنوب كردفان (نوبة وعرب) حينما يتحدثون عن التهميش وعن التحيز التنموي وعن التفضيل وعن "الخيار والفقوس" في توزيع فرص التنمية في السودان. وهذا بالضبط ما واجهته القيادة السياسية في آخر زيارة لها لجنوب كردفان حينما واجهها بذلك المواطنون و"المسؤولون المتمردون" في إشارة إلى معتمد ابوجبيهة الذي ندد بغياب الدولة في جنوب كردفان وندد بالتحيز التنموي للدرجة التي أثار فيها حفيظة النائب الأول. اذن هذا هو التهميش بكل ألوانه وصوره واضح لا تخطئة العين وهذه هي ردود أفعاله المتوقعة. وكما يذهب المثل الشعبي في كردفان: إن الذي تفعله كريت (الماعز) في القرض تجده في جلدها (لا حقاً): ومن يزرع الشوك لا يحصد الورد.
http://www.hewaraat.com/forum/showthread.php?t=4724
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: التهميش في السودان:مرافعة لصالح الحقيقة والعدالة والوحدة (Re: سيف النصر محي الدين محمد أحمد)
|
التمايز الاقليمي في مجال التعليم و عدم التوازن في صناعة وتخريج النخب
هناك عدة مؤشرات (indicators) دالة ومؤكدة على وجود التهميش وعلى عدم التوازن في المكاسب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في السودان كما سبق ذكره. وهذه المؤشرات قد تكون ظرفيه (circumstantial) وقد تكون إحصائية (statistical) أو كمية (quantitative) أو نوعية (qualitative) كما سبق الأشارة أيضاً.
وهذه المؤشرات يمكن أن تكون مصدرها ثانوي (secondary source) مثل التقارير والاحصاءات الرسمية ومنها ما هو أولي (primary source) وهو ما يستدعى الحصول عليها إجراء البحوث والمسوحات الميدانية لجمعها وتوثيقها وتأكيدها. ويمكن أن أشير إلى المؤشرات المتاحة الآن في مصادرها الثانوية في تقارير الدولة الرسمية وفي البحوث الأكاديمية وفي تقارير المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي وغيرها من المنظمات الدولية والاقليمية التي لا تعمل في الدولة الا من خلال توأمة وتناغم تامين مع ماكينة الدولة وبرامجها وآلياتها الادارية والتخطيطية والخدمية خاصة في القطاع الاجتماعي الذي يشتمل على الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية والمياة والصرف الصحى وغيرها.
أولاً: هناك ما يؤكد وجود فوارق إقليمية كبيرة في كل الخدمات الإجتماعية بين مختلف أقاليم السودان-وبالضرورة بين إثنياته ومناطقه حسب منطوق الأشياء في التطورات الراهنة في السودان. إن احصائيات وزارة التربية والتعليم السودانية تؤكد أن نسب الإنخراط في التعليم العام (والجامعي) تقل في جنوب السودان وفي اقاليم غرب السودان والشرق والنيل الأزرق بصورة أقل من المستوى القومي بكثير وبدرجات متفاوتة بالضرورة. المصدر في ذلك كله التقارير والإحصاءات السنوية لوزارة التربية والتعليم منذ الستينيات وحتى الآن. ويحمد لوزارة التربية والتعليم السودانية خاصة في عملها مع المنظمات الدولية أن حددت بأن أحد الأهداف الأساسية لبرامجها التعليمية خلال العقود القادمة هو ردم الفجوات المهولة في التعليم العام بين أقاليم السودان، خاصة المذكورة أعلاه. واذكر في يوم من الأيام وخلال عملي البحثي والبرامجي في هذا المجال أن كانت نسبة الانخراط في التعليم الأساسي في احدى الولايات (تحديداً غرب بحر الغزال) لا تتعدى 10% وجنوب كردفان (24%) في نهاية التسعينيات (بالتأكيد الحرب كانت واحدة من الأسباب لكن ليست كل الأسباب)، في حين ان في ولاية أخرى كانت النسبة تتعدى 85%.
وليس ذلك فحسب (أي دخول التلاميذ وتسجيلهم بالمدرسة) بل أن بقاء التلاميذ (retention) وإستمراريتهم وكسبهم الأكاديمي والمعرفي او ما يعرف بالتحصيل المعرفي (learning achievement) كلها مؤشرات تؤكد على الفوارق المناطقية والإقليمية المذهلة في السودان. ودوننا من ذلك إحصاءات وزارة التربية والتعليم والبحوث الأكاديمية التي تكتظ بها رفوف مكتبات الجامعات السودانية وتقارير المنظمات الدولية أيضاً. ومؤشر آخر اكثر دلالة (في اطار العملية التعليمية) هو تسرب التلاميذ من المدارس (drop-out) حيث أن في بعض الولايات بلغت نسبة التسرب 92% وسط جيل واحد من الأطفال (cohort) بين الصف الأول والصف الثامن في حين أنّ في بعض الولايات نسب التسرب لا تزيد عن 20% خلال الثمانية سنوات. وتبقى الأسباب المعهودة للتسرب بدلالاتها الإدارية والسياسية والاقتصادية مرتبطة جدلياً ومفهوميا بظاهرة التهميش وتشمل هذه الأسباب: غياب المعلم (لعدم وجود الإشراف والضبط الإداري)؛ عدم جاهزية المعلم (لغياب التدريب والتأهيل)؛ احباط المعلم (لغياب المرتب والإعتبار)؛ عدم جاهزية مبنى المدرسة (لغياب التمويل)؛ تدهور البيئة المدرسية مثل إنعدام الماء والمرحاض والأنشطة (لغياب التمويل)؛ اغلاق الداخليات في واقع ريفي متباعد جغرافيا ومتأثر بالجفاف وتدهور البيئة مثلما في غرب وشرق السودان (أيضاً لغياب التمويل المركزي)؛ بعد المدرسة عن المنزل حيث تصل المسافة احياناً إلى اكثر من عشرة كيلومترات في بعض الولايات؛ عدم توفر الأمن حيث بعض المجتمعات قد أوكلت لها مسؤولية حماية نفسها حتى يتاح للدولة التركيز في حرب الجنوب وفي حماية المدن في الوسط التي أصبحت تعج بالنازحين ممن يوصفون بأنهم قنبله زمنية أضحت تميز مدن الوسط النيلي؛ عدم وجود التمويل في إطار الحكم الفدرالي بشكله الحالي حيث المحليات مفلسة في بعض الولايات يمكن فهمه بأنه إجراء قصد منه تقنين الفوارق التاريخية وتقنين التهميش والابقاء عليه حيث من المعلوم أن بعض المناطق والأقاليم فقيرة بحيث لا يتأتي لها تمويل التنمية والخدمات الاجتماعية بإمكانياتها الشحيحة وفي محيطها الاداري الكبير دون الدعم المركزي؛ وأحياناً رغبة الدولة (ضمناً) لا (صراحة) وهكذا يظن المهمشون أن أغلاق المدارس قد تم حتى يتفرغ الأطفال واليافعون في بعض الولايات الطرفية المهمشة ليكونوا وقوداً للحرب الأهلية من خلال الانخراط في التشكيلات شيه العسكرية والمليشيات القبلية التي كانت ترعاها الدولة خلال فترة التسعينات وما زالت. إذن فإن وجود ذات المدرسة ذات الفصول الثمانية في ولايتين أو منطقتين متباينتين يعني مخرجات مختلفة تماماً في كل حالة: في بعض الولايات تكون مخرجات المدرسة في الاقليم (المميّز) هو طالب يصل المرحلة الجامعية ويصبح رقماً في الحياة العامة وبالطبع فرداً في الطبقة الوسطى ذات الفعالية والتأثير في الحياة الاجتماعية والسياسية في المجتمع. وفي الغالب الأعم تكون مخرجات ذات المدرسة في الاقليم المهمش وفي انعدام المعينات والبيئة الغير مواتية هو تلميذ فقد حظه وفرصته في التعليم وربما في مقتبل الأيام أصبح ناقماً على الدولة (الظالمة) (والغير محايدة) ودخل الغابة أو الصحراء (وهو محق). وهذا ينطبق على كل المناطق التي توصف بالتهميش ويكون الوصف محقا بلا شك.
ويقيني أنه لا سبيل لتحقيق العدالة إلا بإحداث إصلاحات هيكلية في كل القطاع الاجتماعي من منطلق أن هناك خللاً هيكليا وبنيويا ومنهجياً في إدارة الشأن العام في السودان إدارياً وإقتصاديا وسياسيا وفي مختلف الأقاليم.
إن التعليم في المجتمع السوداني وفي كل مجتمع في العصر الحديث أصبح هو الوسيلة الاكثر فعالية لتحقيق الاستقواء الإجتماعي (Social empowerment) أو للتمكين الاجتماعي بمعناه الواسع (سياسياً واقتصادياً واجتماعيا) والذي يؤدى إلى التحولات الاجتماعية أو المجتمعية الكبرى ويدعم التراتبية والترقي الاجتماعي حيث أن التعليم أصبح أحد أدوات الإنخراط في الطبقة الوسطى التي تشكل الرأي العام في مختلف ضروب الحياة في المجتمع الحضرى والريفي على السواء. كما وإن أهمية التعليم في تحقيق الوحدة الوطنية تكمن ليس فقط في القيم التي يغرسها في الأطفال وتمجيده للقواسم المشتركة بين فئات المجتمع بل لأنه إحدى المهارات الفعالة والاستراتيجيات الضرورية لتوزيع ثمرة التنمية ولتذويب الفوارق الثقافية والاقتصادية (جهوياً واثنياً ودينياً وطبقياً) وأيضاً لتمكين الأشخاص والجماعات من الترقي والصعود اجتماعياً واقتصادياً مما يحقق بدوره فعالية المشاركة السياسية.
ثانياً: هناك فوارق كبيرة بين أقاليم السودان ومناطقه وهذا بالضرورة يعني إثنياته في الغالب الأعم لتلازم الأثنين في انخراط الطلاب والطالبات في التعليم الجامعي، وتقارير مكتب القبول القومي ووزارة التعليم العالي السنوبة تؤكد ذلك. وأيضاً يؤكد ذلك الدراسة الضافية التي قام بإعدادها ونشرها خلال الثمانينات أستاذ الاقتصاد (بجامعة الخرطوم سابقاً) والخبير بالهيئة العربية للاستثمار والانماء الزراعي حاليا الدكتور صديق ام بده رابح وغيرها من الدراسات التي تؤكد ذلك بصورة قاطعة لا تدع مجالاً للشك. ويقيني أيضاً أن كل هذه الحقائق قد تواثق عليها الباحثون والأكاديميون السودانيون وغير السودانيين والذين ربما لم يجدوا القنوات المعتبرة (والسالكة) لتوصيل هذه الرؤى والأفكار والحقائق للقيادة وللمؤسسة السياسية بالرغم من أنها مسلمات أكاديمية وعلمية (وإجتماعية أيضاً) لا خلاف حولها. هناك حاجة وضرورة لأن تنتهى القطيعة والجفوة بين الدولة والمؤسسات الأكاديمية الراسخة مثل جامعة الخرطوم ولكن نلاحظ على النقيض من ذلك أن الدولة قد لجأت لإنشاء معاهد استشارية متخصصة بديلة ذات طاقات بحثية واستشارية متواضعة بالضرورة. وذلك لعدم الثقة في الجامعات والمؤسسات البحثية الراسخة في السودان. هناك حاجة ملحة – في هذا السياق- لأن يتم تواصل صحى وإيجابي بين المؤسسة الأكاديمية البحثية في البلاد وبين المؤسسة السياسية: حيث الأولى تكون بمثابة البوصلة ومصنع الأفكار (Think Tank) التي تهتدى بها الثانية (الدولة أو الحكومة) في رسم السياسات الكفيلة بتحقيق مشروع نهضوي متكامل للسودان يقضى على جذور التهميش ويكفل العدالة بين أجزاء السودان وأقاليمه وإثنياته. وفي غياب المؤسسة الاكاديمية من المشاركة بفعالية في تحليل المشكلات ورسم السياسات ستظل المؤسسة السياسية تنكر حقيقة راسخة مثل حقيقة التهميش الجهوي والإثني في السودان.
إن الفوارق في التعليم الجامعي بين مختلف الأقاليم لا تقف فقط عند حد الأرقام الاحصائية الباردة وهي أرقام الانخراط مقاسة بالنسب المئوية (للبنين والبنات). لكن تتعداها لتصل إلى نوعية الكليات التي ينخرط فيها الطلاب من مختلف الأقاليم. هناك إحصاءات تشير بصورة مؤكدة من مكتب القبول وموثقة في بحوث أكاديمية في جامعة الخرطوم وغيرها إلى أنّ بعض الولايات في السودان تساهم بأقل من 1% من الطلاب الذين يدرسون الطب في جامعة الخرطوم والجزيرة وجوبا والاسلامية (دون التحدث عن الجامعات الخاصة ذات التكلفة الدولارية العالية والتي هي خارج نطاق ما يمكن أن تلتقطه أحلام المهمشين والفقراء).
أنّ هذه الولايات في الاقاليم المهمشة (او الاًقل حظاً أو الأقل نمواً) تساهم بأقل من 5% بقليل من مجموع الطلاب الذين يدرسون الطب والهندسة وتقنية المعلومات وغيرها من التخصصات التطبيقية في كل السودان في الجامعات الخاصة والحكومية على السواء. وحتى لا تكون هناك مغالطات في هذه الحقائق فإنها أمور قابلة للبحث وللاستقصاء بقصد التأكيد او النفى لمن أراد. إذن النتيجة الحتمية لهذا التباين هو أن ميكانيزمات وآليات صناعة وتخريج الصفوة والنخب المستقبلية في السودان تعاني من إنسدادات في بعض الأقاليم ووسط بعض المجموعات الاثنية والثقافية والاجتماعية مثل قطاع البدو والذي جله يعيش في الأقاليم الأقل نمواً (بلغة الدولة) أو المهمشة بلغة المهمشين أنفسهم. وهذه الإنسدادات بدورها تديم وتبقى على عمليات التهميش والتراتبية الاجتماعية والاقتصادية الإثنية والمناطقية والجهوية والتي هي حقيقة ما ثلة الآن لا تقبل الجدال. وعلى صعيد آخر إن الإبقاء على التهميش وتطابق وتمركز الإثنية والجهوية والطبقية في البناء الاجتماعي هو جوهر النزاع في السودان الآن والذي إن لم يتم تدراكه حتما سيتطور إلى صراع رؤى وهويات تكون نتيجته الحتمية هي الشتات والتمزق القومي. ومردود عدم التوازن وعدم العدالة في فرص التعليم الجامعي على الخلل البنيوي في تكوين وتركيبة الخدمة المدنية والمهنية في السودان مما جعل الهيمنة الإثنية والجهوية أمر واضح لا تخطئة العين المجردة.
ثالثاً: هناك تباينات اقليمية لا تخطئها العين حسب التقارير والاحصاءات الرسمية لوزارة الصحة الإتحادية والولايات وتؤكدها أيضاً البحوث والدراسات والمسوحات العلمية خلال الأربعة عقود الأخيرة. وهذه التباينات والتمايزات تشمل الصحة الأولية (Primary) والثانوبة (secondary) وعلى المستوى الثالث (tertiary). وهناك بعض الأمثلة للفوارق والتباينات الواضحة في مجال الصحة ومردوداتها على التاس في الاقاليم المختلفة في السودان، وهذه التباينات يمكن قياسها بالمؤشرات التالية: نسب السكان لعدد الأسرة بالمستشفيات حسب الاقاليم والمناطق؛ نسب السكان لعدد الاطباء المدربون؛ نسب النساء (في سن الولادة) لعدد الأطباء المدربون كإختصاص توليد؛ نسب الاطفال لإختصاصيي الأطفال؛ وجود الخدمات الصحية الملازمة مثل الأشعة والأسنان والتخدير وغيرها حسب الأقاليم؛ نسب السكان للمعاون الصحى الريفي؛ معدلات الوفيات الاجمالية وسط السكان (mortality rates) حسب الأقاليم.
وأهمية هذه الاحصائيات مع دلالات تبايناتها السياسية في عملية التهميش تكمن في ان الفهم الطبي – الاجتماعي- السياسي لها أنها كلها وفيات أو امراض يمكن تلافيها في حالة وجود الخدمات الصحية ذات الكفاءة وفي حالة وجود الدواء في متناول اليد. وهذان الشرطان هما المكونان والمحددان لما يعرف بالحصول على العلاج أو حرفياً الوصول إليه (access to treatment and care). وأيضاً في جانب آخر فإنّ الحصول على الدواء مرتبط بالدخل الذي هو المؤشر الأبسط للانتماء الطبقى وللقدرة على الشراء. ومن منطلق فهم الاقتصاد السياسي المرتبط بتقديم الخدمات الصحية وعلاقة ذلك بالتهميش, أن وجود الخدمات الصحية في المجتمع, ما هو في التحليل النهائي إلاّ نتاج لحراك يعقبه قرار سياسي وتحكمه علاقات النفوذ والقوة والتأثير والذي في هذه الحالة قد امتازت بها أو انتفعت بها جماعات نفوذ دون أخرى واقاليم ذات نفوذ وحظوة دون أخرى (إما صراحة أو ضمناً). وهو في النهاية قرار يصدره صاحب السلطة لإعتبارات ذاتية في حين أن الموضوعية تقتضى العدل لا الإنحياز والتحيز على أي أساس كان. والواقع يقول أنه في سنوات الإنقاذ أصبح هذا التحيز هو السمة الغالبة في توزيع الخدمات، وبالضرورة فإن صفة التحيز هذه يقابلها على الطرف الآخر من المعادلة: التمييز والظلم وهي بلا شك أدوات التهميش والإقصاء. ولكن ولو علم القابضون على الأمر فإنها أيضاً معاول الهدم للاندماج والتوحد القومي والاستقرار والسلام الإجتماعي – جوهر ما أفتقده ويفتقده السودان خلال العقدين لأخيرين.
http://www.hewaraat.com/forum/showthread.php?t=4694&hig...C7%E1%D3%E6%CF%C7%E4
| |
|
|
|
|
|
|
|