|
مقال عن "إضراب الأطباء" في صحيفة الوفاق
|
Quote: مقال صحيفة: الوفاق التاريخ: 21 يونيو 2010
هنالك بصيص ضوء في نهاية النفق
فيما يتعلق بإضراب الأطباء , فكما نعلم جميعا أن الأطباء لهم مطالب مشروعة وعادلة تتيح لهم أخذ مطالبهم كاملة دون نقصان (في حدود خطوط حمراء مرسومة لهم بدقة ووضوح) في جميع أنحاء العالم , إذ أن مهنة الطب مهنة إنسانية في المقام الأول قبل أن تكون مهنة ذات عائد مادي أو ربح وفير , فالأطباء عمومآ يكتسبون إحترام المواطن في أي بقعة من العالم (أتوماتيكيآ) لإختيارهم لتلك المهنة الانسانية (ذات المكانة السامية في المجتمع) والتي تنقذ حياة الانسان .
وهو أيضآ ما يفرض علي المجتمع أن ينظر الي الأطباء نظرة (المنقذين) الذين يكرسون حياتهم لخدمة المرضي ويسهرون الليالي لخدماتهم في المستشفيات ودور العلاج المختلفة , ومن هذا المنطلق يتوجب القول الصريح بأن مهنة مثل الطب "لا تتحمل إطلاقا الدخول في إضرابات" تؤدي بدورها إلي التوقف عن العمل من أجل تحسين الرواتب (كما هو الوضع القائم حاليآ في السودان) , فبكل بساطة يكمن الحل في أيدي النقابة الطبية التي يخول لها أن تتحدث عن مطالبهم وإحتياجاتهم (بحكمة وسلاسة) وليس بالدخول في معتركات غير مضمونة العواقب بحيث يتضرر بذلك المواطن أو المريض .
فحق الأطباء من حياة كريمة وسهلة حق مشروع يكفله القانون ويسانده الشعب , ولكن كما ذكرت يجب أن يكون في إطار الطرق السلمية لإقناع الطرف الآخر (الجهات المختصة) بتغيير نهجها أو رفع أي ظلم قد يقع علي الأطباء , لا عن طريق التوقف عن العمل (حتي يتحسن وضع الأطباء) مما يؤدي ذلك الي كوارث إنسانية مثل الوفيات , إزدياد الأمراض أوإنتشار الأوبئة , فالطبيب يعلم جيدآ عند أدائه القسم أن هذا الطريق الذي سلكه هو إنساني بالدرجة الأولي (لمعالجة المرضي وتكريس حياته لهم) وهو ما لا يحتمل البتة المساومة فيه أو الرهان عليه .
ثم ان تلك المهنة في بدايتها غير مربحة إلا بعد ان يجتهد الطبيب ويثبت قدراته الذاتية التي تتيح له التدرج في سلم الترقية حتي يصل الي المكانة المرموقة التي يبتغيها (ويحسن من وضعه المادي) أو القيام بإفتتاح عيادة خاصة به (تدر عليه الربح الوفير) .
أما بخصوص الأجهزة الطبية والمعدات الحديثة فيتوجب علي الدولة الإلتزام بها , وهذا الأمر مرتبط إرتباطآ وثيقآ بالأمن والإستقرار في البلاد , إذ أنه كلما كان هنالك إستقرارآ , كلما ذهبت العائدات المالية إلي تلك المؤسسات , والإهتمام بها من قبل الدولة لإدرار النقص وإصلاح مواضع الخلل والتسيب حتي تكون الصورة مرضية للجميع , ولكن كي نصل إلي هذه المرحلة وجب المساهمة في حل كل التعقيدات لا التحرك لزيادتها .
وفي ظل الظروف الراهنة التي تمر بها البلاد , نجد أن الدولة مهتمة بالبناء من كل أوجهه , وكلنا تفاؤل وأمل أن يشمل هذا البناء والتعمير كل المصالح الحكومية والوطنية بما فيها الأطباء والمستشفيات والدوائر الحيوية الأخري التي يوجد بها نقص حتي تتحسن وتتطور وينصب ذلك علي المواطن ويحسن من معيشته , لذا فالإهتمام بالأطباء ومطالبهم شيئ أساسي وضروري حتي يتمكن الطبيب من العمل في جو صحي يهيأ لهم معالجة مرضاهم في أحسن صورة ودون كلل أو ملل .
أما بالمقابل فهنالك المطالب الشعبية تجاه الأطباء بالتقليل من الأخطاء الطبية ومزاولة المهنة بشرف وضمير حي كما ينبغي , لكن لا بد من التأكيد هنا مرة أخري (وحتي يكون الأمر واضحآ وجليآ دون أي إلتباس) أن مهنة الطب لا تتحمل إطلاقآ "التوقف" مهما كانت الأسباب , ويجب عدم الإنحناء للعاصفة في أي مكان أو زمان , كما يجب عدم التأثر البتة بالإنتماءات الحزبية أو السياسية , فكما يحاسب الطبيب الدولة عند تقصيرها , فكذلك المريض يجب أن يحاسبه عند تقصيره .
وبالرغم من مطالبتنا بمد الأطباء بكل ما يحتاجونه , نطالب الأطباء كذلك بالكف عن الصلف والغرور والتكبر الذي نراه في الكثير من الأطباء بالسودان والذي يشتكي منه الكثير من المواطنين , ونراه دائمآ في المستشفيات والعيادات وغيرها , وبالرغم من أنني لا أشمل جميع الأطباء بتلك الصفات , إلا أنها تلتف حول عنق الكثيرين منهم كإحاطة السوار بالمعصم , فهنالك أخطاء طبية لا حصر لها كان يمكن تفاديها بسهولة من قبل الأطباء ولا يوجد لها مبررات .
كما هنالك أيضآ أطباء لا يصلحون للعمل ولا يمارسون المهنة كما ينبغي فيسيئون بذلك لكل الأطباء وينالون سخط المواطن المريض وأسرته , فهنالك مشاكل عدة أيضآ في التشخيص الخاطئ وعدم كفاءة الطبيب المعالج , ويحتاج المرء الذهاب إلي أكثر من طبيب في السودان (نسبة للأخطاء الطبية المتكررة في التشخيص والعلاج) كما يحتاج إلي بذل قصاري جهده وماله للعلاج ولا يجده , ثم يضطر آسفآ إلي مغادرة الوطن والهروب إلي الخارج لتلقي العلاج .
لذا كما نناقش إحتياجات الطبيب ونقف بقوة لدعمها , كذلك يجب أن نناقش إحتياجات المريض ونقف بقوة لدعمها , ويجب فتح ابواب النقاش عن الأخطاء الطبية , وإهمال الأطباء الذي يؤدي لفقد كثير من الأسر لأهاليهم دون مبرر أو داع , ويجب أن يحاسب الأطباء علي هذا الكم الهائل من الأخطاء , كما يجب توعيتهم بكيفية التعامل مع المرضي بلين ورفق وصبر وإحترام , ثم لا يتوانون عن علاج كل من يقدم إليهم (سواء كانوا في الدوام أم خارجه) فالطب مهنة انسانية في المقام الأول كما ذكرت آنفآ .
وأذكر (علي سبيل المثال وليس الحصر) أنني كنت في إجازة للسودان قبل شهور قليلة وكان طفلي مريضآ جدآ حتي وصلت درجة حرارته إلي 42 درجة مئوية , فذهبت لجاري الطبيب وهو أخصائي أطفال وأخبرته بحالته , لكن لدهشتي الشديدة رفض الطبيب (الحضور للكشف عليه) بكل كبرياء وتعال , وبرر ذلك بأنه ليس لديه سماعة في المنزل (رغم أنه أب لأطفال) ولوح لي ساخطآ بالتوجه لأقرب مشفي لعلاجه (بينما أنا في اشد حالات القلق والتوتر) , والأمثلة في ذلك كثيرة ومحزنة , وهنالك شكاوي تلو الاخري لا يجد المواطن المسكين سبيلا لإيصالها للمسؤلين .
لذا قد يتجرد الطبيب من إنسانيته اذا رفض معالجة المرضي , فهو يدري أهمية الوقت عندما يتعلق الأمر بالحالات الخطرة , وقد يفقد إحترام الكثيرين له خصوصآ في المواقف الحالكة التي قد يحتاج فيها المريض إليه بشدة ولا يجده , فمثل هذه الإضرابات أو الإحتجاجات التي تؤدي بدورها إلي التوقف عن العمل غير مبررة وغير مرغوبة , اذ يعلم الطبيب جيدآ أن أرواح الكثيرين من المرضي متعلقة به , وأنه هو المسؤل الأول والأخير إذا ما حدثت أي مضاعفات أو وفيات نتيجة التوقف عن العمل .
وهنالك أرواح كثيرة تزهق (بغير ضرورة) نتيجة تلك الإضرابات المخزية , إذ وصل الأمر ببعض الأطباء التحدث علنا في بعض المواقع الإلكترونية وغيرها قائلين : "إذا لم تستجب الحكومة لمطالبنا سنترك المرضي دون علاج حتي إن أدي ذلك إلي الوفاة" , فهل هذا القول يمكن أن يتوقع من طبيب أدي القسم لعلاج المرضي وتكريس حياته من أجلهم مهما كلفه ذلك من أمر (و في أي مكان أو زمان) ؟
أما بعد أن ينال الأطباء حقوقهم فنأمل في أن ينال المرضي حقوقهم كذلك من الأطباء مثل التعامل معهم بإحترام وصبر ومهنية عالية , كما نأمل النظر في التكاليف الباهظة التي يدفعها المريض للطبيب (في العيادات الخاصة) , والتي أصبحت عبأ ثقيلآ علي المواطن نسبة لزيادتها المستمرة (خصوصآ لتباينها وعدم إستقرارها) .
في الختام وبالرغم من مرارة الحديث إلا أنني متفائل بأخذ الأطباء حقوقهم (في آخر المطاف) , ولكن من الضروري جدآ التمسك بالطرق السلمية الإنسانية لأخذ المطالب العادلة التي يستحقونها (داخل هذا الإطار) بعيدآ عن السياسة ولي عنق الجهات المختصة , والتسبب في إزهاق أرواح الكثير من المرضي دون وجه حق , وأري بادرة أمل لحل هذه المعضلة إذا ما إبتعد الأمر عن السياسة ولزم إطاره الجوهري , ومن هذا المنطلق لا يسعني إلا أن أقول : أن هنالك بصيص ضوء في نهاية النفق .
أشرف مجاهد مصطفي صحفي ومهندس- بريطانيا |
|
|
|
|
|
|