|
ما الذي يجعل الصحفي المحترف يتقاضى أقل أجراً؟
|
المؤسسات الصحفية القومية .. صراع السلطة والمهنة ما الذي يجعل الصحفي المحترف يتقاضى أقل أجراً؟
أحد أقدم المخطوطات الصحفية البريطانية في مجال التحرير الصحفي يشير الى ان الفرق بين المندوب الصحفي reporter والعتال الذي يعمل في الميناء porter هو فقط حرف الـ (R )، وهكذا وبهذه البساطة يستطيع الصحفي أن يكون مخبراً صحفياً مشهوراً ومؤثراً وعظيماً أو ان يكون مجرد حمال وعتال يحمل الاثقال دون أن يدري قيمة ما يحمله ؛ وحتى لو درى بقيمة ما يحمله ، فانه لن ينال شيئا مما حمل .
والكتاب بمعالجته الطريفة تلك في تعريف مهنة الصحافة والعاملين بها يحذر الوافدين الجدد الى المهنة من أن يكونوا كالحمار الذي يحمل أسفارا . ويدعوهم للحراك والتأثير والتأثر والتغيير . واذا كانت مهمة الصحفي هي التغيير الى الافضل والدعوة له فان الاولى ان يطبق ذلك في نفسه ويحفظ حقوقه ويرعى مهنته ويدافع عنها .
وقبل الدخول في الكيفية التي يمكن بها إحداث التغيير علينا أن نقلب بضع صفحات حول مفهوم الصحافة البريطانية للمندوب والصحفي والمحرر والكاتب ورئيس التحرير ، وخطوات الترقي من وظيفة الى أخرى ومهارات ومتطلبات كل وظيفة في صالة التحرير .
وحسب العرف التقليدي البريطاني الراسخ في مجال الصحافة يبدأ المخبر الصحفي عمله بجمع الاخبار والمعلومات والبيانات ويلقي بها الى طاولة مساعد المحرر الصحفي ثم الى المحرر الصحفي " رئيس قسم المخبرين الصحفيين " الذي يعيد صياغتها ويضيف اليها ويحذف ما يرى انه يستحق الحذف او الاضافة وهكذا تنساب المادة التحريرية حتى تصل الى رئيس التحرير او من ينوب عنه حسب مقتضى الحال .
وقد يتطور المحرر الى كاتب بعد أن يمضي في المهنة خبرة لا بأس بها يقوى عوده وتزدهر معارفه ويتوسع أفقه ليصبح كاتباً محترفاً قد يشارك في مؤتمر عالمي ليكتب مقالاً من وحي ما جمع من معلومات وبيانات وتصريحات وما استنبط من افكار وما استشرف من تطورات ، فيأتي مقاله صادقاً معبراً محاكياً للواقع او متنبئاً بالمستقبل أو مستلهماً عبر التاريخ . هذا هو الكاتب الذي يستحق تلك المكانة العلية لا أولئك الكتاب الذين " يطلبون واحد شاي " ثم تندلق أفكارهم بلا وحي ولا هدي ولا كتاب منير .
كتاب الرأي وتحتفي الصحافة السودانية بكتاب الرأي في غير محتفى ، فصحافة الرأي ولدت اصلا نتاجاً لمرحلة شاعت فيها الأمية الأبجدية والسياسية وكثر فيها قادة الرأي واصحاب الاقطاعيات ممن يؤثرون على حركة المجتمع وكانت المعلومة في ذلك الزمن حكراً لطائفة دون غيرها من الناس ، وفي ظل ذلك الوضع فان القراء كانوا بحاجة الى من يفسر ويشرح لهم سياسات الدولة وتوجهاتها وما خفى من أراء .
وفي الصحافة العالمية تراجعت صحافة الرأي مع انتشار صحافة الخبر وثورة المعلوماتية والفضائيات الاخبارية المتطورة وبالتالي لم يعد هناك مكانا للرأي وان ازدادت الحاجة الى التحليل السياسي المتعمق والموضوعي بما يحويه من معلومات وافكار ومعالجة متفردة .
وما يدعو للعجب في الصحافة السودانية انه في كل عشر سنوات يولد جيل جديد من الكتاب وهذه الفترة الزمنية لا تكفي في دول اخرى لمجرد اكتشاف كاتب جديد ناهيك ان يأتي ويسود صفحات الصحف ثم يخبو نجمه بلا مبرر مقبول ومفهوم . ومع ذلك يحصل كاتب المقال في السودان على عشرة اضعاف ما يتقاضاه الصحفي المحترف وهو الذي امضى سني عمره في الدراسة والتحصيل والعمل اليومي المضني في جمع البيانات وبناء المصادر ومتابعة المعلومات قديمها وحديثها ، فالخبر الجديد لا يعرف الا بعد معرفة القديم من الأخبار ، وكما قال الشاعر وبضدها تتمايز الأشياء .
لماذا يظلم الصحفي المحترف صاحب المكان بينما يأتي كتاب المقال من شبابيك المهنة فينطبق عليهم مثل " جدادة الخلا طردت جدادة البيت " . ويوجد بكل صحيفة عدد مقدر من كتاب المقال يزيد في بعض الصحف عن عدد المحررين العاملين الملتزمين أنفسهم . كما ان مهنة الطب لها أهلها وكذلك الهندسة والزراعة والصناعة والصيدلة، بل وحتى السمسرة فلا أرى سببا واحدا لسيطرة الهواة من أهل المهن الاخرى على مهنة الصحافة والسيطرة على مفاصل عملها ودفعها دفعاً الى هاوية عدم الاحتراف والتخلف عن ركب الصحافة العالمية .
أهل مهنة قد يقول قائل إن عدداً من رؤساء تحرير الصحف الحاليين وكتاب المقالات قد اصبحوا وبوجه حق من أهل المهنة الحقيقيين بل منهم من أسهم في استقرار المهنة وبناء مقدرات جيل بكامله من الصحفيين . ولهؤلاء نقول ان العبرة في الاحتراف هي النجاح ومن يسهم في تطوير المهنة فهو منها ، أما من ينشئ مؤسسة صحافية دون توافر شروط المؤسسات ويستنزف حقوق الصحافيين الشباب بتعيين المتدربين وعدم الوفاء بحقوقهم ولا يلتزم بعقود توظيف ولا تأمين ولا نهاية خدمة فمثل هؤلاء لا يستحقون الاعتراف بهم كناشرين لأنهم يمثلون معول الهدم الذي ينخر في جسد المهنة .
والمادة الصحفية المنشورة هي في جوهرها توازن في نوع الخدمة المقدمة للقارئ وبهذا المعنى بالمقال الصحفي ما هو إلاَّ شكل من أشكال التحرير الصحفي منها الخبر والتحقيق والصورة والكاركاتير والتقرير والتحليل والافتتاحية وعدم الموزانة بين هذه الاشكال لا ينتج عنه الا خلل ومسخ لا يمكن اعتباره عملاً صحفياً حقيقياً ومفيداً.
ومن ينظر الى الصحافة العربية والعالمية يدرك على الفور حجم عدد الكتاب المعتمدين في كل صحيفة ولا توجد اية صحيفة في العالم تعتمد على الكتاب اعتمادا كاملا على صفحاتها حتى ان عدد المقالات المنشورة يزيد على التقارير والأخبار والتحقيقات وغيرها من الاشكال التحريرية المعروفة والقبول بهذه السياسة التحريرية يمثل نوعاً من فساد الذائقة فرضه اهل العقد والحل من المسؤولين في الصحف وهم أصلا دخلوا المهنة من باب كتاب المقال .
ولو تحدثنا عن التجربة المصرية نجد ان الكاتب الصحفي يظل كاتبا ولا يمكن ابداً ان يصبح رئيسا للتحرير ببساطة لانه سيفشل ان فعل خاصة اذا كانت الصحافة تتمتع بالحرية وعدم الاحتكار .
وإنني إذ اطلق هذه الصيحة أرجو الا يشمر البعض دفعا عن مكاسبهم بل هي دعوة الى الحوار وحماية حقوق الصحفيين الحقيقيين خاصة الشباب منهم وتوجيه الأموال التي تذهب بغير وجه حق الى الكتاب الى القابضين على جمر المهنة لأنهم حاضرها ومستقبلها .. وان ابوا فلا بد انهم سيسمعون نداء داوياً يقول : (الصحافيون يريدون تنحي كتاب المقالات !).
|
|
|
|
|
|