|
جامعة الخرطوم.. طاحونة السياسة وفيروس التشرذم
|
مروان الجبوري**- 13/02/2005
البوابة الرئيسية لجامعة الخرطوم جامعة الخرطوم؛ ذلك الصرح التعليمي الشامخ، أنشأها الإنجليز عام 1902م، وكان اسمها حينذاك "كلية غردون التذكارية" تخليدا لذكرى القائد الإنجليزي غردون الذي قتله الثائر السوداني محمد أحمد المهدي عند دخول المهدي للخرطوم عام 1885م.
تحولت هذه الكلية الصغيرة إلى "جامعة الخرطوم" عام 1956م، وظلت منذ ذلك الحين وحتى اليوم تموج بمختلف التيارات السياسية والفكرية المتنافسة على كسب تأييد وولاء طلبة الجامعة. وكان على رأس هذه الحركات التيار الإسلامي الذي كان يمثله الإخوان المسلمون بمختلف الأسماء التي يتحركون بها، والحزب الشيوعي السوداني، وحزب الأمة، والحزب الاتحادي الديمقراطي وغيرها.
وقد عُرف طلاب جامعة الخرطوم باهتماماتهم الفكرية والسياسية، وكانوا على الدوام وقودا للثورات التي قامت في السودان، وعلى رأسها ثورة أكتوبر عام 1964م، والتي أطاحت بحكم الفريق إبراهيم عبود، وكان طلاب جامعة الخرطوم هم المحرك الرئيسي للمظاهرات ومسيرات الاحتجاج طوال التاريخ السياسي المعاصر للسودان. لذا حرص الساسة السودانيون على اختلاف مشاربهم على كسب طلبة هذه الجامعة، هذا بالإضافة إلى أن معظم النُّخَب السياسية والفكرية وحتى الاقتصادية السودانية قد تخرجت في هذه الجامعة.
الإسلاميون وأسئلة الحاضر والمستقبل
أضعفهم التشرذم وطحنتهم الثورات ظهر العمل الإسلامي المنظم في جامعة الخرطوم تحت لافتات كثيرة، كان أولها "حركة التحرير الإسلامي"، وكان يقود هذه الحركة نفر من الطلاب المتأثرين بدعوة الشيخ حسن البنا في مصر، واستمر العمل تحت مسميات كثيرة؛ من "التحرير الإسلامي"، مرورا بـ"الاتجاه الإسلامي"، إلى "الحركة الإسلامية الطلابية"، ثم وقع الانشقاق الذي أثر على وحدة هذه الحركة، فانقسمت إلى حركة الطلاب الإسلاميين الوطنيين، وهي التي انحازت إلى الدولة، والحركة الإسلامية الطلابية التي آثرت الانضمام إلى المؤتمر الشعبي الذي كونه الدكتور حسن الترابي.
كما ظهرت الجماعات السلفية المختلفة، وكان على رأسها جماعة أنصار السنة المحمدية، وهي أكبر جماعة سلفية في السودان، إضافة إلى مجموعات سلفية صغيرة أخرى.
كما عرفت الجامعة تيار الإخوان المسلمين الذين تمايزوا عن الحركة الإسلامية التي كان يقودها الترابي بعد خروجه من التنظيم الدولي للإخوان المسلمين عام 1979م، إثر الخلاف الذي انتهى بخروجه وتأسيس الجبهة الإسلامية القومية فيما بعد التي انحازت إليها معظم القواعد الإخوانية إلا مجموعة صغيرة آثرت البقاء مع التنظيم الدولي، وقد حملت هذه المجموعة اسم الإخوان داخل الجامعة.
وقد تمكن التيار الإسلامي الطلابي (الذي يمثل الحركة الإسلامية) من الفوز بالغالبية العظمى من الدورات الانتخابية لجامعة الخرطوم منذ عام 1956م، ولم تخسر الحركة مقاعد الاتحاد إلا 5 مرات من مجموع 45 دورة انتخابية.
واليوم يقف التيار الإسلامي في جامعة الخرطوم بكافة فصائله على أعتاب مرحلة جديدة هي مرحلة السلام، ويستشرف التيار الإسلامي داخل الجامعة هذه المرحلة، وهو يمر بأزمات متعددة، سواء على صعيد العمل التنظيمي أو الطرح الفكري والسياسي، هذا بالإضافة إلى الخلافات والانشقاقات التي عصفت بكافة فصائل العمل الإسلامي دون استثناء؛ ذلك أن أحد أكبر مشكلات العمل الإسلامي الطلابي في السودان أنه مرآة للعمل الإسلامي والسياسي خارج الجامعة؛ لذا فإنه عقب كل انشقاق يقع داخل جماعة ما فإن أول قطاع يعصف به هذا الانشقاق هو القطاع الطلابي، وهذا ينطبق على كل الجماعات بلا استثناء.
الحركة الإسلامية في الحكومة والمعارضة
قادت الحركة الإسلامية العمل الإسلامي داخل جامعة الخرطوم لعقود طويلة، وتحت مسميات متعددة كما أسلفنا، وكان لها الحضور الأقوى والأبرز في الوسط الطلابي عبر تاريخ الجامعة، ويشهد على ذلك عدد المرات التي فازت فيها الحركة برئاسة اتحاد الجامعة.
إلا أن الخلاف الذي وقع في صفوف الحركة الإسلامية عام 2000م، وما أعقبه من انشقاق أصاب الحركة أدى إلى ظهور جسمين تنظيميين مختلفين؛ هما حركة الطلاب الإسلاميين الوطنيين، والحركة الإسلامية الطلابية.
وكلتا الحركتين ذات طابع سياسي واضح يطغى على نشاطيهما، إضافة إلى بعض الأنشطة الدعوية كالإفطارات والمعارض.
وتستبشر حركة الطلاب الإسلاميين الوطنيين بالسلام القادم، وترى أنه فرصة لتغلغل الحركة وسط الطلاب، وإيجاد تربة خصبة لبناء عمل إسلامي معافى من جديد بعد الفتور الذي أصابه نوعا ما عقب الانشقاق.
أما طلاب المؤتمر الشعبي فهم يعادون الحكومة، ويعملون على التركيز على ما يرونه أخطاء لها.
التيار السلفي.. حاضر بقوة
استطاع التيار السلفي في جامعة الخرطوم أن يتغذى على الخلافات التي أصابت الحركة الإسلامية، فزاد حجم انتشاره في المجتمع السوداني عموما، وفي الجامعات خصوصا.
ويتمثل التيار السلفي بعدة جماعات، على رأسها جماعة أنصار السنة المحمدية التي تأسست في مصر عام 1926م، ثم انتقلت إلى السودان على يد الشيخ محمد حامد التقلاوي، وبدأت تنتشر في السودان. وتقوم دعوتها على محاربة التصوف المنحرف والمظاهر الشركية، ونشر السُّنة والأخلاق الفاضلة في المجتمع.
إلا أن تلك الجماعة لم تسلم أيضا من داء الانشقاقات، فأصابها ما أصاب الحركة الإسلامية، فخرج منها في البداية قسم أكثر جمودا تحت مسمى "جمعية الكتاب والسُّنة الخيرية" بقيادة الشيخ عثمان الحبوب، ثم انقسم الجسم الأصلي للجماعة إلى قسمين: أحدهما بقيادة الشيخ محمد هاشم الهدية القائد التاريخي لأنصار السنة في السودان، رئيس الجماعة، والقسم الثاني برئاسة الشيخ أبو زيد محمد حمزة، الداعية السلفي المعروف، وقد انحاز معظم طلاب الجماعة إلى القسم الثاني.
هذا الانشقاق وما تبعه من مشادات ومشكلات ومزايدات كلامية أثر على عمل الجماعة، وأضعف من مصداقية خطابها، إلا أنه ما زال لديها حضور واضح في الجامعات عبر أنشطتها الدعوية المختلفة، وعلى رأسها الحلقات العلمية الوعظية والمعارض الدعوية.
إضافة إلى أنصار السنة؛ فهناك التيار السلفي المعروف عالميا بالتيار السروري، ممثلا في جمعيات دعوية، ويشهد هذا التيار إقبالا من الطلاب لبُعده عن القضايا السياسية المحلية، واكتفائه بالدروس العلمية والمحاضرات العامة والاهتمام بقضايا المسلمين العالمية.
الإخوان المسلمون.. الحاضر الغائب
عقب الانشقاق الذي وقع في حركة الإخوان المسلمين السودانية، والذي انتهى بخروج الدكتور حسن الترابي وتأسيسه للجبهة الإسلامية القومية، وانحياز أغلب قواعد الإخوان المسلمين إليها، فضلت مجموعة صغيرة البقاء مع التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وهذه المجموعة هي التي حملت اسم الإخوان داخل الجامعة.
ولعل الإخوان المسلمين هم أضعف طرف في المعادلة الطلابية الإسلامية، وقد أصابهم فيروس الانشقاقات، فانقسموا إلى 3 مجموعات، جميعها يحمل اسم الإخوان، وتختلف رؤاها الفكرية والسياسية!.
ورغم ضعف الإخوان المسلمين داخل الجامعة فإنهم يتمتعون باحترام عال وسط الطلاب والتنظيمات السياسية، وقد حصلت مؤخرا تطورات فيما يتعلق بهذه التنظيمات الثلاثة؛ إذ يسعى اثنان منها إلى التقارب والاندماج، فيما غيَّر التنظيم الثالث اسمه إلى جماعة الاعتصام بالكتاب والسنة، وهو الجناح الذي يوصف بالسلفية.
هذا.. وتوجد تجمعات إسلامية أخرى صغيرة، سلفية وصوفية، وأخرى تابعة لحزب التحرير، إلا أنها محدودة التأثير والانتشار.
التشرذم والفقر الفكري.. أبرز المشكلات لعل أبرز ما يعاني منه العمل الإسلامي الطلابي داخل جامعة الخرطوم هو حالة التشرذم والتمزق التي زادت في السنوات الأخيرة، وقد ظهرت الكثير من الخلافات التي كانت خافية إلى السطح، ولعل هذا من أبرز مشكلات العمل الإسلامي في السودان عموما.
ولعل أظهر انعكاس لحالة التشرذم هذه ما حصل في انتخابات اتحاد طلاب الجامعة الأخيرة، التي انتهت بفوز تحالف القوى العلمانية وبعض الأحزاب الطائفية؛ حيث نزلت هذه الأحزاب مجتمعة -على الرغم من التناقضات الأيدلوجية الحادة فيما بينها- في قائمة واحدة ضمت القومي العروبي، والزنجي الأفريقاني، والطائفي التقليدي، والليبرالي الحداثي، والشيوعي الماركسي. في حين نزل الإسلاميون في 3 قوائم بعد أن رفض طلاب أنصار السنة (جناح أبو زيد) الانضمام للتيار الإسلامي الذي تكون من تحالف الطلاب الإسلاميين الوطنيين وجناحين من الإخوان المسلمين وجناح آخر تابع لأنصار السنة ومجموعات سلفية صغيرة، بدعوى معارضتهم لمشاركة طلاب الحكومة فيه، ورفض طلاب المؤتمر الشعبي الدخول في هذا التيار لذات السبب، و قد أدى هذا في النهاية إلى فوز القائمة العلمانية – الطائفية، رغم أنه كان يمكن بتوحد هذه القوى الفوز برئاسة الاتحاد؛ لأن مجموع أصوات الإسلاميين فاق أصوات القائمة الأخرى بفارق كبير.
إضافة إلى مشكلة التشرذم هذه يوجد فقر فكري وسياسي واضح لدى معظم التنظيمات الطلابية الإسلامية داخل الجامعة؛ مما انعكس سلبا على حجم تعامل وتفاعل الطلبة معها وإقبالهم على مناشطها، في ظل هجمة شرسة تستهدف الدين والأخلاق والتقاليد السودانية.
ومن مظاهر هذه المشكلة أيضا غياب التصور الواضح لدور هذه الجماعات وآفاق عملها مما فتح الباب واسعا لاستفادة العلمانيين من هذه التناقضات جميعها.
المتدينون الجدد
هذه المشكلات وغيرها أدت إلى ظهور جيل من المتدينين وسط الطلاب، بعيدين عن العمل الإسلامي المنظم، ولهؤلاء الطلاب أنشطة دعوية مختلفة داخل الجامعة، وهم في الأغلب من المعجبين بعمرو خالد وبرنامجه "صناع الحياة" الذي يعرضه البعض داخل الجامعة، ويجد قبولا كبيرا في الأوساط الجامعية، وقد كوّن بعض هؤلاء جمعية "صنّاع الحياة" التي قامت بجهد طيب في جمع الملابس وبعض الاحتياجات لأهل دارفور.
وختاما..
يمر السودان حاليا بمرحلة إعادة تشكل وتغيير للبنية التقليدية له، ومع قدوم السلام وما يحمل معه من متغيرات إيجابية أو سلبية يتحتم على جميع هذه التيارات أن تتضافر جهودها وتوحد خطابها الدعوي ليستوعب التغيرات الجديدة هذه، إضافة إلى أنه لا بد من إعادة النظر في القنوات التي يقدم بها العمل الإسلامي داخل الجامعة، وفي شكل الخطاب الدعوي المقدم وطبيعة الأنشطة الدعوية؛ لأن المرحلة القادمة تستوجب هذا.
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: جامعة الخرطوم.. طاحونة السياسة وفيروس التشرذم (Re: عمر صديق)
|
اعتقد ان هذا المقال يصلح لفتح النقاش حول الوضع السياسي في جامعة الخرطوم والتي اشتهر طلابها بتعاطي الامور السياسية والاهتمام بها بدرجة قد تنافس تفوقهم الاكاديمي والدور العلمي للجامعة
وكذلك هل تعتبر حالة التشرذم التي تعيشها التنظيمات السياسية بالجامعة مرأة للوضع السياسي العام في السودان وهل ذلك يعتبر ظاهرة صحية ام مرض سياسي
| |
|
|
|
|
|
|
Re: جامعة الخرطوم.. طاحونة السياسة وفيروس التشرذم (Re: عمر صديق)
|
الاخ عمر الصديق السلام عليكم بوست متابع ومفيد اعتقد تاريخيا القوى السياسية العلمانية ذات الاجندة الاجتماعية هى القادرة على تقديم مبادرات ابعد مدى. ولا يعنى ذلك عدم قدرة الطلاب الاسلاميين على ذلك .. الموضوع هو ملاحظات على هامش التاريخ السياسى للسودان الحديث، لاحظ مثلا انتشار اليسار وسط القوى الحديثة فى الجامعات ووسط المهنيين بعيد الاستقلال وحتى السبعينات وهى الفترة التى ساد بعدها التيار الاسلامى. تمتلك بعض قوى اليسار وقوى الوسط العلمانية الاخرى الان وعيا وممارسة نظرية جديدة تقوم على الديمقراطية لحمة وسداة.. هذا الوعى السياسى الجديد حينما يبدأ فى الانتشار سيقود حتما الى انتشار اخر وسط القوى الاسلامية وانا ارشح جماعات الخير والاصلاح للنمو اكثر من غيرها من جماعات الاسلام السياسى التى تقوم على رؤى شمولية لا تختلف كثيرا عن رصيفتها فى اليسار التقليدى من حيث الموقف العدائى للديمقراطية من حيث الجوهر.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: جامعة الخرطوم.. طاحونة السياسة وفيروس التشرذم (Re: طلعت الطيب)
|
Quote: الاخ عمر الصديق السلام عليكم بوست متابع ومفيد اعتقد تاريخيا القوى السياسية العلمانية ذات الاجندة الاجتماعية هى القادرة على تقديم مبادرات ابعد مدى. ولا يعنى ذلك عدم قدرة الطلاب الاسلاميين على ذلك .. الموضوع هو ملاحظات على هامش التاريخ السياسى للسودان الحديث، لاحظ مثلا انتشار اليسار وسط القوى الحديثة فى الجامعات ووسط المهنيين بعيد الاستقلال وحتى السبعينات وهى الفترة التى ساد بعدها التيار الاسلامى. تمتلك بعض قوى اليسار وقوى الوسط العلمانية الاخرى الان وعيا وممارسة نظرية جديدة تقوم على الديمقراطية لحمة وسداة.. هذا الوعى السياسى الجديد حينما يبدأ فى الانتشار سيقود حتما الى انتشار اخر وسط القوى الاسلامية وانا ارشح جماعات الخير والاصلاح للنمو اكثر من غيرها من جماعات الاسلام السياسى التى تقوم على رؤى شمولية لا تختلف كثيرا عن رصيفتها فى اليسار التقليدى من حيث الموقف العدائى للديمقراطية من حيث الجوهر. |
الاخ طلعت الطيب تحياتي شكرا للمداخلة العميقة والتحليل التاريخي لدورات سيادة القوي السياسية في الجامعات والقوي الحديثة
وهل يعترف اهل اليسار التقليدي والاسلام السياسي بما قلته من العداء التقليدي للديمقراطية
| |
|
|
|
|
|
|
|