|
Re: قراء في رواية (اللعب فوق جبال النوبة ) للكاتب النوبي ادريس علي (Re: علي عبدالوهاب عثمان)
|
ورواية ( اللعب فوق جبال النوبة ) احدى روائع هذا الكاتب الذي خرج من رحم المعاناة المادية والاجتماعية في مجتمع القاهرة الذي كان متشبعاً في ذلك الوقت بكل معاني الارستقراطية الطبقية والتي عانى منها الشعب المصري عموماً بنوع من الدونية فنشأت طبقات مجتمعية ابرزها مصطحات مثل الصعايدة والبرابرة وقد وصم فئة هؤلاء بالغباء وعدم الفهم والجزء الاخر بالدونية العرقية والشكلية .. وذلك كان تصنيف القادمين من الشمال من الترك والشركس والارمن والاكراد والسلاف والصرب وبقايا الانكشارية من جيش محمد علي باشا ..الخ . وكاتبنا هو خير من يمثل تلك المعاناة فقد تطرق الى المسكوت عنه في تاريخ اخواننا النوبة في اعالي مصر .. وفي سيرته الذاتية انه لم يتلق الا القليل من التعليم الابتدائي ولكن الموهبة واكتشاف القدرات مبكراً ساعده على ان يتبوأ هذه المكانة العالية بين الكتاب المصريين وإن تفوق على الكثير منهم رغم ان الطريق لم يكن مهيأ امامه كما الباقين بفعل التمييز الطبقي الظاهر ايام حكم الملك ونوعاً ما بعد اشتراكية عبدالناصر التي قضت على جزء من موجودات الحضارة النوبية بعد بناء السد العالي .. وعندما يتناول ادريس علي احداث هذه الرواية وشخوصها فهو يجسد سلوك واخلاقيات النوبي في مجتمع ليبرالي منفتح .. فإذا كان والد غادة احد شخوص الروابة قد حل مشكلة اللون والدونية وكأنه قد سجل انتصاراً بزواجه من احدى الحسان القاهريات من ذوات البشرة البيضاء الناصعة إلا ان الشكلانية فقط لم تحل مشكلة الرجل ، فكان التصادم بين القيم النوبية في مسائل الشرف والعرض وبين المتجمع المتفلت المجسد في شوارع القاهرة واحياءها فالرجل اراد ان يجمع ما بين الحداثة والانفتاح وشهوة الذاتية في الزواج من القاهريات وما بين القيم والموروثات النوبية التي تسكن في داخله .. فكان الصراع المرير بين هذا وذاك والصراع يبدو انه ما زال مجسداً حتى يومنا هذا في مجتمع النوبة المصريين
| |
|
|
|
|
|
|
Re: قراء في رواية (اللعب فوق جبال النوبة ) للكاتب النوبي ادريس علي (Re: علي عبدالوهاب عثمان)
|
.. فكان رمز الصراع ( غادة) وهي الخلاسية الناتجة من هذا التزاوج ولكنها حسب وصف الكاتب ربما طغت عليها جينة الام من حيث التكوين الجسماني واللون والشعر المسترسل .. شبت غادة عن الطوق وانطلقت في مجتمع الحي كأي فتاة ممن تشبعن بثقافة القاهرة وحسب رواية الكاتب فإنها لم تأت بجريرة او بفعل منكر غير انها وقعت في براثن الحب وهي مرحلة من مراحل التطور الانساني العادي في مجتمعات المدن .. ولكن بالنسبة لوالد غادة الذي يحمل بداخله كل قيم وسلوك انسان النوبة فإن سلوك غادة تعتبر حالة مرفوضة ترقى الى مستوى الجريمة الاخلاقية .. فكان العقاب الذي فرض على ( غادة) هو ارجاعها الى الاصل مباشرة وهو القرية النوبية حيث حاضنة الاخلاق والسلوك القويم حسب نظرة والدها لاعادة تكوينها وكأنها خلق جديد .. هنا تتجلى براعة الكاتب في التصوير والوصف الدقيق لتلك العادات والتقاليد المرتبطة بالاساطير والروايات التي تؤطر بسياجها اللفظي وبشخوصها كل محركات المجتمع من القيم والفضائل .. والقاريء لهذه الرواية يمكن ان يستحضر قريته في دنقلا بكل تفاصيلها من خلال الشخوص التي تتجول في ذلك الجزء الجغرافي المحدد بالنهر والجبل والصحراء ..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: قراء في رواية (اللعب فوق جبال النوبة ) للكاتب النوبي ادريس علي (Re: علي عبدالوهاب عثمان)
|
فتلك المرأة ( شاية ) واحسب انها شخصية مجسدة في موطني جزيرة ارتقاشا شكلاً ومضموناً وهي تماماً مطابقة لــ ( شاية ) التي تزوج بها جدي ( احمد ) وقد جسدها الكاتب مما جعلني اتخيل ان القصة تدور داخل قريتي ( النورنمار) و ( شايا ) التي تزوج بها جدي كانت اصلاً من هناك من المنطقة التي وصفها كاتبنا وقد قدموا الى ارتقاشا في تاريخ بعيد وهم ايضاً ابناء عمومة الكنوز ( شاية إلقاد ) او ( عليقات ) حسب التسمية العربية وفي بعض الاحيان يطلق على الفرد ( عليقي ) والمهم ان هؤلاء كانوا صناع سواقي ومراكب واستوطنوا على إمتداد ارض النوبة وانصهروا في المجتمع تماماً.. وقد ادخلني الكاتب في دائرة سحرية بل صرعني صرعاً بالوصف الدقيق لهذه المرأة التي تطابقت تماماً مع وااقعي وخاصة عندما ( يقول انها ورغم القيظ وحرارة الشمس لم تكن تنتعل حذاءها بل تحمله تحت ابطها ) .. وهي ممارسة كانت معهودة لدينا لأن الحذاء لم يتوفر لنا الا في المناسبات وقد فعلت شاية ذلك خوفاً من استهلاك الحذاء وتقادمه في العمر.. وهذه تمثل رمزية للمرأة ودورها في التضحية وضبط استهلاك فيما لا يلزم وكان الحذاء يدخل ضمن هذا البند في كأنه نوع من الترف خاصة بالنسبة للاطفال وكبار السن لأن المال كان يصرف بقوائم معينة ( اكل وشرب وملبس وحذاء..الخ) فهذه المرأة عندما تحمل الحذاء بيديها وتعاني من حرارة الشمس فهي توفره الى حالة اخرى ربما لتستخدمه في الليالي الصيفية المظلمة تحسباً للدغات العقارب والثعابين وغيرها من الهوام .. وتستغني عنه عندما تنتفي الحاجة ويصبح الحذاء ترفاً في الليالي المقمرة وعندما تشرق الشمس..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: قراء في رواية (اللعب فوق جبال النوبة ) للكاتب النوبي ادريس علي (Re: علي عبدالوهاب عثمان)
|
لنرجع لرحلة غادة التي بدأت من المحطة الى القرية على ظهر الحمار وهي رحلة وصولها من القاهرة الى المنافي .. ولكي يكون وصف الرحلة وبطلتها غادة صريحاً ومجرداً من غير ترميز فقد تعمد الكاتب بتقمص شخصية صبي في تاسعة ولم يبلغ الحلم ليطلق العنان لقلمه ويغوص في الوصف الحسي بدون اي رمزية مدعياً براءة الاطفال .. ولأن اللحظة لا تفسح المجال لأي رمزية وهو برفقة فتاة في غاية الجمال مقارنة بفتيات القرية بل وتشاركه بمرادفته على ظهر الحمار وتحضنه من الخلف وتضغط على ظهره بصدرها المكتنز وهو يرفع من وتيرة سرعة الحمار متعمداً لكي تشعر غادة بالخوف وتمعن في احتضانه من الخلف .. ورغم ان ركوب الحمير من المحرمات في القرية بالنسبة للشابات إلا ان عدم استطاعة غادة مجارة جدتها شاية بالمشى سمحت لها بهذه الممارسة وهي اشارة من الكاتب الى بدايات خروج الانثى من دائرة المحرمات والخطوط الحمراء المتعددة في ذلك المجتمع وحتماً فإن تأثيرات غادة قد بدأت تظهر قبل وصولها القرية . وفي هذا الجزء من الرواية وهي الرحلة من محطة الوصول الى القرية حيث يتجلى تأثير الكاتب بروايات ( الطيب صالح ) لأن مسرح الرواية لديهما متشابه تماماً فهو لدى الطيب صالح في شمال السودان او تخوم منطقة الدناقلة المستعربين ولدى ادريس علي في منطقة النوبة ( فاديجا ) في مصر .. ولأن الانثى في هذه المناطق تمتعت بكامل حقوقها عبر التاريخ فبالتالي فإن اخطاءها لا تغتفر لأن المجتمع يضعها في مكانة خاصة وهي تمثل المقياس الاخلاقي لسلوك اي اسرة وسمعتها ..
| |
|
|
|
|
|
|
Re: قراء في رواية (اللعب فوق جبال النوبة ) للكاتب النوبي ادريس علي (Re: علي عبدالوهاب عثمان)
|
ووصول غادة اربكت الحياة في القرية .. جدتها شاية كانت نظرتها للوضع تقع ضمن المصلحة النفعية والاقتصادية فإن وجود ( غادة ) معها تعني وصول الحوالات الشهرية من ابنها في القاهرة وهي الاهم بالنسبة لها وفي هذه المرحلة من عمر شاية تكون المراة النوبية هي المشرفة على النواحي المالية في العائلة .. وحتى محروس الابله تغير تماماً منذ أن وطأت قدم غادة القرية واصبح يكثر من الترنم بالغناء المشبع بالغزل كلما اطلت غادة .. ويذكرنا بشخصية الزين في رواية عرس الزين للطيب صالح وفلسفة وجود الدراويش في القصص والروايات ليست مقصورة على كتابنا فقط ولو ان المبدع الطيب صالح هو أفضل من استخدم هذه الشخصية ( الزين ) في روايته عرس الزين واحاطها بهالة من القداسة والنقاء وعفوية التصرف لاضافة المزيد من البوح والاندياح بتقمص شخصية الدرويش . ولكن الذي يدعو للحيرة ايضاً ان كان هناك دور لشخصية الدرويش في بعض الافلام الهندية القديمه يستخدمه المخرج دائماً لحل القضايا الشائكة وكوسيلة للتواصل بين الحبيب والحبيبة وكأنه وسيط محبة وعند نهاية الفيلم تجده ينصرف مبتعداً وهو يقرع الطبل بعد ان يجمع المحبين مع بعضهم .. هل أتى هذا من فراغ ؟ او هو التصوف الاسلامي الذي ينسب اليه وجود ما يسمى بالاولياء وهذه النظرة متجذرة في المجتمع الهندي والذي هو اصلاً شبيه وصنو للمجتمع السوداني .
| |
|
|
|
|
|
|
Re: قراء في رواية (اللعب فوق جبال النوبة ) للكاتب النوبي ادريس علي (Re: علي عبدالوهاب عثمان)
|
ورغم الابداع اللامتناهي للروائي النوبي إدريس علي .. إلا أن هناك بعض المآخذ على مواقفه السياسية تجاه القضايا النوبية في مصر ربما لضغوط كان يتعرض لها من حكومة مبارك .. وكان من المؤيدين لإسكان النوبة في وادي ( كركر ) مما أثار غضب بعض التجمعات النوبية .. وكانت نقطة الخلاف ايضاً في تناوله للمجتمع النوبي من خلال رواياته ، وقد إعتبره البعض نوع من الدونية ، وخاصة في هذه الرواية ( اللعب فوق جبال النوبة ) ولكن ما يهمنا هنا أن نهاية التاريخ والمرجعية الثابته لديه هو العمق النوبي الممتد حتى تخوم دنقلا جنوباً ويتحدث عنها بإعزاز وفخر وفي رواية دنقلا ... يجعل مرجعية البطل ( عبدالرحيم ) هي أرض النوبة ممتدة داخل السودان .. وإيمانه بوحدة النوبة .. وحتى استشهاده ببعض الاغاني في سياق الرواية من أغاني الاستاذ وردي رحمه الله ..
نواصل
| |
|
|
|
|
|
|
|