دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
هادي العلوي ... حياة رجل صادق
|
1933-1998 ست و ستون عاماً ما بين كردستان و بغداد و دمشق قضاها هذا الرجل على زائلة الرب هذه صادقاً مع نفسه و فكره و واقعه
|
|
|
|
|
|
|
|
Re: هادي العلوي ... حياة رجل صادق (Re: Amjed)
|
فيما اذكر كان اول قراءتي له هو كتابه عن الاغتيال السياسي في الاسلام، و شدتني منذ مقدمة الكتاب تناوله للجذر اللغوي للاغتيال نفسه حيث نسبه للأصل (غ و ل) بما يفيد الهلاك ثم وزنه على زنة افتعال بما يفيد القصد و التعمد ، فاشار اليه بمعنى ارادة الغول. الذي اذكره انني اعدت قراءة المقدمة عدة مرات بعد ان اطربني و شدني هذا الاستقصاء اللماح. الكتاب في مجمله فيه شجاعة كبيرة في تناول اجتهادات فقهية خاطئة و تناول عقلاني في تفسير كثير من حوداث الاغتيال السياسي بدأ بتناولها منذ عهد النبوة ثم الخلافة الراشدة بربطها بظروفها الموضوعية \ السياسية عند وقوعها. و لم يركن الرجل الي التفسيرات الشعبية الاكثر تداولاً بل عمد بمنهج بحثي و فكري صارم و لكنه لطيف الوقع الي التقصي عن الحقيقة كما هي اقرب الي ان تكون.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هادي العلوي ... حياة رجل صادق (Re: Amjed)
|
لم يكن تصنيف هادي العلوي السياسي موضع شك على الاطلاق فهو لم ينكر لا شيوعيته ولا ماركسيته لكنه تناول التراث في وعي نقدي محتد دفعه الي الخروج عن شيعيته ثم عن الموروث المسكوت عنه دون ان تعوزه لا القدرة الفكرية و الجراءة على مواجهة الدينيين لكشف دهاليز اختبأت او خبئت مملوءة بتواريخ من االقلق لاغتيال و الاقصاء و التمكين و التعذيب و احتكار السلطة ... عمد حين ذاك الي تناولها بموضوعية الباحث الاجتماعي في سياقها محاولاً البحث عما حدث حقاً و كيف حدث و لماذا...
في كتابه شخصيات غير قلقة في الاسلام ، واصل بحثه و اعلاءه لشخصيات اعلت وعيها الاجتماعي على ما عداه مقدماً عدة نماذج من التاريخ العربي و الاسلامي لشخصيات اعلت من قيم العدل و المساوة او الحرية او كليهما مستعرضاً حياتهم و سيرتهم ... كسلمان الفارسي على سبيل المثال في بحث جميل عن مواقف المثقفين حيث انه يقرر في مقدمة الكتاب ان الذي يعنيه ب(غير قلقة) هي ميزة هذه الشخصيات بفاعليتها الموجبة في حياة عصرها
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هادي العلوي ... حياة رجل صادق (Re: Amjed)
|
احد اروع كتبه على الاطلاق هو (المرئي و لا المرئي في الادب و السياسة) وهي تجميع لعدة مقالات و محاضرات لم يتسنى له نشرها او القائها لظرف او لأخر و لعل اميزها على الاطلاق هي (مثقفية المعارضة شرط التأسيس لثقافة المستقبل) و هي محاضرة اعدت لمؤتمر المجلس الاعلى للثقافة و الفنون كانت قد قدمت له الدعوة لحضوره في 1997 و لما اعجزه وضعه الصحي الحرج حين ذاك عن الحضور ارسلها لتلقى بالنيابة عنه، ال ان محتواها و تعذر حضوره منح لجنة المؤتمر حجة كافية لتجاهلها ... تناول فيها لفرق الشاسع بين معرضة قل كلمتك و امش الذي تحبه الحكومات جداً و بين معارضة قل كلمتك و اعمل لتحقيقها معارضة النضال الحقيقي من اجل صناعة التغيير هي عنده لا تتوقف في العمل السياسي و الصحافي فحسب بل تتعداه الي صناعة الفكر و الادب و الفن بدأ مقاله هذا باقتباس لطيف عن امام المتقين علي بن ابي طالب من خطبته الشقشقية مفاده ان الله أخذ على العلماء (أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَ لَا سَغَبِ مَظْلُومٍ) متناولاً مفهوم العلم في الخطاب الاسلامي باعتبار يعني الوعي الاجتماعي دون الثقافة ضارباً مثالي روزبة الاصفهاني (سلمان الفارسي) و ابو ذر الغفاري في انحيازهم للمشاعية و حربهم ضد الفقر المزرئ و تناول ايضاً الفرق بين الفكر الروحاني و السلوك الروحاني و اظنها تلك الفقرة القصيرة في مقاله ذاك كانت اثر نقد اقرأه للفلسفة المثالية على الاطلاق و لفهم العوام لها في ربطها بالدين
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هادي العلوي ... حياة رجل صادق (Re: Amjed)
|
للرجل في مقارباته الواقعية تلك نقد صارم و جرئي و مبكر لثوب الايدولوجيا السوفيتي المحكم حيث يقول (لست أظن أن كارل ماركس بأشواقه المشاعية المعطرة برائحة التراب الشرقي كان سيبدو غريباً على المسلمين كما بدا في ثوبه السوفيتي المغربن) و ليس هذا غريباً على هادي العلوي فهو برغم من صرامة مواقفه و حدة عباراته و محمولها المعرفي المنهجي كان ينطلق في مواقفه من مواقع مبدئية و ليست ايدولوجية و خصوصاً الماركسية السوفيتية بصورتها الرسمية التي تحجر بعضها و عفا عليه الزمن ...و اتفق هذا مع مثال هادئ العلوي الحياتي نفسه فهو عرف عنه التواضع و الزهد لدرجة التذكير ببتصوف الزهاد القدماء فشهد عنه د. رشيد الخيون(كاتب و باحث عراقي ): "كان العلوي يتصرف وسط دهشة الآخرين، بما تمليه عليه قناعاته. فبدأ متصوفاً على طريق الزهاد القدماء " و سعاد الجروس (مفكرة و شاعرة سورية) : (بقي العلوي يناضل في ساحة الفقراء يحارب في صنوف الاضطهاد رغم سقوط المضطهَد في إغراء المضطهِد، لم يفقد إيمانه بالشعب مبرراً السقوط بالجوع. فهو يبرر للضعيف ضعفاً، ولكن لا يبرر للقوي تسلط المتمثل بالقوى الرأسمالية.) و د. ماهر الشريف:( لم أعرف مثقفاً عربياً شبيهاً بهادي العلوي. كان بسيطاً متواضعاً رغم معرفته الموسوعية بعيداً كل البعد عن نرجسية و"انتفاخ" الكثير من مثقفينا.) و الشهادات عنه كثيرة لكن اكثرها تأثيراً كانت شهادة اخوه حسن العلوي عنه: ((هادي العلوي يطبق على نفسه معتقداته الفكرية فإذا دون نصا في الزهد سارع للاخذ به في حياته البسيطة)
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هادي العلوي ... حياة رجل صادق (Re: Amjed)
|
في القراءة لهادي العلوي تجد نفسك امام نشاط ذهني مرهق و خلاق ينطلق من موقع مستقل تماماً للبحث عن اجابات لاسئلة (هل .. كيف.. متى .. و لماذا) دون التسليم بأي مطلقات مسبقة فالحقيقة عنده هي ما ثبت وقوعه فعلاً و يتناولها في سياقها المكاني و الزماني بمعزل عن اي مثاليات تبررها في اطار صراع فكري غير مرتبط بنتائجها المادية بصورة مباشرة ، فهو يحاكم الامور بخواتيمها دون ان يغرق في البحث عن تبريرات ... لم يجد حرجاً في انتقاد كلا الجانبين في مواقفهم التقليدية المنطلقة من مواقع مع \ ضد ، و وقف بشدة ضد فكرة التقديس منطلقاً من مبدأ ان كل شئ قابل للنقد و التحليل الموضوعي منتقداً الاحادية المرجعية عند اهل اليمين و اليسار. هذه الاستقلالية (التأريخية اذما صحت التسمية) سمحت له بتناول جوهر الافكار و الاحداث مباشرة. انتقد عند الماركسيين العرب تكاسلهم عن ايجاد اصول ( اقليمية ) لنضالهم و فكرهم و اثنى على جهد و محاولة حسين مروة في بحثه عن الاصول المادية في الفلسفة العربية و الاسلامية شديد الثناء ... و الحق يقال ان محاولة مروة تلك و محاورة محمد ابراهيم نقد لها على عجالة كانت من اميز البحوث الفكرية عن تاريخ الفكر العربي و محاولة (احسبها يتيمة) في تأصيله لابراز دور المادية في تطور الفكر العربي المعاصر.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هادي العلوي ... حياة رجل صادق (Re: Amjed)
|
كان حاداً في موقفه تجاه مثقف السلطة او المثقف المرتشي كما اسماه بل انه تحدث عن ارتباط المعرفة بالمسئولية بصورة مباشرة و ارجع الي ذلك المنحى العام الذي اخذته الثقافة العربية في العهد الاسلامي (عهد الدولة) و هو منحى المعارضة في الغالب الأعم حيث حسب نسبة المثقفين المنحازين الي السلطة ب 12% من مثقفي ذاك العصر اغلبها من الشعراء مع نسبة من الفقهاء او علماء الدين بدأت الظهور و الازدياد في العصر الهجري الثاني. اخذه بهذا الموقف دعاه الي اخرج كل شعر المدح من تراث الشعر العربي و اعتبره عاراً على هذا التراث. و كان يرى في المعري مثالاً عظيماً تلبسه في حياته و الف عنه المنتخب من اللزوميات كما تأثر بفلسفة الزهدو التصوف و الحياة الصينية اثر اقامته في الصين مدرساً في جامعاتها عند خروجه من العراق منفياً 1976 سعى الي انشاء ثم انشأ جمعية بغداد المشاعية ككيان اجتماعي و ليس كحزب سياسي قدمت مثال حي لفكرته عن دعوته المشاعية بما قدمته للاجئين العراقيين في مخيمات سوريا الاردن و في نفس الوقت عارض بشدة ترك العمل السياسي لانصاف المثقفين و السياسيين المحترفين بل كان شرطه الاساسي للمثقف هو موقفه من الانحياز للبسطاء و موقفه من النضال ضد الظلم او السلطة الغاشمة أسموه ايضاً حلاج القرن العشرين و قال هو عن الحلاج ” الحلاج إن قراته للمعرفة استوفيت وإن قراته للتجلي تجلى لك وإن قراته للأدب حصل لك الاندماج في المقروء فهو فكر في فحواه صوفي في تجليه وادبي في جماله ” اعتبره المفكر و المستشرق الفرنسي الراحل جاك بيرك احد أهم و اخطر المفكرين في القرن العشرين واضعاً اياه مع سارتر ، فوكو ، هربرت ماركوز ، كاسترياديس ، برتراند راسل ، سونغ لي ، تروتسكي و نعوم تشومسكي.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هادي العلوي ... حياة رجل صادق (Re: Amjed)
|
له مقال مشهور بجريدة السفير اللبنانية ابان مجازر صدام حسين ضد اكراد العراق بعنوان براءة الي اطفال كردستان قال فيه :
براءة إلى أطفال كردستان
هادي العلوي
ليس من المعقول أبداً، وليس من المنطقي أبداً، أن يستمرَّ هذا النهرُ من الدمِ في الجريان، دون أن يسعى أحدٌ لتسكيره. أي عشق للقتل، يتلبس هذا الرجل، الذي لم يعدْ قادراً على العيش خارج هذا النهر؟ حتى كأنّ السلطةَ لم يبقَ لها معنى، سوى تحرير مراسيم الموت، بلا حدود، وبلا سبب، وبلا هدف.
ان أي قاتل محترف، جائع، مريض، قد يمرّ بفترة استراحة، يتكلم فيها مع نفسه، وربما طَرحَ عليها سؤالاً عن بعض من اختارهم للقتل، ان كان قد أحسن الاختيار. لكن هذا القاتل البدعة، لايريد أن يستريحَ. يرفض أن يأخذَ إجازة، يطرح فيها على نفسه هذا السؤال.
ان الدفاع عن السلطة في العالم الثالث، يستوجب القتل، لتثبيتها. وهو قد قتل مايكفي، لتثبيتها طيلة عشرين عاماً، ومع ذلك، فهو لم يتوقفْ عن لعبة الموت. صار وجوده في الحكم يتركّز في معنى أن نهرَ الدم، يجب أن لاينقطع عن الجريان، لأن انقطاعه، يجعل سلطته بلا معنى.
أباد من رعاياه، في المدة مابين 1968 ـ 1980 قرابة عشرين ألفاً، معظمهم بوسيلته المفضّلة: التعذيب، الذي يشمل أقرب خلصائه. تقول الروايات، أنه أعدم "ناظم كزار"، مدير أمنه العام، نشراً بالمنشار، لأنه تحداه في المحكمة الخاصة. وتقول أخرى، أنه سلق وزير صناعته "محمد عايش" في طنجرة نحاس (صفرية)، لأنه تجرأ عليه في محكمة مماثلة. والخيال الشعبي، حين ينسج هذه الصور، إنما يستند إلى أرضية، هي التي تفسّر لنا معظم مانقرأه في التاريخ القديم والحديث من الأمور الخارقة، فهي ليست مجرد حكي، يتناقله الناس، دون مضمون أرضي.
ومن الإيرانيين، مليون. في حرب كلّفت جيشه نصف مليون. كثير منهم، أعدمته فرق الإعدام العاملة وراء الخطوط، بتهمةِ نقصيرٍ، أو جُبْنٍ، أو تراجعٍ.
واليوم، وقد سكتتِ الجبهة الإيرانية، تتوجه الفيالق إلى كردستان. الجيش العراقي هناك، معلناً عن حضورٍ بنفس الكثافة. ونفس المعدات. ونفس الطريقة في القتال. دليل على أن اندفاعه في تلك الجبهة، لم يكن بسبب معنويات خاصة، نسبها إليه أنصار الدفاع عن الوطن من العراقيين. فهاهو يواصل في كردستان حروبه الإجرامية بكل بشاعتها. كنتُ أقول لهم: "ان هذا الجيش، سيقوم بنفس المهمة حية، حين يكلف بالهجوم على بيوتكم".
ان مايجري في هذه الأيام، يتحدى الخيال، ولايُعبّر عنه بقاموس. أشعر بالعيِّ، وصعوبة الكلام. أبحث عن مفردات مطابقة، وتتعذر علي. صدقوني، أني بحثتُ، لعلي أجد مايساعدني على تحرير وصف لِما يجري في كردستان العراقية، فلم تسعفني اللغةُ. إن الافادات التي أدلت بها منظمة العفو الدولية، وبعض الحكومات في أوربا، قد عبّرتْ عن الدهشة. غير أنها لم تدخل في عمق المفارقة: كيف يكون هذا الجيش؟ كيف يكون هذا الرجل، الذي يعطي الأوامر؟ إن الجنود العراقيين، يجتازون في هذه الساعات الحدودَ التركيةَ، ليصبّوا حِممَ مدافعهم على مخيمات اللاجئين الأكراد. هل سمع أحدٌ بهذا من قبل؟؛ ان اللاجئين ما أن يجتازوا حدود بلادهم، حتى يصبحوا آمنين بحكم الأعراف الدولية. أما ملاحقتهم وراء الحدود، وهم مجرد لاجئين، وبعد أن يكونوا، قد سكنوا الخيام، لإستكمال إبادتهم، فهذا من خصوصيات جيشنا وقائده العام. لقد أمستِ الهمجية التركية بعراقتها في العدوان على شعبها، والشعوب المحكومة بها، ملاذاً لهؤلاء النازحين. ولولا جبن هذا الجيش وخوفه من الأتراك، لكانت المخيمات الكردية، قد إمّحت من الوجود الآن.
يهجم الجنودُ العراقيون على القرى الكردية، لينفذوا خطط إبادة منظمة. كما تقول حرفياً منظمة العفو الدولية في موقف استثننائي، خرجت به على لغتها الإنجليزية المحايدة. هذه القرى الوديعة، البسيطة، المتصوفة في زوايا جبالٍ، طالما فاضت على العراقي باللبن والعسل، واستقبلته بنداء "كاكه"، الذي يعني عند الأكراد، أنك آمنٌ على نفسك ومالك وكرامتك الشخصية. فالكردي العادي، هو مثل سفوحه الخضراء، لايصدر عنه إلا الطيّب، حتى لصوصهم وقطّاع الطرق منهم، يملكون من القيم الأخلاقية، ما لا تملكه أكثر الجيوش تحضراً.
يمسحها الجندي العراقي بحذائه المحمّل بالغاز السام، ثم يجمع مايتبقى بها من الأطفال والأمهات والجدات، حتى يتمتع برؤيتهم، وهم ينامون كالفسائل المقطوعة تحت أخامص بنادقه الرشاشة. لم يتردد الجندي عن أداء هذا الدور. لم يأخذه الندم. ولم يسأل الطيّار نفسَه، على من يرمي قنابله الكيماوية؟ ناهيكم عن أن يفكر بالنزول بطائرته في بلدٍ آخر، لكي يكتسب الجنسية البشرية، ويعلن للعالم حقيقة مايجري في هذا البلد العجيب. كلا، أبداً. بل أقولها عن تثبّتٍ ـ ونحن أبناء قرية واحدة، كما يقول المثل العراقي ـ انه سيعود بعد أن يفرغَ حمولته على غرف نوم الأكراد، ليحدّث زوجته، أو عشيقته عن بطولاته لذلك اليوم.
أيها الطفل الكردي المحترق بالغاز في قريته الصغيرة، على فراشه، أو في ساحة لعبه، هذه براءتي من دمك أقدمها لك. معاهداً إياك، ألاّ أشرب نخب الأمجاد الوهمية، لجيوش العصر الحجري، أقدمها لك على استيحاءٍ، ينتابني شعورٌ بالخجل منك، ويجللني شعورٌ بالعار أمام الناس، أني أحمل نفس هوية الطيار الذي استبسل عليك. وليت الناس أراحوني منها، حتى يوفروا لي براءة حقيقية من دمك العزيز. أنا المفجوع بك. الباكي عليك في ظلمات ليلي الطويل. في زمن حكم الذئاب البشرية، لم نعد نملك فيه إلا البكاء.
اقبلْها مني، أيها المغدور، فهي براءتي إليك من هويتي.
***
نُشر هذا النص، في تاريخ 23/9/1988، صحيفة السفير اللبنانية.
ثم أعيد نشره في كتاب "حلبجة"، الذي أعدّته، وأشرفتْ عليه "هيفاء زنكنه"، وطبعته في لندن عام 1989.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هادي العلوي ... حياة رجل صادق (Re: Amjed)
|
من كتابه تاريخ التعذيب في الاسلام نقرأ: المقتربات الدينية للتعذيب التعذيب في الأصول هو أحد أشكال القمع الاجتماعي الذي تسلطه الطبقات على بعضها، فهو محكوم بنفس الدوافع إلى القمع، ولو أنه ليس جزءاً ضرورياً منه لأن القمع تتعدد أشكاله تبعاً للظروف والهيئات والأفراد، والتعذيب صدر ويصدر عن فئات وطبقات شتى ومورس ويمارس في أطوار تاريخية ومواقع جغرافية شتى ـ كما تختلط دوافعه الاجتماعية بملابسات نفسية وإيديولوجية يمكن أن تعطيه صوراً ودرجات متفاوتة تتراوح ما بين التعذيب الهمجي البحت، الذي ينصب على كرامة الضحية أو شرفه الشخصي أو يطال معتنقاته الخاصة به. والتعذيب في الإسلام لا يخرج عن هذا التصميم، أي أنه ليس ممارسة منعزلة خاضعة لبواعث مخصوصة ـ فوق تأريخية، لكنه يتميز بإطاريته الناجمة عن العلاقة بالدين، ولا بد بالتالي من أن يبعث على تساؤلات تحمل على النظر و التوقف، من قبيل: هل صدر الجلادون المسلمون في اقترافاتهم عن مسلك ديني؟ وهل يمكن القول أن إيمان الجلادين يسجل لدى الاقتراف درجة ما من الهبوط تضعه في مستوى أدنى من الإيمان الشعبي الخاضع للفطرة؟ وهل، أخيراً، يتعارض الدين بما هو دين مع أخلاقية التعذيب؟ ومع أن هذه الأسئلة تبدو خارجة عن سياق الوعي العام الذي اعتاد على اعتبار الدين نقيضاً للعدوان والنظر إلى الجلادين باعتبارهم عصاة أو فساقاً لا يخافون الله كما يقال في اللغة الشعبية، فإن طرحها والإجابة عليها قد يؤديان بنا إلى الخروج بنتائج مغايرة. وأنا أشعر من جهتي أن التبسيط الشعبي في مسألة شائكة كهذه يقوم على إغفال التاريخ الشخصي للأديان، فضلاً عن الجهل بالجذور البعيدة للسلوك الديني المحكوم بعوامل معقدة إيديولوجية ونفسية وما أشبه. وسنسعى لهذا الغرض إلى البدء من الجذور لفحصها ثم نصعد منها إلى التاريخ الشخصي للأديان في إضاءة موجزة نأمل أن تنتقل بنا من بساطة الظاهرة إلى بعض الحقائق الضرورية. اقترن الدين منذ بدايته بالقربان، ويتبوأ هذا المنسك مكانة خاصة في مختلف الأديان: كما ظهر في بعض المذاهب الشبه ـ دينية ومنها المذهب الكونفوشي، وهو ليس ديناً في الأصل لأنه لا يرتبط بمعبود و ينكر وجود الكائنات الروحية، ولكن الكونفوشية تدينت بقدسية مؤسسها الذي كان يعتقد بوجود شيء من التذاهن بينه وبين السماء، وأخذت هنا بالقرينة على أوسع نطاق. وكان القربان في الطور البدائي مقصوراً على الحيوانات. ثم ظهرت مع الانتقال إلى المجتمع الطبقي ـ طور الحضارة ـ سنة ذبح الإنسان التي زاولتها مختلف الأديان في الشرق والغرب. وكان الذبح يشمل أحياناً عبيد وجواري الملك المقدس لكي يدفنوا معه حتى يحين يوم البعث ويعود الملك إلى الحياة فيعود معه عبيده ليواصلوا خدمته كما كان حالهم في الحياة الدنيا. ومن القرابين البشرية المعتادة عرائس الماء وهن فتيات جميلات كان يلقى بهن في الأنهار الهائجة لتسكين غضبها. وكانت متبعة في مصر والصين. وكان ذبح الإنسان معمولاً به في الديانة المصرية القديمة حتى زمان المصلح العظيم أخناتون الذي أمر بإلغائه واستبدل به قرابين من الحيوانات بينما استمرت قرابين النيل حتى الفتح الإسلامي حيث ألغيت. وقد واصلت الأديان تمسكها بالقرينة في طورها الوثني، المساوي غالباً للطور العببودي، على صعيدي الإنسان والحيوان. وكانت قرينة الإنسام منسكاً مقدساً يتولاه رجال الدين. وعندما ظهرت الأديان السماوية، وما في حكمها في أديان الشرق الأقصى، كان بج الإنسان قد توقف من زمان بعيد مع التقدم في سلم الوعي الإنساني. والمعروف أن الأديان الراقية قد ظهرت في طور متقدم من تاريخ الحضارة تفرعت عنه ظواهر مختلفة في عدة مجالات. وقد تمسكت الأديان السماوية بمنسك القربان وأضفت عليه قداسة أشد اقترنت بالتوسع في ذبح الحيوان. ومن مظاهر ذلك في المسيحية احتواء الكنيسة على مذبح يندرج في عداد أقسامها الرئيسية ويستخدم فيه هذا الإسم بنصه إلى جانب المصطلحات الكنسية ذات المدلول الروحاني. ومن مظاهره في الإسلام شعائر «البدن» وهي قرابين الحج، وكانت منسكاً وثنياً فبقاه الإسلام وشدد عليه. ومنه أخذ اسم «عيد الأضحى» ـ أكبر الأعياد الإسلامية وأجلها شأناً. وينبغي التنبيه إلى أن هذا التوسع في الذبح لا يصدر عن الرغبة في توفير طعام للفقراء لأنه خاضع في الأصل لنزعة القرينة في الأديان ومتوارث فيها، رغم أن المؤثرات الاجتماعية في كل من المسيحية الأولى والإسلام الأول كانت حافزاً وراء الدعوة إلى إطعام الفقراء من هذه الذبائح. وهي بالتالي نتيجة فرعية ظهرت على هامش المنسك، ومن المعلوم أنها تزيد في موسم الحج عن حاجة فقراء الحجاز. وقد عللت اليهودية هذا المنسك برغبة «يهوه» إله اليهود في شم القتار وهو ما جعل نوحاً، تبعاً لأسطورة الطوفان، يقربن حيواناً مشوياً لإرضاء الإله الذي ما أن شم القتار حتى طابت نفسه وسكن غضبه على أهل الأرض. وتتميز أصول الذبح اليهودي بالبشاعة لأنها تشترط للحم الحلال أن يذبح الحيوان نصف ذبحة ويترك حتى يموت موتاً بطيئاً يستفرغ فيه كل دمه. ويرجع ذلك إلى تحريم اليهودية أكل الدم، وهو ما أخذ به الإسلام ـ بوصفه جزءاً من التقاليد اليهمسيحية ـ فوضع شروطاً مقاربة للتذكية، أي الذبح بطريقة تؤدي إلى استفراغ دم الحيوان، لكنه تضمن من الجهة الأخرى تعليمات مشددة للتخفيف عن الحيوان تصدر في الأساس عن المنحى الدنيوي ـ الاجتماعي في الإسلام الأول. نشأت على هامش القربنة في الأديان عقيدة الفداء. ويرجع أصلها إلى أسطورة اسحق بن إبراهيم بن الخليل. وكان ابراهيم قد تلقى في منامه أمراً بأن يقربن ولده اسحق لربه. وقد روت التوراة هذا الأمر بطريقة اعتيادية تشير إلى احتمال كونه منسكاً معروفاً لمؤلفي التوراة، الذين لا بد أنهم كانوا مطلعين على ممارسات قربنة الإنسان في الأديان الوثنية. وقد استنسخ القرآن رواية التوراة فأظهر ابراهيم وابنه قانعين بالأمر الإلهي، فلم يتردد الوالد في تنفيذ الأمر، كما لم يحاول الولد أن يتملص منه، لكن الله أسرع فأرسل كبشاً ليذبح بدلاً من اسحق. وربما كان لهذه الخرافة تعلق ما بإصلاح اخناتون الذي منع القرابين البشرية، ومن الجدير بالانتباه أن رواية هذا الحدث في التوراة والقرآن ليس فيها ما يشعر بالاستفظاع حيث يأخذ السرد مساره الاعتيادي ويتابعه المؤمنون كأمر إلهي مفروغ منه، حتى يقترب الحدث من نهايته المأمور بها فيأتي الملك وفي يده كبش ليذبح بدلاً من الولد. ولذلك يقول مفسرو القرآن في تعقيباتهم على هذه الرواية أنه لو ذبح ابراهيم اسحق لصارت سنة فيمن بعده: أن يذبح الآباء أبناءهم بدلاً من الأغنام والماشية. ويعني هذا بدوره أن الحيوان يذبح لا للحاجة وإنما لأجل القربان أو ليكون فداء عن شخص معين، ولذا لا تحدد أحكام القربان مآل لحم الذبيحة لأن المطلوب هنا هو «تفجير دم» كما يقول العامة في العراق. ويطبق هذا المنسك في الوقت الحاضر عند الانتقال إلى مساكن جديدة أو شراء مركبة من سيارة ونحوها وغالباً ما يتم غمس الكف في دم الذبيحة وطبعه على بوابة المنزل أو على المركبة. وقد توسعت فكرة الفداء إلى التعويض عن إنسان بإنسان آخر ولكن على سبيل القضاء والقدر المحدد من قبل السماء. ولتوضيح ذلك أروي هذه الحكاية من كتاب «الفرجة بعد الشدة» للتنوخي، من القرن الرابع الهجري وهي عن رجل، يدعى أبو القاسم العلوي كان في سفر ومعه أحد عبيده وكان كل منهما على حمار، وفي الطريق خرج عليهم أسد وتقدم نحو أبو القاسم فتسمر في مكانه بينما راح العبد يصرخ ويستغيث، ويبدو أن الأسد قد تهيج بهذا الصراخ فتوجه نحو العبد واقتلعه من على حماره وعاد به إلى الأجمة. ويذكر التنوخي أن أبو القاسم حين روى الحادث ختم الرواية بقوله: «قد فداني الله بغلامي» وعقب أحد الحاضرين: ألا تعلم أن لحوم بني فاطمة محرمة على السباع؟ ويلاحظ أن المعقب نسي أن لحوم بني فاطمة أبيحت للأمويين والعباسيين.. وعلى أية حال تدل هذه الحكاية على أن الله يتولى بنفسه ذبح بعض الناس لكي ينقذ غيرهم. وليس من الضروري تبعاً لهذا المبدأ أن يكون بين الفادي والمفدي عداوة تستوجب التضحية بأحدهما للآخر، فالقرار في هذا متعلق بحكمة الخالق وإرادته الحرة. لكن الفكر الديني بوصفه فكراً طبقياً يتجه في الغالب نحو جعل الفادي في مرتبة اجتماعية أدنى، كما هو حال أبو القاسم العلوي وغلامه. وقلما يحدث العكس في الأساطير والحكايات الدينية. إن عقيدة الفداء بحسب حكاية أبو القاسم العلوي تعني التضحية بحياة إنسان لأجل آخر. وقد شكلت العقيدة بهذا التحديد عنصراً من عناصر الوعي الشعبي يعبر عنه في بعض الأحيان بطريقة عدوانية واضحة، حيث يقال في العراق، مثلاً، عند تعزية حي بميت: راح لكل فدوة ـ أو فاد تبعاً للهجات. وتقوم هذه التعزية على افتراض أن موت إنسان هو بدوره زيادة في عمر إنسان آخر. وللعقيدة كذلك تعلقات أخروية وظفها رجال الدين لحسابهم ولنقرأ هذا المقتبس من معجم الأدباء لياقوت: توفي القارئ المحدث أبو بكر أحمد بن الحسين بن مهران في اليوم الذي توفي فيه الفيلسوف أبو الحسن العامري (381هـ) قال الحاكم: فحدثني عمر بن أحمد الزاهد قال: سمعت الثقة من أصسحابنا يذكر أنه رأى أبا بكر بن الحسين بن مهران رحمه الله في المنام في الليلة التي دفن فيها. قال فقلت: أيها الأستاذ ما فعل اللك بك؟ فقال: إن الله عز وجل أقام أبا الحسن العامري بحذائي (بجانبي) وقال: هذا فداؤك من النار. ثم ذكر الحاكم بإسناد رفعه إلى أبو موسى الأشعري أن رسول الله قال: إذا كان يوم القيامة أعطى الله كل رجل من هذه الأمة رجلاً من الكفار فيقول: هذا فداؤك من النار.. وقد علق ياقوت: وهذا الخبر إذا قرن بالرؤيا صار من براهين الشرع. إن عدم التقيد بالحاجة في تقديم القرابين، مع ربطها بعقيدة الفداء، يكرس نزعة دموية في الأديان ربما كانت صدى بعيداً لمقترب سيكو ـ اجتماعي ينبغي البحث عنه في مجاهل الانثروبولوجيا. على أننا نجد هذه النزعة تقترن في الأديان السماوية بأصول أخرى وثيقة الصلة بها، وهي: ـ مبدأ الإبادة الجماعية ـ العشوائية (المهابدة). ـ عقيدة العقاب الأخروي. ـ قانون العقوبات (الحدود). يضاف إلى هذه الأصول الثلاثة عنصر نفساني هو صدور الدين عن أب سماوي مطلق الوجود., وسنحاول تفصيل القول في كل منها. الإبادة العشوائية الجماعية تسمى في الإصلاح الإسلامي «عذاب الاستئصال» ويقصد به إبادة قوم من العصاة يبعث إليهم نبي فيكذبون فيعمهم غضب إلهي يطال رجالهم ونساءهم وشيوخهم وأطفالهم، مع ما في ناحيتهم من أحياء نباتية أو حيوانية. وفي العهد القديم ـ التوراة ـ أساطير عديدة تضمنت هذه العقوبة وتبناها القرآن بعد أن أضاف إليها أساطير عربية مماثلة. وتبدو استعادة هذه الأساطير في القرآن متعارضة تماماً مع مبدأ المسؤولية الفردية الذي شرعه «ولا تزر وازرة وزر أخرى». وقد يرد على ذلك بأن التعارض هنا شكلي لأن عذاب الاستئصال يطبق على أساس الإرادة الحرة للخالق، أما مبدأ المسؤولية الفردية فتطبقه الدولة. وحدود الاختصاص، على صعيد القانون، تتباين بين الخالق والدولة لكن التعارض يظل قائماً على الصعيد الأخلاقي كما سنبينه لاحقاً. أول تطبيق لعذاب الاستئصال هو الطوفان. وتبعاً للأسطورة التوراتية كان الطوفان عقوبة جماعية أهلكت أهل الأرض كلهم، عدا نوح وأهله والنفر الذين آمنوا به ولذا يعتبر نوح في الإسرائيليات الأب الثاني للبشر. ومع أن دعوة نوح كانت لقومه فإن العقوبة لم تقتصر عليهم. وهنا تعارض آخر مع مبدأ قانوني هام أقره القرآن وهو عدم جواز فرض العقوبة على فعل جرمي لم ينص عليه القانون أو نص عليه في حدود جغرافية معينة ولم يمتد التبليغ به إلى مكان آخر (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً). بقية الاستئصالات اختصت بأقوام ومواقع دون غيرها. وهو هنا شامل أيضاً لكل الكائنات الحية في الموقع المغضوب عليه. والملحوظ فيه أنه جماعي وعشوائي في نفس الوقت. وقد يعم المذنب والبريء كما قد يعم ضحايا الجرائم المعاقب عليها. ويتضح هذا في قصة لوط حيث طبقت الأديان السماوية حكماً يتناسب مع نزعة القربنة، التي مر الحدث عنها، فهي لم تكتف بإعدام المنحرفين جنسياً ـ اللواطيين والمأبونين ـ وإنما أعدمت معهم جميع النساء والأطفال الذين لا يمكن إتهامهم بهذه الجريمة. ومن الملحوظ أنها لم تأخذ في الاعتبار أن نساء قوم لوط كن بدورهن ضحايا الشذوذ الذي حرمن من ممارسة حقهن في الزواج والإشباع الجنسي المشروع. و كان العد يقتضي إخراجهن من تلك القرية ونقلهن إلى قرية أخرى يحصلن فيها على هذا الحق بدلاً من إعدامهن مع الرجال. يتكامل الإيمان بمبدأ الإبادة الجماعية مع الإيمان بالعذاب الأخروي. ويقوم الأخير على مبدأ المسؤولية الفردية، لكنه يطبق بحق المذنبين بطريقة همجية يمكن أن تكون لها صلة مباشرة بنزعة القرينة في الأديان. وتتضمن المأثورات الدينية في الإسلام استعراضات لأصناف العقوبات الأخروية تأخذ جميعها صفة التعذيب. إن الأداة الرائسة لهذا العذاب هي النار، وهي مشتركة بين الأديان السماوية الثلاثة، غير أن المأثور الإسلامي تميز بخيال خصب في هذا المضمار يعكس التميز البالغي للمنشئ العربي. فقد ابتكرت أساليب من قبيل: شوي الجلود وإبدالها باستمرار كلما نضجت بالاحتراق حتى لا يتوقف الشعور بالألم. شرب الصديد وهو قيح في حالة غليان يحتسيه المذنب عندما يظمأ فينشوى وجهه بحرارته قبل أن ينزل إلى جوفه ليشعل فيه الحرائق. وسلال طولها سبعون ذراعاً يصفد بها المعذبون. ويلبس أهل النار ثياباً من القطران المصهور. وقد أضاف الوعاظ المسلمون وسائل تعذيب أخرى اختصوا بها فئات معينة من المذنبين. منها وجود واد في جهنم يلقي فيه شارب الخمر ويبقى هاوياً عشرات السنين قبل أن يصل إلى قعره ليستقر فيه، ووجود أفاعي وثعابين تطوق الأجساد وتنهشها في كل لحظة، ومن الأخيلة التعذيبية الخصبة حدث يقول أن من بنى بناء فوق ما يكفيه جاء يوم القيامة يحمله. وقد يكون حديثاً صحيحاً لأن فكرته تتمشى مع اتجاه النبي محمد ضد الترف والإسراف. ويستفاد من هذا الحديث أن أغنياء المسلمين سيأتون يوم القيامة وعلى رأس كل واحد قصره، الذي قد يكون مبنياً من عدة طوابق. ولجهنم أوصاف كدسها الوعاظ تصدر عن خيال إرهابي مفرط، ولنقرأ هذا الوصف الذي أورده الغزالي في «إحياء علوم الدين» ـ كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وهو على لسان جبرائيل في حديث له مع النبي: «إن الله تعالى أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتى احمرت. ثم أوقد عليها ألف عام حتى اصفرت. ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت؛ فهي سوداء مظلمة لا يضيء جمرها ولا يطفأ لهيبها. والذي بعثك بالحق لو أن ثوباً من ثياب أهل النار أظهر لأهل الأرض لماتا جميعاً، ولو أن ذنوباً (دلواً) من شاربها صب في مياه الأرض جميعاً لقتل من ذاته، ولو أن ذراعاً من السلسلة التي ذكرها الله وضع على جبال الأرض جميعاً لذابت. ولو أن رجلاً أدخل النار ثم أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقه». والمعذبون في جهنم لا يموتون لأنه محكومون بالعذاب المؤبد، ومواتهم يعني نهاية عذابهم. وحين صرح صدر الدين الشيرازي بنظريته التي تقول بأن العذاب لا يمكن أن يزيد على عمر المذنبين في الحياة الدنيا وأنه يصبح بعده نعيماً، كفره رجال الدين. ويروى عن الملا محمد كاظم الهزار جريبي أنه لعن الشيرازي عند ضريح الحسين لقوله هذا. ويحتمل أنه جعل لعن الفيلسوف بديلاً عن الدعاء المألوف في زيارة الأئمة، لأن الرواة يقولون أنه كرر اللعن مائة مرة، على الطريقة التي تكرر بها التحيات للأئمة والملائكة داخل المزارات الشيعية. إن كلاً من عذاب الاستئصال والعذاب الأخروي غير منصوص عليهما في الشريعة لأنهما من خصوصيات الخالق. وكما بينا، فقد تمسك القرآن بمبدأ المسؤولية الفردية في القضاء الجنائي، بينما حرم النبي محمد إحراق الأحياء، أي الإعدام بالنار، لأنه داخل في عذاب الآخر، الذي يتولاه الله ويجوز للبشر أن ينتشبه به فيه. غير أن هذين الحكمين مندرجان في العقيدة، أي أنهما ملزمان إيديولوجياً ولا ينفصلان عن سائر الأركان والأصول التي يخل إنكار بعضها بسلامة الإيمان. ويعني هذا بدوره أن المؤمن يجب أن يكون موافقاً على هذه الألوان من التعذيب بوصفها من نتائج الحكمة الإلهية الموجهة نحو تحقيق المصالح ودرء المفاسد. وإذ يوافق المؤمن هنا على أحكام من قبيل المهابدة العشوائية والعذاب في الآخرة فهي لا بد أن تصبح، بحكم الإيمان، جزءاً من منظوره الاجتماعي والأخلاقي، وبالتالي، ومع أن القبول بهذه الأحكام يرد على سبيل التعبد غير المقترن بالممارسة مادامت الشريعة قد حرمتها على الإنسان، فإن عدم تعارضها مع المنظور الأخلاقي للمؤمن يمكن أن يخلق لديه الاستعداد النفسي للتعامل مع هكذا أفعال حينما تصدر عن الإنسان ولو على سبيل الخرق للقانون. ومن المقرر في علم النفس الاجتماعي الماركسي أن شخصية الفرد تتكيف بمعاييره الأخلاقية المستمدة من وسطه الاجتماعي والروحي أكثر مما هي بالمبادئ القانونية المفروضة عليه من فوق. وبسبب ذلك، فإن قدراً ملحوظاً من الانفصام بين القانون والأخلاق لا يمكن أن يخلو منه أي مجتمع؛ حيث نجد القيم الأخلاقية تساهم أحياناً في تخفيف قسوة القانون وأحياناً أخرى في تشديده. وسأضرب ها هنا مثلين متعارضين من تاريخ الإسلام. أولهما من عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، وقد مر بنا أنهما لم يمارسا شيئاً من التعذيب ـ دون أن نهمل الروايات المختلف عليها بشأن قتل المرتدين بأمر علي. وقد عرف الإثنان بعمق العلاقة مع الجمهور إلى جانب قدر ملحوظ من التسامح في العقوبات الشرعية تميز به عمر. ومن الملاحظ بخصوص علي أن أيامه لم تشهد أعمال قمع دموية من النمط الذي تشهده لفي العادة مراحل الانتقال الحادة في التاريخ. وهي المرحلة التي شهدتها خلافته واستغرقتها على قصرها ثلاثة حروب طاحنة انتهت بالانهيار المريع للإسلام الأول. وتضمنت رسائله إلى الولاة تعليمات مشددة بشأن التعامل مع الرعية على أساس التسامح والعلاقة الإنسانية التي تجمع بين الحاكم والمحكوم في تعارض مع تلك النزعة الانتقامية التي اشتمل عليها قانون العقوبات القرآني. ومع أنه التزم بنصوص هذا القانون في القضايا الداخلية في اختصاصه قد قامت سياسته خارج هذا الاختصاص على التعاطف مع البنيان الجسدي للإنسان. ولدينا عن عمر بن الخطاب مرويات عديدة تشير إلى تجنبه سفك الدماء حتى في حدود الاختصاص القرآني المشمولة بقانون العقوبات. وفي طبقات ابن سعد رواية هامة توضح اتجاهه في هذا الشأن تقول أن والياً كتب إليه أن رجلاً وجد زوجته مع رجل آخر فقتلهما. وكان عمر قد عمم على الولاة أن يعرضوا عليه القضايا التي تتضمن أحكاماً بالإعدام أو القطع ليبت فيها بنفسه، فكتب إلى الوالي كتاباً علنياً بإعدام الرجل وكتاباً سرياً بأخذ الدية منه. وكان غرضه من هذا تطبيق الحكم الشرعي رسمياً، مع ما في إعلانه من توفير عامل الزجر، والالتفاف عليه عملياً بسبب نفوره من هذه العقوبات، ويأتي ضمن هذا التوجه عفوه الكوميدي عن الهرمزان. يقف وراء سلوك عمر وعلى عامل دنيوي ـ اجتماعي يرتهن في مجمل الأصول البدوية والاجتماعية التي ساهمت في تكوين شخصيتها إلى الحد الذي يمنع من الحكم عليهما وفقاً لاعتبارات دينية خالصة، أي بوصفهما رجلي دين من النمط الشائع. ومن دون أن نتعسف التشكيك في جدية إيمانهما الديني فمن الواضح أنهما قد أعطيا في سياستهما هذه مثالاً على الدور الذي يمكن أن تلعبه الأخلاق في تخفيف قسوة القانون. المثال الآخر من رجال الدين المعاصرين. إن انتماء هذه الفئة إلى الطبقات الحاكمة الفاسدة قد عزز المنحى الديني الخالص في تكوينهم النفسي. وبالنظر لوجودهم خارج العصور الإسلامية فقد حيل بينهم وبين استيعاب العناصر الدنيوية في الإسلام الأول أو رؤية الطبيعة التعددية لحضارة الإسلام الذاهبة بشكل جعلهم يمثلون العقيدة الدينية بوصفهم مؤمنين وليس مجرد مسلمين وفق المعاييري الانثروحضارية للإسلام. ومن هذا المنطلق ينبغي أن نتوقع ارتهاناً معيناً بين حضور هذه الفئة في موقع ما واستشراء حالة القمع في ذلك الموقع. ويمكن أن نتوفر من هنا على تفسير مقبول لاتجاه الدول الدينية المعاصرة في العالمي الإسلامي إلى التمسك بالتطبيق الحرفي لقانون العقوبات القرآني ـ مع تجاوزه في نفس الوقت بالتشدد في الأحكام التي عرضها الفقهاء الأقدمون برطيقة مرنة ومتسامحة ذكرنا بعض وقائعها في القسم الأول. وبصرف النظر عن اختلافات سياسات هذه الدول، مما يوجب تصنيفها وفق معايير مختلفة على صعيد التحليل السياسي، فإن التركيب الديني الخالص الذي تشترك فيه يعرب عن نفسه في شيوع نهج فاشي على مستوى العلاقات الاجتماعية يحمل من بعيد ذكريات الغضب الإلهي الذي نفس عنه النبي نوح بالقرابين المشوية. وهكذا تواجهنا حالة معكوسة تماماً تقوم فيها الأخلاق الدينية بتشديد قسوة القانون، بالارتهان مع ظرف مساعد يتاح فيه للوعي الديني أن يتبلور ويعزز معطياته بقدر أوفر من الاستقلال. إن التجارب المستفادة من الأديان تزودنا بأداة للاستنناج يمكن أن نستخلص منها قابلية العوامل المكونة للسلوك الديني لتكوين شخصية دموية فاشية المزاج معادية للإنسان، ومن المعروف أن الوازع الديني قائم على التخويف، وهو المهمة الأساسية لرجل الدين الذي تخصص في تحذير المؤمنين من غضب الآلهة، لكنه كان في نفس الوقت يساهم في تطبيق الغضب الإلهي على رعاياه. وللأديان أدوار مشتركة في هذا المضمار تتفاقم في الحالات التي تجتمع فيها سلطتان متكاملتان دينية وزمنية حيث تتداخل عوامل الخوف الروحي من القوى الخارقة مع الإرهاب الحكومي ـ الإكليروسي. و تنفرد الأديان السماوية هنا بعاملين إضافيين يقترن أولهما بعقيدة المهابدة العشوائية التي تحدثنا عنها آنفاً، وهي غير معروفة في الأديان الوثنية أو غير السماوية بوجه عام. العامل الثاني يتعلق بمفهوم سماوية الدين الذي يرتكز في ملابسات نفسية تتحدد بدورها في عاملين متداخلين: وجود القوة المطلقة التي تتمتع بالقدرة الكلية وتنفرد بالجبروت، مع الامتداد الجغرافي الهائل الذي يتداخل مع عقيدة الوحي في هذه الأديان. إن اطمئنان رجل الدين السماوي إلى الموقع المتميز الذي يحتله في الكون بحكم علاقته الخاصة جداً بالسماء يعطيه شعوراً متضخماً بالهيمنة على رعاياه مشفوعاً في نفس الوقت باستصغارهم. ويعني المأثور الديني بالمقارنة بين ضآلة الإنسان وضخامة الوجود الإلهي ويذهب في اعتباره الإنسان عبد الله إلى جعله حاجة أو شيئاً غير ملموس في حساب السماوات، كما يستخدم جسم الإنسان لإشعاره دائماً بحقارته. ويعبر رجال الدين عن الإنسان بكونه يبدأ: نطفة مَذره وينتهي جيفة قذرة وأنه يحمل ما بينهما العَذَرة ـ أي الخراء. لا شك أن الطبقات المالكة قد استفادت من هذا الجو النفسي الذي يعيش فيه أهل الأديان السماوية لاستخدام وسائل ناجعة في الإرهاب السياسي. ولو تجاوزنا نموذجاً شائعاً كاليهودي مناحيم بيجن وهو قليل في اليهود لأنهم لم يحكموا إلا قليلً، فسوف نعثر على الحالات الدالة الصالحة للاستقراء في تاريخ الديانتين الكبيرتين: المسيحية والإسلام. ولكن لما كان موضوعنا الراهن هو الإسلام فسوف نمر بالمسيحية مروراً سريعاً لنفرغ بعدها لاستقصاء العناصر القمعية في الإسلام من حيث علاقتها بالتدين. من المعروف أن المسيحية تخلو من قانون العقوبات، وأن المسيح عارض قانون العقوبات اليهودي، الذي اقتبسته الشريعة الإسلامية فيما بعد. ولكن الكنيسة القروسطية في أوربا سلكت سبيلاً آخر مستمداً من روح الأديان، قائماً على تلبية المطالب الدنيوية في ديانتها لتفرض العقوبات التي تلائمها بحرية أكبر. وهكذا، ففي مقابل التمسك النظري للمؤسسة الإسلامية بجعل النار وسيلة خاصة بالخالق، اتخذت الكنيسة الأوروبية منها منسكاً مقدساً لتعميد المفكرين والفلاسفة، وقد ظلت الكنيسة طوال العصور الوسطى وشطراً من عصر النهضة مصدر الإرهاب الوحيد تقريباً في أوروبا. وكانت كوادر الإرهاب تتألف في العادة من الاكليروس الذين كانوا يديرون هيئات التحقيق والمحاكم ومحاكم التفتيش بأنفسهم وينفذون أحكامهم بأيديهم. ولما ظهرت حركات الإصلاح الديني لم يتوقف هذا الدور وإنما انتقل إلى أيدي جديدة. وقد مرت بنا إجراءات كالفن في جنيف. وكان الإرهاب يتقلص مع تقلص سلطة الكنيسة وظهور الدول العلمانية التي فصلت الدين عن الدولة. ولهذا السبب استمرت محاكم التفتيش في إسبانيا الكاثوليكية المتعصبة حتى أوائل القرن التاسع عشر حيث أغلقت نهائياً بأمر الامبراطور العلماني نابليون بونابرت. استدراك: ينبغي التنبيه إلى أن القمع المسيحي اقتصر على الكنيسة الأوروبية، أما الكنيسة الشرقية التي تألفت رئيسياً من نصارى العرب والسريان فلم تتورط في هذه الأدوار. وقد يكون الفضل في هذا لعدم وصولها إلى السلطة. فالكنيسة الشرقية لم تجد الطبقة الاجتماعية التي تحتاج إلى خدماتها، كما أن المسيحية لم تصبح ديناً سائداً في الشرق حتى قبل الإسلام.. وحسب علماء النفس فإن النزعات الخطرة لا تنطلق إلا إذا صادفت وسطاً مادياً مساعداً. وقد لعبت الكنيسة الشرقية التي تمركزت أساساً في الشرق الأوسط، دوراً أقرب إلى الروح المسيح ـ لا سيما في الجهات التي لم تتمركز فيها سلطة بيزنطية ـ وقامت بوظائف مختلفة تماماً عن وظائف قرينتها في أوروبا: رعاية الفقراء من المؤمنين وتعهد الثقافة الهللينية حتى تسلمها العرب ـ الإسلاميون منها. ويبدو أن المسيحية الشرقية قد تبلورت في هذا الخط السلمي المعبر عن بساطة المسيحية المبكرة بشكل أضفى عليها مسحة اجتماعية دنيوية حررتها إلى حد ما من عقدة الإرهاب الديني. وقد بلغ الأمر في بعض الحالات إلى التصادم مع مقتضيات الحياة الجاهية التي قامت على الحرب. يعبر عن هذه النقطة بوضوح نص شعري هام لشاعر تغلبي من الجاهلية هو حُنى (كقصى) بن جابر المتوفى عام 570م تحدث فيه عن معاناة قبيلته المسيحية، التي عانت في العراق، من عسف السلطات الساسانية آنذاك. وشاهدنا فيه قوله: وقد زعمت بهراء أن رماحنا.. رماح نصارى لا تبوء إلى الدم. وبهراء قبيلة أخرى يظهر أـنها عيرت تغلب أو استخفت بها لأن دينها يضعها في موضع ضعيف، بوصفه دين سلام. وقد انتفض الشاعر ضد هذا الاستخفاف وأكد في البيت التالي بحمية لقاحية: نعاطي الملوك السلم ما قسطوا لنا.. وليس علينا قتلهم بمحرم. وعلى أي حال فقد كان مقدراً للمؤسسة الدينية في الإسلام أن تقوم بهذا الدور، والإسلام كما يقول إنجلز دين موافق للشرقيين لاسيما العرب. أي أنه موافق الشرق أوسطيين دون الشرق ـ أقصويين الذين اعتنقوا البوذية وديانات مقاربة لها. أما الإسلام فوصلهم متأخراً فلم يتغلغل فيهم كما تغلغل في الشرق الأوسط. وقد بقيت البوذية حتى زمن متأخر هي المصدر الرئيسي للإرهاب الديني في تلك البقاع. خلاصة من مجمل ما سبق: بينت حتى الآن أن قمعية الشخصية الدينية ترتهن بوعائها السيكولوجي المقتوم بالمكونات الثلاثة: نزعة القرينة، عقيدة الإبادة الجماعية، وعقيدة العذاب الأخروي، والأولى كما ذكرت مشتركة بين الأديان. والثانية هي عقيدة يهودية انتقلت بالوراثة إلى المسيحية والإسلام، أي أنها مخصوصة بالأديان السماوية. أما عقيدة العذاب الأخروي فترجع إلى عقيدة البعث المشتركة في معظم الأديان، التي تتفق على فكرة العذاب وإن كانت تختلف في وسائله. وتتفرد اليهودية والإسلام بعامل رابع في تكوين السلوك القمعي لإتباعهما هو قانون العقوبات المعروف في الإصطلاح الإسلامي باسم الحدود.. تقوم هذه العقوبات على أساس الانتقام من مرتكبي المحرمات الدينية. وهي مستمدة في الأصل من قانون حمورابي. وهذا القانون من أقدم التشريعات في التاريخ كما هو معروف، ويعتبر ظهوره في الألف الثاني قبل الميلاد بمثابة قورة في تاريخ التشريع. لكن اليهودية استعادته بعد ألف عام من ظهوره، أي في مرحلة كانت تفترض تطويره وتجاوزه إلى مدى يتطابق على الأقل مع حدة النقد الذي وجهته الأديان السماوية إلى الأديان الوثنية التي ظهر هذا القانون في عهدها. وقد استحدثت اليهودية على النقيض من هذا التوقيع مبدأ لم يتضمنه قانون حمورابي، هو مشاركة الجمهور في تنفيذ بعض العقوبات، المفروض أنها من اختصاص السلطة. ويشمل هذا المبدأ بوجه خاص عقوبة الرجم على الزاني والزانية. وهذه العقوبة سومرية الأصل وكانت تفرض على المرأة المراهطة. وتشير قصة الخاطئة التي تجمع اليهود لرجمها فأنقذها المسيح إلى انتشار هذه الممارسة في اليهودية. ومن المعروف أن المسيح الأول أبطل عقوبة الرجم، لكن الإسلام أخذ بها وطبقها على الطريقة اليهودية، أي طريقة مشاركة الجمهور في التنفيذ، بينما اشترط فيما عداها أن يعذب المحكوم علناً ـ «ليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين». وتثير المشاركة في تنفيذ العقوبات أشكالاً تتعلق بالتكوين النفسي للمؤمنين والطابع القمعي للأديان للثواب لكونهم ينفذون حكماً إلهياً. ويتأتى الثواب من قدرة المؤمن على توجيه ضربة لرأس المرجوم بحجر أو عظم أو قطعة خشب يتحصل بها رضوان الله. ثانياً أن تنفيذ الرجم في حالة كون المرجوم امرأة يتخذ بالنسبة للمؤمن الرجل وضعاً خاصاً، يشتمل على عنصر تعويض نفسي عن مطالب أهدرتها الزانية حين وهبت نفسها لرجل غيره. وعندئذ تكون المشاركة في الرجم منفساً جنسياً يضاف إلى الغيرة الدينية فيكون عاملاً على زيادة القسوة في تنفيذ العقوبة. الثالث والأهم أن اشتراك الجمهور في تنفيذ العقوبات يؤدي إلى تعميم وظيفة الجلاد بجعلها منسكاً شعبياً متلبساً بالإيمان ويقوم الجمهور هنا بدور المطبع الذي ينفي الشذوذ عن هذه الوظيفة بل والارتقاء بها إلى مستوى أعلى تكون فيه وسيلة لنشدان الثواب. يمكن القول من هنا أن قانون العقوبات السماوي يخلق بطبيعة أحكامه وطريقة تنفيذها، بما في ذلك مبدأ الاشتراك في العقوبة، حالة إرهاب متعاكس يقع على الجمهوري كما يقع منه. ففي ظل هذا القانون يعيش الناس في رعب مستمر من الوقوع تحت طائلة إجراء شرعي قد يؤدي إلى الموت بطريقة بشعة أو فقدان أحد الأعضاء لدى ارتكاب هفوة تنطبق عليها إحدى العقوبات. لكن الجمهور مقتنع بحكم إيمانه الديني بقداسة العقوبة ووافق على تطبيقها بحق الغير، وعلى المساهمة في التطبيق، وهذا يعني أنه يجمع بين صفتين متضادتين: فهو ضحية، وهو جلاد في آن واحد.. وعندما نتذكر أن جمهور الأديان السماوية مشبع برؤى العذاب الأخروي وأساطير عذاب الاستئصال (المهابدة العشوائية) ويعيش في وسط يصطبغ يومياً بدماء القرابين المسفوكة للفداء أو النذر، فلا بد لنا أن نتوقع بناء نفسياً يتماهى بالقمع بالمتعاكس فيدفع إلى التداخل معه حالات القمع التعذيبي التي تقوم بها الدولة مدفوعة بمصالحها في الحكم. يبدو من هنا مثول الوجدان القمعي كقاسم مشترك بين عناصر المجتمع على اختلافها. ويمكن أن يلاحظ في هذا الصدد أن عدم تعريض المجتمعات العربية إلى تغير جذري في تركيبها الطبقي ـ الموروث أساسياً من البرهة العثمانية ـ قد ساعد على احتفاظ هذا الهاجس بموقعه المؤثر في الوعي العام. وإذ يكون التغير الاجتماعي حتى الآن على درجة من عدم العمق تمنعه من إحداث تحولات جذرية في سلوك الناس ووعيهم، فإن الذي تغير على هذا الصعيد هو في الغالب، الأشكال التي يتجلى بها الوجدان القمعي. لقد كان المؤمنون يطلبون الأجر بالمساهمة في رجم الزناة ويلاحقون المرجوم إذا هرب ليحصلوا منه على شدخة في رأسه تسجل لهم نقطة إيمان إضافية. أما المعاصرون فقد توفرت لهم وسائل جديدة لتطمين هذا الهاجس بعد أن تمت، إلى حدود معينة، تنحية الإيمان الديني لصالح الإيمان السياسي.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هادي العلوي ... حياة رجل صادق (Re: Amjed)
|
الحجاج وهتلر غراران (أي متشابهان) للقمع في حضارتين الحجاج بن يوسف بن الحكم من قبيلة ثقيف الحجازية التي استوطنت الطائف في العصر الجاهلي. وكانت من بين القبائل التي هجرت البداوة واشتعلت في الزراعة باستقرارها في الطائف. هي بلدة تمتعت بوفرة المياه فكانت من أرياف العرب في الجاهلية. وقد استزرعها بنو ثقيف وقريش، التي اعتمدت في معيشتها على البلدة فاتخذت فيها البساتين والمزارع وصارت لها منتجع ومصيف. واشتهرت الطائف بالكروم وحدائق الزهر. وهذه كانت توفر مادة التحلية والتطيب لبئر زمزم حيث كانت تجلب زهور الطائف وتنبذ في البئر حسب مواسمها وكان استقرار ثقيف في م عشر زراعي باعث على قدر من التحول في تكويناتها الاجتماعية والذهنية. فبرز من بينها دهاة تجاوزوا بساطة الشخصية البدوية ليكون لهم موقع في سيرورة تطور ستقودها قريش التاجرة فيما بعد. وقد تساءل خصم محمد في مكة عن السر في نزول الوحي عليه، وليس على رجل آخر من قريش أو ثقيف. (آية 31/زخرف). واتجه أفراد من ثقيف إلى تحصيل المعرفة فسافر الحارث بن كلدة (بفتحتين) إلى إيران ودرس في مدرسة جنديسابور الطبية التي كان يديرها السريان. وهو في مصادر تاريخ العلم العربية طبيب العرب الأول. وقد عاصر النبي فلم يعارضه ولم يؤيده وبقي على حاله هذه بعد استكمال أسلمة العربيا وعاش إلى خلافة معاوية. وكان النبي يوجه المرضى من أصحابه للاستطباب عند الحارث. وكانت له اهتمامات عدا الطب، منها الموسيقى. وقد تعلم الضرب على العود في إيران واليمن، التي يبدو أنه استفاد شيئاً من بقايا حياتها الحضارية الغابرة. ويمكن اعتباره من رواد الثقافة الإسلامية بتطويرها على أساس الجمع بين مصادرها المحلية والخارجية، وبهذا الاعتبار فهو أحد آباء الحضارة التي أنشأها القرشي محمد. وبرز من ثقيف شخصيات قيادية أسهمت مع محمد في التأسيس من جوانبه العسكرية والسياسية. وينظر إلى المغيرة بن شعبة الثقفي كأحد الدهاة العرب.وقد استعان به محمد في المهام الجليلة والمواقف الصعبة. وفي صدر الإسلام «في وقت مبكر من ظهور الهرطقة الإسلامية» التمع المختار بن عبيد الثقفي كقائد للعبيد والموالي وكمؤسس نحلة من الغلاة تجاوزت الأطر الرسمية للإسلام. وبرز من ثقيف من يمكن اعتباره أميز قائد بين الفاتحين الأوائل.. فقد قاد محمد بن قاسم الثقفي جيشاً من العراق فتح به السند وأدمج هذا الشطر المهم من القارة الهندية في مجتمع الإسلام الجديد. وكان عمره يقل عن العشرين. وفي مجرى التفاقم اللاحق للاستبداد الأموي حظيت هذه الدولة الرهيبة بزعيمين من ثقيف تمثلت فيهما حاجة المستبد إلى أدوات قمع مكافئة لمتطلبات الحرب الأهلية التي استعرت في خلافة الأموي عثمان واشتد أوارها مع انفراد بني أمية بالخلافة. وهذان هما الحجاج بن يوسف الثقافي رديف عبد الملك بن مروان ويوسف بن عمر الثقفي رديف هشام بن عبد الملك. وكان الأخير طباق الأول في دمويته المنفلتة لكنه انكسف في ظل ابن عمه فلم يذكره التاريخ. والشهرة حظوظ! ولد الحجاج في الطائف عام 40 هـ ونشأ فيها ثم انتقل إلى الشام في خلافة عبد الملك. وأظهر الولاء للدولة قبل أن ينتظم في سلكها، فكان ينبه إلى مواضع الخلل في الأداء ويتحسس ما يضر بمصالحها. ويخبرنا ابن عساكر في ترجمة الحجاج من «تاريخ دمشق» أنه مر يوماً بقاص يحدث الناس عن سيرة أبي بكر وعمر بن الخطاب فاستاء وقال: «ما يفسد الناس على أمير المؤمنين إلا هذا وأشباهه يقعدون ويقعد إليهم أحادث الناس ويذكرون سيرة أبي بكر وعمر فيخرجون (يثورون) على أمير المؤمنين». ويفسر هذا التدخل من الحجاج أمراً أصدره عبد الملك بن مروان بمنع الكلام عن سيرة أبو بكر وعمر. وبقي الأمر ساري المفعول حتى خلافة عمر بن عبد العزيز الذي رتب بنفسه قصاصاً يحدثون الناس عن هذه السيرة. وكانت بداية خدمة الحجاج في الجهاز الأموي اشتغاله شرطياً بإمرة روح (بفتح الراء) بن زنباع الذي كان بمثابة وزير لعبد الملك. وظهرت كفاءته في الجهاز مبكراً فعهد إليه عبد الملك بقيادة جيش جرار إلى الحجاز للقضاء على انفصال ابن الزبير، وأنجز مهمته على الوجه المطلوب فأعاد الحجاز إلى طاعة عبد الملك. وورد عنه في أثناء ذلك ما يدل على ألمعية ثقفي لا يخضع في أدائه السياسي لوساوس العقيدة. فقد حاصر ابن الزبير في الكعبة وأمر برميها بالمنجنيق وحدث أن تجمعت غيوم راعدة فنزلت صاعقة على جيش أهل الشام وقتلت عدداً منهم. فتطير الشاميون واعتبروا ذلك رداً إلهياً على قصف الكعبة. فأوضح لهم الحجاج: «أنا ابن تهامة وهذه صواعقها» وطلب إليهم التريث حتى يصيب عدوهم ما أصابهم.. وفي اليوم التالي نزلت صاعقة على جيش ابن الزبير وقتلت عدداً منهم.. وبذلك استطاع تجاوز الأزمة في معسكره. وعينه عبد الملك بعد تصفية ابن الزبير والياً على الحجاز. ثم وجد كفاءات تابعه الجديد أوسع مما يحتاج إليه في الحجاز فولاه على العراق. وكانت ولاية العراق أيام الأمويين مركز المشرق كله فصار الحجاج حاكم البقاع الممتدة ما بين العراق ونهايات الثغور في آسيا الوسطى والهند، فكان بمثابة «امبراطور ثان» للأمويين. كان العراق منذ اندلاع حركة المعارضة في الإسلام أيام الخليفة الثالث قد صار مقرها الدائم. ومثلما كان الوالي الأموي ينظم منه نشاطات المشرق السياسية والعسكرية كان المعارضون من الشيعة والخوارج ينظمون حركة المعارضة في الولايات والأطراف مع الامتداد شرقاً وغرباً. وقد ترتب على الحجاج وهو يواجه مسؤولياته الجسام في إدارة إمبراطوريته لحساب الأمويين أن يتعامل مع حركة المعارضة بالقمع الدموي المنفلت. وليس من المعلوم ما إذا كان الحجاج ينطوي على نزعة دموية أو أنه فتن القمع تبعاً لمطالب أمن الدولة الاستبدادية. وبالرجوع إلى مثال زياد ابن أبيه نقف على حالة مرضية ناشئة عن كون زياد إبناً غير شرعي وهي استغلها معاوية حين سلمه العراق بعد أن ألحقه بأسرته وصار إبناً شرعياً لأبي سفيان. والحجاج لم يعان من هذه العقدة فقد ولد لأب شرعي ونشأ نشأة سوية وسط عشيرته المرموقة الجانب. وتقول بعض الحكايات أنه كان يتلذذ بالقتل. لكن ذلك غير ثابت في سلوكه اليومي مع الناس. يلاحظ أيضاً أن القمع الأموي كان موجهاً ضد المعارضة والطامعين بالسلطة، ولم يشمل الأتباع والأعوان كما سيحصل فيما بعد أيدي العباسيين. وكان أتباع وأعوان الحاكم الأموي آمنين على حياتهم واشتغلوا في وسط غير ملغوم بمؤامرات البلاط التي عرفت في سائر الامبراطوريات ومنها امبراطورية العباسيين. ويرجع ذلك إلى استمرار تأثير اللقاحية العربية طيلة الحكم الأموي مما يتقدم في تحديد ابن خلدون للحقبة الأموية بكونها داخلة في تصنيف البداوة. ومن هنا لم يكن الحجاج مرعباً لحاشيته كما كانت حالة الخليفة العباسي والسلاطين الذين ظهروا على هامش العباسيين. لكن الحجاج اتباع سياسة قمع استثنائي في تاريخ الإسلام. ولا شك أنه اتصف بخصائص جلاد هي التي جعلته غرار خاص للجلادين المسلمين. لكني أعتقد أن جانباً مهماً من غراريته يرتهن بحقبته التاريخية من جهة بدت بالنسبة له حقبة تأسيس للاستبداد الإسلامي. وكما قلت للتو فالخليفة العباسي كان مرعباً لخصومه وحاشيته على السواء، وقد لا يقل عدد ضحايا بعضهم أو وتيرة وصورة تنكيلهم عما كان عند الحجاج إن لم نجد فيها زيادة مرهونة بدورها بتعقد الصراع الاجتماعي والسياسي بعد الأمويين. وينبغي أن نضع هنا مسألة رد الفعل الذي جوبه به قمع الحجاج من جانب جمهور كان لا يزال حديث العهد بعصر اللاسلطة واللقاح. فضلاً عن ظهره كنقيض لشريعة مستجدة قننت القمع في حدود لا تسمح بانفلات من هذا المستوى. ومهما يمكن فالحجاج تبلور في الوعي الإسلامي كغرار متفرد للقمع الدموي والنظر إليه من هذه الجهة يمثل نظرة الناس إلى حكامهم بوصفهم ورثة الحجاج. في خطابه الأول على منبر الكوفة يوم استلم ولاية العراق قال الحجاج عبارته المشهورة: «إني لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها». هو خطيب من البلغاء، وكان الحسن البصري يقول: «ما سمعت الحجاج يخطب إلا وظننت أن أهل العراق يظلمونه!» وفي هذه الصورة البلاغية التي أعلن بها سياسته حلّق الحجاج في خياله الأدبي إلى النقطة التي يتكامل فيها أديب مبدع مع جلاد متفرد. وهي تذكرنا بالخيال البريطاني في الهند حينما كان الموظفون البريطانيون يحشرون قططاً صغاراً في صدور الفلاحات لإرغامهن على دفع الضرائب. والجمع بين «بهاء»الثدي و«بهاء» القطة الصغيرة يقترب في إبداعيته من الجمع في الصورة الأدبية بين رؤوس البشر وعناقيد الكروم التي نضجت للقطاف. في سعيه إلى بلورة سياسته القمعية استقصى الحجاج سيرة زياد بن أبيه للاستفادة من تجاربه ولعله تعرف عن طريق سماره إلى تجارب أقدم الملوك الروم والساسانيين. والتمس له سنداً من السنة فسأل الصحابي أنس بن مالك عن أقصى عقوبة عاقب بها النبي فحدثه حديث العرنيين (بتفح العين والراء) وهم جماعة وفدوا على النبي متظاهرين بالإسلام فتقبل إسلامهم ولما خرجوا ارتدوا ولقوا في طريقهم راعياً كان يرعى الغنم للنبي فمثلوا به وغرسوا الشوك في عينيه فوجه إليهم قوة ساقتهم إليه ففعل بهم مثلما فعلوا بالراعي. يقول أنس إن الحجاج بعد أن سمع حديث العرنيين خطب في الجمعة فقال: «تزعمون أني شديد العقوبة وهذا أنس حدثني عن رسول الله أنه قطع أيدي رجال وأرجلهم وسمل أعينهم»، قال أنس: «فوددت أني مت قبل أن أحدثه» وكان أنس يداري الحجاج وغيره من أهل السلطان لتمشية أموره المعيشية فلم يعترض عليه ليوضح له أن النبي فعل ذلك على سبيل المقابلة بالمثل في جريمة عادية وأنه لم يطبق هذه العقوبة على خصومه السياسيين. وقد استاء الحسن البصري لما بلغه حديث أنس وقال ليته لم يحدثه. ومن ثم جرى الفقهاء على التحرج في رواية هكذا أخبار حتى لا يساء استغلالها، كما مر في متن البحث في تاريخ التعذيب. وسيلة القمع الأرأس للحجاج كانت القتل صبراً (الإعدام). ويقدر المؤرخون عدد من أعدمهم في غضون العشرين سنة التي حكم فيها العراق والمشرق ما بين مئة ألف ومئة وعشرين ألفاً. ويمكن التشكيك في الرقم. غير أنه يبقى مهما أنزلناه بعد احتساب نسبة المبالغة المألوفة عند الناس في مثل هذه الحالات ـ فريداً في بابه، ولا يفوقه أو يجاريه في تاريخ الإسلام إلا عدد الذين أعدمهم أبو مسلم الخراساني صاحب الدعوة العباسية. وقد قدر ما بين مئة ألف وستمائة ألف. مع احتساب المبالغة هنا أيضاً. وطريقته بالإعدام قطع الرأس بالسيف. والذبح من الرقبة أو القفا في حالات. وطبق التعذيب للاستجواب. وتعذيبه هو الضرب والجلد رئيسياً. واستخدام طريقة بشعة في تعذيب رجل من خصومه لإرغامه على الكشف عن أمواله فكان يوضع عارياً على قصب مشقوق يردد جسد فوق القصب. لكن تعذيباته لم تتطور إلى المستوى الذي بلغته عند العباسيين، الذين كانوا يشوون الثائرين عليهم فوق نار هادئة، (بنفس الطريقة التي اتبعها الألمان في حرب الفلاحين) واستعمل الضواري في بعض العقوبات ولكن ليس على طريقة الرومان. والحدث البارز هنا هو قضية اللص الفاتك جحدر: أطلق عليه أسد جائع بعد أن شد يده اليمنى وأعطاه السيف باليسرى. وقد تمكن جحدر رغم ذلك من قتل السبع فعفا عنه الحجاج. واقتدى بزياد بن أبيه في إعدام النساء. وكن قد نشطن في صفوف الخوارج. واقتبس طريقة زياد أيضاً في توسيع المسؤولية الجنائية لتشمل أقرباء المطلوب من الأبرياء. كما اتبع سياسته في منع التجمهر وكان يمنع الناس من الركوب مترادفين وألزم كل رجل أن يركب وحده. ومن أبشع إجراءاته القمعية إنزال الجنود مع العوائل بدلاً من أن يبني لهم معسكرات خاصة بهم يعشون فيها. وكان هذا الإجراء من أسباب ثورة عمت العراق والمشرق هي ثورة ابن الأشعث. وكانت من خارج صفوف المعارضة وقد قام بها وقادها نفس أتباعه وأعوانه من العراقيين. وانضم إليها الناقمون على سياسة الحجاج وبني أمية في بلدان المشرق. ولما بني مدينة واسط واستعصهما له، استحدث جوازات دخول للقادمين إليها. وأنشأ سجناً كبيراً في الكوفة يزعم المؤرخون أنه كان بلا سقوف ولا غرف فكان السجناء يتكدسون فيه دون حاجز فيما ينهم. وقد فتح السجن بعد موته. ويختلف الرواة في تقدير عدد من وجد فيه. أقلهم يقول إنهم أكثر من عشرين ألف سجين. وقال آخرون إنهم ثلاثة وثلاثون ألفاً. ونقل ابن عساكر رواية لمحدث يدعى ابن الأعرابي أنهم كانوا ثمانين ألفاً منهم ثلاثون ألف امرأة. وينبغي الشك على الأقل في عدد النساء لأن المسيسات منهن اقتصرن في ذلك الوقت على الخوارج ما لم نتوقع أن يكون بين السجناء متهمون بجرائم ومخالفات عادية. وتوسع الحجاج في السخرة التي استحدثها معاوية فكانت معظم منشآته ومشاريعه تبنى بتسخير الفلاحين النبط.. وقد واجه هؤلاء الفلاحون محنة أخرى من الحجاج حين بدأوا يهجرون قراهم ويهاجرون إلى المدن. وسببت الهجرة انخفاضاً مريعاً في الإنتاج الزراعي. فشن الحجاج حملات لإعادتهم إلى الريف واستئناف الزرع. وكان عليه استخدام أساليب التحقيق البوليسية لمعرفة النبطي من العربي. وقد تعلموا العربية بسرعة لأن لغتهم السامية كانت قريبة الشبه بها. والنبطي حين ينطق بالعربية لا ينطقها بلكنة الأعجمي نظراً لتماثل الأصوات. ومن وسائل الكشف التي استعملها جهاز الحجاج شم الأيدي إذ يقال إن أيدي النبط ذات رائحة تتميز بها. ولعل هذه من طريقة عملهم وعيشهم مع قلة اهتمامهم بالنظافة على سوية الفلاحين. وكان النبط الذين يكتشفهم جهاز الحجاج يحشرون ويعادون إلى قراهم، وكانت هذه المظلمة سبباً آخر لوثبة ابن الأشعث، التي أسهم الفقهاء في تأجيجها. وكان الفقهاء يأتون إلى أماكن تجميع النبط معلنين احتجاجهم بالبكاء معهم. ولم يكونوا قادرين على غير ذلك في المعارضة العلنية لسياسة الحجاج قبل أن ينخرطوا في ثورة ابن الأشعث الدامية. ولم تحقق الحملات، على أي حال، مردوداً مكافئاً بسبب توزيع المهاجرين على المدن العراقية. ثم أصيبت بالإخفاق التام بعد حركة ابن الأشعث. وقد تحدث المؤرخون عن هبوط الإنتاج الزراعي زمن الحجاج إلى حوالي الخمس مما كان في عهد الراشدين وأوائل الأمويين من خلال حصائل الخراج التي أوردوها لمختلف الحقب. ويرتبط ذلك بالنزوح الجماعي للفلاحين.ومن الجدير بالذكر أن هذا الشكل من الهجرة كان يشجع عليه الإسلام الذي اتجه إلى توسيع رقعة المدن على حساب الريف والبوادي. وحرم على المهاجر أن يعود إلى موطنه السابق. كما حرم إعادته من طرف السلطة. وتفنن في ذلك بحديث: «لا تعرب بعد الهجرة» أي لا عودة إلى مواطن الأعراب لمن هاجر إلى المدن. كان كل إنسان في عهد الحجاج عرضة للسجن أو القتل أو الإبعاد لأي تصرف لا يرضى عنه الوالي. ومع بقاء اللقاحية العربية فاعلة في وجدان الناس لا سيما فرسانهم وشعراءهم فقد حصل نفور واسع من سياسته التي تضمنت الإذلال المتعمد لأي شخصية حرة تتمسك بثوابتها الجاهلية أو الإسلامية بإزاء سلوك الوالي. وكانت علاقته مع الشعراء سيئة خلافاً لسائر الحكام المسلمين. ولم يتقرب إليه سوى جرير بن الخطفي وهو من خلصاء الأمويين وكانت علاقته بهم علاقة مادح بممدوح من المستوى الذي تمعير في البلاط العباسي. وقد تحداه الفرزدق رغم أنه اضطر إلى مدحه: ومن قبلُ ما أعييتُ كاسرَ عينه زياداً فلم تَعْلق عليَّ حبائله وهرب منه شعراء ولغويون إلى الجزيرة العربية. منهم أبو عمرو بن العلاء أحد كبار جامعي اللغة العربية قال: طلبني الحجاج فهربت إلى واد بصنعاء فأقمت زماناً فسمعت إعرابياً يقول لآخر: قد مات الحجاج فقال الأعرابي: ربما تجزع النفوس من الأمر له فُرجة كحل العقال. فلم أدر بأي شيء كانت أشد فرحاً أبموت الحجاج أم بسماع البيت.. ويحدث آخر: هربت من الحجاج حتى مررت بقرية فرأيت ######اً نائماً في ظل حب (زير ماء) فقلت في نفسي: ليتني كنت ######اً لكنت مستريحاً من خوف الحجاج. ومررت. ثم عدت من ساعتي فوجدت ال###### مقتولاً فسألت عنه فقيل: جاء أمر الحجاج بقتل الكلاب. أراد صاحب هذا الحديث أن يبين شمول ظلم الحجاج للبشر والحيوانات. لكن في حديثه مدلول مهم ينبغي الالتفات إليه. فالكلاب لم تكن تعارض الحجاج حتى تشملها إعداماته. ثم المنحى الآخر (الوجه الآخر) لهذا الطاغية النموذجي هو ما نجده مشتركاً في مجمل سيرة الحكام المستبدين والدول الاستبدادية القديمة لا سيما في الشرق. إن الأمر بقتل الكلاب هو إجراء يندرج في تنظيمات الحجاج المدنية والصحية. وهنا كانت لرجل ثقيف منجزات مشهودة. والحجاج منظم دولة ومجتمع مرموق. وإليه يرجع أقدم تنظيم للبريد السريع بإنشاء سلسلة منظرات أقيمت بين بحر قزوين وواسط لنقل الأخبار بالإشارة. وقد استعمل فيها الدخان نهاراً والنار ليلاً. وفي مواجهة نقص الإنتاج الزراعي الناتج عن هجرة الفلاحين أنشأ الحجاج مشروعات ري كبرى صممت بطريقة تجمع بين سكان المدن وسكان الريف. ومن أضخم هذه المشروعات نهر حفره من الفرات عند بابل وسماه نهل النيل مضاهاة لنيل مصر. وبنى حول النهر مدينة سماها مدينة النيل استمرت عامرة عدة قرون ثم تقلصت بتمصير الحلة المزيدية في أوساط القرن الخامس الهجري. وقال ياقوت عن النيل أنه خليج كبير يتخلج من الفرات الكبير. وحفر الحجاج نهراً آخر من دجلة في جنوب وسط العراق سماه نهر الصين. نسبة إلى قرية هناك تعرف بهذا الاسم. و نهر ثالث هو نهر الزاب وهو غير الزاب الكردستاني. واستزرع البقاع المحيطة بهذين النهرين. وفي بنائه لمدينته واسط أظهر الحجاج خصاله الشخصية كحاكم متمدن. كان الغرض من تمصير المدينة أمنياً للابتعاد عن الكوفة المعادية له. لكنه بذل جهداً لاختيار موضع ملائم حضرياً ضمن الموقع الاستراتيجي الذي تحدد بتعاً لضرورات الأمن. ولهذا الغرض شكل هيئة من الأطباء لارتياد الموضع. ويلاحظ هنا إناطة اختيار موضع مدينته بأطباء. وقام الأطباء بجولة ما بين عين التمر عند مدينة كربلاء إلى قرب البصرة فوقع اختيارهم على موضع واسط. وذهب نفسه ليراها فاستطاب كما يقول ياقوت ليلها واستعذب أنهارها (أو نهارها) واستمرأ طعامها وشرابها. وكان الموضع مملوكاً لدهقان فارسي فاشتراه منه. وكان بمقدوره كطاغية أن ينتزعه بدون عوض. لكن طغيان الحجاج كان سياسياً. وعني بنظافة واسط فحرم التبول والتغوط داخل حدودها. وعاقب المخالفين بالسجن. وكانت هذه محنة للبدو والفلاحين المارين بها. وكان من المعتاد أن يقضي الغرباء حاجتهم في الفنادق والمساجد لكن البدو لم يتعودوا ذلك. كان آخر ضحية للحجاج هو سعيد بن جبير وهو فقيه من أصل حبشي تتلمذ على يد ابن عمر وابن عباس في المدينة وأقام في الكوفة، ثم انضم إلى حركة ابن الأشعث مع زملائه من الفقهاء. وبعد اندحار الحركة لجأ إلى مكة فقبض عليه واليها الأموي وأرسله إلى الحجاج فقتله بواسط. وكان الحجاج يتوجس من قتله لجلالة قدره. وصادف أن مات بعده بأقل من سنة ويروى أنه كان يهذي في ساعة الاحتضار: مالي ولسعيد.. مالي ولسعيد.. وقد ربط الخيال الشعبي بين موته العاجل، وكان في الخامسة والخمسين ومعافى، وبين قتله لسعيد.. ونسبوا لسعيد أنه قال له عندما قدمه ليقتل، أنه سيكون آخر قتيل يقتله. وقف الوعي اللقاحي مشدوداً أمام ظاهرة الحجاج وكان لم يفق بعد من صدمة زياد وابنه عبيد الله. ولم تنجح إجراءات القمع الاستثنائية في حمل الناس على الهدوء. فكانت حركات التمرد مستمرة طيلة حكمه، وشارك فيها الخوارج بنشاط «بنيما انكفأ الشيعة لالتقاط الأنفاس». وكانت أكبر الثرات هي التي قادها عبد الرحمن بن الأشعث واشترك فيها أهل العراق على اختلاف مواقفهم السياسية وأوضاعهم الاجتماعية. وكانت آخر معاركها أضخمها وهي معركة دير الجماجم التي دامت مائة يوم ولم يتوصل الحجاج إلى كسبها إلا بعد أن توصل إلى شراء بعض الأطراف في معسكر الثوار ليلعبوا في ساعات الصدام الأخيرة دوراً يشبه الأدوار التي لعبها الرتل الخامس في الجيوش العربية في الحروب العربية الإسرائيلية. ومن التحديات الكبرى الأخرى حركة شبب الخارجي وفيها أيضاً بقي الحجاج عاجزاً. حتى ساعده القدر فسقط فرس شبيب به في نهر الفرات أثناء إحدى جولاته القتالية. ووردت حكايات كثيرة عن فدائيين كانوا يردون على الحجاج أو يشتمونه في وجهه ينبغي أن يكون معظمها من صنع الخيال الشعبي. وكان من منتقدي الحجاج في زمانه إمام أهل العراق الحسن البصري رغم أنه عارض الحركات المسلحة بحكم منزعه اللاهوتي. وكان حكمه في الحجاج أنه فاجر فاسق. ولا يقصد بالفجور هنا معناه الجنسي بل المعنى العام للعصيان وارتكاب الكبائر كالقتل ونحوه لأن الحجاج لم يعرف بالإفراط في الجنس ولم يكن زير نساء كما لم يشرب الخمر ولم يشتهر بحب الغناء. وكان عمر بن عبد العزيز يندد بالحجاج في حياته مستفيداً من مكانته كأمير أموي. ولما جاءته الخلافة كان الحجاج قد مات منذ أربع سنوات فنفى أسرته إلى اليمن وكتب إلى عامله عليها: «أما بعد فإني بعثت في عملك (ولاتيك) قدر هوانهم على الله» ابن عساكر 4/84. وفي «إحياء علوم الدين(2/132)» أن عمر بن عبد العزيز عين رجلاً في ولاية فقيل له إنه كان يعمل مع الحجاج، فعزله. فقال له الرجل: إنما عملت له على شيء يسير. فقال له عمر: حسبك بصحبته يوماً أو بعض يوم شؤماً وشراً. ومن ذيول ولاية الحجاج وثبة يزيد بن المهلب في البصرة وكانت تحت شعار العمل بالكتاب والسنة «وأن لا تعاد علينا سيرة الفاسق الحجاج، وكان للحجاج كاتب من أعوانه يدعى يزيد بن أبي مسلم عيّنه زيد بن عبد الملك والياً على المغرب فأراد أن يسير فيهم بسيرة الحجاج في إعادة المهاجرين من البربر إلى قراهم فوثبوا عليه وقتلوه. وأقرهم يزيد على ذلك لتسكينهم. (طبري 5/359). وعقد ابن عبد ربه في «العقد الفريد» فصلاً بعنوان: «من قال إن الحجاج كان كافراً» استوفى فيه أقوال الفقهاء وغيرهم في تكفير الحجاج، والتكفير هنا لازم عن سياسته لا عن عقيدته، لكن الفكر الديني تحرج في إدانة الحجاج. نبه رجال الدين إلى تدينه وإيمانه الصادق. وعند أهل الدين أن المسلم إذا لم يكن من أهل الأهواء (خارجي، أو معتزلي، أو باطني) فهو مستحق للغفران ولا يجوز لذلك الحكم عليه بشيء من أفعاله لأن الإيمان لا يضر معه شيء. أدولف هتلر: أدولف بن ألويس (Alois) ولد أبوه نغلاً فاتخذ لقب أمه إذ لم يكن يعرف أباه. ثم حمل لقب هتلر باختياره. فهو في هذا اللقب «دعي» النسب. وقد ترددت أقوال عن يهودية الفاعل الذي جاء بالويس إلى الدنيا. وإن لم تجد لها سند يوثق به. اشتغل الويس موظف جمرك وتزوج وولد له أولاد أحدهم أدولف. ونفهم من هذا أن أدولف هتلر كان يحمل عقدة زياد بن أبيه، التي خلا منها الحجاج بن يوسف. اتجه أدولف أول الأمر إلى الفن، وكان يهوى الرسم، لكنه أخفق في دخول أكاديمية الفنون الجميلة لأن علاماته الامتحانية كانت دون المطلوب. فبقي على مؤله الثانوي. ولم يبذل جهداً للانشغال من أجل كسب الرزق. وإنما اعتمد على التقاعد الذي ورثته الوالدة من الوالد.. إلى أن ماتت الوالدة وانقطع التقاعد فتشرد أدولف، وكان يعيش في مأوى البلدية متنقلاً من مأوى إلى آخر. ولم تكن له قدرة على توطيد وشائج مع الناس وأظهر نزعة عدم تسامح مبكرة. وفي ثقافته السياسية في صباه، نزع إلى مقت الشعوب غير الجرمانية. وبسبب حرمانه ومنبوذيته كان يمقت العالم البرجوازي. لكنه لم يتحول إلى الاشتراكية بسبب كرهه للماركسيين. ويأتي هذا الكره ليس من دوافع طبقية بل من أممية الماركسيين ورفضهم للشوفينية الألمانية والعنصرية الجرمانية. وإلا فإن منسحقاً مثله كان بمقدوره أن يجد الملاذ في طبقية ماركس الجذرية. تقول الموسوعة الأمريكية إن أدولف كان غير سوي جنسياً. فقد عشق ابنة لأخته غير الشقيقة، وعاشرها كعشيقة، لكنها انتحرت فيما بعد لشعورها بالاختناق تحت ذراعي طاغية كما بدا لها، فعاشر إيفا براون، وكانت شغيلة في حانوت، وبسبب تشرده لم يتكون لديه مزاج عائلي فأبقى علاقته مع إيفا حرة ولم يتزوجها شرعاً إلا في أيامه الأخيرة. الثقافة الأساسية لأدولف هتلر هي ثقافة العنف. وقد درسه بإمعان من شتى الوجوه. ومن هنا توجه إلى الجيش: أراد أولاً الدخول في الخدمة العسكرية فلم يقبل لعدم لياقته، لكن اندلاع الحرب العالمية الأولى أتاح له فرصة التطوع. وكان ذلك كما تقول الموسوعة البريطانية بمثابة إنقاذ له من الإحباط والحياة المدنية غير الهادفة. واشتغل في البداية ساعياً للمقرات. وقيّمت شجاعته الفعلية بصليب حديد من الدرجة الثانية عام 1914 ومن الدرجة الأولى عام 1918. وفي 1919 انضم إلى حُزيب العمال الألماني كوكيل سياسي عن الجيش. ثم ترك الجيش وتفرغ للحزيب الذي تطور فيما بعد إلى حزب و الحزب الاشتراكي الوطني (النازي). ظهرت قدرات أدولف هتلر كبلطجي مع تشكيل «عصابة الذراع المتين» التي خصصت لحماية اجتماعات الحزب. وقد استطاع الهيمنة على العصابة ووجهها لمهاجمة الاشتراكيين والشيوعيين. ونما نفوذه سريعاً مع نمو كفاءته في هذا المضمار وفي ظروف كانت ألمانيا فيها متوعكة الروح بعد هزيمتها الشنعاء في الحرب. وأظهر هتلر إلى ذلك مواهب سياسية وتنظيمية ساعدته على التقدم في نشاطه الحزبي. وقد وفر فشل الحكومة الألمانية في السياستين الداخلية والخارجية فرصة لنمو شعبية الحزب النازي استفاد منها هتلر لدفع الحزب إلى المقدمة. وأبدى في هذه المرحلة قدرة عجيبة على الدعاية والتأثير الجماهيري. وقد تكاملت هذه العوامل في مجملها من ذاتي وموضوعي لإعطائه دفعة هائلة أوصلته إلى قيادة الحزب وأوصلت الحزب إلى السلطة. ومن طريف ما حصل أنه وجد الطريق ممهداً إلى السلطة بالانتخابات دون حاجة إلى عنف! وكانت الانتخابات التي نجح فيها هتلر وحزبه هي آخر انتخابات في ألمانيا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. الشخصية القمعية لهتلر معروفة، وإجراءاته معروفة ولم تتحول بعد إلى تراث شأن سياسة الحجاج. فقد عايشها جيلنا الذي أدرك مآسي الحرب العالمية الثانية، وهذه الحرب أشعلها هتلر وقد ابتلعت عشرين مليوناً من الأوروبيين عدا المجندين من آسيا وأفريقيا. تهيأت لهتلر وسائل تعذيب وتنكيل لم تتوفر للحجاج بسبب التقدم الصناعي والتكنولوجي. وقد مكنه ذلك من ممارسة القتل الجماعي الذي لم يكن يتيسر للحجاج بدون السيف. ومعروف أن هتلر استخدم أفران الغاز لإبادة اليهود وغيرهم من خصومه السياسيين والإيديولوجيين، وأن ضحاياه من اليهود وحدهم بلغوا ستة ملايين، مقابل مائة ألف من ضحايا الحجاج. ويرجع الفارق في الكم إلى الفارق في التطور التكنولوجي.. لكن هناك عوامل أخرى حكمت هذا الفارق الضخم في كم الإرهاب الرسمي بين الغرارين، نضع في الاعتبار فروق الشخصية: 1 ـ تشرد هتلر وعائلية الحجاج. 2 ـ شرعية ولادة الحجاج ونغولة هلتر. وهذه لا علاقة لها بمسألة الدم وإنما تنتج مضاعفاتها السلبية في شخصية الفرد من النبذ الاجتماعي. فالمجتمع البشري حتى في أشد حالات الانحلال العائلي كما في الغرب لا يزال يميز بين ابن الحلال والنغل. 3 ـ سوية الحجاج جنسياً وعدم سوية هتلر. وتجربته مع ابنة أخته تكشف عن مضاعفات حادة للنبذ الاجتماعي في شخصيته، وحيث أنه لم يعرف بالشبق أو الإسراف في الجنس والتهتك، فإقدامه على ابنة أخته يجب أن يكون من ملابسات شخصيته الاجتماعية ـ أصله العائلي. 4 ـ انعدام الروادع بالنسبة لهتلر وحضورها في حالة الحجاج. وهنا نقف على جملة أمور: ففي حالة الحجاج، هناك شرعية يبقى الجلاد مضطراً إلى الرجوع إليها في حالات معينة. واستفساره من أنس بن مالك يكرس هذه الضرورة. وثمت واقعة يرويها المسعودي في أخبار الحجاج من «مروج الذهب» تلقي ضوءاً على هذه الحالة. قال جيء برجل من بني عامر من أسرى «دير الجماجم» فقال له الحجاج: «والله لأقتلنك شر قتلة» فقال الأسير: «والله ما ذلك لك..»قال: ولم؟ قال: لأن الله يقول في كتابه: «فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب.حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق. فإما مناً بعدُ وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها». وأنت قد قتلت فأثخنت وأسرت فأثخنت فإما أن تمن علينا أو تفدينا عشائرنا. فتراجع الحجاج أمام النص وأطلق الأسير. وأنكر مرة أن يكون الحسنين من ذرية النبي فرد عليه متبحر يدعى يحيى بن يعمر كان من الحاضرين وقال له: كذبت. فقال له الحجاج: لتأتيني ببينة على ما قلت من كتاب الله أو لأضربن عنقك. وتفيد بعض الروايات أنها كانت مناسبة عيد الأضحى فأراد الحجاج أن يضحي به للعيد بدل الشاة. فأحاله إلى آية تتحدث عن إبراهيم فتقول: «ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاً هدينا. ونوحاً هدينا من قبل. ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون. وكذلك نجزي المحسنين. وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين» وهنا قال يحيى: عيسى من ذرية إبراهيم وهو إنما ينسب إلى أمه مريم. والحسن والحسين ابنا رسول الله من قبل أمهم. فتوقف الحجاج عن قتله إلا أنه نفاه إلى خراسان حتى لا يواصل دعايته في العراق. ووفرت الثقافة الأدبية للحجاج رادعاً آخر. فكان البعض من ضحاياه يتخلصون من القتل بعبارة بليغة يطرب لها فيعفو عنهم. وتدخل في بابه البلاغة مواقف مصارحة تعجبه فيفرج عن أصحابها. و من نوادر قضية الأسرى في وثبة ابن الأشعث أن أسيراً قدم ليقتل فقال له: إن لي عندك يداً (فضلاً). قال ما هي؟ قال: ذكر ابن الأشعث أمك فرددت عليه. فسأله من يشهد لك؟ فقال: صاحبي هذا. وأومأ إلى رجل من الأسرى. فشهد له الأسير، فسأله الحجاج: وأنت ما منعك أن تفعل كما فعل؟ فأجابه الأسير الشاهد: لقديم بغضي إياك. فقال الحجاج: أطلقوا هذا لصدقه وهذا لفضله. هتلر لم يكن في وضع مماثل: فهو لم يكن يرجع إلى شريعة سماوية أو أرضية يذكره بها ضحاياه، وكان يفتقر إلى الثقافة، ومعارفه تقتصر على السياسات العسكرية. ويمكن أن نضع إلى جانب ذلك فوارق الوضع الحضاري والقيم الثقافية بين الأوروبيين والعرب. حيث الغلبة في أوروبا للأدب القصصي، وعند العرب للأدب الغنائي. وبالتالي فحتى لو كان هتلر امبراطوراً مثقفاً فإن بيتاً من الشعر أو نثرة بليغة ما كانت قادرة على جعله يلغي قراراً بالقتل. وثمة أيضاً اختلاف طريقة أو آلية القمع. ذلك أن ضحايا الحجاج كانوا يوقفون أمامه فتتاح لهم فرصة للكلام. وكان هو يناكدهم ويتبادل معهم الشتائم. أما هتلر فيصدر أوامره بالإعدام عن طريق المحاكم، وبالإبادة الجماعية عن طريق جهازه البوليسي والعسكري، وبالاغتيال عن طريق عملائه السريين. فليس له علاقة مباشرة بضحاياه تسمح لهم بمحاورته وجهاً لوجه. لدى البحث في خلفية الجنوح لدى الغرارين نجد ما يلي: هتلر ألماني مأخوذ بتفوق العرق الجرماني وتحركه الشوفينية الألمانية في وسط مشبع بهذه النزعات التي تنتشر على نطاق أوروبا كنعصرية للعرق الأبيض، وتتفاعل في ألمانيا العرقية الجرمانية. والعنصرية البيضاء لا ترى للإنسان حرمة خارج النسب الآري (مشروطاً بالإقامة في أوروبا، لأن الآريين الشرقيين مشمولون بالتحيز العنصري). وهي لذلك تبيح دمه. وكانت إباحة دم اليهود من هذا الباب. لكن الألماني الذي لا يوافق على هذه العقيدة يعامل كمرتد. ومن هنا إباحة دماء الاشتراكيين والماركسيين الألمان. ولهتلر رافد من الأيديولوجيا الألمانية المتمترسة بمبدأ القوة والدولة كما تناوب على إشباعها وتأريثها فيخته ونيتشه وهيجل وشوبنهاور وغيرهم . وهو على عدم عنايته بالفلسفة مريد تاريخي لنيتشه. إيديولوجيا الحجاج هي الحق الأموي المصعّد إلى مرتبة الحق الإلهي. وكان الحجاج يؤمن بالخليفة الأموي إيماناً دينياً هو الذي جعله يقول وقد مرض يوماً: إني والله لا أرجو الخير إلا بعد الموت! جاعلاً من إيمانه بالحق الأموي طرقه إلى الجنة. وهو الطريق الذي بلطه بأجساد المعارضين لبني أمية. ولم تكن للحجاج مشكلة عرقية فضحاياه الأكثر عدداً كانوا هم العرب. كما لم تكن وراءه فلسفة تنظّر للعنف الدموي فيما عدا الخلفية الدينية التي يستمد منها المتدين حين يكون في السلطة مقومات وجدانه القمعي. والحجاج من المتدينين كما يستفاد من سيرته الشخصية. ماذا قدم الغراران للحضارة والمدينة؟ تقول الموسوعة البريطانية إن هتلر لم يقدم للبشرية أي مساهمة مادية وأخلاقية وإذا استندنا إلى النية فهتلر معاد للإنسان ويتعذر عليه فعل ما يخدم البشر عن وعي. لكن مغامراته العسكرية حملته على تنشيط الصناعة والتكنولوجيا. فتقدمت ألمانيا في زمانه أشواطاً بعيدة في هذا المضمار. وقد انتقلت التكنولوجيا الألمانية إلى البلدان الأخرى فخدمت تطور صناعاتها وتقنياتها. ويأتي هذا الإنجاز غير المقصود في مجرى نمو مدنيّاتي تعيشه ألمانيا والمحيط الأوروبي.ومن شأن هكذا وضع أن تنخرط فيه السلطة بصرف النظر عن نياتها وطريقتها في الحكم. وهو نفس ما يقال عن منجزات الحجاج كتحققات سياقية في مجرى مدنية نامية. ولا مجال بالطبع للكلام عن منجز حضاري قدمه أي من الغرارين الدمويين. فهما مفلسان أخلاقياً: المدنية يهم فيها الجلادون. أما الحضارة فإنشاء معرفي اجتماعي يتكامل فيه جهد الثقافة مع الفعل الشعبي كنقيض للسلطة كمروّج من جهته للقيم الأخلاقية التي تدخل في المنظومات المعرفية لأهل الفكر، ولا شغل للسلطة هنا. خطوط الإدانة: مرت بنا آراء المسلمين بالحجاج ومواقفهم منه. والاتفاق على إدانته شامل لجميع المذاهب والفرق بمن فيها الحنابلة الذين أظهرت جماعاتهم انحيازاً للأمويين.وقال عنه الذهبي وهو حنبلي متعصّب: «له حسنات مغمورة في بحر ذنوبه» (سير أعلام النبلاء ـ ترجمة الحجاج) وهذا أدق تقييم يحظى به الحجاج: حسناته، إنجازاته، مفردات مغمورة في بحر من الذنوب، وكأنها قطع صغيرة من الذهب غرقت في المحيط ففقدها صاحبها وتلاشت آثارها..وذنوب الحجاج هي القتل وليست هي الذنوب الدينية التي يتمسك بها رجال الدين في تمييز الفاسق من المؤمن، فالحجاج كما بينا لم يكن يشرب الخمر أو يستمع إلى الغناء ولم يعرف بالزنى وكان يتمسك بالفرائض والعبادات ويؤديها على أحسن وجه. وهكذا فحين يجعله مؤرخ حنبلي غارق في بحر الذنوب فلا بد أن نتصور حجم الإدانة التي لقيها هذا السفاك المسلم من مُداينيه المسلمين. ويخرج عن الخط شعبيته في بلاد الشام، الموالية للأمويين آنذاك. ويقال إن شامياً وقف على قبره بعد دفنه وقال: «اللهم لا تحرمنا شفاعة الحجاج» والمقصود بالدعاء أن الحجاج ستكون له مكانة الشفيع عند الله، وهي مكانة تختص بالأنبياء، والشامي يدعو أن تشمله شفاعته حتى يدخل الجنة، ولا يدخل في حساب شعبية الحجاج الشامية إسناد ثقافي. إذ لم يتجرأ فقيه أو متكلم شامي على تزكية الحجاج. وكان الفقهاء والمتكلمون معارضين في جملتهم للأمويين، ولكن ذكر ياقوت في مادة «واسط» من معجم البلدان أن رجلاً يدعى الوهاب الثقفي دافع عن إنجازات الحجاج، ولم أقف على ترجمة لهذا الشخص، ولعله كان مدفوعاً بعصبيته القبلية. جوبه أدولف هتلر بنفس النطاق الشامل من الإدانة على مستوى أوروبا والكوكب.. لكن ألمانيا مشت وراءه مثلما سار أهل الشام خلف الحجاج، وقد واصل إلى السلطة بالانتخابات، والانتخابات في أوروبا حرة دائماً. وثمة ما يجمعه بالكثير من الألمان وهو العرقية الجرمانية والشوفينية الألمانية مع عبادة القوة والعنف، ولقي هتلر دعم آباء وفلاسفة ضخام من قبيلة عزراباوند ومؤسس الوجودية مارتن هايدجر، وتبنى مبادئه قطاع واسع من مثقفي الطليان والإسبان والبرتغال. ولا يزال شطر وافر من الرأي العام يتمسك بذكرياته من وراء الانخراط في الحركات النازية والفاشية الجديدة. ويمكن القول إن الغرب في جملته يصدر بهذا القدر أو ذاك عن منطلقات هتلر في التعامل مع الشعوب الشقية الملونة. لكن التنوير الغراوي ومعه الكوكبي في العموم يواصل تصديه للهتلرية. وللماركسيين فضل الصدارة في هذه السيرورة المديدة، التي ينتظم فيها العديد من الأحرار غير الماركسيين بل والمتناقضين مع الماركسية إن في منهجها العلمي أو اقتصادها الاشتراكي، وبين المعارضين للهتلرية رجال دين تأثروا بالمنحى الإنساني للأناجيل، وقفوا من هتلر موقف الفقهاء المسلمين من الحجاج، وبخلاف هتلر لم يكن للحجاج نصير من الأدباء غير جرير، الموالي للأمويين. ولم يدافع عنه أحد من الوسط الثقافي طيلة العصور الإسلامية. أوصاف الحجاج لمن يريد رسمه من الفنانين: كان أخفش لا يقوى على فتح عينيه في الشمس. ساقاه نحيلتان مجرودتان وبدنه ضئيل. وكان دقيق الصوت غير مكتمل الرجولة في نطقه برغم ما تمتع به من الفصاحة والبلاغة. هكذا وصفه المؤرخون. ومن الأفضل أن ينظر إلى هذه الصفات في حذر لأنها قد تكون انطباعية أكثر منها حقيقية.. والحجاج في الفولوكلور الشيعي أعور، وهي صفة مشتركة لجلادي الشيعة مثل يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد والشمّر بن ذي الجوشن
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هادي العلوي ... حياة رجل صادق (Re: Amjed)
|
شهادة عن حياة الرجل بقلم حمزة الحسن نقلاً عن الحوار المتمدن
لا تنسوا المعلم هادي العلوي ي نيسان الماضي كنت أقف، كما يقف طفل، أمام جنازة أبيه في مقبرة السيدة زينب في دمشق، مع الصديق كريم الزيدي، أمام ذلك الإنسان والمفكر الكبير هادي العلوي، خجلا لأني واقف، وهو نائم، لذلك جلست وطلبت ورقة من كريم استلها من دفتر خاص مخصص للرسائل الغرامية وكتبت العبارة التالية ووضعتها بين زهور قرب الشاهدة:
( أيتها الأيائل لا تيقظي الحبيب النائم) وهي جملة من الكتاب المقدس.
كان الصمت صلبا في تلك المقبرة، في ظهيرة دمشقية ساخنة، لكن الكلام كان متروكا للعين، وعلى من يمر من أمام قبر شيخ المعرة، المتصوف، والماركسي النجيب، وآخر مثقف عراقي أعاد للكلمة هيبتها وجمالها وكرامتها، أن ينحني قليلا ويسلم على النائم( على مقربة منه كان ينام شاعرنا الكبير الجواهري، وعلي بن سعدي يوسف، والشاعر مصطفى جمال الدين). وكانت المفارقة الأخرى : إن منظف المقبرة كان مع كريم الزيدي في غرفة واحدة للإعدام!
قلت بقلب متوجع: ـ أية مصادفة هذه، كريم، حين تلتقي في مقبرة معي أنا الهارب، ومع رفيق لك في الزنزانة، و الموتى شعراء أو كبار الكتاب؟!
الهارب يزور المفكر الشريد! ومنظف المقبرة يتحدث مع كريم عن أيامهم في السجن. ويشكرون الأقدار التي أنقذتهم. لكن أين يجري هذا الحديث؟ في مقبرة، وأمام قبر الجواهري، والعلوي، وعلي، وجمال الدين؟!
وفجأة قال منظف المقبرة: ـ هنا يرقد صديقنا( لم أتذكر أسمه) الذي كان معنا في نفس القاووش، جاء هنا، ومات قبل أيام!
سألته: ـ هل توجد زهور للبيع؟ ـ لا مع الأسف.
وعادت بي الذاكرة إلى نسيان من عام 1989 في سجن كويتة الباكستاني يوم وصلتني برقية من المفكر الكبير من دمشق بكلمات قصيرة لكنها كافية لكي تحول ليل الزنزانة إلى نهار( نحن معك ونشاطرك كل أحزانك). وبعد أيام من هذه البرقية، كنا على موعد، نحن الأكثر من مائة سجين عراقي كانوا قد عبروا الحدود الايرانية الباكستانية مع قدر أرعن، وخطر رهيب، حين اتفقت الحكومة الفيدرالية في إقليم بلوجستان الباكستاني مع السفارة العراقية في اسلام آباد، على تسليمنا على شكل وجبات إلى النظام العراقي. تلك كانت واحدة من أمر تجارب المنفى. تم ربطنا بالسلاسل في السجن، وأخذنا، مربوطين، إلى محطة قطار كراجي /كويتة ( كنا 35 سجينا) وفي عربات القطار تم ربطنا كل أربعة أفراد في سلسلة واحدة تكون نهايتها مربوطة بعامود عربة القطار بصورة مهينة لا تحدث مع الحيوانات، وعلمنا فيما بعد أن المخابرات العراقية كانت معنا في العربة بثياب المواطن الباكستاني التقليدية، في أكبر صفقة تسليم لمعارضين جرت في تاريخ العالم حتى ذلك الوقت. ماذا نفعل؟ هذا هو السؤال المرير الحائر لسجناء عزل كتب عليهم الموت الوشيك ويتجه بهم قطار مجنون، شاحب، عتيق، عبر الأراضي الباكستانية الجرداء إلى مصير أسود ومحتوم( تفاصيل رحلة القطار المشؤومة تلك منشورة في جريدة" الغد الديميقراطي" في نيسان 89( البطولة في رحلة موت) بقلم أبو شذى، ولم تكن شذى قد ولدت إلا في 2001 في النرويج!). كان يجب أن نفعل شيئا. لكن ماذا نفعل والسلاسل تكبس على معاصمنا بقسوة ووحشية؟ قلت للأصدقاء الذين كانوا معي في القيد المشترك( وكان هناك سجناء في عربات أخرى) وهم الاخوة صلاح وعلي ورحيم( يعيشون في أوسلو اليوم!) أننا نتجه إلى الموت وإلى إعدام مؤكد ويجب أن نفعل شيئا، خاصة ونحن كنا هاربين في إيران في زمن الحرب، ولن ننجو أبدا من مجزرة رهيبة ستكون في انتظارنا في بغداد.
لكن ماذا نفعل؟
بصعوبة شرعت أكتب في ورقة قدمها لي أحد هؤلاء مع قلم رسالة إلى السفارة السورية في إسلام آباد مختصرة ومركزة( السيد السفير السوري المحترم: نحن مجموعة من اللاجئين العراقيين تم إخراجنا بالقوة من سجن كويتة إلى مكان مجهول وسنسلم إلى العراق. رجاءً إرسال هذه الرسالة فورا إلى السيد هادي العلوي في دمشق للتدخل العاجل). وبما أن القطار قديم، والطريق طويل يحتاج إلى أكثر من يومين للوصول إلى كراجي، فقد تم وضع هذه الرسائل في كل المحطات التي نمر بها، وبصورة سرية، وعن طريق أشخاص باكستانيين مسافرين مع نقود قليلة كثمن للطوابع وهدية أيضا( لم يكن يسمح لنا بالنزول). ( بعد اشهر قال لي القنصل السوري في إسلام آباد وهو رجل شهم وطيب أنه أستلم رسائلي وأرسلها فورا عن طريق الفاكس إلى دمشق). وفي دمشق خلال زيارتي الأخيرة لبيت الشيخ والمعلم والمناضل هادي العلوي قالت لي السيدة زوجته أم حسن ( لم ينم طوال ثلاثة أيام حتى علم بإخراجكم من السجن وفشل عملية التسليم)! في كراجي كانت هناك ملحمة عذاب أخرى مريرة. كنا نمشي طابورا من السجناء أمام الناس المذهولين، مربوطين بالسلاسل، حتى سجن كراجي المركزي. كان مدير السجن صريحا معنا تماما وقطع كل شك. قال: ـ أنتم هنا بناء على طلب من حكومتكم. ستعودون بطائرة خاصة جاءت خصيصا لكم وهي موجودة الآن في مطار كراجي....! وقبل أن يكمل كان شحوب الموت قد حل زائرا على وجوه الجميع: طائرة خاصة، وبلا شك قوات خاصة، وسنقتل داخلها من الرفس والتعذيب وكل الاحتمالات.
( قالت أم حسن أن المرحوم قد أقام أمام السفارة الباكستانية طوال تلك الأيام وكان قد أصدر بيانا وقع عليه أكثر من عشرة أحزاب ومنظمات وتجمعات عراقية وأرسل للبرلمان الباكستاني بيان يحتج فيه بشدة على هذا الإجراء ويطالب بإطلاق سراحنا فورا، وأن الكاتب رياض العطار ـ في السويد حاليا ـ كان يحمل أحيانا رسائل المرحوم العلوي إلى المنظمات والسفارات الأجنبية ومنظمات حقوق الإنسان). في السجن طلب منا العودة إلى العراق فرفضنا. دهش مدير السجن قائلا: ( قبل أيام كان هنا مجموعة من السجناء السريلانكيين يريدون العودة فلم نجد طائرة تقلهم. انتم طائرتكم موجودة وترفضون. لماذا ترفضون؟!). لم يعرف المسكين أي شيء. قلنا نريد ممثل الأمم المتحدة في كراجي. جاء بعد ساعات السيد نيك جاندرفون مسؤول مكتب الأمم المتحدة في المدينة مرتبكا جدا. قال بالحرف الواحد: ـ هناك محاولة وصفقة لتسليمكم إلى العراق خلال 24 ساعة وقد أنجح أو لا أنجح. أعطوني فرصة! خلال هذه الساعات كنا نعاني الموت والحر والهاجس والقلق والتوجس، وكنا قد قررنا الاعتصام داخل قاعة السجن وأغلقنا الباب وأعلنا الإضراب عن مقابلة أي شخص عدا ممثل مكتب الأمم المتحدة السيد جاندرفون.
( قالت لي السيدة أم حسن أن المرحوم كان على صلة شخصية مع شخصيات باكستانية في الحكومة في ذلك الوقت وقد بذل جهدا مضنيا ).
وكنت أعرف أنه على معرفة بالسيدة نصرت بوتو زعيمة حزب الشعب الباكستاني وأم بونازيرت بوتو رئيسة الوزراء يومذاك، وزوجة ذو الفقار علي بوتو. في واحدة من رسائله لي قال: يمكنك الذهاب إلى السيدة نصرت بوتو وتقول لها أن مرتضى حيران يسلم عليك!. وكنت في السجن حافيا، بثياب ممزقة، بلا مال، وخجلت أن أقول للحرس أني أريد مقابلة السيدة نصرت بوتو، فربما سأرسل لمصح عقلي حالا!
لكني إلى اليوم لا أعرف من السيد مرتضى حيران! هل هو الاسم الذي تعرفه به السيدة نصرت؟!
بعد يومين من القلق والانتظار جاء السيد جاندرفون ليقول فرحا: ـ تم وقف عملية التسليم! ركضت بلا شعور من غرفة الإدارة نحو قاعة السجناء حيث كانوا يراقبون هذه اللحظات العصيبة عبر الشبابيك وقفزت في الهواء تلك القفزة التي لم تتكرر في حياتي وأنا أصرخ: ـ حرية، حرية، حرية! وحين وصلت القاعة تمددت فوق الأرض ونام كل السجناء فوقي وهم يعتقدون أني جننت: ـ تكلم؟ ـ تسليم؟ ـ ماذا حدث؟
قلت: ـ فشلت اللعبة وسنعود إلى سجن كويتة اليوم!
اندلعت صيحات فرح، وعناق، ودموع: ـ إلى كويتة! ـ إلى كويتة!
كنا فرحين بالعودة إلى السجن الأول!
رافقنا الصديق الرائع نيك جندرافون، هذا الآسيوي الباسل، إلى محطة القطار خوفا من الاختطاف. وحين ودعنا لم أنس أن أقول له هذه الكلمة:
ـ سوف لن ننساك أبدا. شكرا أيها الصديق.
وعدنا في قطار آخر، عبر الأراضي الشاحبة، مع شرطة بسطاء، شرعوا ما أن مشى القطار بضعة كيلو مترات، في تدخين الحشيشة والغناء وناموا وبنادقهم تتساقط واحدة إثر الأخرى تحت مصاطب العربة!
وقبل أن نصل محطة كويتة ، بال أحد الشرطة فقال لي الصديق علي ضاحكا: ـ خاتمة عبثية تليق بفيلم هندي!
قالت لي السيدة الرائعة أم حسن في دمشق العام الماضي: ـ حين علم المرحوم بعودتكم نام تلك الليلة كطفل مسرور!
كنت أريد أن أتحدث عن هذا الجانب الإنساني المدهش في سيرة المفكر والإنسان هادي العلوي. هذه التفاصيل الحميمة هي التي تصنع الموقف الحقيقي لمثقف نادر جميع بين: الكلمة والموقف. بين الاشتراكية وبين المشاعية. بين كونفشيوس وبين ماركس. بين التاو الصني وبين الصوفي البسطامي. بين تعاليم المحبة الحقيقية للبشر وبين صلابة الرأي.
لم يمسك نقودا بيده. كان يعتبرها نجاسة. وكان يقول في كتبه وفي جلساته: لاشي يفسد غير المال والسلطة. والسلطة أنواع: سلطة الحاكم، وسلطة المعايير، وسلطة رجال الدين، وهؤلاء كان يخافهم كثيرا، حين يخرجون من قوله( عليكم البلاغ وعلينا الحساب) وكان يؤمن بسلطة الفقراء. لم أجد في بيته مالا ولا أطيانا. كان الشيء الوحيد الذي ملكه المعلم هو كرسي سقط منه في أخر لحظة( وضعته في موقعي الشخصي رمزا للبراءة وعفة الضمير) ومجموعة كتب، وقصيدة مهداة من الشاعر عبد الإله الياسري على الحائط، ونظارتين، وعصاه، وهدية كريستال من طلابه الصينيين هدية له ووفاءً لذلك المعلم الذي كان يرفض استلام راتبه الشهري من جامعة بكين وتتولى أم حسن المهمة الشاقة، قرر الأبي أن تغطى لكي لا يراها، ووجدتها مغطاة حتى اليوم، وكان يرفض استلام أية مكافأة نقدية على مقالاته.
لا تنسوا المعلم هادي العلوي هذه الأيام. الرجل الذي أحبنا بصمت وأنقذنا من موت وشيك دون أن يعرف أحدا منا. آخر عملاق عراقي نائم في السيدة زينب. أيها الذاهبون إلى العراق، خذوا معكم هادي العلوي. ويا أيها المارون بقبر السيدة، لا تزعجوا الحبيب النائم!
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هادي العلوي ... حياة رجل صادق (Re: Amjed)
|
( ان اقتران اسم الاسلام في العراق بالفساد واللصوصية مع كثرة ظهور القطط السمان من بين رجال الدين والقيادات الدينية لابد من ان يبعد الجماهير عن تراثها او تقاليدها المحمودة او يزعزع يقينها بقيمها الحضارية . وقد يفتح باباً واسعاً لدخول الثقافة الغربية بتداعياتها الشديدة التباين ويصبح مجتمعنا مسرحاً للقيم الامريكية المعادية للانسان والمفسدة في الارض والمهلكة للحرث والنسل . ونحن انما نتوسل بالتراث لمواجهة الخطر الغربي الامريكي . ويظهر ذلك مدى الخطر الذي تشكله الحركات الدينية في العراق على حياتنا الاجتماعية ومبادئنا الاخلاقية . ولم ار بين رجال الدين العراقيين من يصلح للحوار حول هذه المخاطر لانهم متفقون كلهم على خط واحد في الفساد ومن المتعذر ان تعثر بينهم على رجل تقي متمسك بتعاليم ائمته وزاهد في الدنيا ويحب الخير للناس . الفساد " الشيوعي " بدوره سوف يساهم في فتح الباب للثقافة الغربية مع انتشار الافكار الاقتصادية الفاسدة والتشكيك بالمبادئ الاشتراكية التي تصبح عند الغورباتشوفيين مرادفاً حميماً للفقر والتخلف . كذلك يمكن للانحراف الذي يشترك فيه ( المرتدون ) مع الساسة والمثقفين اللبراليين بخصوص قضايا السيادة الوطنية والتحرر الوطني ان يوجد حالات تفريط بالحقوق الوطنية للعراق الذي يصبح عند هؤلاء " ظاهرة دولية " بانهاره وسياساته ومصائره . ان مهمة حرجة تواجه الوطني العراقي لمقاومة مد الخيانه الوطنية والفساد المتلبس شتى العقائد والايديولوجيات ) . هادي العلوي، المرئي واللاّمرئي ص ( 112 )
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هادي العلوي ... حياة رجل صادق (Re: Amjed)
|
الصلاة اليومية إلى روح الكون هادي العلوي
سلام عليكِ أيتها الروح السارية في وجودي. أيتها النار الأبدية التي تتوقد في صدري فتحميه من برد النسيان. سلام عيكِ أيتها الحروف العاليات. هأنذا أبدأ يوماً جديداً من صراعي ضد الأغيار الأربعة مستعيذاً بك من الخساسات الثلاثة ومستمداً منك القدرة على الاقتحام يا معيني على البلوى أعنِّي على التأويب في ديار الهم والغربة. - الأغيار الأربعة: الحكام، المثقفون، الرأسمالية، الاستعمار - الخساسات الثلاثة: السلطة، المال، الجنس
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هادي العلوي ... حياة رجل صادق (Re: Amjed)
|
هادي العلوي في استهلالية كتابه(مدارات صوفية):
سلام على أهل الحق أينما كانوا وبأي لسان نطقوا، وسلام على الخلق وأصدقاء الخلق. وسلام على المناضلين الآتين من ضنائن الله أوتاد الأرض الذين يقومون زيغها ويحفظوها من الفساد
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هادي العلوي ... حياة رجل صادق (Re: محمد قرشي عباس)
|
امجد كل عام وانت والمدام وال كدوده وستاف 20 بالف خير ايضا من اهم ما ما كتب هادى العلوى (من قاموس التراث) وهو كتاب ضم بين دفتيه اجوبه على اسئله صعبه ومقلقه تبدأ من عشية وفاة الرسول عندما اجتمع الصحاب فى سقيفة بنى ساعده وما تلى ذلك من احداث كبيره المتابع لها لا يجدها منعزله عما نعيشه اليوم ثم صدر له بعد ذلك شخصيات غير قلقه فى الاسلام وهوكتاب جدير بالقراءه وتوج مشروعه العظيم بأصداره لمعجمه الذى تجاوز فيه كل تعقيدات القواميس القديمه.وقد صدقت يا صديقى حينما وصفت هادى بالمرهق فهو يتأرجح بك بين التصوف والماركسيه كأنه يريد القول بأن للعداله الاجتماعيه عدة مداخل واذا كان هادى قد امتهن الثوريه فى حياته فقد صبغ اخر حياته بمسح متصوف ولنعرف ذلك دوننا مقاله وهو يغادر المنطقه العربيه والاسلاميه (الصين وطنا)..تحياتى صديقى امجد وسأواصل ان اتسع الوقت مع تحياتى.
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هادي العلوي ... حياة رجل صادق (Re: د.محمد بابكر)
|
اهلين استاذنا محمد بابكر
كل كتب هادي العلوي كانت اسفار جميلة و مرهقة و خلاقة ز لكن لم ارى خلافاً بين مسحة الصوفية التي لم تفارقه لا اول حياته و لا اخرها كما لم تفعل ثوريته ... فالتصوف عند هادي العلوي هو اداءته في البحث عن الثورة و صناعة التغيير و بذلك عنون اخر كتبه (مدارات صوفية : تراث الثورة المشاعية في الشرق). فالتصوف عند هادي العلوي كما هو عند اهل صدقه ليس مجرد علاقة فردية بين المخلوق و خالقه بل هو اعادة صياغة لما يجب ان تكون عليه الحياة على الارض ، فالفاعل الاجتماعي عند هادي العلوي و هو المثقف الكوني كما اسماه يجب (أن يتميز بعمق الوعي المعرفي والوعي الاجتماعي معاً، وبعمق الروحانية التي تجعله قوياً على مطالب الجسد) هادي العلوي ، حوار الحاضر والمستقبل ص 158، اخذاً على مفهوم قرامشي للمثقف العضوي (اشتراطاته) السياسية المتعددة التي ربما تبعده عن ملامسة قضايا واقع الناس بصورة مباشرة . و كما اسلفت انا ، فمواقع هادي العلوي الفكرية و النضالية ينطلق فيها من مواقف مبدئية أكثر منها ايدولوجية فهو يرى ان ثورته (المشاعية) كما احب ان يسميها هي عملية تغيير و تطور اجتماعي اكثر منه سياسي فحسب، و لا يفهم من هذا ان الرجل اراد مجرد قراءة الماركسية و الثورة على ضوء الصوفية في الاسلام بل اراد التعامل مع الواقع كما هو و كما يجب التعامل معه. و لهادي العلوي ايضاً تطوير لطيف لمصطلح (الابدال ) الصوفي و هم «قوم صالحون يقيم الله بهم الأرض ويعطيهم صفة الأوتاد، يصارعون الفساد ويريدون الإصلاح للإنسانية، وقد تتعرض حياتهم للعديد من الشدائد وأعمارهم قصيرة ولكن نفوسهم تبقى على حالها من القوة والاستقامة وعمق التأثير» و أعد قائمة بمن رأهم الابدال من المثقفين الكونيين في كتابه مدارات صوفية عد من بينهم يسوع المسيح و أبيقورس ولاوتسي وماركس وأبو ذر الغفاري والحلاج وغوته وآخرين و هو نفسه يصف غرضه من مولفه الصوفي الاخير بالقول : «على أن هذا الكتاب في مجمله موجّه لتعزيز الوجدان الشيوعي عند أجيالنا الجديدة، لمساعدتهم في الخروج من حجاب العقيدة إلى فضاء الوجدان، ولزعزعة المألوفات التي تعلموها من الثقافة المترجَمة. فلكي يكون الإنسان شيوعياً جيداً يجب أن يكون له قلب شيوعي لا مجرد فكر شيوعي»
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هادي العلوي ... حياة رجل صادق (Re: Amjed)
|
(إن تاريخ الشرق هو تاريخ متداخل لا متعاقب. فحينما يعلن "المعري" في القرن الخامس الهجري، ثورته التنويرية المتكاملة، يأتيك في العصر الحديث من يبشر بالحكم الديني، ومن هنا أقول إن ماضي الشرق أحسن من حاضره. وهو الذي سيصنع لنا حاضرنا كما صنع للصين حاضرها الشيوعي، بذلك الوهج الذي تميزت به شيوعيتها. التمييز بين ديننا ودين الغرب، مصادرة على المطلوب. ففي كل مجتمع تسعى المؤسسة الدينية كي تمسك بالسلطة. وإذا لم تستطع أن تكون هي الدولة، كما حدث في أوروبا، فإنها تتجه للإندماج بالدولة. وفي العصر الإسلامي، لم تكن الدولة الإسلامية دينية، بمعنى أنها الم تكن مُدارة من رجال الدين. لكن رجال الدين أنفسهم حاولوا دائما أن يكون لهم نصيبهم في السلطة. وتثبت تجربة الفكر الإسلامي أن السبب الذي وفر هامش حرية واسع للفلاسفة والمفكرين، هو عدم نجاح رجال الدين في السيطرة الكاملة على الدولة. ومن هنا فإن الدعوة إلى إدخال الدين في الدولة، تأتي كخطوة ارتدادية بالنسبة للعصر الإسلامي، ولسوف تحقق لرجال الدين المسلمين حلمهم الطويل الأمد في الدمج الكامل بين الدين والدولة. وهذا افتئات من مفكرينا المعاصرين. فقد كان يؤمل للدين الإسلامي أن يفعل ما فعلته الكنيسة، لو اندمج في الدولة. إن سلفيينا المعاصرين يجاهدون لتحقيق ما عجز عنه أوائلهم. ولا شك أنهم لن ينجحوا من حيث فشل الأولون) هادي العلوي
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هادي العلوي ... حياة رجل صادق (Re: Amjed)
|
Quote: لمساعدتهم في الخروج من حجاب العقيدة إلى فضاء الوجدان، ولزعزعة المألوفات التي تعلموها من الثقافة المترجَمة. فلكي يكون الإنسان شيوعياً جيداً يجب أن يكون له قلب شيوعي لا مجرد فكر شيوعي» |
شكرا يا امجد تعرف الكلام العميق ده اسوأ حاجه انه جا (جغرافيا يعنى) فوق صورة عبدالرحيم الخاتيها بكرى اكتر من يومين لكن بعد الارشفه الكلام ما بتكون معاهو الصوره مش كده؟؟
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هادي العلوي ... حياة رجل صادق (Re: د.محمد بابكر)
|
he is so amazing really amazing person i still read about him and to him and i get lost in his ability to identify with what ever he write and makes his writing a process of thinking,, god he means every word he says
thanks ya amed
thanks kateer
send me your phone in the massager
ibrahim
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هادي العلوي ... حياة رجل صادق (Re: ibrahim kojan)
|
( الجذور التاريخية للعمالة ) هادي العلوي مجلة دراسات عربية العدد 4 شباط 1980
مقدمة عامة :
أن التواطؤ مع الأجنبي ضد مصالح وطن أو شعب يرتبط منذ القدم بظاهرة أعم هي الفتوحات . فقد واجه الفاتحون حاجة ماسة إلى أعوان من الأقاليم التي تستهدفها نشاطاتهم التوسعية لتأمين غايتين ، متكاملتين في الغالب :
1-تسهيل اجتياح الإقليم-الهدف ، وذلك باستثمار جزء من القوى المحلية لمصلحة الفاتح ، وهو الجزء الذي يكون في وسع العميل تسخيره لهذا الغرض .
2-أدامه السيطرة على الإقليم المحتل بجعل العميل واجهة أهلية للحكم الأجنبي .
يفترض هذا التاكتيك مستوى معينا من الدهاء إلى جانب القوة العسكرية ، لذلك لا نعثر لهُ على أمثلة واضحة في الفتوحات المبكرة للساميين أو الصينيين أو الفراعنة ، حيث الفتح مرتكز على العنجهية الحربية لقبائل وشعوب كانت منطلقة للتو من حالة الهمجية . أن أقدم تطبيق لهذا التاكتيك قد لا يتجاوز تاريخ الفرس الاخمينيين في غضون النصف الأول من القرن السادس قبل الميلاد . ويحتفظ تاريخ الفتح الأخميني لبلاد الإغريق بأسماء يونانية تعاونت مع الفرس منهم كليسثينس وهيباس ، وكان الأول قد تزعم ثورة ديمقراطية للطبقة الوسطى لكن ظهور الفرس كقوة كبرى حملهُ على الاتصال بهم عارضاً عليهم الاستسلام مقابل تنصيبهُ حاكماً مستبداً ، حيث قرر التخلي عن مبادئهُ الأولى . وهو مـا فعلهُ أيضاً هيباس الذي كان حاكما مستبدا لاتيكا . وقد لعبت المصالح الطبقية في هذه المساومات شوطا ملحوظاً ، إذ يشير جورج تومبسون ، الماركسي البريطاني الشهير ، في كتابه ((أسخيلوس وأثينا)) إلى أن العديد من الإسبارطيين كانوا يفضلون تسليم الديمقراطية الاثينية للفرس ، مما يفسر مماطلتهم في إغاثة أثينا ضد الغزو الأخميني . وأتخذ نفس الموقف حكام طيبة الأرستقراطيون ، الذين ساندوا الغزاة . ويؤخذ من استقصاء سياسات المدن اليونانية في أثناء الفتح الأخميني أن أعوان الفرس كانوا أمـا أرستقراطيين وأمـا تجاراً ، أو على الأقل من المعادين للديمقراطية كما هو حال أهل إسبارطة (الاشتراكيين) . ويقدم لنا ذلك دليلاً مبكراً على أن الاصطدام بين المصالح الطبقية للمستغلين ومصالح الوطن العليا غالباً ما يسفر عن التضحية بالثانية لحساب الأولى . وتكمن في هذه الحقيقية أصول الخيانة القومية ، كما يتحدد طبقاً لها مصدر الخيانة ، أي الجهة المؤهلة دومـاً لتمثيل دور العمالة للأجنبي .
عرف تاريخ الفتوحات اللاحقة أمثلة عديدة من هذا الطراز . وفي الكثير من الحالات كان الاعتماد على شخص محلي يتولى السلطة في الإقليم المحتل نيابة عن الفاتحين هو الشكل السائد للعمالة . هذا حين يرى الفاتح أن حكمهُ السافر قد يثير أرتكاسات لا قبل لهُ بها . وتساعد هذه الخطة على إدامة الاحتلال أمداً أطول بالنظر إلى عدة عوامل منها :صلة القرابة بين الطاغية المحلي وشعبهُ . إذ أن هذه الصلة لا تساعد كثيراً على تأليب الشعب ضده ، خلافاً لما لو كان يجابه حكماً أجنبياً سافراً . كما يستفيد الفاتح من نائبه المحلي في كسب أو تحييد قطاعات من الشعب ليس فقط تحت تأثير صلة القربى وأنما أيضاً بسبب المصالح الطبقية التي يمكن أن تجمع حولهُ فئات اجتماعية تنتمي إلى نفس الأصل القومي . يضاف إلى ذلك أن الطاغية المحلي يعرف أوضاع شعبهُ ووطنهُ أكثر من سيدهُ الأجنبي . وهو لذلك أقدر منهُ على معالجة شؤون الحكم وتوطيدهُ، ولا يجب أن يغيب عن البال مرة أخرى أن مثل هذا التكتيك لم يكن واسع الانتشار لأنهُ يفترض من جهة تطوراً في الدهاء لا تحتمله الإمبراطوريات القديمة كما قلنا ، ومن جهة أخرى تماسكاً قومياً لم تعرفهُ آلا العصور الحديثة .
هناك صنف من العمالة يدخل في باب الولاء الذي من الغالب أن تفرضهُ إمبراطورية عاتية على حكام ضعاف . يكون الحاكم من هذا الصنف تابعاً للإمبراطورية ملزما بتقديم الخدمات التي تقتضيها مصالحها العسكرية والسياسية والاقتصادية ، في مقابل حمايتها لعرشه . أن هذه الطريقة شائعة جدا في تاريخ السياسة بحيث يندر أن تتربع إمبراطورية على عرش السيادة والسطوة دون أن تتحلق حولها مجموعة من الممالك التابعة . وتعيش هذه الممالك تحت طائلة التهديد بالاجتياح لدى أية بادرة للخروج على شروط الولاء ، بينما يعطي ضعف الإمبراطورية أو هزيمتها في حرب فرصة التمرد للتابع الذي قد يندفع ، تحت تأثير نزعة شخصية، إلى الاستقلال عن سيدهُ ، وقد يرتمي في أحضان الدولة الغالبة متحولاً عن ولائهُ السابق .
مرتكز العمالة هنا هو عدم التكافؤ في القوة . ومن المعتاد لذلك أن يكون طرفاه دولة قوية _ إمبراطورية ، ومملكة صغيرة لا تقوى على مجابهتها فتقدم لها الخضوع ويصير حاكمها تابعاً .. على أن المصلحة الشخصية للحاكم غالباً ما تحصل في ظل الولاء على شروط الضامنة لها ، من حيث بقاؤه في الحكم واستحواذه على نصيب من المكاسب التي يوفرها الإقليم التابع لأسياده . ويشكل ذلك عاملاً على إدامة الولاء بقدر معين من الطوع . لكن عامل القهر لا يبرح كامنا رغم ذلك . وكثيراً ما ينشأ عنهُ شعور بالغبن والظلم لدى التابع القديم الذي يمثل الطرف المغلوب في هذه العلاقة . وهو مر تكس طبيعي في النفس البشرية يحتفظ المغلوب تحت تأثيره ببعض الأصالة في شخصيته إلى المستوى الذي يمنع ذوبانها في شخصية السيد . وتكمن هنا نزعة الاستقلال الخفية التي قد تنشر مع أول بادرة ضعف تصيب الطرف الغالب . قد يكون لهذا العامل أثرهُ في تقييد اندفاع التابع في خدمة مصالح السيد ، والحيلولة دون تماديه في الاستجابة لرغباتهِ . وهكذا تظل شخصية التابع القديم في كثير من الحالات متمايزة بعض الشيء عن شخصية السيد ، على الأقل في حدود إقليمه ، ما لم يصبح الإقليم نفسه دولة سائدة أو إمبراطورية .. وقد شهد العالم القديم تقلبات كبيرة من هذا الطراز .
* * *
أوردت المصادر العربية حكاية حول سقوط مدينة الحضر على يد الملك الساساني سابور الأول ملخصها أن (النضيرة بنت الضيزن) ملك الحضر خرجت إلى ربض المدينة المحاصرة ، أي ميدانها العام ، فرآها سابور ورأتهُ ،وكان كلاهما في غاية الحسن ، فراسلتهُ سراً تعرض عليه تسهيل فتح المدينة لقاء الزواج منها . وقد دلته على ثغرة ، وفي رواية أنها عرفتهُ بطلسم المدينة ، ففتحها وقتل الملك ثم وفى للأميرة الخائنة فتزوجها. وقد تضمنت الحكاية جزاء العمالة على النحو التالي :
لما أعرس سابور بالنضيرة لم تزل ليلتها تتضور ولا تستطيع النوم ، فالتمس السبب في ذلك فإذا وريقة آس ملتصقة بأحد أجزاء بطنها ، وأذ دهش سابور من رقة جلدها وعدم تحمله وريقة آس سألها : ما كان يغذوك به أبوك ؟ فقالت بالزبد والمخ وشهد الأبكار من النحل وصفو الخمر . وقد أثارت بهذا الوصف شعوره بفداحة الجريمة التي ارتكبتها بحق والدها فأمر بربط ظفائرها بفرس جموح ثم أستركضها فتقطعت أربـاً .
قد تكون هذه الحكاية صحيحة إذا نقيت من التوابل ، فالقيم الأخلاقية للملوك وأولادهم لا تتعارض مع هذا السلوك . وهي مع جواز ترجيحها أقدم نموذج للعمالة في تاريخ العرب .
على أن الدنيا نموذجا أخر أكثر شهرة تمثلهُ قصة أبي رغال .وكان هذا رجلا من ثقيف تطوع ليدل أبرهة الحبشي على الطريق المؤدي إلى مكة في حملتهُ المشهورة عليها . وكان أبو رغال قد توفي أثناء الحملة . وبعد انسحاب أبرهة بنـى العرب على قبرهُ الواقع في منـى على مقربة من الكعبة نصبـاً أخذوا يرجمونه كل عام في موسم الحج . ورجم أبي رغال هو رجم للعاملة المتمثلة في شخصهُ . هذه الحكاية مقبولة على العموم لأن قبر أبي رغال بقي معروفاً إلى أمد غير قصير بعد الإسلام وقد وردت الإشارة إليه في شعر هجـا به جرير الفرزدق جاء فيه :
إذا مـات الفرزدق فارجموه كرجم الناس قبر أبي رغال
لكن بمرور الزمن طمست حكاية أبي رغال وأستبدل المسلمون برجمهِ رجم أنصاب تمثل الشياطين . ولا أدري لعل لملوك المسلمين يداً في هذا الطمس أذ من المسلم به أن رجم الشيطان أهون على الملك من رجم عميل أو خائن .. على أية حال ، فان أبا رغال هو من اوائل العملاء في تاريخ العرب . أمـا صنف عمالته فهو ( عسكري ) ودورها يتحدد في خدمة الأغراض الحربية لجيش احتلال .
عرف تاريخ العرب صنفاً آخر من العمالة يمكن وضعهُ على ملاك الدول التابعة للإمبراطوريات الكبرى . وهو يتمثل أساسا في دولتي الغساسنة والمناذرة .
1_ الغساسنة :
أنشئت هذه السلالة بمساعدة من بيزنطيا ، ومؤسسوها من قبيلة الازد اليمنية وهم آل جفنة الذي يقال أنه مؤسس السلالة . كان مقرها الجابية ، من قرى الجولان ، وشملت رقعة الحدود الجنوب شرقية لبلاد الشام . وكان هذا البطن من الازد قد هاجر إلى جنوبي سوريا الخاضعة للحكم البيزنطي وشاركوا هناك في حروب البيزنطي فأنعم عليهم هؤلاء بالألقاب والمكافآت . وأذ توطدت حالة الولاء بين الطرفين رأى البيزنطيون إمكان الاستفادة من آل جفنة في مجالات أوسع فانشأوا لهم دولة ضمنت المناطق المذكورة . أن موقع الدولة الغسانية يشير إلى الغرض الاستراتيجي الذي توختهُ بيزنطيا من إنشائها ، ذلك أن الحدود الشرقية لسوريا كانت على الدوام عرضة لهجمات القبائل العربية في بادية الشام . ولم يكن لدى الرومان من المكنة مـا يكفي لمجابهة هذه الهجمات المستمرة ، والمدعومة أحياناً من الساسانيين ووكلائهم في الحيرة. وقد اعتبرت دولة الغساسنة من طراز الدول الحاجزة لأنها تقع على النطاق الفاصل بين منطقتي النفوذ الساسانية والبيزنطية .
قامت هذه الدولة بمهامها ، كدولة تابعة ، في إسناد المشاريع الحربية للرومان وشاركت في حروبهم ضد الساسانيين والمناذرة كما استخدموها لكبح جماح القبائل العربية وبسط نفوذهم عليها . وكان الرومان هم المسيرين الفعليين لسياسة الغساسنة وقد تدخلوا في تعيين ملوكهم في حالات اختلال ولاية العهد . أو لاستبعاد من يشكون في ولائهُ . وكانت الدولة تحصل على أعانه سنوية من بيزنطيا ، على غرار الإعانة التي كان يتلقاها شرق الأردن من بريطانيا والتي حلت محلها الآن أعانه من بعض الدول التابعة .
أستمر الغساسنة طوال القرن السادس للميلاد . ثم طرأ خلاف مع القسطنطينية أدى إلى سحب حمايتها لهم وقطع الإعانة المالية فلجأ الغساسنة إلى الصحراء وصاروا يشنون الغارات على حدود أسيادهم الذين ردوا عليهم بحملة استئصال عام 584م ،ألا أن البيزنطيين عادوا فعينوا ملكاً غسانياً جديداً حيث أعيد تشكيل السلالة لعجزهم عن ضبط الأمن في تلك الأنحاء . وقد أستمر الحكم الغساني بعد ذلك في صيغ باهتة حتى الفتح الإسلامي .
وأثبت الغساسنة ولاءهم للرومان بانضمامهم إلى الجيش البيزنطي في حربه ضد العرب المسلمين الذين غزوا بلاد الشام في خلافة أبي بكـر . وبعد هزيمة البيزنطيين أستسلم أخر ملوكهم جبلة بن الايهم الذي أعتنق الإسلام ووفد على عمر بن الخطاب .
وكان للرابطة القومية أثرها في موقف الملك الغساني . أذ كان في وسع جبلة أن يلتحق بالقسطنطينية . ويبدو مع ذلك أنه كان يتوقع المحافظ على مركز معين في غضون علاقته الجديدة ، خاصة وأن عمر بن الخطاب لم يضع قيداً على الملكية الخاصة أو الشخصية ، لولا أن يصطدم بمعضلة المساواة التي يمنحها الدين الجديد لاتباعهُ بصرف النظر عن مركزهم الطبقي . وقد حملهُ ذلك على الارتداد بسبب حادثة اللطمة المشهورة مضحياً بالاعتبارات القومية لصالح وضعه الطبقي . وقد مات جبلة لاجئـاً بالقسطنطينية ..
2_المناذرة
جماعة من قبيلة تنوخ اليمنية ، هاجرت إلى الفرات الأوسط وأقامت لها كيانا تطور فيما بعد إلى دولة . وقد صادف ذلك آخر أيام الفرثيين في العراق مما ساعد المناذرة على توطيد أوضاعهم في معزل عن الدول الكبرى . ألا أن ظهور الساسانيين وضع الدولة الناشئة أمام خيارين : مصير الحضر أو الارتماء في أحاضن الإمبراطورية الجديدة . وقد أختار جذيمة بن الابرش ، الذي قد يكون ثالث ملوك السلالة ، الخيار الثاني ، فوضع دولتهُ في حماية الساسانيين لضمان مستقبلها . وقد استمرت دولة المناذرة ما يزيد على الثلاثة قرون مارست فيها دور العميل للإمبراطورية الساسانية . وفي زمن النعمان الأول _ أوائل القرن الخامس _ كانت هناك حامية فارسية تقيم في الحيرة _ عاصمة المناذرة _ قوامها ألف جندي يبدو أنها أرسلت لتعزيز سطوة النعمان على القبائل العربية . ويندرج هذا الأجراء في ملاك المساعدة العسكرية التي تقدمها الدولة السيدة للتابعة ، على النحو المعروف في الإمبراطوريات الحديثة ، اعتادت على وضع حاميات أو قواعد عسكرية في بعض الدول التي يديرها عملاءها .
أن تبعية الغساسنة والمناذرة لإمبراطوريتين متخاصمتين أوقع الخصام فيما بينهما . إذ هبت كل من الدولتين تحارب الأخرى على انفراد أو على سبيل المشاركة في حروب الإمبراطوريتين . ولم يمنع من استمرار حالة الحرب انتماء الدولتين إلى دين واحد هو المسيحية ، التي لم تكن بدورها حائلاً دون عمالة المناذرة لإمبراطورية الساسانيين الوثينة . ومثلما تراجعت الاعتبارات الدينية لحساب التناقض في المصالح ، تراجعت الروابط القومية . وكما نعلم فالمناذرة والغساسنة عرب لكن ذلك لم يمنعهما من التخاصم كما لم يحل دون ارتمائهما في أحضان الأجانب .
على أن تاريخ الدولتين يزودنا ببعض الدلالات المهمة في صدد علاقاتهما بأسيادهما . لقد ذكرنا سالفاً أن عامل القهر الذي تعانيه الدول الصغيرة يخلق شعوراً كامناً بالغبن يمكن أن يظهر في حالات معينة على شكل نزعة مستقلة ، مقترناً ذلك كما قلنا باحتفاظ شخصية التابع بنسبة من الأصالة تمنع انصهارها في شخصية السيد . ونأتي إلى الدولتين العربيتين فنلاحظ تعرجاً في سياستهما الخارجية تجسده حالات الخصومة التي وقعت بين الغساسنة وأسيادهم الرومان ، وبين المناذرة وأسيادهم الفرس . فقد أختلف المنذر بن الحارث الغساني مع القسطنطينية وأتخذ الخلاف شكلاً دينياً تمثل في تأييد المنذر لليعاقبة الخارجين على تعاليم بيزنطيا . وفي مجرى هذا الخلاف دبر البيزنطيون مؤامرة لاغتيال المنذر أدى افتضاحها إلى إعلان العصيان ضدهم . وبسبب عجز البيزنطيين عن قمع العصيان ، خاصة بعد أن أغتنم المناذرة الفرصة فهاجموا أطراف الشام ، سعوا إلى استرضاء المنذر ودعوته من ثم لزيارة القسطنطينية ، حيث أنعم عليه الإمبراطور تيباروس بالتاج ، وهو تكريم لم يحظ بهِ أحد من أتباعهم العرب قبلهُ . ألا أن حالة الوفاق لم تستمر وأدى عدم ثقة البيزنطيين بالمنذر إلى تدبير مؤامرة أخرى انتهت بالقبض عليهِ ونفيهِ إلى صقلية . وقد رافق ذلك أجراء آخر بقطع الإعانة المالية عن دولة الغساسنة . وهنا أنسحب خلفاء المنذر إلى البادية للتمركز فيها وشن الغارات منها على الشام . ورغم أن البيزنطيين استطاعوا كبح هذه الغارات وأسر الأمير الغساني النعمان بن المنذر فانهم اضطروا إلى أعاده السلطة إلى الغساسنة فعينوا ملكاً جديداً من آل جفنة . وكان هذا الملك وخلفاؤه ضعافاً فاستمروا في خدمة السياسة البيزنطينة حتى الفتح الإسلامي .
أما المناذرة فكانوا أقل استقلالا من زملائهم في الشام . فقد واصلوا ، باستقامة ، خدماتهم للساسانيين في الصراع ضد بيزنطيا وعملائها الغساسنة من جهة وضد القبائل العربية من الجهة الأخرى . ويبدو مع هذا أن ظهور مخايل الضعف على دولة الاكاسرة أثار لدى آخر ملوك الحيرة نزوعاً إلى الاستقلال . إذ يورد أبو حنيفة الدينوري حديثاً على لسان كسرى أبرويز يعكس تخوفه من نوايا النعمان بن المنذر _ أبو قابوس (1) ، مع الإشارة إلى إرهاصات نهوض عربي شامل ضد تسلط الساسانيين . وربما ألقت حكاية عدي بن زيد التي رويت في الأغاني ضوءاً على الملابسات التي انتهت بالقضاء على دويلة الحيرة . أن عدي بن زيد من شعراء الجاهلية المعروفين ، وكان مسيحياً خلاف أغلبية زملائه الذين كانوا على الشرك . وقد أشتغل أولاً في ديوان كسرى وترقى به الحال حتى أصبح من الشخصيات السياسية التي يعتمد عليها الساسانيون في توطيد نفوذهم في الحيرة . وتقول رواية الأغاني أنهُ سعى لأقرار النعمان بن المنذر ملكاً بعد وفاة والده مستخدماً نفوذه في البلاط الساساني . لكن النعمان تنكر له فيما بعد ، ويحتمل أن تكون لذلك صلة بنوايـا الأخير الاستقلالية التي كان لا بد لها أن تصطدم باتجاهات عدي بن زيد . وانتهى الأمر بحبس الشاعر العميل في الحيرة . وقد أثار هذا الأجراء كسرى فكتب إلى النعمان يأمرهُ بإطلاق عدي من السجن لكن النعمان قتلهُ قبل أن تبلغهُ الرسالة . ولكن يبرئ ساحتهُ من التحدي المقصود لأمر الإمبراطور أعتذر لقتله لعدي واوفد أليه أبنهُ زيداً موضحا له أن في مقدوره أن يملأ موضع أبيه لما يتمتع به من كفاءات . فسكت أبرويز على مضض . ولدينا ما يفيد أن زيد بن عدي أخذ يكيد للنعمان عند كسرى ، وتربط رواية الأغاني حادثة القبض على النعمان وتصفيته فيما بعد ، بمسألة الخطوبة التي أوحى بها زيد لكسرى حيث أقترح على الأخير أن يتقدم لخطبة إحدى بنات النعمان ، وكان زيد يتوقع أن يرفض النعمان هذا الطلب جريا على التقليد البدوي القاضي بعد تزويج العربية من الأعجمي . وهو ما حدث بالفعل . مما حمل كسرى على استقدامهُ وإيداعهُ السجن ، وقد أنتهى بانتهائهُ حكم المناذرة . ولا شك في أن أبرويز كان أدهى من أن يضحي بدولة تابعة تشغل موقعاً هاماً في إستراتيجية الساسانيين بدوافع عاطفية بحتة . وبالتالي فإذا كان في وسعنا قبول ما تضمنته رواية الأغاني فلا مناص من اعتباره ذريعة للتخلص من تابع ذي ميول خطرة .
تكشف تجربة الغساسنة والمناذرة مع إمبراطوريتين الكبيرتين الطابع غير المستقر للعلاقة بين العميل القديم وسيده ، وهي تزودنا بدليل ملموس على المنحى السيكولوجي الذي اتخذتهُ العمالة ، آنذاك ، كعلاقة غير متكافئة بين غالب ومغلوب .
بظهور الدولـة العربية - المسلمة حدث اتجاه جديد في علاقات العمالة . فقد أصبح الفرد العربي عضوا في مؤسسة سياسية سائدة ، أي قوة كبرى ، مما يلغي أو يضعف من الشروط المادية والنفسية للعمالة . وإذ أقام العرب دولة أصبحت هي الأقوى في تلك الأصقاع لم تعد هناك ضغوط تفرض على العربي أن يكون عميلاً لدولة أجنبية . ومع الانتقال من الضعف إلى القوة كان منتظراً أن يحل مكان الشعور السابق بالغبن والظلم شعور بالسيادة سرعان ما تعاظم مع السياسة الأموية التي قامت على الاستعلاء القومي المعتمد على تنظيرات دينية مطابقة (2) . يمكن أن يضاف إلى ذلك أن المزايا الاقتصادية والاجتماعية التي توفرها العمالة في المعتاد صار توفرها ميسوراً في ظل الدولة الجديدة لأولئك الذين تسيرهم هذه الاعتبارات وتخلق لديهم الاستعداد ليكونوا عملاء . أن استقراء الحوادث منذ ظهور الإسلام في يثرب حتى أمد متقدم من عصر الخلافة العباسية يقودنا إلى هذه النتيجة وهي أن الدول الأجنبية ذات المصلحة في بلاد العرب أصبحت تلقى صعوبة بالغة في الحصول على عميل يخدم سياستها . وفي الحروب التي جرت بين العرب وكل من الساسانيين والبيزنطيين كان معسكر العرب خالياً تماماً من الرتل الخامس ، هذا إذا استثنينا الرواية التي تحدثت عن تعاطف أبي سفيان مع الروم في معركة اليرموك (3)، على أن الحرب الأهلية في الإسلام ، التي بدأت بمعركة الجمل 36هجريةـ هيأت وسطاً مناسباً لظهور صنف آخر من العمالة أستخدمهُ فريق معين هو في العادة الفريق المالك للثروة والمتمتع بموقع استغلالي متين .يتسم هذا الصنف بميزتين ، الأولى أنهُ يقوم على بعد طبقي خالص مستعد من طبيعة الحرب الأهلية بوصفها الوجه العسكري لصراع الطبقات داخل الآمة الواحدة . وهو بذلك يختلف عن الصنف السابق ، الذي يخدم فيه العميل مصالح دولة أجنبية ، اختلافاً يمس أطراف العلاقة في كلتا الحالتين تبعاً لما يوضحه الجدول التالي :
العميل السيد
الصنف الأول : تابع محلي دولة أجنبية
الصنف الثاني : تابع محلي حاكم أو قائد محلي
ولا يمتد الاختلاف إلى أسس أو دوافع العمالة لأنها في الحالتين نابعة من المصالح الاقتصادية والاجتماعية لمختلف أطراف العلاقة .
الميزة الثانية لهذا الصنف من العمالة خلوهُ من عامل القهر ، فالعلاقة هي بين طرفين يتفاوتان في موقعهما الاجتماعي وليس بين تابع ضعيف وسيد قوي . ومع غياب هذا العامل تأخذ العمالة شكل علاقة مطواعة بين طرفين مستغلين في نطاق أمة واحدة كما سيتضح في التفاصيل اللاحقة . ظهر هذا الشكل من العمالة للمرة الأولى في معركة صفين التي كان طرفاها عرب الشام وعرب العراق . ولهذه التجربة خلفية ترجع إلى اختلاف معاملة الاتباع بين الزعيمين المتناحرين علي معاوية . فمن المعروف أن فئة أطلق عليها اصطلاح أهل الأثرة أو المستأثرين قد تألفت في غضون الفتح الإسلامي من كبار الصحابة وقادة الفتح وزعماء القبائل، وكانت قد حصلت على مواقع متميزة منذ خلافة عمر بن الخطاب ثم قفزت إلى موقع السلطة والسيطرة في خلافة عثمان أبن عفان مستأثرة بحصة الأسد من عوائد الفتوحات . ولما أستخلف علي بن أبي طالب ألغى الامتيازات المالية والاجتماعية التي كانت تحصل عليها هذه الفئة في السابق ، وقد أدت سياسية علي إلى انضمام أكثر ممثليها علانية إلى المعسكر الأموي في الشام ، ألا أن شطراً هاماً منهم بقي في معسكر علي، وأذ أتخذ الصراع بعد انتقال علي إلى العراق طابع مجابهة بين الشاميين والعراقيين فقد صار العراقي بحكم ذلك ، طرفاً في المجابهة ، بصرف النظر عن موقعهُ الاجتماعي ، مستأثراً أم محروماً . وقد أدى ذلك إلى تعزيز بقايا المستأثرين في معسكر أهل العراق ، مما كان يشكل بحد ذاتهُ أرضية صالحة للتواطؤ مع الطرف المستعد لتقديم المال والسطوة والجاه . ويبدو أن هذا ما استطاع معاوية أن يستغلهُ بدهائهُ المعروف فينشئ له رتلاً خامساً بين أتباع علي أنيطت به مهمات معينة . وقد كشف تطور الأحداث عن بعض عناصر هذا الرتل أد تخبرنا المصادر أن علياً أبلغ عن أشخاص يكاتبون معاوية سراً وأشار عليه أنصارهُ الخلص أن يعتقلهم ، ألا أنهُ كان يرفض أجراء كهذا متمسكاً بمبدأ دستوري يقول (( لا حبس على التهمة )) .. وهناك ما يشير إلى أن النشاطات كانت قد امتدت إلى عدة مجالات يمكن أن نرصد منها مكيدة رفع المصاحف ، فقد فوجئ علي في تلك الساعة برهط يقودهم الأشعت بن قيس وشبت بن ربعي ، مع رهط آخر من المتدينيين كانوا يعرفون بالقراء تحيط به وتدعوه إلى وقف القتال فوراً .
وكانت مقدمة جيش علي بقيادة مالك الأشتر على وشك احتلال مقر قيادة معاوية . وقد رأى علي نفسهُ أمام تمرد عسكري لا طاقة لهُ به فأنصاع للضغط وأصدر أمره إلى الأشتر بالتراجع .
وبهذا حققت العمالة ، متضامنة مع التزمت الديني أول إنجاز كبير لها في تحويل مجرى الأحداث ، إذ أنقذت الأمويين من انهيار محترم . وأستثمر الأشعت ورهطهُ هذا النصر فبرزوا كمدافعين عن السلم بين المسلمين وانتزعوا من علي الموافقة على التحكيم ثم فرضوا عليه اختيار أبي موسى الأشعري ممثلاً له مستغلين مكانتهُ الدينية كصحابي كبير . وكان أبو موسى منحرفاُ عن علي بفضل الامتيازات التي كان يتمتع بها زمن عثمان. يستفاد من المصادر عن علي بفضل الامتيازات التي كان يتمتع بها زمن عثمان . يستفاد من المصادر أيضاً أن عملاء معاوية شاركوا أولاً في انشقاق الخوارج ثم سعوا إلى توسيع الشقة بين علي وبينهم _ أي الخوارج _ خدمة لأهداف معاوية الإستراتيجية . وبذلوا مساعي حثيثة لدفع علي إلى مقاتله الخوارج بدلاً من أهل الشام . ومن المثير للانتباه أن بعض الزعماء المتحمسين لوقف القتال في صفين ممن كان يشملهم وصف الخوارج أصبحوا يتحمسون لمقابلة الخوارج فيما بعد بحيث لا يبقى من المنشقين الأصليين غير القراء ، الذين انشقوا تحت تأثير ديني . هكذا قام العملاء بدور شديد التعقيد : وقف القتال في صفين عندما كان أهل الشام على وشك الانهيار . تكريس الانشقاق الخارجي ، ثم نقل الصراع بين علي ومعاوية إلى صراع بين علي والخوارج وجعل الشام في مأمن من هجوم جديد مدة تكفي لتثبيت نفوذ الأمويين وزيادة قوتهم العسكرية .
قام عملاء معاوية في العراق بمهمة أخرى تختص بالتعبئة . نحن نعرف حتى الآن أن أهل العراق كانوا يتقاعدون عن الجهاد ضد معاوية . وكان علي قد شكا من هذا التقاعس بطريقة توحي بإلقاء اللوم فيه على الفرد العادي .وقد استمرت الأجيال تنظر إلى تخاذل أهل العراق من زاوية هذا التصور بمستوى تجسده كناية شعبية مستعملة حتى الآن في عامية العراق تصف أهل العراق بأنهم ( أهل البيعة ) أي يبايعون القائد ثم يخذلونهُ . لكن كشف دور العمالة في أحداث تلك الآونة يمكن أن يعطينا تصوراً جديداً . في البدء يمكن أن يلاحظ أن العلاقات القبلية استمرت تحكم سلوك وتوجهات الفرد العادي رغم التمايز الطبقي الذي طفق يحجز منذ أواخر الجاهلية بين العناصر المتنفذة في القبيلة وأفرادها العاديين . ومن خلال عضوية الفرد في القبيلة كان الشيخ لا يزال قادراً على التحكم في ولائه السياسي ، أو على الأقل ، في مواقفه الآنية . خاصة على صعيد القتال . وضمن هذا الوضع كان لا يزال ممكناً أن يتحدد اختيار الفرد تبعاً لانتمائهُ القبلي ، كما تتحدد تبعاً لذلك مساهمتهُ في أية الحرب ، دون النظر _ في الغالب _ إلى الغاية من تلك الحرب . أن حماس المقاتل القبلي مرتبط أساساً بالحمية التي يثيرها في المقام الأول انتماؤه للقبيلة ، كما تكتسب الحرب عدالتها في نظرهُ ، فقط بالاستناد إلى هذا الانتماء (4) . قد لا يكون للانتماء القبلي مع هذا تأثير فعال في حالات المجابهة الخارجية، حيث تتجمد التناقضات بين القبائل أمام العدو المشترك . يحدث هذا ،خصوصاً ، عند مرحلة من حياة الأمة تكون فيها قد استكملت بعض خصائص الوحدة القومية إلى جانب النظام القبلي السائد. وفي مثال الأمة العربية عند ظهور الإسلام يمكن احتساب هذا العامل ، ناظرين إلى ظروف كان العرب قد أحتقبوا فيها قسطاً من الوعي القومي إزاء التحديات التي فرضتها عليهم قوى الاحتلال من بيزنطيين وساسانيين وأحباش . وقد خاض العرب حروب الفتح الأولى بوصفهم أمة ، تحمل ، إلى جانب ذلك الشكل من الوحدة القومية ، حافزا بحجز القبيلة مستمداً من الإسلام .
تحت تأثير هذه العوامل يمكن أن يتراجع الوعي القبلي لمصلحة وعي أعم : ديني أو قومي أو وطني . إلا أن الحرب الأهلية في مجتمع قائم على وحدة القبيلة يمكن أن تعيد الرابطة القبلية إلى قوتها بالنظر إلى أن هذه الحرب تقوم أصلاً على تخطي الاعتبارات المشتركة التي يقترن عجزها عن مقاومة عوامل التشتت الاجتماعي بتفاقم الصراع بين القطاعات المختلفة في المجتمع .
في مثل هذا الوضع لا بد للتعبئة من أن تمر بالقبلية ، لكنت مع استثناء يشمل العناصر المنخرطة في الصراع الطبقي ، حيث يتحدد الانتماء إلى أن أي من المعسكرين بالموقف الطبقي للفرد .ولدى الرجوع إلى تأريخ الصراع الطبقي في صدر الإسلام نجد أن طرفي الصراع تألف من المستأثرين من مختلف القبائل ، والمحرومين من مختلف القبائل أيضاً لكن هذا الفرز كان يشترط بالنسبة إلى جماهير القبيلة وعياً اجتماعياً قادراً على خلخلة الرابطة بين المتنفذ والفرد العادي ، وقد توفر ذلك في حدود معينة ضمن العناصر الطليعية آنذاك ، إلا أنهُ لم يطرد إلى الحد الذي من شأنهُ أزاحه مركز القبيلة في ميدان الصراع إلى الخط الثاني .
نستطيع أن نخلص من هنا إلى أن التقاعس الذي تحدثت عنه خطب علي أبن أبي طالب كان محكوماً بعامل هام لم تكشف عنهُ الخطب أنما يمكن رؤيتهُ في نشاطات الرتل الخامس الذين اشتراهم معاوية من زعماء القبائل في العراق واضعين بالحسبان حتمية التنسيق بين السيد وعملائه إلى المستوى الذي ينفي عن نشاط العميل صفة المبادرة الفردية الصرفة . وأذ ترتهن إمكانات التعبئة بشروط الانتماء القبلي ، فأن جزءا من التنسيق يمكن أن يكون قد وجه لحجب الأفراد عن تأييد علي والقتال معهُ مستهدفاً تسديد ضربة إلى نظام التعبئة عند أهل العراق . وهنا أجد ما يسوغ لي القول أن جهود الرتل الخامس من زعماء القبائل العراقية كانت هي السبب في أن علي أبن أبي طالب لم يستطع في أخر محاولة له لاستئناف القتال ضد معاوية أن يحشد أكثر من ثلاثين ألف مقاتل بينما كان جيشه يتألف في معركة صفين من ثمانين ألفاً . وقد تعذر عليه حشد هذا الجيش الصغير قبل أن يلجأ ، في لحظة يأس وجزع ، إلى تطبيق إجراءات تجنيد إجباري حاول بها تكملة القطاع الموالي من المقاتلين . ومن المعروف أن هذه الإجراءات لا تكون فعالة إلا من خلال زعيم القبيلة في المجتمع القبلي ، أو صاحب الاقطاعة في المجتمع الإقطاعي . ولم يكن المجتمع العربي حينذاك إلا واحداً من هذين ..
استخدمت العمالة في حين لاحق لأغراض عسكرية أخرى . ويرجع إلى عبد الملك بن مروان ، أقدم تطبيق لتلك الخطة التي تصمم لتحقيق نصر مضمون وسهل في المعارك التي يمتلك فيها الخصم قوة ضاربة . كان ذلك في حربه ضد مصعب بن الزبير . وكان مصعب قد حشد جيشاً ضخماً ، ولما ألتحم الجيشان كانت طليعة مصعب بقيادة إبراهيم بن الأشتر قد تعرضت لضغط شديد من أهل الشام فأمده مصعب بقوة يقودها عتاب بن ورقاء . وما أن أخذت هذه القوة موضعها في ميدان المعركة حتى انهزمت . ويؤكد الطبري _ حوادث 71هـ _ أن الهزيمة كانت مفتعلة لأن عتاب كان قد كاتب عبد الملك على ذلك . وقد نجم عن هذه الهزيمة تشتت الفصائل الضاربة من جيش مصعب ومقتل قائدها إبراهيم بن الأشتر . وحين أوعز مصعب لبقية القادة بالهجوم أحجم أكثرهم ، وكما يقول الطبري فأنهم تصرفوا على هذا النحو بناء على مكاتبتهم لعبد الملك .وقد انتهت المعركة بمقتل مصعب واحتلال الكوفة.
أن الهزيمة دون قتال تعطي العدو كما قلنا نصراً سهلاً حيثما كان الطرف المغدور يملك ثقلاً راجحاً . على أن هذا الأسلوب ليس ميسوراً على الدوام لأنهُ يفترض شرطاً مسبقاً هو احتواء معسكر الخصم على الأشراف : ملاكا وزعماء قبائل ومتنفذين . فالأشراف ، بحكم طبيعتهم الاجتماعية ، يملكون الاستعداد لبيع ولأمر لأي طرف يضمن لهم مصالحهم . وغالباً ما يكون هذا الطرف سلطة قائمة ، أو جماعة في طريقها إلى السلطة . ومن هنا فأن الظرف الملائم لاستخدام العمالة في هذا المجال يتحقق في إحدى حالتين :الصراع بين الجبهات الأرستقراطية نفسها ، كما هو الحال في صراع الأمويين والزبيريين ،أو العباسيين والأمويين . أمــا الثانية فهي حالة الحركات المعارضة التي تملك بعداً جماهيرياً ألا أنها تفتقر إلى فرز طبقي حاسم . وفي الحالة الأولى يكون الأشراف موزعين على المعسكرين ، مما يتيح للمعسكر الأقوى والأغنى شراء العملاء من المعسكر الآخر ، مثال ذلك ما فعلهُ عبد الملك في حربه ضد مصعب بن الزبير . وفي الحالة الثانية يفسح الافتقار إلى الفرز الطبقي مكانا للأشراف في حركة المعارضة التي تسمح أهدافها العريضة بإنشائها من عناصر اجتماعية متضاربة . وهذا هو شأن معظم حركات المعارضة ضد الأمويين وأوائل العباسيين . وتلقي الرواية التالية للطبري ضوءا على الدور الخطير للأشراف في إجهاض مثل هذه الحركات :
يقول الطبري أن الحسين بن علي لما كان في الطريق إلى كربلاء لقيه شخص يدعى مجمع بن عبد الله العائدي كان قد خرج من الكوفة للالتحاق به . فسأله الحسين عن الوضع هناك فأوجزه مجمع بقوله :
أمـا أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم بالمال يستمال به ودهم وتطلب به نصيحتهم فهم ألب واحد عليك .. وأمـا سائر الناس بعد فأن قلوبهم معك وسيوفهم غدا مشهورة عليك ...
من الجدير بالملاحظة هنا أن حركات التشيع الأولى كانت ترى أن بالإمكان الاستفادة من الأشراف دون إعطائهم الثمن المكافئ لتأييدهم ، مستندة إلى القوة المفترضة للعامل الديني . وقد جعلها ذلك ملغومة بالرتل الخامس في معظم الأحيان ونحن واجدون على العكس أن الحركة التي تقوم على استقطاب طبقي حاد يمكنها أن تطمئن إلى نظافة معسكرها . لماذا لم يتوصل العباسيون مثلا إلى استخدام هذا الشكل من العمالة في حروبهم مع القرامطة والزنج رغم أنها كانت من الحروب النظامية التي يشتبك فيها جيشان متماثلان في القوة ؟ أن السر في تقديري يكمن في أن الطبيعة الطبقية لهاتين الحركتين كانت من الشدة والاستقطاب بما حال دون تسلل الأشراف أليهما ، أو على الأقل دون أن يكون لهم فيهما نفوذ ضاغط حيثما طرأت حاجة إلى احتواء بعضهم أو إلى التحالف المرهون باعتبارات معينة تضطر الحركة إلى مراعاتها . ومن هنا لم يحدث لمعارك الزنج والقرامطة ما حدث لمعارك الفئات المعارضة التي سبقتهم والتي أصطبغ تأريخها بالاخفاقات الدامية الناتجة أساساً عن هذا العامل الخطر .
مكونات شخصية العميل القديم
بينت أنفاً أن التابع للأجنبي كان يعاني في عصر الإمبراطوريات القديمة شعوراً بالغبن ناجماً عن ضعفهُ تجاه الإمبراطورية . على أن قيامه بمهام العمالة للدولة السيدة يأخذ مجراه المعتاد بفضل الأغراء الذي يوفره الاحتفاظ بالسلطة في بلده وما يلحق بها من امتيازات يتمتع بها كحاكم . ويكتسب التابع من هذه الوجهة صفته كعميل ، لكن افتقار مهمته إلى عنصر الطوع يمنحه في الوقت نفسه قسطا من حرية التصرف يزداد مع تراخي الضغط عليه أو مع ضعف الإمبراطورية ، أو أي ظرف مناسب آخر . أن هذا يعني بدوره أن التابع يبطن استعداداً لتغيير سياستهُ من التبعية إلى الاستقلال أو نقل ولائه من جهة إلى أخرى ، فهو أذن ليس تكوينا ناجزا يمكن للدولة السيدة أن تدمجه في جهازها كما يندمج البرغي في الماكنة . أن تاريخ العمالة يبرهن على أن كثيراً من العملاء كانوا ينقلون ولائهم أو يعلنون استقلالهم ، وقد يتحولون بدورهم إلى أسياد . فالاحتفاظ بقـدر من الاستقلال الشخصي هو سمة مشتركة للعمالة القديمة . ومن المرجح أن يرجع ذلك سوسيولوجيا إلى تقارب المستويات الحضارية للمجتمعات الحاكمة والمحكومة ، إذ أن ضعف وتيرة التطور الحضاري في تلك العصور لم يكن ليسمح بأحداث هوة سحيقة بين مجتمع متقدم في سلم المدينة وأخر متخلف . لقد ظهرت لدى بعض الأمم السائدة آنذاك أعراض الشعور بالتفوق ، المقترن أحياناً بازدراء الأقوام الأخرى ، كما نشأت في زمن مبكر نزعة (مركزية الذات) Egocentrism و انعكست في الاسم الصيني لبلاد الصين وهو مؤلف من مقطعين : جين _ مركز وكوا _بلاد ، والمعنى : البلد الأوسط أي الذي في مركز العالم . ثم في أولى الخرائط التي رسمت في العالم حيث وضع البابليون مدينتهم بابل في مركز الدنيا ووضعوا المدن والبلدان الأخرى في الأطراف . ثم جاء الإغريق ليطلقوا تحت تأثير نفس النزعة وصف البرابرة على بقية الشعوب ، كما نجد نزعة مقاربة لدى العرب الذين سموا غيرهم أعاجم ، والعجمة في الأصل من صفات الحيوان غير الناطق .. لكن ضآلة الفروق في مستويات التطور الحضاري أوقفت هذا الشعور على عتبة أصحابه وليس لدينا في أثار الشعوب الأخرى إلا القليل من الأمثلة الدالة على المعادل السلبي للشعور بالتفوق ، أعني ذلك الشعور الحاد بالنقص الذي يمكن أن يتسرب إلى مجتمع متخلف في تعامله مع مجتمع متقدم من ذلك النوع الذي عانته بعض المجتمعات المعاصرة بالتكامل مع الأيديولوجيات العرقية التي نشرها الاستعمار الثقافي .
من هذه الناحية لا بد أن تختلف شخصية العميل المحلي عن زميله التابع فالعمالة المحلية يتوفر فيها أمل الطوع ، لأنها تقوم على التماثيل بين مصالح الطرفين وتتم بناء على مساومة يبيع فيها العميل خدماتهُ لسيده الذي تجمعه به علاقات الرعوية القائمة في الغالب على وحدة القومية أو الدين ، حيث يشترك السيد والعميل في استغلال الشعب من غير أن يمتاز الأول عن الثاني إلا بمركزه السياسي .
أن اختلاف طبيعة العمالة من الصنفين يؤدي إلى اختلاف شخصية العميل في كل منهما . وقـد لاحظنا الخصال المكونة لشخصية التابع وهي : الشعور بالغين ، النزعة إلى الاستقلال ، الاحتفاظ ببعض الأصالة التي تمنع من الانصهار في شخصية السيد . ومن نفس الزاوية يمكننا استبصار مكونات شخصية العميل المحلي فنلاحظ :
1- الشخصية القناع :
تظهر هذه لدى العميل الذي يقوم بدور الرتل الخامس، بالنظر إلى مهامه التي تحدثنا عنها آنفاً . أن العميل من طراز الرتل الخامس يعمل داخل صفوف الجماعة التي يتآمر عليها مما يفرض عليه شدة الكتمان، أي إظهار غير ما يبطن مع حمل ولاءين أحدهما للجماعة وهو الظاهر والآخر لسيده وهو الحقيقي .على أن هذا المسلك الذي أطلق عليه قديما أسم التقية، قد يكون مشتركا بين فئات مختلفة الأهداف والسلوك، ذلك لأنه من لوازم النشاط السري لأية فئة أو طبقة تضطر إلى مزاولته . والتقية لذلك ليست سبباً لازما للشخصية المرائية. أن الكفاح مثلا من أجل قضية عادلة في وسط يسيطر عليه القمع يفرض على المكافح التزام التقيد لأغراض الصيانة دون أن يكون صادرا في ذلك عن سجية مرائية تجعل منه محتالاً. لكن الأمر يختلف عندما يتم اختيار هذا المسلك في مجرى التواطؤ الذي تسيره اعتبارات المصالح المشتركة بين طرفين ينطلقان من موقع استغلال، وهو موقع يتنافى بجوهره مع العدالة . أن الشخصية القناع تتلبس العميل في هذه الحالة بكل سماتها المنفلتة من ضوابط الأخلاق لأن نشاطه السري يقوم في الجوهر على اعتبارات غير مبررة أخلاقياً ، كما أن العميل المحلي يخدم أغراضه الشخصية من خلال خدمته لأهداف سيده التي تفتقر بدورها إلى الأساس الأخلاقي لانطلاقها كما قلنا من موقع استغلال .
2- الانصهار في شخصية السيد :
أن خلو العلاقة بين العميل المحلي وسيده من عامل القهر يجعلها مرتبطين بمعادلة طوعيه قوامها المصلحة المشتركة للطرفين في مقابل الشعب أو أي منافس أو طامع في امتيازات السلطة . وتؤدي الرابطة المطواعة إلى تفريغ شخصية التابع من نزعة التمرد أو الاستقلال الناشئة من الشعور بالغبن ، مما يحد من اندفاعه في خدمة سيده إذ يخلق لديه شعورا بالدونية في مقابل السيد. وينشأ عن ذلك في معظم الأحيان ضعف ذاتي في الشخصية يتمثل في استعداد غير محدود لتلبية مطالب السيد بصرف النظر عن طبيعتها . ويدل تاريخ أعوان السلطة في العصور الإسلامية على أن هذا الاستعداد يمتد إلى ما هو من صميم الأمور الخاصة التابع . وقد يغدقه ذلك حريته كفرد، منحدرا به في سلم علاقته بسيده إلى العبودية المحضة التي تجعل الامتثال للأوامر نوعاً من المنعكس اللاشرطي يتغلغل في لا شعور التابع . مع ملاحظة أن هذه العبودية تتحول في علاقته مع من هم دونه إلى جبروت. وقد أشار أبو حيان التوحيدي إلى هذه المفارقة العصبية فقال في " الإمتاع والمؤانسة " :
ما رأينا أحداً تعاظم على من دونه إلا بقدر ما تصاغر لمن فوقهِ .
وهو تصور لواقع عاشه الكاتب الذي تغلغل في أوساط الطبقية الحاكمة وعرف أسرارها عن كثب .
تمت
الهوامـــش
(1) _ الإخبار الطوال ط القاهرة 1960 ص 110 .
(2) _ من ذلك زواج الأكفاء . أي عدم جواز تزويج العربية آلا للعربي وتحريمها على المولى ( المسلم غير العربي ) وقد اقره العلمـاء ذوو النزعة السلفيـة متأثرين بسياسة الأمويين تجاه الموالي،وعارضه الشيعة والمعتزلة والخوارج .
(3) _ الراوية منقولة عن عبد الله بن الزبير وهي تفيد أن أبـا سفيان كـان إذا رأى الجولة للروم قال هاتفاً: (... بني الأصفر ، وإذا تراجعوا أنشـد ...). البيت غير واضح
وبنو الاصفر الملوك ملوك الروم لم يبقى منهم مذكور
وابو سفيان تاجر كبير ومتنفذ ورئيس عشيرة فهو من الطبقة المؤهلة للعمالة . وان كان هذا لا يكفي لتوثيق الرواية التي يجب ان يؤخذ في تقييمها كونها صادرة عن خصم لبني امية .
(4) _ لاحظ هاشم بن عتبة المرقال، أحد أتباع علي ، صمود أهل الشام في وجه الهجمات العنيفة التي كان يشنها عليهم أهل العراق وخاف من أن يعطي هذا الصمود دليلاً على التعلق بقضية عادلة فخطب في مقاتليه قائلاً : لا يهولونكم ما ترون من صبرهم فوالله ما هو آلا حمية العرب وصبرها تحت راياتها . وانهم لعلى الضلال ..
هادي العلوي
مجلة دراسات عربية
السنة السادسة عشرة
العدد 4 شباط 1980
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هادي العلوي ... حياة رجل صادق (Re: الفاتح سليمان)
|
سلامات تاني يا أمجد ..
Quote: كيف يا زول ... دا كلامك فالح عبد الجبار العراقي الواحد دا دا بتعرف عندو علم الاجتماع الانساني بالجد بالجد اعتقد انو شغال محاضر حالياً في جامعة انجليزية و عندو منتدى نقاشات دوري عندو كتاب جميل جداً اسمو العمامة و الافندي اتمنى انو يكون دا الانتو قاصدو لانو لو هو ممكن نبدأ نقاش حول الكتاب و نستعرضو مع بعض
|
الكتاب القاصده هو ده ..
أنا ما لاقي ليه كتب ..فلو عندك منها سلفني طوالي
سلام
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هادي العلوي ... حياة رجل صادق (Re: محمد قرشي عباس)
|
من ديوان الوجد لهادي العلوي :
وحدة شهود:
(يمر الزمان بآناته قصيا وتزدحم الأسئلة . ومن نقطة البدء الى نقطة المنتهى تلف الغيابة سرَّ الكلام فيغدو الجوابُ سؤلا والكلامُ امتثالا وتضيق العبارة عن خبر لا تراه الحروف . سألتُ وكم أخطأ السائل القصدَ فكان الجواب حروفا والحقيقة لا تجتلى بالحروف فالحقيقة شوق والكلام اقتحام والبداية في نقطة الباء لا نقطة البدء ومن قال إن الولادة بدء فالولادة موت والموت نهر الحياة انبعاث الخليقة من محوها إلى صحوها به تتجلى وفود السماء لأربابها تطل على ساحة الموت يوم النشور حيث الغياب نشور لا يكرر معنى السؤال وفي لحظة الغيب تحيا الإشارة ألا خسئوا ليس ذا زمن العقل بل زمن الجوع والعصر عصر الجنون الذي بشرونا به وقالوا هو الكل والعالم الأكمل
وفي زمن الجوع كل حنين لغير السلاح جفاء
فكيف يحن الترابُ إلى الماءِ والنخيلُ الى الشمسِ والقمحُ للسنبل بل كيف أحن إليك وما بي حنين إلى راية يستظل الجياع بها ليقتحموا شاهقات القصور والقلاع الحصينة بالجند والمال فيمضي الجنود الى أهلهم وتعود القلاع الى أهلها ويفرح بالعدل أهل السماء ؟ سلام عليك فإنا احترقنا جميعا لكي يحكم الموت أرض العماء فتنبثق المعصرات بحارا من الوجد تغني الألوف بها ويمطر توق الجياع)
سلاما وفيض مسرة ص139
| |
|
|
|
|
|
|
Re: هادي العلوي ... حياة رجل صادق (Re: Amjed)
|
شكرا امجد
هادي العلوي مفكر صادق
ساهم في نقد الفكر الديني
له كتاب اسمه الاسلام والمراة
علي ما اتذكر
محمد قرشي فالح عبد الجبار كان يكتب في مجلتي النهج والناقد
وكنت احرص علي شراء هاتين المجلتين له ولغيره
فهو زول صاحب ذهن مفتوح وعقل متقد
| |
|
|
|
|
|
|
|