دوافع التعذيب والقتل عند حكومة الخرطوم

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-15-2024, 04:21 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة الراحل سالم أحمد سالم(سالم أحمد سالم)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
06-23-2008, 10:26 AM

سالم أحمد سالم
<aسالم أحمد سالم
تاريخ التسجيل: 11-19-2007
مجموع المشاركات: 2698

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
دوافع التعذيب والقتل عند حكومة الخرطوم

    دوافع التعذيب والقتل عند حكومة الخرطوم

    مقدمة

    في أبريل الماضي كتبت هذا الجزء الأول تحت عنوان (التعايشيون الجدد). لكن أحداث العاشر من مايو الماضي وتداعياتها، والتي أطلقت عليها في مقالي الأخير مسمى "غزوة أم الصبيان"، تملي علي إعادة نشر هذا الجزء لعدة أسباب جوهرية أهمها معرفة الجوانب النفسية والعقلية التي تدفع حكومة الخرطوم على ارتكاب جرائم التعذيب والقتل بدم بارد. إن كسب أي معركة يتطلب أولا معرفة الطريقة التي يفكر بها الطرف الآخر. وعليه فإن أول خطوة في كيفية "التعامل" مع هذا الصنف من الحكومات هي معرفة طريقة تفكيرها والتالي معرفة ما يمكن أن تقدم عليه من فعائل. لقد أقدمت حكومة الخرطوم على تعذيب الأطفال، وهو عمل ينكره كل إنسان غير متجرد من الصفات الإنسانية العامة، وهو عمل يتنافى بصفة مباشرة مع الأخلاقيات التي نزعم أن الشعب السوداني يتمتع بقدر وافر منها. وهنا تقوم المفارقة الكبرى بين أفاعيل حكومة الخرطوم وبين القيم والمبادئ الأخلاقية للشعب السوداني على وجه الخصوص. ومن هذه المفارقة تنطرح الأسئلة في سؤال كبير: لماذا ارتكبت حكومة الخرطوم هذه الجريمة البشعة؟. وبرغم أنني كتبت ذلك قبل أحداث العاشر من مايو الماضي وقبل انكشاف هذه العورة الجديدة من عورات حكومة الخرطوم، إلا أنني أعتقد أن ما كتبته تحت عنوان (التعايشيون الجدد) يلقي بعض الضوء على ظلاميات عقل حكومة الخرطوم ودوافعها النفسية التي تصل بها إلى حد تعذيب الأطفال والسعي إلى نسف القيم والأخلاقيات.

    ومن بين الدوافع التي أملت علي إعادة نشر هذا الجزء من (التعايشيون الجدد) أن معظم التعليقات على جريمة تعذيب الأطفال قد انحصرت في الاستنكار والحوقلة والإدانة. بالتأكيد هذا لا يكفي، ولابد من إطلاق حوار عملي وبناء يصل بنا إلى ما يجب فعله... علينا جميعنا أن نجيب عمليا على السؤال الأهم: ثم ماذا بعد؟. ما كتبته قد يكون طويلا عند الذين يفضلون التعليقات السريعة... لكن لا بأس أن نصبر من حين إلى آخر على قراءة معمقة. وأدعو كل صاحب فكرة أن يدفع نحو تعميق هذا الحوار... وسأعود من جهتي لاحقا إلى كتابة الجزء الثاني.


    التعايشيون الجدد (الجزء الأول)

    سالم أحمد سالم
    باريس

    [email protected]


    العقائدية قد تكون نازية أو فاشية أو عنصرية.. أو بابتسار الدين
    لقطوا شعرة الأحكام الحدّية للإرهاب، وألقوا بكتاب الله والقيم وراء ظهورهم
    عجزت الحكومة عن كسر النواة الصلبة للشعب، فدخلت في معركة ضد الدين والقيم..
    عند المفاصلة ينحاز الجيش للشعب، ومن ظن غير ذلك فهو أخرق
    غيبوبة الانتماء الحزبي تبعد الجندي عن شرف أمّته وعن شرفه العسكري
    جماعات العنف تفتك بالمجتمع الذي أنفق على تنشئتها
    حرّم الله الانقلابات العسكرية، و"تمكين" الحكومة حرام في حرام
    تجردت الحكومة من غلالة الدين ولسوف يصيح طفل.. انظروا إلى ملكنا العريان!


    عندما اندلعت ثورة أكتوبر الشعبية كنا تلاميذ بمدرسة الخرطوم الأميرية. في تلك الأيام الأكتوبرية مررنا بتجربة بقيت تفاصيلها واضحة في ذاكرتي لم يطمرها تراكم الأحداث والسنوات. الأميرية الخرطوم كانت وربما لا زالت تقع في وسط الخرطوم تقريبا بالقرب من داخلية كلية الطب في المنطقة الواقعة بين شارعي القصر وعلي عبد اللطيف. ذلك الموقع الفريد جعلنا برغم صغر السن في حالة تفاعل يومي مع الأحداث السياسية والاجتماعية التي تشهدها الخرطوم.. في زمن كانت فيه الخرطوم واحدة من أجمل العواصم الأفريقية والعربية بشهادة آلاف الأجانب الذين كانوا يقصدونها. كانت حركتنا اليومية من وإلى المواصلات والفطور وشراء المجلات والصحف والكتب تقع ضمن دائرة تشمل المنطقة الممتدة من بداية شارع القصر عند تمثال الجندي المجهول أو عبورا من السوق العربي إلى السوق الأفرنجي إلى شارع الجامعة والبرلمان والقضائية ثم شارع الجمهورية حيث نصل أحيانا حتى مخبز بابا كوستا!. لم تكن حركتنا مجرد حركة في جغرافيا قلب العاصمة، بل كانت أيضا حركة داخل الوعي السياسي لتلك المرحلة. فقد تجسدت حركتنا داخل الوعي في تلك الحوارات السياسية التي كانت تدور بيننا ثم بيننا وبين أساتذة المدرسة الذين لعبوا دورا كبيرا في تعميق ذلك الحوار السياسي، والأهم من ذلك دور أولئك الأساتذة الأجلاء في إرساء أسس الحوار الديموقراطي في أدمغتنا المتفتحة. فقد كنا نحاورهم ونختلف معهم في الرأي دون أن نتخلى عن احترامنا العميق لهم.. ودون أن يقمعوننا!. سوف أكتب لاحقا عن تلك التجارب التي شكلت وعينا ورسمت مسارات حياتنا، فهدفي من استذكار تلك المرحلة يتعلق بتلك التجربة التي مرت بها مجموعة صغيرة منا أثناء تفاعلات ثورة أكتوبر، ويشاء حظي أن أكون أحد أفراد تلك المجموعة.

    كانت الخرطوم في ذلك اليوم مشبعة برائحة الغاز المسيل للدموع ممزوجة بتوتر لم نعهده من قبل. وبرغم أن إدارة المدرسة قد حرصت على صرفنا باكرا للعودة إلى منازلنا، لكن يبدو أن شعورنا بأننا جزء من العاصمة وتفاعلاتها قد غلب علينا فتسربنا مع بقية التلاميذ الأكبر سنا لنشارك في المظاهرات التي امتدت رقعتها من مباني جامعة القاهرة حتى القصر الجمهوري. ومع مطاردات البوليس تقطعنا إلى جزر صغيرة. ثم انعزلت مجموعة صغيرة منا كنت أحد أفردها واضطررنا للدخول في الشارع المحاذي لمكتب البريد الرئيسي. تعذرت علينا العودة فمضينا مشيا حتى كورنيش النيل. وهكذا وجدنا أنفسنا أمام البوابة الغربية للقصر الجمهوري وقد خلت المنطقة تماما إلا من الأعداد الكثيفة من الجنود المدججة بالسلاح في حراسة القصر الجمهوري!. كانت جلاليبنا البيضاء وكتبنا المدرسية تشهد علينا أننا كنا في المظاهرات.. كنا مثل نقاط بيضاء صغيرة سقطت على صفحة كبيرة من اللون الكاكي العسكري.. تسمرنا لصق كورنيش النيل على بعد حوالي بضعة أمتار من القصر الجمهوري لا ندري أي وجهة نمضي.. كان موقفا عصيبا على من هم في أعمارنا، فالنيل خلفنا والجنود أمامنا!. وفجأة نادى علينا أحد الجنود من كبار السن كان ضمن حراسة بوابة القصر الغربية: تعالوا هنا يا أولاد!. لم نذهب.. فكرر النداء. لا أدري لماذا، لكنني فوجئت بزملائي الأربعة وهم يدفعونني دفعا للذهاب للحديث معه!. لم أكن أشجعهم، لكني مضيت إليه لأنه لم يكن من خيار آخر، وأحمد الله الذي نزع الرهبة عن قلبي!. سألني الجندي بلهجة طبيعية: ماشين وين؟. ويبدو أن مثل تلك المواقف تشحذ قريحة الإنسان، فأجبته بما لم يكن في حسبانه: عاوزين نمر من بوابة القصر إلى الناحية الثانية لأن بيوتنا في الجانب الآخر!. فأجابني بنفس اللهجة الهادئة: (من هنا ممنوع.. نادي أخوانك وامشوا ملاصقين حيطة القصر خلف الجنود الراقدين على الأرض.. وإذا نهركم واحد من العساكر ما تردوا ولا تجروا أمشوا بهدوء.. ومن طرف الساحة أدخلوا يمينكم على السوق الأفرنجي..). وبالفعل نفّذنا "التعليمات" بدقة حتى دخلنا شوارع السوق الأفرنجي وخلصنا نجيا!!.

    أوردت تلك الحادثة لعدة اعتبارات: أولا أنا شاهد عصر وتلك شهادة لا أريد أن أكتمها في حق ذلك الجندي وبقية الجنود الذين لم يسألوننا ولم ينهروننا برغم أنهم كانوا يعلمون علم اليقين أننا كنا نشارك في تلك المظاهرات. شهادة صغيرة لكن لها مدلولات كبيرة عندما نضاهيها بواقع السودان اليوم. نعم لقد سقط الشهداء والجرحى بأسلحة الجيش والشرطة إبان تلك الثورة، إلا أن السلوك العام للجنود والضباط قد اتسم بقدر عال من الانضباط الأخلاقي وأحيانا الأبوي والأسري تجاه المتظاهرين والطلاب. لم يتعسف الجنود في استخدام القوة، وفي كثير من الأحايين كان الجنود والشرطة يرشدون الطلاب والمتظاهرين إلى الطرق الآمنة!. ويعلم الجميع أن الجنود ذهبوا إلى أبعد من ذلك عندما خرقوا جهارا نهارا القوانين العسكرية وعصوا تعليمات "الضرب في المليان" التي صدرت عن واحد من أعلى القيادات العسكرية في حكومة الفريق إبراهيم عبود.. أعرف من الروايات المتواترة اسم ذلك القائد لكني أحجم عن ذكره لأنني لا أملك عليه دليلا. عصوا الأوامر لأن العقد الاجتماعي الأخلاقي الذي "كان" يحكم العلاقات الاجتماعية كانت له القدسية وكان المسيطر وكان الأقوى في نفوسهم من أي قانون عسكري. كان الشرف العسكري يومئذ هو جزء من شرف الأمة والشعب، ولم يكن شيئا منعزلا لفئة أو لحزب. كان ذلك الشرف قيدا ربانيا يعصم روح الجندي ومعصمه من أن يطلق النار على شرفه الأعزل إلا من هتاف هو قولة حق يجاهر بها. ولن يناكفني مناكف أن انحياز القوات المسلحة الوطنية للثورة الشعبية كان حجر الزاوية في انتصار الثورة.. انحياز الجيش للشعب يظل القاعدة وما غيره يبقى في خانة الاستثناء، ومن ظن غير ذلك فهو أخرق.

    نستطيع أن نرى المدلولات الكبيرة من تلك الحادثة الصغيرة عندما نضع صورة تلك الواقعة الصغيرة إلى جوار أي صورة من صور السلوك الفظ والإسراف في العنف الذي تمارسه اليوم الأجهزة العسكرية والبوليسية والأمنية ضد التلاميذ والطلاب والحرائر وكبار السن وبالآمنين في ديارهم... ناهيك عن أوكار التعذيب.. وبهذه المضاهاة نرى كيف كان سوف "يتعامل" معنا جند الحكومة الراهنة لو ساقتنا إليهم أقدارنا على تلك الصورة!. وبهذه المضاهاة بين الصورتين نرى أيضا الفرق العظيم بين حالة الجندي المنتمي لشرف الأمة المجسد في الشعب، وبين حالة الجندي الذي يرتهن ولاؤه إلى حزب أو حكومة. الفرق بين الحالتين يظهر جليا في لحظة المفاصلة بين شرف الأمة المجسد في الشعب وبين حكومة تحكم بالجبر. فالجندي في الحالة الأولى نجده ينحاز تلقائيا إلى شرف الأمة وهو الشعب. أما الجندي الذي لا يعرف إلا الانتماء إلى حكومة أو حزب، نجده يطلق النار على شرف الأمة، أي الشعب.. فيكون قد أطلق النار على شرفه هو وهو تحت غيبوبة الانتماء الحزبي. فعندما يغيب إحساس الجندي أو غيره بمجتمعه فيعذب ويقتل ويغتصب الحقوق يكون إما مرتزقا أو مستعمرا أو مريضا فيسقط عنه لباس المواطنة حتى لو اتخذ من الدين غطاء. (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) سورة البقرة. فقد نزلت الرسالات لمحاربة العنف والإكراه والتعذيب وسلب حرية الناس ومناهضة جبروت الفرد والفئة المستغلظة بالقوة، وكل من فعل هذه الأفاعيل ليس من الدين في شيء والدين الإسلامي منه براء حتى لو حفظ المصحف الشريف وصلى آناء الليل وأطراف النهار (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) الأنبياء (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) آل عمران. ومن حيث أن الخطاب القرآني موجه إلى الرسول الكريم، وهو الرحمة المهداة، فأين تضع يا رعاك الله أمثال هؤلاء الذين هم "أدنى من دون ذلك"؟. لكم الحكم.

    حكومة عبود كانت حكومة عسكرية والحكومة السودانية الراهنة هي أيضا حكومة عسكرية، لكن شتان بين حكومة عسكرية وأخرى. فالمقاربة بينهما أفرزت لنا أنهما على طرفي نقيض لجهة الأخلاق وثوابت القيم والأعراف. ومن الأهمية بمكان أن نلاحظ أن مفردات "القيم والأعراف والأخلاق الاجتماعية" لا تعني هنا تلك الصفات التي يتصف أو نصف بها الأفراد مثل دماثة الخلق وحسن المعشر أو غيرها من الصفات الفردية. فالأعراف والقيم الاجتماعية والأخلاقية التي أقصدها هي العقد الاجتماعي غير المكتوب أو التشريع الاجتماعي العريض الذي يحكم علاقات المجتمعات والأفراد والأمم. هذه القيم والأعراف هي أهم تراث كونته البشرية منذ بدء الخليقة، وهي التي تميز الإنسان عن سائر الكائنات الأخرى، ومن الإنصاف أن نقول أن بعض الكائنات والكواسر تتحلى ببعض هذه القيم لأنها لا تفترس جنسها. بادت المعالم المادية للحضارات واندثرت، لكن تراكمت القيم حتى صارت اليوم المصدر الأساسي للتشريع. فجميع الدساتير المعافاة المكتوبة وغير المكتوبة في العالم قد أخذت طينتها الأولى من هذه القيم الاجتماعية ومكارم الأخلاق والأعراف. كما أن كل المواثيق الدولية مثل مواثيق الأمم المتحدة ومؤسساتها قد تم استنباطها من تراث الإنسانية من القيم والأعراف مثل معاهدات جنيف بخصوص أسرى الحرب ومعاملة المدنيين وحقوق الطفل والمرأة وحقوق الإنسان وتحريم التعذيب والابادة الجماعية والتصفيات العرقية إلى غيرها. وقد لخصت البشرية هذه القيم الإنسانية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي صدر في ديسمبر 1948، ثم في الوثيقتين الدوليتين، العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، ثم العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ثم البروتوكول الاختياري. وتعرف هذه الوثائق بالشرعة الدولية التي صادقت عليها معظم حكومات العالم. هذه الوثائق دليل قاطع على تلاقي كل شعوب الأرض على هذه القيم والأعراف. باختصار هذه القيم والأعراف هي الدستور الكوني.

    هذه القيم والأعراف لم تنجم عن فراغ، بل ناتج لتجارب إنسانية تراكمت بعمر البشرية أيدتها وتفاعلت معها قيم وتعاليم الرسالات فخالطتها مخالطة الماء للماء، (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). فالحديث النبوي يشهد أن القيم قديمة وسابقة لآخر الرسالات، وأن القيم ومكارم الأخلاق هي الهدف النهائي لكل الرسالات. وعندما يختلط الماء بالماء لن تجد تقنية قادرة على فرز ماء عن ماء إلا ما علق بالماء من شوائب أو أملاح. لذلك من الخطأ بمكان الانجراف وراء فرية تقسيم الحكومات إلى علمانية وأخرى دينية. فمن قال بالعلمانية عليه أن يغربل علمانيته عن الدين إن استطاع، ومن قال بالدين عليه، إن استطاع إلى ذلك سبيلا، أن يفرز الدين عن باقي التراث الإنساني من القيم والأعراف التي خالطتها الرسالات السماوية السابقة للإسلام. كل ذلك في حكم المستحيل. فقسمة العلمانية والدينية إذن قسمة ضيزى أراد بها أصحابها تضليل الشعوب واختطافها وحكمها جبرا وقسرا بعد عزلها عن محيط الأسرة الإنسانية. فالذين ينادون بالدولة الإسلامية يعجزون تماما عن تطبيق ما ورد في الكتاب لأنه يشتمل على جميع الديانات الأخرى علاوة على التراث الإنساني من قيم وأعراف ومكارم أخلاق وإلا لما أصبح خاتم الرسالات. لذلك يضطر هؤلاء إلى ابتسار الدين في الشريعة والأحكام الحدية كأقصر الطرق للسيطرة على الشعوب، ثم يلقون ما بقي من الكتاب وراء ظهورهم. وبهذا الابتسار، أو أخذ الجزء من الكل، يستبعد هؤلاء مبدأ التتابع والتكامل بين الرسالات السماوية، إذ كأنهم يقولون أن الله قد أرسل رسالات متفرقة لا رابط بينها أو كأن الإسلام قائم بذاته لا تربطه رابطة بباقي الرسالات السماوية. ولذلك يقع دعاة الدولة الدينية في تناقض كبير مع الدين نفسه، بل يهدمون لأنفسهم ركنا من أركان الإيمان هو الإيمان بالرسل (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) سورة البقرة. ومع ذلك تجد أدعياء الدولة الدينية يقولون أنهم يؤمنون بالرسل.. يقولون بأفواههم ما تنقضه أفعالهم نقض الغائط للوضوء، وسأعود إلى تبيان ذلك في هذا السياق.

    وبالنظر إلى موقع هذه القيم في إدارة البلاد (الحكم) نجده يتراوح بين التشدد في فرض القيم مثل قيمة العدل، وبين التسامح في الأمور التي من شأنها أن تكرس أهمية القيم والأعراف ومكارم الأخلاق. مثلا التشدد في قيمة العدل يتجسد في أخذ الحق من الحاكم والبطانة ورده إلى أهله الضعفاء. لقد وقف رسول الله محمد بن عبد الله أمام القضاء ووقف علي بن أبي طالب. وإذا شئنا المقاربة بواقعنا المعاصر إذن لرأينا أن الحكومة السودانية الراهنة تحمي القوي وتساعده على سلب حقوق الشعب. الأمر البائن لا يحتاج إلى براهين، فقد افتقر الشعب لأن الثروة والمال أصبحتا دولة بين أغنياء الحكومة. (مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون)َ سورة الحشر. أما لجهة التسامح فقد أطلق الرسول الكريم سراح إبنة حاتم الطائي (الكافر) حتى يغرس في نفوس المسلمين قيم ومكارم أخلاق أبيها. الحكومة السودانية الراهنة أيضا تسامح، لكنها تسامح فقط اللصوص والقتلة من بطانتها، وتترك الحكومة القوي السارق وتقيم الحد على الضعيف. وبديهي أن مثل هذا "التسامح" يغرس في المجتمعات كل ما هو نقيض للقيم والأعراف ومكارم الأخلاق. لذلك نستطيع أن نقول بشكل حاسم أن كل نمط حكم لا يقوم على أساس أخلاقي فهو حكم غير أخلاقي لأنه يتنافى مع القيم والأعراف الاجتماعية، وكل ما يتنافى مع القيم والأعراف ومكارم الأخلاق يتنافى حتما وتلقائيا مع الرسالات السماوية كافة. وبما أن الشعب هو نبع هذه القيم والأخلاق ومصدرها، وهو أيضا حمّالة الدين، فلا حكم أخلاقي إلا حكم الناس لأنفسهم.

    نعم كلاهما حكومة عسكرية، فلماذا إذن هذا التباين الأخلاقي الجسيم بينهما؟. نستطيع أن نضع يدنا على هذا التباين من خلال التعرف على نمط كل حكومة:
    ـ حكومة الفريق عبود، بكل خطاياها، كانت حكومة دكتاتورية عسكرية تقليدية، بمعنى أنها لم تنفذ انقلابها ولم تحكم من منطلق عقائدي أو مذهبي. مجرد ضباط استولوا على السلطة لاعتقادهم أنهم سوف يسيّرون البلاد أفضل من الأحزاب. لذلك لم تتعرض حكومة الفريق عبود للقيم الاجتماعية والأخلاقية، فبقيت القيم الاجتماعية والأخلاقية على ثوابتها.
    ـ الحكومة العسكرية الراهنة خططت ونفّذت انقلابها العسكري وتحكم الناس من منطلق "عقائدية الجماعة المحدودة"، أو "عقائدية الفئة". ومن حيث أن "عقائدية" الحكومة قد طرحت نفسها كمنهاج بديل بالقوة، كان من البديهي أن يحدث الاحتكاك أو التنافر بين "عقائدية" الحكومة وبين القيم والأعراف والأخلاق أو الشرعة الاجتماعية السائدة في المجتمعات السودانية. وزاد من التنافر كونها حكومة عسكرية تحكم بالجبر.

    فإذا كانت حكومة الفريق عبود قد جسدت الدكتاتورية العسكرية، فإن الحكومة الراهنة قد جمعت بين الدكتاتورية العسكرية وبين دكتاتورية الفئة العقائدية. وعليه وظفت الحكومة الراهنة قوتها العسكرية والأمنية ليس من أجل أن تكتسب المجتمعات عضوية عقائديتها سواء بالحكمة والموعظة الحسنة كما يقول الإسلام أو بغيرها، ولكن لإخضاعهم لعقائديتها. والفرق عظيم بن العضوية وبين الإخضاع. وحتى أزيل اللبس الذي وقع فيه البعض فإن "العقائدية" لا تعني الطرق الصوفية، وقد أوضحت ذلك في سياق سابق ثمّنت فيه عاليا الدور التعليمي والتربوي للطرق الصوفية.. متى ظلت بعيدا عن مسألة الحكم!. ثم إن "العقائدية الفئوية" ليست حصرا على الجماعات الدينية، فقد تكون عقائدية نازية صفوية عرقية كالتي حلت بألمانيا واستحلّت لنفسها سفك دماء ملايين البشر من "اعتقاد" أتباعها في حقهم المطلق في السيطرة وفي دونية الآخرين. وقد تكون عقائدية فاشية على الطراز الإيطالي. أو قد تكون عقائدية قبلية على غرار ما حدث في رواندا التي شهدت واحدة من أكبر مذابح التطهير العرقي في القرن الماضي. وقد تكون عقائدية عنصرية لونية كالتي كانت في جنوب أفريقيا. أو قد تكون عقائدية صفوية دينية كالتي تأسست عليها إسرائيل. وفي السودان كانت هناك عقائدية عرقية قبلية جهوية هي فترة حكم عبد الله التعايشي، وفي السودان اليوم عقائدية الفئة أو الجماعة المتجسدة في الحكومة السودانية الراهنة. وقي إسرائيل عقائدية صفوية الدين والعرق، والتي رمت إسرائيل في مأزق عما إذا كانت اليهودية عرق أم دين!. لا فرق لأنها تستخدم الصفتين في الإبادة والقتل المنظم وتحظى بدعم دولي وباستكانة إقليمية يعرق لها جبين الصخر. لكن الجدير حقا بالملاحظة أنه برغم اختلافات الأزمنة والجغرافيا الاجتماعية والأديان واللغات والثقافات، إلا أن جميع هذه العقائديات قد تساوت من حيث "اعتقادها" جميعها في الحق المطلق في الحكم، ومن حيث الاستيلاء على الحكم بالقوة، ومن حيث أنها قتلت وعذبت ملايين البشر في هذه الدول والأقطار، ومن حيث أنها سممت العلاقات الإقليمية والدولية وفتنت أهل البلاد وقسمتهم إلى شيع وطوائف.

    ومن سمات الجماعات العقائدية أنها تجعل من فكرتها، سواء كانت فكرة مبتسرة من دين أو عرقية، طوقا حصينا من السرّية تضربه حول نفسها ونشاطاتها الرامية أولا وأخيرا إلى الاستيلاء على الحكم. لذلك عرفت بالجماعات السرية أو الباطنية. وعندما تستولي الجماعة العقائدية على الحكم بالقوة فإن الطوق يتحول إلى "دائرة سيادية" عازلة تفصلها عن باقي الشعب ومجتمعاته. داخل الدائرة نجد الجماعة العقائدية الحاكمة بقوة السلاح تتمتع بالسلطة والقوة والنفوذ وباليد المطلقة لفعل أي شيء وكل شيء (ألمانيا النازية، جنوب أفريقيا العنصرية سابقا، السودان حاليا.. ). وخارج الدائرة نجد الشعب الذي يصبح عند الجماعة العقائدية الحاكمة ضمن ما ملكت أيمانهم. وبذلك يتحول الشعب وثروات البلاد، حسب مذهبيات العقائدية الفئوية، إلى مجرد ممتلكات أو غنائم مستباحة تتصرف فيها الفئة الحاكمة حسبما تشاء ومتى ما تشاء وكيفما تشاء. وحتى الانتهازيون والطفيليون الذين يحاولون الانضمام للجماعة العقائدية بعد سيطرتها على الحكم، يتم إبقاؤهم على أطراف "الدائرة السيادية" ينتفعون من خدمتهم للجماعة الحاكمة ولا يصبحون ضمن نواتها صاحبة القرار. وحتى بعد أن تستولي الجماعة العقائدية على الحكم، فإنها لا تتخلى عن العمل السري. فهناك دائما "حكومة سرية" موازية للحكومة العلنية. هذه الحكومة السرية هي صاحبة القرار النهائي مثلما هو حاصل في السودان. لقد عرف التاريخ الانساني العديد من أصناف هذه القسمة. فإمبراطوريات أثينا وروما القديمة قسمتا المجتمعات إلى سادة يحكمون وإلى عبيد يقعون ضمن ممتلكات السادة. صحيح أن الإنسان لم يعد سلعة تباع وتشترى علنا، لكن تسيّد فئة على باقي فئات المجتمع لم تنقطع وأن اختلفت الوسائل.. وبهذه المناسبة ألتمس من كل مواطن سوداني أن يتحسس موقعه ليعرف إلى أي فريق ينتمي. فإن وجد نفسه داخل "الدائرة السيادية" فهو ظالم، وإن وجد نفسه في دائرة المحكومين فهو ظالم لنفسه حتى يرفض أنه محكوم.. وإن كان طفيليا فله ما اختار لنفسه!!.

    عقائدية آرية صفوية نازية في ألمانيا، وعقائدية عنصرية عرقية لونية كانت في جنوب أفريقيا، ثم قبلية في رواندا. أما الفئة العقائدية التي تحكم السودان فإنها لم تشذ عن العقائديات أو الجماعات المعاصرة التي وظفت جزئية أحكام الشريعة من الدين الإسلامي كغطاء وكآلة حادة للانقضاض على السلطة وفرض الهيمنة. وفي داخل جزئية أحكام الشريعة تبنت هذه الفئات الأحكام الحدية. والأحكام الحدية كما هو معروف لا تمثل معشار العشر من الشريعة الإسلامية ناهيك عن مجمل الدين الإسلامي. فالدين الإسلامي، بحكم حضوره النصّي، هو أكثر الرسالات السماوية اتساقا مع مجريات الحياة العادية لكل المجتمعات، وأكثر الرسالات ميلا للتسامح والعفو، جمع فحوى وحضّ على القيم والأعراف ومكارم الأخلاق فكانت محور الرسالة. وإذا رجعنا إلى الحديث الشريف (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) ثم الحديث الذي يصف فيه الرسول الكريم نفسه بأنه بمثابة اللبنة التي كانت ناقصة في البنيان، نتأكد أن الدين الإسلامي هو جزء متمم للقيم والأعراف الإنسانية وليس بديلا عن هذه القيم أو ناسخا لها. وكما ذكرت فإن الشريعة الإسلامية ليست كل الدين الإسلامي، بل هي جزء متناهي الصغر من كمال هذا الدين. لذلك إذا نظرنا إلى الأحكام الحدية داخل جزئية الشريعة نجدها مثل شعرة غير مرئية وفي موضع الاستثناء لمقابلة النافر النادر المشتط من السلوك البشري المكرور من فاعله. الخليفة العادل الراشد عمر بن الخطاب عطّل الأحكام الحدية في عام الرمادة. ولا أجد دليلا عمليا على هامشية الأحكام الحدية أقوى من هذا الدليل. ونعلم أن القرآن الكريم نزل مؤيدا لرأي عمر ربما في أكثر من مناسبة. وفوق تعطيل الراشد عمر، نستهدي ونستريح عند الحديث (ادرأوا الحدود بالشبهات) بما يقطع الشك حول هامشية الحدود. فالحديث فعل أمر يأمر الناس أن يبحثوا بحثا عن أي شبهة كانت لدرأ الحد فكأنه يبطل الأحكام الحدية إبطالا صريحا. والجميع يعرف قصة تلك المرأة التي جاءت تعترف للرسول الكريم بأنها زنت، فأدار الرسول وجهه عنها في الاتجاهات الأربع فكأنه عليه أفضل السلام كان يطردها. واليوم يأتي من يعدم الناس على الشبهة وعلى ما في سرائرهم!. وليس من باب الصدف أن يصبح هذا المبدأ الأخلاقي جزء أصيلا من القوانين الوضعية السائدة في أوروبا وأميريكا، ويتجسد ذلك في قنوات الاستئناف المفتوحة من المحكمة الابتدائية إلى مختلف محاكم النقض التي تستغرق سنوات. فالحكم الحدّي كالإعدام مثلا لا يمكن تداركه بعد تطبيقه لو ثبت بطلان الأدلة.

    إذن نحن أمام قاعدة ضخمة من تراث القيم والأعراف ومكارم الأخلاق كافية لإدارة العلاقات الإنسانية متسقة مع الأديان يتمم بعضها بعضا. وإذا وضعنا هذه القاعدة الضخمة في مقارنة مع الأحكام الحدية لوجدنا فعلا أن الأحكام الحدية عبارة عن شعرة غير مرئية بالعين المجردة بالكاد تقترب من درجة الاستثناء. لكن زعامات الجماعات العقائدية المعنية، ولا أقول الإسلامية، لقطت فقط شعرة الأحكام الحدية وجسمتها واستنسختها وقالت للناس أجمعين هذا هو الإسلام. وبهذا الفعل تمكنت الزعامات العقائدية من وضع الأحكام الحدية في خانة القاعدة وأحالت كل الدين والقيم والأعراف إلى خانة الاستثناء. ومن حيث أن التشدد هو الصفة الغالبة على الأحكام الحدية بغية التخويف لا التطبيق (أدرأوا الحدود بالشبهات)، إلا أن هذه الجماعات نشرت سمعة الدين وكأنه مجرد أحكام حدية. انتشار سمعة الدين على هذه الصورة أفرز محصلتين:

    المحصلة الأولى أن الدين الإسلامي أصبح في نظر العامة من المسلمين هو التشدد والعنف والبتر والرجم والجلد وجز الأعناق والصلب والقطع بالخلاف إلى غير ذلك من أصناف القسوة. ذلكم هو سبب التناقض القائم اليوم في نفوس المسلمين بين الدين المتسامح الذي يعرفونه وبين هذا الدين الآخر القاسي الراجم الباتر القابض القاسي الحاكم الذي لا يرعى إلاّ في مسلم!. من مظاهر هذا التناقض أو الفصام أن الناس يرون أن الله لم يحظر مخالطة الرجال والنساء في الحج عند بيته الحرام وهم بملابس الإحرام، بينما الجماعة العقائدية تأمرهم بفصل الأطفال البنين عن البنات في رياض الأطفال، أو مشهد طفلة لم تبلغ السابعة وقد تم تغطيتها بخمار يكتم أنفاس طفولتها دون أن يدرك والدها أن العورة في عقله وليس في شعر طفلته. ومن مظاهر التناقض أن الناس يرون كيف يتعرض عسكر الجماعات العقائدية في الطرقات العامة للأب أو الأخ يطالبونه بإبراز ما يثبت علاقته بابنته أو أخته أو زوجته التي ترافقه في الطريق، بينما نساء أخريات مفردات فارهات كاسيات عاريات آمرات ناهيات. والناس يرون أيضا أن حكومة الفئة العقائدية تقطع يد النشال المعدم ولا تقيم حد السرقة على سارقي وخائني الأمانات من بطانتها الذين يسرقون المليارات من قوت الشعب. ولو نفّذت الحكومة السودانية "شريعتها" على الجميع لأصبح في السودان مجلس وزراء بلا أيدي ولفقد جميع المسؤولين أذرعهم بالكامل أو قطعوا من خلاف. والناس يرون حكومة الفئة العقائدية وهي تجلد العاهرة، لكنها لا تعاقب نفسها لأنها سبب فقرها الذي دفعها أن تقتات من ثدييها.. أليس هذا هو الفصام بعينه؟. بلى، لكننا تأكدنا من هذه النماذج أن الهدف هو ترويع المجتمعات بالحدود كأفضل وسائل إحكام السيطرة.

    وأما المحصلة الثانية فقد أصبح الدين الإسلامي في نظر الشعوب الغربية هو الوحشية والبربرية والإرهاب. المسلم البسيط في أوروبا يخفي إسلامه ويتوارى خجلا مخافة أن يدمغ بالوحشية والإرهاب. وقد وجدت الحكومات الغربية ضالتها في هذه الجماعات العقائدية فدعمتها وساعدت على انتشارها مثل تنظيم القاعدة الذي أنشأه جهاز المخابرات الأميريكية من أجل توفير المبررات للتغلغل الأميريكي في الشرق الأوسط والأقطار ذات الغالبية المسلمة مثل أفغانستان. وإلى اليوم مازال أسامة بن لادن والظواهري من أهم أعمدة المخابرات الأميريكية. لذلك لا ينبغي أن نلوم الغرب على دمغ الدين الإسلامي بالإرهاب، فقط على المسلمين إعادة المعادلة إلى وجهها السليم بإعادة الدين إلى خانة القاعدة حتى يصير الاستثناء هو الاستثناء. بعدها لن تجد أميريكا أو غيرها حجة على الإسلام..

    طبعا لم يكن من باب الاعتباط أو الخطأ أن اختارت زعامات الجماعات العقائدية وريقة الأحكام الحدية من كل غابة الاسلام ونشرها بأنها هي الإسلام. فقد كان ذلك عملا مقصودا ومبرمجا حققوا من ورائه جملة من الأهداف تماما مثلما فعلت الحركة النازية في ألمانيا التي نشأت على فكرة مماثلة:

    أولا: استغل زعماء العقائديات بدعة التشدد التي طبعوا بها الدين في تربية كوادر تتسم بالعنف تمارس العنف ضد المجتمع بلا واعز أخلاقي أو تأنيب ضمير. في الحالة السودانية فقد برز العنف السياسي لأول مرة على أيدي هذه الجماعات في الحياة الطلابية، فكان دفن السيخ والهراوات والسكاكين واستخدامها غيلة وغدرا ضد زملائهم من الطلبة والطالبات. وقد تنامى العنف ضد المجتمع ليشمل كل الممارسات التي قامت بها الحكومة الراهنة وانتهاء بجرائم قتل الطلاب التي تنظرها المحاكم السودانية. كان حسن الترابي هو عرّاب هذا النهج وأول من ربّى الطلاب على استخدام العنف. حدث ذلك بعد أن فشل حسن الترابي في تزعم بيت المهدي، وفشلت بالتالي مساعيه في النفاذ إلى قيادة جموع الأنصار لاستخدامهم في العنف ضد المجتمع. الجماعات الطلابية التي رباها حسن الترابي على العنف هي التي تحكم اليوم، وقد ربّت هي بدورها قواعد سفلية لنفسها، وتلك القواعد خرّجت قواعد سفلية أخرى. هذه الجماعات ضئيلة العدد قياسا للمجتمعات السودانية، فهي لا تحكم السودان من واقع قوة عددية أو شكيمة عسكرية، إلا أنها على درجة من التنظيم الهيكلي قياسا إلى حالة التفكك التي تجتاح المجتمعات السودانية المحكومة، أو بالاحرى التي رضيت أن تكون محكومة.. تنتظر أن يأتيها الفرج على قدح مطهم تحمله أحزاب الطوائف مثلما حملت الملائكة التابوت إلى بني إسرائيل!.

    القواعد السفلى في هذه الجماعة التي تربّت على العنف تربت أيضا على الطاعة العمياء وتؤمن أنها تحمي الإسلام بالعنف وبالفتك بقوى "الكفر والبغي والضلال".. قوى الكفر الشريرة هذه ليست إلا الآباء والأمهات والإخوة والجيران، أي المجتمع السوداني الذي أنفق على احتياجاتهم من مأكل ومشرب وملبس ومسكن.. بينما تولت الجماعة العقائدية تربيتهم على العنف الاجتماعي.. لبئس التربية نعم، لكنه الواقع. فقد كانت القواعد السفلى في الحركة النازية تشي بأقاربها ومعارفها وجيرانها وتنفّذ فيهم الإعدامات الجماعية وهي تشعر بنشوة النصر والظفر. وفي التاريخ السوداني المعاصر ولغت سيوف جنود عبد الله التعايشي قي دماء قبائل دارفور وكردفان برغم أن أولئك الجنود انحدروا من أصلاب وأرحام هذه القبائل، وسنعود إلى ذلك بشيء من التفصيل المسنود.. فصبرا!. وفي السودان اليوم يكفي ما تعرفه المجتمعات السودانية ومنظمات حقوق الإنسان من حكايات فاجعة هي أقرب إلى الأساطير عن تفاصيل التعذيب والمهانات والوشايات والتصفيات الجسدية والاغتيالات التي تمت على أيدي زملاء الدراسة والعمل من أطقم الحكومة الراهنة في السودان. ذلك جزء مما يحصده السودان من تربية العنف ضد المجتمع.

    أما على الصعيد الدولي فإن التربية على العنف حولت القاعدة السفلية للجماعة العقائدية الحاكمة إلى مجرد آليات بشرية فاقدة الإرادة الذاتية يوجهها زعامات الجماعة بواسطة أجهزة التحكم عن بعد. هذه القاعدة السفلى، أو بالأحرى الآلات البشرية، مبرمجة للتوجه لقمع أي شيء حتى لو كان هذا الشيء هو أميريكا وبريطانيا وفرنسا وكل القوى الدولية بكل ترساناتها النووية!. لابد أن يشعر المرء بالحزن والأسى لمشهد جموع الشباب من هذه القاعدة السفلية وهم ينشدون أهازيج النصر على أميركا، ومشهد الفتيات السودانيات اليافعات يقفن ظامئات جائعات مضللات الرؤوس غير مظللات تحت حر قائظ يحملن الأسلحة متأهبات للدخول في المعركة الآن ضد أميريكا والغرب!. نعم قد تدخل الشعوب في حرب مع قوى عظمى غاشمة مثل أميريكا.. لكن قبل الحرب لابد أولا من وجود قضية!. الشعب الفييتنامي دخل الحرب ضد أميريكا لأنه كانت له قضية هي الحرية. لقد كان في مقدور زعامات الجماعة العقائدية تنشئة هؤلاء الشباب على الحوار الفكري الذي يقارع الحجة بالحجة لا بالسيخ والمطاوي والاغتيالات. نحن جيل نشأ على أصول حوار فكري، لكن ذلك لم يمنعنا من مصادمة الحكومات الشمولية عن وعي ومعرفة بقضية الديموقراطية التي لا بديل لها. وأجيال الآباء اصطدمت بالاستعمار عن وعي بقضية الحرية والاستقلال الوطني. لكن من المؤكد أن زعامات الجماعة العقائدية في غنى عن عقول هؤلاء ويريدون أجسادهم للترويع وممارسة العنف ضد مجتمعهم والاستخبار على جيرانهم وأسرهم.. أيها الشباب المغرر به أولم يرسلوا الآلاف منكم إلى بعثات الموت الجماعي في الجنوب؟ فمن الذي بكى على موتاكم عدا هذا المجتمع الذي أشبعتموه تنكيلا، وعدا الأمهات اللائي يدركن بفطرتهن المؤمنة أن أبناءهن لا يضاجعون الحور العين قبل أن يعترف الترابي بذلك، مثلما يدركن أن الأبناء الموتى لن يضاجعوا أبدا زوجات هذه الدنيا.

    ثانيا: إضافة إلى تربية جماعات العنف ضد المجتمع، فقد استغلت زعامات الجماعة العقائدية الحاكمة تحريفها للدين في قمع المجتمعات بإشهار سيوف الأحكام الحدية. في السودان يحسب المواطن ألف مرة قبل اتخاذ إي خطوة مخافة أن يقع في محاذير "شرع" الحكومة.. هنا شريعة.. هناك شريعة.. قف أمامك شريعة! .. حتى أصبح الشعب كالذي يسير في منطقة مليئة بالألغام دون أن تكون بيده خارطة أو جهاز. كل عمل دخل تحت طائلة الحلال والحرام حتى شرب كوب من الماء.. وفي الأثناء شبكات الشرطة والأجهزة الأمنية المتعددة والمتداخلة تعد على الناس أنفاسهم وسكناتهم. إرهاب اجتماعي غير مسبوق تدعمه أبواق للدعاية يتواضع أمامها السيد غوبلز وزير الدعاية في حكومة هتلر. وبرغم الحذر لم يسلم الشعب من سكاكين "شرع" الحكومة. الإرهاب بالدين الذي تمارسه الحكومة الراهنة هو جزء أصيل من قوانين سبتمبر أو "شريعة نميري" الرئيس السابق للحكومة العسكرية الراهنة. فقد قطع نميري وبطانته أيادي عشرات الفقراء وأهانوا الشعب بالجلد والتشهير إلى غير ذلك من الأفاعيل القاسية البشعة التي لم يأمر بها الله. حدث ذلك في زمن ضربت فيه المجاعات والمسغبة كل السودان. والمعروف عند القاصي والداني أن سوء أداء تلك الحكومة كان السبب الوحيد في انتشار المجاعات والفاقة والغلاء، وهي ظروف تجبر الحاكم على إبطال الحدود وعلى حرمان نفسه وأهله عن أكل أطايب الطعام. لكن الهدف من بتر أيادي الفقراء كان إرهاب الشعب وإذلاله من أجل إخضاعه. ثم واصلت ذات الحكومة العسكرية الراهنة، مايو 2، السير على ذات الطوية.

    زيادة على كل ما ذهبنا إليه فإن الجماعة العقائدية الفئوية التي تحكم السودان اليوم هي فئوية لأنها نشأت في وسط مسلم، وهنا تكمن مغالطة كبرى. فإما أن هذه الجماعة ترى أنها الفئة المسلمة الوحيدة وغيرها غير مسلم فهي بالتالي جماعة تكفيرية تكفر المسلمين. أو أنها جعلت من جزئية الدين مطية سياسية لحكم الناس بالقهر بما يتعارض مع أصول الدين. أو هي كالذي رسم دائرة وهمية على البحر وقال للناس أن دائرته وحدها هي الدين وما عداها من البحر ملح أجاج!. لم يعودوا إذن مجرد "كيزان والدين بحر"، بل أصبحوا "دائرة الوهم الديني" بحق وحقيقة. لكن وجه الخطورة هنا أنهم اختطفوا الحكم بالقوة، ومعه اختطفوا كل الدين وحولوا الوطن والدين إلى رهائن.

    كان من البديهي إذن أن تصطدم "عقائدية الفئة" الحاكمة بالتراث الاجتماعي السوداني القوي من الدين الحق والقيم والأعراف الاجتماعية وشيم الإباء وحب الحرية المكونات الأساسية للشخصية السودانية العامة. كان هدف الحكومة هو تفكيك الشعب إلى كانتونات أو مجموعات بشرية لا رابط بينها فاقدة الإرادة لا تملك من أمر نفسها شيئا. ولبلوغ هذا الهدف سعت الحكومة الراهنة إلى كسر النواة الصلبة للشعب السوداني وإجراء عملية استئصال تام لكل القيم الاجتماعية التي أصبحت تشكل العقبة الرئيسية أمام فرض الحكومة لسيطرتها المطلقة. وعليه مارست الحكومة الراهنة الحد الأقصى من الإسراف في العنف الذي تجسد في عمليات التعذيب والإعدامات والمهانات والتشريد والإقصاء إلى غير ذلك من أساليب الإرهاب الاجتماعي تحت تهديد أسلحة الجيش وأسلحة الأحكام الحدية على الوجهة التي أشرنا إليها. لكن فات على الحكومة أن للشعوب أيضا أساليبها المتفاوتة في صد مثل هذه الهجمات، وهي أساليب مستمدة أساسا من القيم والأعراف الاجتماعية. هذه الأساليب هي أيضا دليل على رسوخ هذه القيم والمبادئ والأعراف. لذلك وبرغم كل ما أقدمت عليه الحكومة من ممارسات إلا أنها فشلت في كسر النواة الصلبة للشعب، وذهبت كل محاولاتها كسر أنفة وأنف المجتمعات السودانية أدراج الرياح. وعوضا عن كل ذلك وجدت الحكومة الراهنة نفسها وهي تخوض حربا شرسة ضد القيم والأخلاقيات والأعراف الاجتماعية السودانية. وما من شك أن الحرب ضد القيم ومكارم الأخلاق والأعراف هي حرب مباشرة ضد الدين الحق!.

    في كل الأحوال فإن ممارسات هذه الحكومة منذ أول يوم في عمرها كانت بمثابة حرب مفتوحة على الدين الإسلامي على وجه التحديد، سواء كانت ممارسات التعذيب والقتل والتشريد التي لا يقرها دين أو خلق حسن، أو حربها المفتوحة ضد القيم والأخلاق ومكارم الأخلاق التي هي لحمة الدين وسداته. زد على ذلك أن الانقلاب العسكري في حد ذاته هو عمل مناهض لأحكام الدين أولا لأنه يستولي على السلطة بالقوة والسلطة حق إلهي كفله الله للشعب كافة، ثم لأن الانقلاب العسكري يستولي على حرية الشعب والحرية هي أفضل ما شرّف به الله الإنسان لذلك حرم الله سلبها (دخلت امرأة النار في هرّة...) الحديث الشريف، ثم لأن الانقلاب العسكري استخدم السلاح وتخفّى تحت جنح الليل وسلب ممتلكات وأموال الآمنين وهو عمل محرّم ونهب مسلح عقوبته في الإسلام حدّية (حد الحرابة) بقطع الفاعل من خلاف. وإذا درأنا الحدود فإنه فعل يصنّف وفق القانون الوضعي الجنائي تحت مواد الاستيلاء على أموال الغير بالقوة وتحت تهديد السلاح، أو القتل والنهب، ثم لأن الانقلاب العسكري جعل هذه الأموال والممتلكات نهبا في يد غير أهلها وشرد العاملين فقطع أرزاقهم وهذا ظلم فهو بالتالي شرك بالله (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) سورة لقمان.

    هذه النتيجة تفسر لنا حالة الانفصام والتعارض الشديد بين خطاب هذه الحكومة وبين أفعالها. فالحكومة تتحدث بلسان الوصي على الدين الإسلامي، وفي نفس الوقت تفعل ما يخالف الدين من قمع وفساد وإفساد وإكراه وترويع وتعذيب وعدم اعتراف بآدمية الناس وحقوقهم والاستحواذ بالجبر على حرية الشعب وثرواته. هذا التعارض الفاضح بين القول والفعل سمة مشتركة لكل الحكومات الشمولية، وهو تعارض له مسبباته. ذلك أن الحكومات الشمولية تسطو على الحكم خارج آلية تداول السلطة، ومن ثم تحاول كسب ود المجتمعات بإغداقها الوعود التي ترد عادة في البيان الأول لأي انقلاب عسكري. لكنها تكون في الأثناء قد ألغت غيرها من الأفكار، كما أنها تحكم بدون برنامج متبلور عن حركة تفاعل مع البرامج الأخرى المنافسة. هذه العوامل، والتي لا تتوافر إلا في ظل حالة ديموقراطية، هي التي تضمن تحقيق الحد الأعلى من نجاح برنامج الإدارة (الحكومة) المنتخبة، إضافة إلى أن وجود وحيوية التيارات والبرامج الأخرى الموازية والمعارضة تلعب دور الكابح الذي يمنع خروج الحكومة المنتخبة عن البرنامج الذي اختاره الشعب. ويفوت على الحكومة الشمولية أن السلطة التي قفزت عليها بالقوة عبارة عن قارب مجاديفه هي تلك العوامل التي أقصتها بنفسها وألقت بها بعيدا. ومع إيقاع الحياة وتخبط الأداء تجرف مياه الأحداث قارب الحكومة في زاوية منفرجة بعيدا عن الهدف الذي ظنت الحكومة الشمولية أنها بالغته!. هنا تصبح المعركة الوحيدة للحكومة هي البقاء في الحكم مهما كان الثمن. وعليه تطرح الحكومة الشمولية جانبا كل الوعود وتدخل في معركة مفتوحة ضد الشعب لكنها لا تكف عن الحديث عن التنمية والرخاء تماما مثلما كانت تتحدث حكومة مايو 1 وصحافتها حتى آخر يوم من أجل مرحلتها..

    ذلك ما يتعلق بالحكومات الشمولية العسكرية. أما الحكومات الشمولية التي تجمع بين الدكتاتوريتين العسكرية والعقائدية فإنها تنتهي إلى مأزق أكبر بسبب التناقض بين القول والفعل مثل المأزق الذي تمر به الحكومة السودانية الراهنة. فقد شرعنت هذه الحكومة لنفسها الاستيلاء على السلطة باسم الدين، لكن ممارساتها العملية من أجل البقاء أفرزت هذه الحالة من التناقض الصريح الخطاب الديني للحكومة وبين أفعالها التي تتعارض مع الدين!. هذه الحقيقة لا تنفي أن هذه الحكومة قد فارقت درب الدين من أول لحظة حركت فيها أرتالها العسكرية وانقضت على السلطة. فسياسة التمكين التي مارستها الحكومة هي الحرام بعينه. ذلك أن التمكين ينبغي أن يكون بما يملكه ويقدمه المرء لا بما يملكه غيره!. لكن الحكومة السودانية الراهنة مكنت لنفسها بطرد الناس من وظائفهم لا لسبب إلا لإحلال جماعاتها في مكان هؤلاء، وهذا فعل حرام قطعا لا يقره دين أو عرف أو أخلاق. ثم مكنت الحكومة لنفسها بأموال وممتلكات الشعب لا بأموال أتت بها من عندها، وهذا كما ذكرنا فعل حرام لأنه نهب مسلح تعاقب عليه الأحكام الشرعية حدّا وتعاقب عليه القوانين الجنائية حبسا طويلا مع رد الحقوق. والخلاصة أن أفعال الحكومة قد جردتها تماما من غلالة الدين، فإذا هي تخطر و"تقدل" عارية لكن لسانها لا يكف عن الكلام الديني.. فلم يبق إلا أن يصرخ طفل من أطفال السودان: انظروا إلى ملكنا العريان!!

    مجمل هذه القرائن تؤكد ما ذكرته في سياق سابق أن الجمع بين الدكتاتوريتين العسكرية والعقائدية يفرز أسوأ أنماط الحكومات الشمولية. سوف أتناول في الجزء الثاني التطابق المثير للدهشة بين الحكومة السودانية الراهنة وبين فترة حكم الخليفة عبد الله التعايشي. فمن وحي هذا التطابق أطلقت على جماعة هذه الحكومة اسم "التعايشيون الجدد". أعرف أن البعض لن يسطيع معي صبرا حتى موعد الجزء الثاني، لكنه سياق المنطق وتداعي الأفكار الذي ينتهي بنا إلى هذه النتائج. ثم انه لا قدسية إلا لله ولا عصمة إلا للأنبياء، وما دونهم من البشر خطاؤن بعضهم يحرفون الكلم عن موضعه بغية السلطان والجاه وبغية عرض هذه الحياة الدنيا. فمن يشادد منهم الدين غلبه الدين حتى يخرج عن الملّة، ومن يقصينا ويشردنا ويستأثر بحقوقنا بل وبحقوق كل الشعب باستغلاله جزئية من الدين، رددنا عليه الصاع بأربع من أصل الدين.. وتربت أيادينا...!
    وإلى الجزء الثاني

    سالم أحمد سالم
    باريس
    19 أبريل 2008

                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de