|
تجربة لتحويل شعر الطفولة إلى نصوص جديدة
|
تجربة لتحويل شعر الطفولة إلى نصوص جديدة
" لقد تبدل نحاسنا بهذه الكيمياء النادرة " جلال الدين الرومي
" أفق من نومك يا من سوف تنتصر على أعداءك، الإله سوف يقهر كل أعداءك فلا يعد لهم وجود " الفصل 166 – كتاب الموتى عند الفراعنة
صدح الغريد فوق سنابل الذكرى كعصا تشبه التاريخ، كيدٍ تصفق، تمتشق الطهارة آيةً. يجيء رغم العواصف والثلوج ليحط فوق الأمسيات. الليل يسكب بأسه، يعلن للمدينة التخمة، من قبل ميلاد الزمان، يمتلئ كقارورة بالصبح، ثم ينسكب على الطريق، يتقاسم الأيام مع بستان المصابيح جديدة العهد، مرسومة الصفات على الجدار، يقبض المنازل على قرار اللجة، منثورا كفيض العمر، مذبوحاً بطلاسم الموت الفريدة، ونسيج الربان تحت النهر، بعد أملٍ المتاهة والونا. بحبل الوصل نأتي، نقتطع المسافات سائرين بلا حدود، تثقلنا حقيقة العهد، نرتاب، ندور إيماناً، ها نحن في رحم البتول، عقد من رسموا زنبقاً لجفن الشمس، منديلاً يطهر الرأس، يرثي لباس الموج، يستقصي بلاد الميتين مع امتداد الظل، يفجّر النهار قبطاناً يدوياً، أرجوحة، مشنقة كملقاط القلوب. رسم للشمس بالجهر مرآتين، في القلب اليتيم حضارة، أعدّ مجد السالفين، تهذّب إلهاماً يُدوي كساقية النهر خلف الذكريات، يجتاز حاجز من تجلى رائعاً، يرتاد مساجد عتيقة، يستجيش بصوته المنسي، يعلن برهة " أتى الخطيب لدى المنابر". يمتد في النهار، يختط في وسط كتابه شبعهُ، معتزاً بالإسراف في زمن التقشف، لساعتين يبرق الفجر الأبدي، يحرم النهر رؤية الشاة التي علفها الجد بالأمس وحلبتها الفتاة. يده مخضبة بحناء الدم، كأصداء الصدى، يرى الدم يجري في عروق الماء ملهاة للقرون، يمتد خلف شعاع الظهيرة ميلاً، يغرب وراء الشفق، مع ميلاد الجد ببذره المتكوّر مثل وجه المدينة الزرقاء، جلمود الجبل القديم، حيث التقينا قبل عام، نسكب الذكرى، نغني، متصوفين وعاشقين. "ها نحن .. يا أنت " نناديه، نسري في نهار النجمة الخضراء، نبدل ظلمة الأموات بأفواه الزهر، نصدم القارعة، نناصر مشاعلنا، كيف كانت هنا، كيف سار عزمنا نبياً ؟. يدق الباب ليرشف كأس مسبحة العصور، العصر يلقى حتفه. دق باب الحيّ عصفور عجوز، قال للعصفور كلماتَ عذابٍ، عضني العصفور بالمنقار والألم الدفين : " لا لن أكون بغير مسبحتي .. النقاء " الحياة تسير في كف الحياة، يُطهّر شجيرة النسيم، قائمة تحت جداول ترث الخرير، تداعب الدنيا فصولاً عائدات لتوهن مثل الملايين التي عاشت بقلبه ساجدة، يتعفن لرؤيتها، يخلع ضرسه، يمزق المواثيق مجتاحاً كالنهر قريتنا الأليفة، ممتطياً شهوته الكبرى، هويته، معتذراً للغيب، لإنكار الذنوب، يبدل موقع الشمس، بعد اغتياله، جواداً أصيلاً يانعاً مُغبّراً للمشاعر، يبث به الإسراء مذموماً، يركب ظهره، يشد سواعد الحمى ويهرول كالمروحة إلى أزميل الطرابيش المُغني. انعكاس الموج في قلب السماء، ومسحة الصوف ملهاته الأولى، عاشا الفقر، لون البرد، جوع كرامة المنساب فوق الدهر، آمال الطور. أشعل قلوب الذكِر بتسطير لسان الحال، صوّر من أتوا هذا المساء من سباق قرن قادم. دقّ قلعة المغرب على أطراف المدينة، يبتهج بحسنه الواحد، ناثراً فيضه، يرش به فضائل الإحسان، دون أن يستجدي الهوى أو يعلق الآمال الطروبة في النجم. يدخل مدينة "القلنسوانات"، الورد، الحانات، النساء الملعثمات، الضياء. الساعة التاسعة ليلة عيد الميلاد، الضجة تملأ الأشياء. الحنين إلى وطن الجسد، القارات التي تتلاقى بلا بحار، الأنهار في ضفة السواحل، الدخان يصعد إلى السماء. خياراته : الانبجاس، التوتر، الاندلاق، الفوضى، الحمى، الفرار، الهزيمة، الموت، الدمار، التيه، العلكة، الفقر، الفوات، الضياع، الانثناء، التوجع، التلاشي، الانقسامات، التواني، الخوف، التقاعد، الجنون. رحلته : يمتلك وطناً من اسفل السرة إلى أعلى الركبتين، متى ما عذبته الأماني مارس الانتماء، مدوخ بالحقيقة المُرة، صاعداً، هابطاً. سيد الوطن الواقف ينتظر بلاد الاختباء، يكره البرد والضعف، لا يحب إلا الانزواء. يرفض الدهشة، من أعلى سبيبة في الرأس إلى خنصر القدم اليسرى، بلاده مليئة بالإثارة، من يدخل فيها لا يخرج منها، مواطن البترول والذهب والماس، والقنابل اليدوية. تحلم بالاتحاد، التكامل، تبادل الموارد، العملة الواحدة، فتح الحدود، الانصهار العرقي، التثاقف، تعرية الفوضى، الحقائق، الإمضاء : " هو ". يبتل باستفسار جدته : " هل حقاً يا جدتي يأتي الحصان ؟ " جدته ذات المساءلات الطويلة، تردف القط على حائط الجسر، تنام كالطيور في بركة الفرح، تحلم بالعتال والحيوان المنوي، تجيبه : " قد يكون ما لا يكون " " لكن البيضة لا تخرج إلا كتكوتاً " " والمصانع لا تنفث إلا دخاناً " " والعيون لا تنزف إلا الدموع " " ساعة البكاء والحلم والسعادة " يشرب عصير الصمت، الوجع تارة، الاستسلام تارة أخرى، الهوس الداخلي والانفصام، وأحياناً يتشاور مع الرب حول مقام الجدوى. علمته أن البلاغة أن يرتدي سيده سروالاً، يمتطي الصحراء سفينة والبحر قارباً، يعوم في النهر حتى يغرق، لا ينسى أن يعلن الحداد على نفسهِ، أو الانتصار بلذة المدوخين بالليالي الطويلة والحربة والعصي والقطيعة والنميمة والأرض التي لا تبنت إلا الوجع الآخذ في النمو، ثم الهزيمة. تسأله : " من متى أفرغت التلقائية صوتك ؟ " " هي داعبت عيوني " " بأوراقها في أول المساء " " نامت على غصن حبي " " يا الله .. يا سواح .. يا عاطل " " أي والله قامت بدل الحب " " لعنة شقاء " تجيء أزمنة آسفة التكرار، تقتل الأزمنة النورانية، يمضي الليل الحر والذكرى معه، تنهب ألحان الصفاء المدينة، يصرخ : " يا بلدتي الأخرى عشقتك في لباس الموج ". تحت أزقة رطبة، تحت أزقة الزمن الرطيب، تحت ما تبقى من الزمن الهلامي، من الكلام، يضج بالغروب، يأتي من ماضٍ ما، يدثر تابوته، ينوّر الحياة بزخم الوجود، يعشق الحياة، يُلوّح بنغم الثبات، يغني : " الله يا قلبي المُضيّع بين ألسنة الشتات ها أنا يا جدتي عصفور الضياع سنبلة الموت في تراتيل الحصاد " يأتي المترفون إلى المدينة، يقودون جلادّهم بسياط الهرم، يهوون على الله والمستنكرين بالخطيئة بالجريمة، يسألون : " من يوّلد الخلاص لمحمد البطيء في غياهب القرون المريرة ؟ ". في أزقة قروية، داخل طاقة ما بين السماء والأرضيين، وقصة عقيمة، ومن أنا، أترع كأس العذاب لدى سيده الإمام، كان يمشي لدى الباب سكراناً، يتمسح بالخوف من خوفه، ينام على أسنة الوجع الماسي، في ليلة الحرام والحلال، قبل أن تزهر الوردة في غياهب الكهف، وينزف دم الطفولة نبضه على ميلان الحتف، أوقفته كتابة الميتين على الصدق والغرام. رأى مشهد البلدة رقم 150 في الفقر، وقال : " لتقل أنك صاحبت السكارى، أو أحرقت الكنائس، أشعلت الجمر سلاماً ". سألته جدته : " من فتح في عينيك إلهاماً وحباً ؟ " " لا أدري " الذي بعينيه كان حلالاً، مدركاً، لم يكن ما يُقال عنه في المدينة، أنه الزور والحرام، لكنه لم يحتمله، تأوه : " آه من أنت تثاقلت بروحي .. ملأت ذاتك ذاتي .. تصاعدت بأنفاسي زفيراً.. دعاءً.. صاعدا كالعطر حراً لا ضريراً ؟ ". أبحر على بحر الخليل، رأي خناس تبكي " تبكي خناس على صخر وحق لها إذ رابها الدهر إنّ الدهر ـــ . علق الكلمة بالبكاء، ورأى خناس تبكي بليل الحب، يحرقها، يلهف قلبها، يكرها. بث تحنانه إليها، لا تعشقه. هذه الفتاة عار للهوى، وهو تلميذ تؤرقه النهود، معارك الصدّ والنار. يبيت الليل إليها، رغم ممانعتها، يشتكي للنجم : " إني للهوى عارٌ ". " امتطي الصعب في الأحلام، أمشقه " " في خيالي من الأحلام إبحار " مالها خناس، يكون اليوم في وله، وفي غده يراها فيخمد التوهان، يستغفل ذهنه يبارك لعنة الحب، يسأل : " هل غادر الحب من مترجم ؟ ". تناديه : " الحب موعدنا والصبابة لا تنهار بالآمال ". لا يحسدها رغم ميتته، ففي هواها يموت الصحب والجار، وليس به من نعيم الكون دعة، يحبها حبا لا ينهار. يناديها بليل : " جودي رغم معرفتي بأن قلبك قد غطته أوطار " " صخر وميتته والهوى ولهاً، وليس لي في الدنا حل وإبحار " سينسجها ربيع فهو يهواها، سيغربلها على فؤاده، كسيف بتار لكل مسغبة الوجد، بقلب يضمخه العذاب بالقدر، بكره الحياة والناس، وطعام الأمسيات الباكيات، قلب يلوك المُرّ ساعة وينسني فجراً لقارعة الشتات والتصدع، يبكيها سنينا، فيتلوى خنقاً، يحترق ميتاً، من مات فات، من فات مات. " من نحن يا جدتي ؟ " " .....! " " أقدار السنين، الأحزان والماضي الأليم ؟ " لا تحدثه عن زمن التقوقع خلف ناصية المتاهة والسديم، ولا المروءة تخفت، يجتازها المدى في آثامه وجعاً للقدوم، تحدثه : " من نحن غير بقية العفن والأيام المهلكة " "زمن التهاب الكيف " آواه، يزمجر وحيداً، لا فؤاده حرٌ، لا أمسه، لا حسه الأثير، بلده البلوى، يسير على بقايا المستحيل، ينوح بالمدى، خلف المدى، ببشارة الأنين، الزمن. يدخل ملهى مدينة الليل والحلم، بضجيج الحمى، هل ينتهي الوطر الليلة ؟ يفترقا، لتكون هي مدينة أخرى على الجرف المهدد بالانهدام ؟. ثمة حرية تعلمها الحبّ، التطاول، تكونها ناطحات قرون، عيون مدوخة بالسهر على الضفة، تخاطب النهر، تعاتبه : " ابتداءنا من الصفر الهلامي، عدنا للوطن الجريح " " الانقسام، الحرب الأهلية، الثروة الضائعة " " من يملك تدويخنا، امتلاكنا كاللجام ؟ " هاهو قد ضاع بالسهرات المنهكة، تتماوت، والحمى تغسل العرق وعفونة الجسدين المتلاصقين. يسافر على طريقة " علي دينار "، يحلق في شرائعها، " من متى كانوا ينتجون شرائع إلهية في هذا البلد الأسود المتفتت ؟ "، تضحك " المطعون في صلبه بالتطاول ". الضجة تملأ كؤوسهم بالدم والدوار، ينامون على أرصفة الحانة، يستيقظون على الظلمة والانهزام، يسألها : " متى نعلن الحبّ ؟ " المدينة تحترق، الناس الأحياء يموتون، الليل ينهزم، يتضاءل الحلم، " علي دينار " يجيء بسيفه ليمنعهما صناعة الجسد الواحد الممتد مدينة ربانية، تدوخ الأولين والآخرين. يستغيثا من تحت الطاولة : " يا علي، يا دينار، هل أمنت بالحَسن ؟ هل انقطع التيار لجامك الرباني؟ " سافر عليٌ بعيداً، ينتزع عنهما لذة الانتصار، يعملهما التسكع في مدن العالم النارية، يدوخا وسط الأبراج العالية والمدن المصقولة، وكالات الأنباء والمجاعة المعلنة في القارة الأفروعربية، يصرخان : " متى، متى يا دينار ؟ ". دخلا، كانت الساعة تعلن الثامنة مساء، الحانة ضجيج، السود يكتسحون الخرطوم، صبية الورنيش، المارقون على السُلطة، جميعهم يهمسون، قالت : " وحدنا والبرد وملهى الحلم " " الأكواب لا تعلمنا ارتشاف الحليب المثلج " " دعنا نجرب الارتجاف في برد الخرطوم " حانة أخرى على ناصية شارع الجمهورية، وحدها لا تصفق، وحدها تموت، تموت فقط، قالت له : " علي سيأتي الليلة بالعبيد من بحر الزراف ". " قالوا سيجيء في الغد بالبالونات الملونة " " وسيدقون له الطبول " " ويضمخ الشوارع بعبير التلون والإفك " " سينامون على حضنه كعاهرة " جاء، جرب معهم سياسة منع النوم، ظلوا مستيقظين، غافلين. وحدها خناس دخلت الحانة وخرجت، الساعة ما تزال الثامنة مساء، الوقت لا يمضي، جربت شراب الحليب المثلج، النوم على البرك المشتعلة بالناموس، ودعت الحانة وافترقت عن الشارع. هل كان ممنوعاً أن يلتقيا ؟. كانت ضفائر شعرها قد أُخذت، دخل المقهى الليلي، قدموا له طبق الحلوى ملوثاً، بدلا عنها. قالوا له : " كُلّ والسلام " امتلأ حلوى، ليس من طبعه الأنا، لكن الظروف جبارة، نادته من تحت الطاولة : " وداعا .. الخرطوم لن تسعني ". كان يعرف أنها أكبر منهم، مسامحة وسط الجبارين، يعزي روحه : " لا تندم، غداً ستخرج من الغابة "
|
|
|
|
|
|