|
(المفهوم) وبطولة جديدة في الرواية
|
(المفهوم) وبطولة جديدة في الرواية
هناك أعمال روائية لا يكون البطل فيها الإنسان ولا الزمان ولا المكان،بل الفكرة التي تحرك مجمل النص نحو خلق علاقته الجدلية مع العالم،عندما يستعد الكاتب للتحليق فوق كل الأشكال التقليدية التي أسسها الرواد،في خيانة تجريبية لكنها عارفة في ذات الآن، كما عند كونديرا الذي اخترع مفهوم "خيانة الوصايا". الخيانة هنا لا تُجِرم الكاتب،بل تقربه من ادراك مفردات العالم الجديد والدخول في التحدي الذي يجعل للمغامرة معناها وحيويتها في اختراق المسكوت عنه وما تغطى بأشكال الجهل والحنين الكذّاب في المجتمعات الإنسانية الجديدة،المجابهة بتحديات القيمة والمعنى، في ظل عالم منفتح يصعب التعامل معه مجزءا، في الوقت الذي تستعصي فيه عملية النظرة الشمولية،إذ أنها تتطلب معرفة بحجم الكون. لكن الكائن وفي سعيه للمغزى،يحرك الأفكار نحو أن تعيد ترتيب العالم بشكل مختلف،يفتح الآفاق نحو الرؤيا ويحرر الإنسان من العمى والضمير المزعزع بالحيرة،والعقل المعرض للاغتيال بتيارات اللاوعي المهيمنة في الحياة الحديثة،كردة فعل للخوف من المجهول والكوابيس العصرية التي انتجها الإنسان بنفسه ثم فزع منها خائقا ومرتبكا وغير قادر على تلمس الطريق في دنيا متعرجة وكثيرة المزالق ومتشتتة الأهواء وكثيفة الخطابات. في اللحظة التي تحرك الفكرة النص الروائي،يكون المفهوم هو البطل،ليقتل أي نوع كلاسيكي للبطولة القائمة على التمجيد والزيف والانتهاك لمعنى الإنسان أو للجغرافيا والزمان، وبطولة المفهوم هي التي تجعل الكاتب يركز على قيمة معينة في العمل يحاول سبر أغوراهاوتفكيكها،والجديد في هذه التقنية الكتابية، كما عند كونديرا،انها تعيد قراءة العالم بشكل يحترم الكائن ولا يعرضه للقذف في بئر التوتر. في رواية (الخلود) والتي يفكك فيها كونديرا هذا المفهوم ويحاول الأقتراب منه ،وفي مثل هذه الأعمال بشكل عام، لا تكون الشخصيات أو الأمكنة والأزمنة مهمة جدا في العمل الروائي، وأهمية وجودها لا تتعدى حفز المفهوم والعمل على دفعه، مثلا : يقوم الكاتب بأخذ مفهوم معين كالكذب ويحاول أن يعيد تركيبه عبر الرواية ويتصاعد به عبر العمل من الفصل الأول إلى الفصل الأخير ليعكس رؤيته عن هذا المفهوم،وهنا الشخصيات تساعد في بناء الرؤية كذلك الأمكنة والأزمنة، لكنها لا تكون المحور الاستراتجي لبناء العالم الروائي وتشكيله. من المعروف أن الرواية اهتمت في بداياتها بالبطل الإنسان كما في (أوليفر توست) أو (ديفيد كوبر فيلد)، وجاء طور ثان انتقلت البطولة فيه للمكان كما في (قصة مدينتين) أو كما في (مدن الملح) لعبد الرحمن منيف، وسميت وقتها بطولة اللابطولة. الآن تولد رواية جديدة تقوم على بطولة (المغزى / المفهوم)، وهي قد تكون غير مرغوبة لعدم التماهي معها إلى الأن عند القارى، لكن بمرور الوقت ستكتسب قواعدها وستنجح في بسط مشروعها في ظل رغبة الإنسان ونزوعه اللاهب نحو الجديد،فالحياة مضللة بالممل والروتين،وتلعب الفنون الجديدة بوجه خاص على قتل هذا الروتين وتبديده،لاسيما الرواية بقدرتها على حفز ما هو غائب وغير مرئي في عالم يرسم جمالياته مرحليا بالمشاهدة المباشرة،كما في ثقافة الصورة والتي يظل الخيال أعمق منها. في (بطولة المفهوم) يمكن رد الاعتبار لتجريب جديد في الرواية العربية،يمكن ان يجعلها تدخل في عوالم مختلفة،تساهم بها في فك لغز التشتت العربي واسئلة الإنسان في حياة محفوفة بالموت والضياع،خاصة في عالم ما بعد سبتمبر الذي يرهق ذاته بدوائر من الاسئلة التي ظن الكائن البشري انه قد تجازوها منذ قرون بعيدة،لكن التجربة العملية اثبتت أن الإنسان لا ينفك من أسر الماضي المترسب في ذهنه البعيد،وفي خرائطه الجينية،ومن هنا تكتسب الرواية الجديدة القائمة على إعادة النظر في مفهوم البطولة،دورها، في بناء عالم مختلف،عالم غير آني وغير متشخصن،ينزع بالكائن نحو حقيقة وجوده،لا أن يظل غريبا،غير مكترث وغير مهتم ومجابه بالقلق الكبير.
[email protected]
|
|
|
|
|
|