فصل من مشروع روائي - مدينة الماء

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 04-25-2024, 01:32 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة عماد البليك(emadblake)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-17-2007, 01:20 PM

emadblake
<aemadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
فصل من مشروع روائي - مدينة الماء



    وضع القسيس سبانوت الماء على النار، في أناء صغير مصنوع من النحاس على شكل نصف جسد امرأة، بيد ملونة بأطياف من الألوان الصارخة، تبدو كما لو أنها جناح فراشة صغيرة محلقة في المكان، تحاول أن تغادر الحيز المسجونة فيه، أن تطير، لكنها غير قادرة على الطيران والهروب إلى مكان آخر. سرعان ما على الماء، دون أن يكون القسيس قد انتبه لجريان الزمن، والذي أصبح علاقته معه مشوشة إلى حد بعيد، منذ سنوات من الصعب عليه أن يحدد عددها بالضبط، طالما فقد الإحساس البريء بالوقت.
    نسي أن الهدف من غليانه للماء، يتمثل في سلق البيض، طعامه المفضل في الفجر الباكر، فمنذ طفولته اعتاد على الاستيقاظ قبل بزوغ الشمس، أداء الصلاة، ومن ثم تناول وجبة إفطار خفيفة مكونة من البيض المسلوق مع قليل من الجبن والزبد، يتبع ذلك بتلاوة صفحات من الإنجيل، يستغرق فيها تأملاً وتأويلاً، تكون الشمس قد ألقت أول أشعتها النورانية على الأرض وبدأت الحياة في الضجيج، ليكون سبانوت قد دخل دوامة الروتين اليومي للعالم، هذا البرنامج الذي لا يتغير لدرجة أن كل يوم أصبح مستنسخاً من الأمس، ولهذا كان القسيس نادراً ما يستطيع أن يتذكر ما هو اليوم الذي يعيشه؟ هل هو الجمعة أم السبت؟ حتى لو كان الأحد وكان مطلوباً منه الاستعداد للذهاب إلى الكنيسة كما هي العادة، فهو يقوم بهذا الفعل بطريقة روتينية، كيف فهم أن اليوم هو الأحد! ليس بمقدوره أن يفهم، وأيضا هو لا يفكر في أن يدرك الكيفية التي جعلته يمارس الطقوس المكررة المرتبطة بيوم خاص في الإسبوع، هو مختلف، وغير مختلف.
    نظر سبانوت إلى الساعة المعلقة على الجدار في منزله الصغير في كوبنهاجن، دون أن يفكر في معرفة الوقت، وبعد ثوان، ربما دقائق، أعاد النظر مرة أخرى، كانت عقارب الساعة تشير إلى السادسة إلا أربع دقائق، أربع دقائق بالضبط كانت كافية لتغيير طريقة تفكيره في الحياة والخروج من حالة القلق وانعدام العلاقة مع الزمن، غير أنه لم يكن يمنح نفسه الفرصة الكافية، مجرد ثوان معدودات ليكون قريباً من ذاته ومن ذهنه الصافي، فقد تشوشت عوالمه الخاصة بأسباب غير مفسرة بالنسبة له، أصبحت جزءاً من ألغاز الكون، تلك التي كان كثير الانشغال بها، في محاولات دائما ما تنتهي بالنقطة التي بدأ بها.
    كان يفكر في أمر ما، غالبا ما تأتيه الفكرة من الأشياء التي حوله، فلديه عين تسرع في التقاط الصور وتحويلها إلى أسئلة غامضة ومقلقة.. لماذا يحدث هذا؟ وهل ثمة حكمة ما وراء هذا الدوران المتسارع والمتكرر في فلك الأسئلة الغامضة المرتبطة بالحياة والكون والإنسان، والمغزى وراء فكرة العالم. لا يملك سبانوت أي إجابة، لأنه في غرارة نفسه يدرك شيئاً واحداً، أنه عاجز عن الحلول، فهو بارع في اختراع الأسئلة، التي تجعله يحس بالدوار والصداع المزمن، يسرع لتناول قرص مهدئ، اعتاد على هذا الشيء منذ سنوات. بعدها يفرغ التفكير من الذهن بالهرب إلى النوم، حيث يستلقي على الأريكة الخشبية الطويلة في فناء منزله، تحت شجرة ليمون تحوم حولها عصافير تزقزق بهدوء. لا يستيقظ إلا في منتصف النهار بالضبط، دون أن يستخدم ساعة منبه، بعد أن يكون قد قضى أربع ساعات من النوم المتواصل المصحوب بالأحلام المزعجة، السارة أحياناً، والكثير من الأسئلة والألغاز في أغلب الأحوال، خاصة بعد أن يكون قد بالغ في تأملاته أثناء تلاوة صفحات اليوم من الإنجيل.
    اليوم، قبل أن تشرق الشمس، كان القسيس على موعد مع نحس، وهو يؤمن بمثل هذه الأمور، رغم قدرته على صياغة دافع بلاغي وفلسفي ومنطقي قوي، أن الإيمان بهذه القضايا يهلك طاقة الإنسان في الحياة السعيدة. ما حدث أن شروده الذهني في ظل تشوش علاقته المفقودة مع عقارب ساعة الزمن، جعله ينسى وضع البيض داخل الإناء، فقد استغرق في تتبع تفاصيل يد الإناء الذي تلقاه هدية من قسيس مصري قبل ثلاث سنوات، عندما جمعهما سويا مؤتمر سري مشترك في الفاتيكان، مع عدد من القساوسة من بلدان مختلفة، كان يناقش تداعيات الحرب العالمية الثانية على المجتمع الإنساني. الآن غابت تفاصيل الندوات والمحاضرات واللقاءات التي عقدها على هامش المؤتمر، ولم تبق سوى ذكريات غامضة مضللة، كما لو أن كل ذلك كان حلماً، ولم تبق سوى تلك الذكرى المرتبط بذلك القسيس المصري الذي غابت ملامحه عن دماغ سبانوت، وقد أعاد التفكير فيه الآن بمراقبة يد الإناء والمضي في الأفكار وهو واقف مستنداً على الجدار، ينظر إلى جناح الفراشة التي تخيل أنها محبوسة إلى الإناء، أو أن رأسها مقطوع، وأنها سوف تُظهر رأسها بعد قليل، حيث سيخرج الرأس من فراغ غير مرئي مسجون داخل ما يراه من فراغ حوله.
    في اللحظة التي كان شبه متأكد فيها، من أنه رأى جزءاً من رأس الفراشة يكاد يطل من وراء الفراغ المحسوس، خارجاً من الفراغ المسجون، الغائب، والذي لا يراه إلا أناس ذوي قدرات دينية خارقة. كان أمر ما قد حدث، يرتبط بذلك النحس الموعود في أول اليوم الجديد، فقد تحرك القسيس بخطوات سريعة تجاه الإناء على النار، محاولاً الإمساك برأس الفراشة، ليجد فجأة أن الماء الساخن قد اندلق على جسده، تحديداً على يده اليسري، وأدرك أن صرخة عالية قد خرجت منه، بما يشبه بركان مدوي، هكذا تخيلها بعد أن رأى صداها في ارتجاج الأدوات والطناجر والآنية المرصوصة على رفوف المطبخ الصغير. تلك صرخة الألم الذي نتج عن حريق الماء الساخن لطبقة الجلد الخارجية، والتي سرعان ما التهبت بلون غريب، بين الأسود والأحمر، واشتد الألم في عصره للدماغ، كان شيئاً فظيعاً وقاسياً، وكان النحس يلعب لعبته الشريرة قبل بزوغ الشمس بقليل، لعبة الدم الذي كان قد خرج من وراء الجلد الملتهب، منذ زمن بعيد جداً لم يحدث أن تعرض سبانوت لجرح في أي عضو من جسده.
    "عندما يخرج الدم من الجسد، إلى العالم الخارجي، مغادراً سجنه ودروبه المحفوظة منذ خروج الإنسان إلى الوجود من رحم الأم، فهذا يعني أن ثمة أمر ما سيتغير في حياة ذلك الإنسان" فهم القسيس ما يجري بهذه الطريقة، دون أن يمضي في مغالطات مطولة – كما تعود- للفكرة التي ينطلق بها، والتي سرعان ما يهرب منها إلى فكرة أخرى أو تفسير جديد، ومضى يحدث نفسه مع تزايد الألم ومحاولته لتطبيبه بالأعشاب:"بقدر ما يتعلق النحس بالفراشة المزعومة على يد الإناء، إلا أن البيض هو السبب في ما حدث"، اعتقد ذلك، لأنه قرأ في أحد الكتب المنسوبة لقدماء المصريين أن البيض ملعون لأن شكله يشبه الكرة، وقد كان الكثير من فراعنة وحكام مصر لا يأكلون البيض، باعتباره يقلق الروح ويمنعها من الرؤية الجيدة للأشياء في ساعات التأمل العميق لحل مشكلة ما، والشكل الكروي هو الذي أفسد طبيعة البيض، لأن الكرة هي رمز الشرّ والصراع بين الكائنات لدى العديد من شعوب العالم القديم، كما يروي ذلك الكتاب.. وهي معلومة كانت جديدة على سبانوت عندما قرأها لأول مرة، وفيما لاحظ أنها تتكرر في الكثير من الكتب، فنفس الفكرة موجودة عند شعوب المايا وبعض القبائل الأفريقية التي تستوطن مناطق قريبة من بحيرة فيكتوريا، من حيث ينبع النيل الأبيض، أحد فرعي نهر النيل الرئيسيين، الأبيض والأزرق. ورغم ما قرأه سبانوت عن لعنة ونحس البيض، إلا أنه لم يترك عادته في تناوله مسلوقاً كل فجر، لسبب بسيط يقول بأن لعنة البيض تكون في شرابه دون غليه بالماء، لأنه بمجرد أن يغتسل بروح الماء ويسخن داخلها، يكون قد تخلص من النحس المشحون بداخله.
    أيضا الكتاب الذي وردت فيه هذه الفكرة، المتعلقة بنحس البيض غير المغلي، كان هدية من ذات القسيس المصري الذي قابله سبانوت بالفاتيكان، وفكر سبانوت أن هناك أمر ما يصعب تفسيره، فقد اندلق الماء الساخن بسبب التفكير في يد الإناء، الذي كان من المفترض أن يوضع فيه البيض.. "إذن ثمة علاقة سرية بين الفراشة والبيض، وثمة موضوع آخر يتطلب التركيز والبحث الذهني لإدراكه، أن ذكرى القسيس المصري ظهرت في هذا اليوم بالتحديد مع أمور تتعلق به، فهل جرى مكروه للمصري؟ أو كان يتذكرني في هذه اللحظة؟". كانت هذه الأفكار قابلة للامتداد والتوالد إلى مالانهاية في دماغ سبانوت، لولا أن الألم أقوى، حيث أفقده السيطرة وجعله يسرع لمقابلة الطبيب، حتى يخفف من ألم الجسد الذي استطاع في بضع دقائق أن ينسف كل ألم الروح، لقد كان يزداد مع الوقت، مع الأيام، ومعه تزداد البثور والتقرحات والرائحة العفنة في الصاعدة من الجلد الذي أصبح منظره بشعاً لا يطاق، يشعر كل من يرى يد القسيس باضطراب سريع في فم المعدة ورغبة في التقيؤ.
    وسط الألم وعزلة القسيس، فقد صار لا يقابل الناس ولا يستقبلهم في بيته، كانت لديه قناعة بأن ما حدث كان لحكمة ما، وتوجد عدة دلائل لهذا الشيء، منها خروج الدم، الذي يعني التطهر والانعتاق، ومنها صورة القسيس المصري الذي بإمكانه أن يسترجع صورته الآن وسط الألم، فيراه شاباً في مقتبل العمر، حوالي الثلاثين، لا أكثر، كان نابضاً بالحيوية وجميلاً مثل ملاك هبط من السماء، إضافة إلى كونه مثقفاً في معارف عديدة، وكريم. تتداخل هذه الصور الآن في ذهن سبانوت، ويتقدم خطوة بعد أخرى في الاقتراب من بلورة فكرة ما تحدث ضميره بأنه الحكمة الماثلة وراء ما جرى مرتبطة بهذا الشاب المصري، والذي تذكر اسمه الآن.. محسن جورج.
    لم تمض سوى ليلة واحدة بعد النتائج الذهنية التي رسمها عقل سبانوت، في تقدير ما حدث على أنه مؤشر لقدر جميل قادم، حتى سمع طرقاً على باب البيت، وتخيل أن القادم ليس من سكان كوبنهاجن، تخيل ذلك لسبب غامض، وأيضا شعر برغبة في التقدم نحو الباب، فتحه، وهذا بغير عادته في الأيام الماضية، حيث لا نية البتة في استقبال الضيوف. وبالفعل صدق حدسه، فقد كان أمامه مجموعة من القساوسة من ذوي الملامح الشرقية، وكان بينهم محسن جورج بابتسامته الهادئة وصوته المبحوح وعنقه الطويل، صافحهم جميعا ودعاهم للدخول، في الوقت الذي كان فيه يفكر فيه في الطريقة المدهشة التي تصاغ بها الأقدار في العالم، تلك التي يتربها الله على نحو غريب لا يفهمه إلا هو.
    لم يحكي سبانوت عن حدسه الذي صدق، لمحسن ورفاقه، ولم يسرد أي شيء فيما يتعلق بما مرّ به من ظروف صعبة مع الألم، كما لم يذكر حكاية الفراشة التي شغلته أو الكتاب الذي يروي علاقة الفراعنة المتوترة مع البيض الغير المسلوق، وهذه هي عادته فهو لا يحكي أبداً عن أفكاره وتجاربه، يكتفي في أغلب الأحيان بسماع تجارب وأفكار الآخرين، وهو لا يستمتع بذلك، بقدر ما يتعذب، لأنه سرعان ما يكتشف أن أي فكرة تقال من قبل مُحدّثه كانت قائمة في ذهنه منذ سنوات، وكأنما التقطها مُحدّثه منه بوسيط لامرئي وسارع في روايتها عليه.
    كان سبانوت خلال الأيام الماضية قد زار عدداً من الأطباء دون أن يكون واحداً منهم قادراً على تضميد جرحه، وقد بدا الأمر غريبا، فالجرح الذي أصاب القسيس في منظور الأطباء الذين قابلهم، يبدو عادياً وقابل للشفاء في بضع أيام، لكن الواقع كان مختلفاً، لأن البثور كانت تتفاقم والألم يتزايد ومظهر الجلد يتشوه بين يوم وآخر. كانت الأدوية المختلفة والضمادات أمام الطاولة في بيت القسيس المكون من غرفتين إحداهما بحجم كبير لاستقبال الضيوف والثانية غرفة نومه ومكتبة في ذات الوقت، فالقراءة هي ما يشغل سبانوت منذ طفولته، حيث يجد في الكتب ما لا يجده في مصاحبة الناس، هكذا كان يعتقد، وأحيانا يقاطع الكتب لشهور ساعة يكتشف أن محاورة الآخر أفضل من مؤانسة الكتاب، بيد أنه سرعان ما يعود إلى القراءة. وبهذا الشكل كانت حياته تمضي متوترة وقلقة وغير قابلة للاستقرار وتشكيل أفكار جازمة ونهائية بشأن مفردات الوجود والعلاقة مع العالم بكل ما يحمله من تناقضات وأشياء جميلة في لحظات نادرة.
    أخبره القسيس المصري محسن جورج بعد أن احتفى سبانوت به ورفاقه: ((أعتقد أن الزيارة شكلت مفاجأة لك، لقد كنا هنا في مهمة عمل رسمية منذ يومين وعلمنا بمرضك، فقررنا زيارتك في الحال)).
    رد سبانوت بترحاب، وكان متحرجاً من وضعه الذي لا يسر: ((يسعدني أن أراك سيد محسن، لقد كنت في ذاكرتي طوال الأيام السابقة، كأنما كنت أتخيل أنك قادم إلى كوبنهاجن)).
    أجاب محسن: ((ليست ثمة صدفة في قانون الله، الواقع أنك كنت ترى أمراً لابد أنه حادث، الناس الذين مثلك يعيشون بروح شفافة قادرة على النفاذ في المستقبل ورؤية كل شيء)).
    القسيس سبانوت كان يحدث نفسه أن ما ذكره محسن ليس بجديد، فهو يشعر بهذا الشيء ويدركه جيدا، لكن عليه أن يكون متواضعاً وألا يغرق في تمجيد الذات، رد قائلاً: ((أبداً سيد محسن، أنا لا زلت أغوص في بحر الخطيئة، أمثالي ينتظرهم زمن طويل حتى يتطهروا من الدنس)).
    بمنظور العمر، كان كلام سبانوت دقيقاً، فهو لم يجتز الأربعين بعد، وهو بالتالي لا يزال في مقتبل الحياة، وما استطاع تحقيقه من شهرة خلال سنوات بسيطة كان كافياً لصقل خبراته، لكن خبرة الحياة لا تقاس بتراكم السنوات، فالمكانة التي يحتلها القسيس في بلاده وربما على مستوى أوروبا، جاءت من مؤلفاته ومشاركاته في المؤتمرات الهامة، فهو بالتالي لا يحتاج لأن يصرخ بصوت عال، من يكون هو، فرجال الدين في أوروبا يعرفونه ويحترمون أفكاره التي استطاع ترتيبها والخروج بها إلى العالم في زمن وجيز. بمنظور ثان وبتغافل مسألة العمر، فإن سبانوت كان يشعر بأن دوره الحقيقي في العالم لم يأت بعد، فكل ما أنجزه، ليس إلا قطرة من فكرة عظيمة سيخرج بها إلى العالم، ما هي هذه الفكرة؟ ليس بمقدوره تحديدها الآن، المهم أنها قائمة في إرادته الباطنة وفي روحه الفائضة بالسؤال، وستخرج ذات يوم ليرى نورها يغمر البشرية. يشعر بهذا الشيء، لكنه لا يحكي عنه لأحد، فهو متواضع جداً في الحديث عن نفسه.
    محسن بعد أن سمع رد سبانوت، قال بسرعة ودون أن يفكر: ((أبداً سيدي، فأنت نجم في عالم اليوم، من يجهلك جاحد أو جاهل، لقد كنا وقبل زيارتك بساعات نتحدث عن مؤلفك الجديد الذي تحدثت فيه عن قارة أتلانتيس، وعن الحكمة الأفلاطونية في ابتداع هذه الأسطورة الجمالية)).
    لثوان ساد الصمت قبل أن يُعلّق سبانوت، تابع محسن الحديث الذي بدأه قائلاً: ((نظريتك حول كون أتلانتيس مجرد توهيم صنعه أفلاطون، أثارت ضجة واسعة في مصر.. ولا أخفيك القول بأن البعض عارض فكرتك، لكن هناك من أعجبوا بها جداً، خاصة أنك استندت على أدلة أرى أنها منطقية برجوعك إلى بنية العقل الأفلاطوني وتشريحك الذي لا يمكن مقاومته بسهولة)).
    أحد القساوسة الذين حضروا مع محسن، وجه سؤالاً إلى سبانوت بعد أن امتدح كتابه عن أتلانتيس: ((في الواقع كانت قدراتك الفلسفية عميقة جداً، أنت تصور نموذجاً مدهشاً لرجل دين وفيلسوف في عقل واحد.. كيف استطعت أن تبني كل هذه المهارات الذهنية العميقة في التصورات الفلسفية، رغم خلفيتك اللاهوتية كما هي واضحة في سيرتك الذاتية المرفقة مع الكتاب)).
    ((لا أعتقد أن الفلسفة والدين يفترقان.. لكن الدين أقوى من الفلسفة في سيطرته على الذهن وتوجيهه، هذا واضح بالطبع.. بالنسبة لي كانت علاقتي مع الفلسفة ناتجة عن اهتمامي بالحضارات القديمة، لا سيما الحضارة اليونانية رائدة التفكير الفلسفي، وقد فهمت من خلال معارفي أن أي حضارة قامت بعد بناء تصور فلسفي معين للعالم، هذا التصور الذي تحاول الأمة أو المجموعة البشرية تحويله إلى مُشاهد للعيان بنقله من بعده النظري إلى بعده العملي.. اهتمامي بالحضارات القديمة مع خلفيتي اللاهوتية مع اهتمامي اللاحق بالفلسفة تولدت عنه فكرة كتاب أتلانتيس ونظرية أن أتلانتيس كانت فكرة فلسفية مسبقة من أفلاطون لحضارة يتمنى لو أنها قامت على الأرض فعلاً، بمعنى أنها أغرب لفكرة المدينة الفاضلة التي روج لها ذات الفيلسوف)).
    قبل أن يكمل سبانوت، كان قد تلقى سؤالاً قطع استطراده من ذات القسيس الذي وجه السؤال: ((لكن أفلاطون حدد موقع أتلانتيس وقال إنها كانت موجودة بالفعل؟)).
    ابتسم سبانوت بشكل غير ملاحظ، ورد(هذه هي النقطة المهمة في تفكير أفلاطون.. فهو أراد أن يبني النموذج المستقبلي للحضارة التي يحلم بها بالقول بأنها كانت قائمة ذات يوم، وأعتقد أن هذا النوع من التفكير جيد جداً في تحفيز الناس، فأنت عندما تقول للناس أن مثل هذا الأمر موجود أو أنه حدث فهذا دليل على إمكانية القيام به، إنتاجه من جديد، لأن من قام بالفعل في الماضي لم يكن عقلاً لكائن قادم من كوكب آخر، أنه ذات الكائن الأرضي المسمى الإنسان..)).
    كان القساوسة المصريون قد ركزوا في سماعهم للمحاضرة المصغرة التي بدأ سبانوت في سردها، رغم أن رائحة جرحه كانت قد أقلقتهم، فالعفونة غمرت المكان وحولته إلى بيئة لا يمكن الجلوس فيها لفترة طويلة، وعندما ذكر العبارة الأخيرة، ابتسموا جميعاً وهم يهزون الرؤوس دلالة على الإعجاب، وواصل القسيس كلامه: ((كانت فكرة أفلاطون إذن دفع الناس نحو الإيمان بأن هناك حضارة متطورة جداً سادت العالم ذات يوم، وبالتالي أراد أن يقول أن الإنسان قادر على إعادة هذا النموذج الحضاري من جديد ما دام قد تحقق في الماضي.. أما في فكرة المدينة الفاضلة التي دعا إليها فالأمر مختلف، فهو يتحدث عن تصور لم يحدث بعد، وهنا يكون التحقق أصعب حسب منظوري، لأننا نتحدث عن شيء من المفترض أن يحدث لكن العقبة أمام ذلك عدم وجود تجربة مسبقة يمكن الرجوع إليها، وهنا يكون العجز الإنساني، فالإنسان دائما يؤمن بقدرته على فعل الأشياء التي سبق أن أنجزت من قبل أناس مثله، لكنه لا يمتلك اليقين الكافي بقدرته على إنجاز نموذج متخيل لم يسبق تطبيقه... هذا باختصار الفرق بين فكرتي المدينة الفاضلة أتلانتيس، وكلاهما من إنتاج العقل الأفلاطوني)).
    كان محسن يراقب بدقة سبانوت وهو يسرد حكاية كتابه والأفكار التي جاء بها فيه، وما شغله بالفعل أن القسيس كان يتألم بقوة دون أن يصرخ، ولهذا ربما وجد في الكلام نوعاً من الملهاة التي تنسيه العذاب، أيضا كانت رائحة عفونة الجرح غير الملتئم واضحة للجميع. المراقبة اللصيقة مع إدامة النظر إلى الجلد المتقرح جعلت محسن يبتعد بذهنه عن سماع الحوار الدائر في المكان، وافتعل عدة حركات ليعلن لرفاقه نهاية المقابلة وأن عليهم الخروج سريعاً من بيت سبانوت، فقط شخص واحد سيبقى لأمر خاص، هو محسن، حسب تعليماته لأصحابه، الذين كان عليهم الطاعة والانصراف إلى الفندق حيث يقيمون.
    بمجرد أن خرج آخر قسيس من الضيوف المصريين مودعاً سبانوت، ابتدر محسن حواره الخاص قائلاً: ((سيدي ثمة أمر خاص جداً يجب أن أتحدث معك بشأنه.. وحتى لا نضيع الوقت فالأمر يتعلق بهذا الجرح الذي تعاني منه، لقد سمعت وفهمت من الكثيرين هنا، وقبلها في مصر، أنك تمر بأزمة فعلية حيّرت الأطباء، الأمر الذي دعاني للحضور إلى هنا.. ولو لم يكن هذا المؤتمر الذي جئنا لأجله لكنت أمامك الآن مهما كلفت الظروف والأحوال)).
    انتبه القسيس سبانوت لما سيقوله محسن، وفهم بشكل مبتدئ أن الأمر يتعلق بعلاج من نوع ما يعلم به صاحبه، ولم يقطع حديثه، حيث تركه يكمل: ((أظنك فهمت أن الأمر يرتبط بمعاناتك الحالية، بعلاج ناجع وعاجل)).
    قبل أن يكمل قال سبانوت: ((نعم هذا ما فهمته مبدئياً، ولكن ما هو هذا العلاج السحري؟ فما حدث معي أمر يدعو للدهشة، فكل الجروح من هذا النوع هي شيء عادي يشفي خلال أيام وجيزة، كما سمعت من كل الأطباء الذين قابلتهم. كلهم كانوا في حالة من الارتباك، كل واحد منهم كان يخبرني بأسف عميق: لا يوجد حل معي، لقد بذلت ما بوسعي، ولكن لا حل.. أحدهم قال لي: لن أقول أنه لا يوجد أمل، لأنك رجل دين ومؤمن، تدرك أن الأمل موجود بوجود خالق الأمل)).
    رد محسن: ((ولكن سيدي هل فقدت الأمل؟ لا أظن ذلك، فقد لاحظت أنك رغم حالتك العسيرة إلا أنك تبدو سعيداً، أم أنها سعادة مُدّعاة؟.. لن أطيل عليك سأخبرك مباشرة بالحل السحري الذي تبحث عنه، قد يبدو الحل غريباً أو غير منطقي، لكن لرجل مثلك يفهم في خبايا الحضارات القديمة وفي الدين وفي أسرار الله في الأرض، فسوف تحترم التصور الذي سأقدمه لك الآن))
    واصل محسن كلامه عن الحل الذي جاء به من مصر للقسيس سبانوت: ((لا تستغرب إذا قلت لك أن مثل جروحك هذه لا تشفى إلا بطريقة واحدة كانت معروفة لقدماء المصريين، الفراعنة، ذلك بتعرض الجروح والبثور لمجال طاقة الهرم الأكبر في مصر، هذه الطاقة لا تشفى الجروح فحسب، بل أيضا آلام الأسنان والصداع النصفي المستديم، كذلك يبدد الهرم بعد عدة جلسات داخل نموذج مصغر له يحتفظ بنسب وأبعاد الهرم الكبير، آلام الروماتيزم)).
    رغم الجدية التي كان محسن يتحدث بها، فقد بدا له أن سبانوت غير مصدق لما يقال، لكنه لم يُبد أي اعتراض شفاهة، كان أن صمت الرجلين لدقائق، قال بعدها محسن: ((مهما يكن الأمر، فلن يضيرك أن تجرب هذا الحل، وسترى النتيجة بنفسك، هذا سر لا يملكه عامة الناس، هناك ملوك ورؤساء دول يداومون على هذا العلاج إما بزيارة مصر من وقت لآخر، أو بعمل مجسمات للهرم بالاعتماد على مختصين وسماسرة يعملون في هذا المجال.. لن أغوص معك في أشياء تدركها جيداً فيما يتعلق بالحضارة الفرعونية وألغازها التي لا تزال تُحيّر العالم، مثل موضوع التحنيط وكيفية بناء الأهرامات، فأنت خبير في مثل هذه الأمور، يمكنك ببساطة أن تضيف هذا العلاج السحري إلى قائمة الابتكارات العظيمة لأجدادنا)).
    لم يهتم سبانوت بما ذكره القسيس محسن، وفي الليل عندما أراد الخلود للنوم في وقت مبكر، بعكس عادته في السابق حيث كان يظل سهراناً إلى الفجر، كان أن أعاد التفكير في العلاج بطاقة الهرم الكبير في مصر، ودفعه الألم مع الجراح التي زادت من توتره في النظر إلى الأمر بشكل جدي، فمهما يكن الأمر فهو لن يخسر شيئاً، لن يعود في حال أفظع مما هو عليه. حدث نفسه إذن عليه أن يجرب، فالتجربة خير برهان، وقد يشفى فعلاً من آلامه، فكثير من تجارب القدماء يمكن النظر إليها بثقة واحترام، إنهم لم يكونوا مجرد أناس بسطاء كما ينظر إليهم البعض، فالحضارة الإنسانية شهدت دورات من التطور ثم الاضمحلال ثم التطور وهكذا تستمر الحياة على كوكب الأرض، هذا ما توصل إليه القسيس ليقنع نفسه قبل الدخول في النوم بأن يسرع بزيارة مصر ليرى ما سيحدث معه.
    قبل أن ينام جيداً، وربما نام فعلاً ثم استيقظ بدافع هاجس ما ظل يقلقه، سيكتشفه بعد قليل، قام من جديد ليشعل الإضاءة في الغرفة ويتحسس طريقه شبه مغمض العينين نحو مكتبته، حيث قام باستخراج كتاباً لم يكن يحفل به كثيراً من قبل، تذكره الآن للتوّ، ومعه فهم أن ما كان يشوش ذهنه مراجعة أجزاء من هذا الكتاب.
    عنوان الكتاب (السر الغامض للهرم الأكبر) أو (هرم خوفو)، دون الرجوع إلى مؤلفه، حيث لم يهتم بهذا الأمر، أسرع إلى تقليب الصفحات على عجل بحثاً عن إشارة لما ذكره القسيس المصري، إلى أن عثر على جزء يتحدث عن طبيعة الهرم الخارقة، وقد كتب فيه: "إن مجال طاقة الهرم يحقق العديد من العجائب: فهو يعيد تلميع المجوهرات والعملات التي تكون قد تأكسدت، كما أن البيض يتحنط ويبقى اللحم مجففاً لا يتعفن مهما طال به الزمن، أما الزهور فتجف، لكنها تحتفظ بنفس أشكالها وألوانها..." إلى أن وصل إلى جملة تؤكد ما قاله محسن "الجروح والبثور والحروق تشفى في وقت أسرع..".
    هنا توقف سبانوت عن القراءة، دعك عينه اليسرى بطرف إصبعه الأيسر، أعاد الكتاب إلى الرف في موضعه بالمكتبة، فهو شخص مرتب جداً في تفاصيل حياته، وإلى تلك اللحظة لم ينتبه من يكون المؤلف، ولم يهتم بهذا الأمر، حيث كان يكتفي بمراجعة الهوامش للمصادر والمراجع أسفل صفحات الكتاب.
    في اليوم التالي عاد القسيس محسن لوداع سبانوت، حيث سيسافر إلى مصر مع رفاقه، فقد انتهت المهمة التي جاءوا لأجلها إلى كوبنهاجن، وكان يريد أن يتعرف على ما توصل إليه صاحبه بخصوص العلاج بطاقة الهرم، وقد حمل رغبة قوية لإقناعه بشتى الوسائل لزيارة مصر بدعوة منه لهذا الغرض. وجد محسن أن سبانوت لم يناقشه البتة، بل سارع للإفصاح عن رغبته في السفر في أسرع وقت ممكن، حتى يتخلص من العذاب، مما دفع محسن للقول: ((نحن في انتظارك سيدي في القاهرة فلا تتأخر، كل شيء سيتم ترتيبه فلا تقلق، نحن خدامك في بلدك)).

                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de