|
مقطع من رواية ( البعث )
|
بعد شهر من عودة المشير للحكم عادت لسعاد عافيتها دخلت فندق الهيلتون تنتظر قدوم سعد الطيب، قبل أن يأتي وقفت عند صالة الجاليري تتذكر أيام معرض أحجار البركل، كانت نظرات قد تبادلتها معه، تمزق بها خوفها من المجهول، لكنها قتلت تلك النظرات وارتضت الخوف إلى الأبد. الآن يبادل ابتسامتها الضيقة بابتسامة أعرض، جاء مرتديا زيا إفرنجيا خلع العمامة التي جاء بها في المستشفى، لم تعرفه في البدء حسبته بوابا يعمل بالفندق، تساقط شعر الرأس بل أصبح الرأس بلا شعر، واكتسى الجبين بالوجع والحيرة، وجدت نفسها رغم الاختلاف تدخل إلى عالمه، ودخل هو عالمها.
جاءت ترتدي قميصا أبيضا وبنطلون جينز أزرق، جلست على الأريكة الرمادية اللون، خلف ستائر رمادية، كل شيء في الفندق كان لونه رماديا، الأرائك، المداخل، زي العاملين، الحوار الدائر بين الناس في الردهات، لماذا اكتسى العالم بهذا اللون مع الصباح هل هو لون البعث، قبل أن تسترسل في أفكارها وتساؤلاتها في ركن قصي بالفندق حركت شعرها للأمام ثم للخلف، وبدأت في لعبة تبادل النظرات وهي تدخن سجيارة أمريكية الصنع.
عندما جلست معه أعادت له شيئا من توازنه المفقود أن يحس برجولته كرجل عازب دخل الخمسين من العمر، قضى سنواته في شتات المعارضة يحلم بالسودان الجديد، الذي لم يولد بعد، إحساسه بالحصار واليأس والعزلة والخيانة من الأصدقاء جعله يخلع أحلامه، كانت أحلاما تشبه الأضراس الموجعة في فم الحياة، شعر كأنما خلق لأجل هذا اليوم الرمادي، اقترب منها، تلاصقا، أحس وأحست بأن ألوان الفندق اكتست بالزهاء، كان الجدران براقا والأرائك فضافضة ملونة مثيرة، هل كانت كذلك من قبل لربما أو لربما عكف عمال الفندق على تغييرها في أسرع من لمح البصر، هل ناما واستيقظا فجأة ليجدا أن كل شيء تغير من حولهما، لربما !
قبل أن يناديها باسم لارا تداخلت الألوان الحمراء والصفراء والزرقاء مع لون عينيها وراء النظارة الشفافة التي ارتدتها في ذلك الصباح، صرخ في حالة اللاوعي عندما التصقت به أكثر : لارا .. لارا .. كانت لارا فتاة فارسية من سمرقند، يقال أن أجمل بنات العالم يولدن في هذا المكان، تعتقد لارا في عودة الإمام المهدي، وفي أئمة الشيعة، كان يحب فكر الشيعة ويرى أنهم تدوخوا كثيرا في حرب الوجود، لو لم يولد سنيا لكان شيعيا. أول ما رآها لارا كانت خارجة من إحدى ورش العمل في الفندق، وجد نفسه يتقدم نحوها يسألها بلا مقدمات : لماذا لا يختصرون المـسافات إلى الأهداف؟ قاطعته معلقة على السؤال : بدلا من إضاعة الوقت، وقالت له وهي تتقدم تلتفت نحوه يسارا : هي عاداتهم دعهم لن يصبحوا أمما ذات يوم.
بدا له لقاءه مع لارا كأنه أبديا حيك في ذات ليل من أيام التكوين عندما كان الله يكتب رواية الكون التي سنكون نحن أبطالها، هل يصدق أنه بطل في الرواية ويمارس دوره كبطل أم ينسحب بعقدة الزنج التي يعيش بها؟، هل يستوي اللحم الأبيض واللحم الأسود؟، لا يستويان إلا في النار، لماذا لا يدخل معها النار، يحرقا سويا، جسد في جسد. وضعت يدها على يده، كانت تبحث عن جسد أفريقي، لم يصدق عندما تدفق في عروقه الدفء الفارسي، كانت تتعامل بإحساس طفولي، بعد دقائق وقبل أن ينعم جسده بالدفء الكامل في الفندق القبرصي عبر وفد رئيس سمرقند بالممر وضاعت لارا وراء الرئيس وإتباعه في متاهات الفندق. انتهى المؤتمر بعد يومين، لم يفكر كثيرا هل حقق المشاركون نجاحا في إمكانية إيجاد قاعدة جديدة لحوار الحضارات أم لا، ولم يثق في الكلمات التي ألقاها رئيس سمرقند وغارودي وحسن حنفي ومحمد أركون وحاج حمد وفرانسيس فوكوياما، وثق في لارا فقط، قال وهو يعبر الممر وراء وفد سمرقند إلى البهو : إن أعمق وصف لإمكانية تجسيد حوار الحضارات يكمن في هذا الجسد الفارسي، الذي هو تراث للعالم ككل، ومن غير شك لا يمكن التعامل بسخرية مع هذا التراث أو استهزاء كما قال السيد سمرقند في افتتاح المؤتمر، وقال : التراث تجل لثقافة المجتمع، هذا يعني أن الرئيس يقول لنا أن لارا تجلي للثقافة الفارسية. كانت الأفكار ستمضي هكذا لكنه شك في أن التراث الذي يتحدث عنه الرئيس ليس لارا، هو سعد الطيب، فمن غير المحتمل ومن المستبعد أن يتم التعامل مع لارا بأي نوع من السخرية والاستهزاء، هذه السخرية من الممكن ان يتعرض لها هو، لارا هي الحضارة الحديثة بجمالها وفتنتها وإشراقها، أما هو فالمقصود به التراث بلا شك، كان رئيس سمرقند قد قال في كلمته : نحن نقف في مواجهة شأنين بشريين – كان يقصد لارا وسعد – ترسخت الفكرة في ذهن سعد، وأكملها بسماع ما قاله الرئيس عنه وعنها : المهم أن ننظر إلى هذين الشأنين البشريين على أنهما شأن بشري وليس حقيقة مطلقة وغاية نهائية.
قبل أن يفهم سعد الطيب مقصود الرئيس السمرقندي في شأنه وشأن لارا وكونهما حقيقة مطلقة وغاية نهائية انتبه إلى أن المكان ليس الفندق القبرصي، وأن لارا كانت حلم ما، ربما قرأ عنها في رواية أو رآها في السينما، لكن كلمة الرئيس في ذلك المؤتمر لا تزال حاضرة في ذهنه، ونقاشات فوكومايا المطولة في مائدة الأكل مع محمد أركون، في حين جلس حاج حمد في ركن هناك يفكر في إمكانية أن يفهم المشكلة السودانية على أنها مترتبة عن أزمة صراع حضاري بين الشمال والجنوب، هل من الممكن أن نقول أن للشمال حضارة ونتغافل حضارة شعوب الجنوب، ضحك حاج حمد ونادى سعد ليحتسيا القهوة سويا.
وضعت سعاد يدها على يده وضحكت تسأله من لارا ؟ .. خرجا من الفندق إلى شأطي النيل، جلسا يثرثرا في أزمنة بائدة وموضوعات مختلفة شائكة تداخلت في قضايا العقيدة والحضارة والإنسان، حكى لها عن مغامراته مع المعارضة وعن منظمات العون الإنساني وعندما مر على منظمات العون الإنساني عادت لارا من جديد تقوده من يده تجاه مياه النيل الهادئة في ذلك الصباح، كانت تعمل مع منظمة للعون الإنساني في سمرقند، قصت له رحلتها إلى فرنسا ودراستها للعلوم الاجتماعية هناك في السوربون، كانت تعتقد أن الإنسان لابد أن يسافر كثيرا كي يفهم العالم جيدا، وأن معرفة أنفسنا تستوجب علينا أن نعرف العالم أولا، كانت تتحدث عن إيمانها بقيمة الإنسان مهما كان لونه أو عقيدته فالإنسان هو الذي يرث الحقيقة الكاملة ويصنع العالم الجديد، ضحكت وقالت له : يوما ما سيترك لنا الله أن نجرب سيادة هذا الكون، ولابد أن نستعد لذلك اليوم، وأفهمته أن ذلك اليوم هو البعث الموعود في القران، عندما يكتمل العقل البشري، بعد أن يكون قد قطع مسافات طويلة في رحلة الحياة الشاقة. سألها : أي عالم جديد تتحدثين عنه يا لارا ؟ .. قالت له : عالم يكتسب فيه الإنسان ثقته بذاته. يستطيع أن يحقق كل أحلامه المؤجلة. قال لها: لن يحدث هذا إلا في الجنة.
ضحكت وقالت له : أبدا، لكن حتى لو كان افتراضك صحيحا فالإنسان سيصنع جنته في الأرض. كانت هذه آخر كلمات يسمعها من لارا، قبل أن تودعه في ذلك العصر القبرصي، ركبت الطائرة وانطلقت إلى سمرقند مع الإصلاحيين الجدد، بدأت قبرص في ذلك الليل كأنها بلا إنارة موردة بالحزن، كأنما مصابيح أشعلت بالزيت وأطفأت على عجل بريح صرصر، كانت أمواج البحر المتوسط مغلفة بالوجع العميق.
|
|
|
|
|
|