فصل من مشروع روائي - مدينة الماء

دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-12-2024, 02:28 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة عماد البليك(emadblake)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
12-17-2007, 12:21 PM

emadblake
<aemadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
فصل من مشروع روائي - مدينة الماء



    وضع القسيس سبانوت الماء على النار، في أناء صغير مصنوع من النحاس على شكل نصف جسد امرأة، بيد ملونة بأطياف من الألوان الصارخة، تبدو كما لو أنها جناح فراشة صغيرة محلقة في المكان، تحاول أن تغادر الحيز المسجونة فيه، أن تطير، لكنها غير قادرة على الطيران والهروب إلى مكان آخر. سرعان ما على الماء، دون أن يكون القسيس قد انتبه لجريان الزمن، والذي أصبح علاقته معه مشوشة إلى حد بعيد، منذ سنوات من الصعب عليه أن يحدد عددها بالضبط، طالما فقد الإحساس البريء بالوقت.
    نسي أن الهدف من غليانه للماء، يتمثل في سلق البيض، طعامه المفضل في الفجر الباكر، فمنذ طفولته اعتاد على الاستيقاظ قبل بزوغ الشمس، أداء الصلاة، ومن ثم تناول وجبة إفطار خفيفة مكونة من البيض المسلوق مع قليل من الجبن والزبد، يتبع ذلك بتلاوة صفحات من الإنجيل، يستغرق فيها تأملاً وتأويلاً، تكون الشمس قد ألقت أول أشعتها النورانية على الأرض وبدأت الحياة في الضجيج، ليكون سبانوت قد دخل دوامة الروتين اليومي للعالم، هذا البرنامج الذي لا يتغير لدرجة أن كل يوم أصبح مستنسخاً من الأمس، ولهذا كان القسيس نادراً ما يستطيع أن يتذكر ما هو اليوم الذي يعيشه؟ هل هو الجمعة أم السبت؟ حتى لو كان الأحد وكان مطلوباً منه الاستعداد للذهاب إلى الكنيسة كما هي العادة، فهو يقوم بهذا الفعل بطريقة روتينية، كيف فهم أن اليوم هو الأحد! ليس بمقدوره أن يفهم، وأيضا هو لا يفكر في أن يدرك الكيفية التي جعلته يمارس الطقوس المكررة المرتبطة بيوم خاص في الإسبوع، هو مختلف، وغير مختلف.
    نظر سبانوت إلى الساعة المعلقة على الجدار في منزله الصغير في كوبنهاجن، دون أن يفكر في معرفة الوقت، وبعد ثوان، ربما دقائق، أعاد النظر مرة أخرى، كانت عقارب الساعة تشير إلى السادسة إلا أربع دقائق، أربع دقائق بالضبط كانت كافية لتغيير طريقة تفكيره في الحياة والخروج من حالة القلق وانعدام العلاقة مع الزمن، غير أنه لم يكن يمنح نفسه الفرصة الكافية، مجرد ثوان معدودات ليكون قريباً من ذاته ومن ذهنه الصافي، فقد تشوشت عوالمه الخاصة بأسباب غير مفسرة بالنسبة له، أصبحت جزءاً من ألغاز الكون، تلك التي كان كثير الانشغال بها، في محاولات دائما ما تنتهي بالنقطة التي بدأ بها.
    كان يفكر في أمر ما، غالبا ما تأتيه الفكرة من الأشياء التي حوله، فلديه عين تسرع في التقاط الصور وتحويلها إلى أسئلة غامضة ومقلقة.. لماذا يحدث هذا؟ وهل ثمة حكمة ما وراء هذا الدوران المتسارع والمتكرر في فلك الأسئلة الغامضة المرتبطة بالحياة والكون والإنسان، والمغزى وراء فكرة العالم. لا يملك سبانوت أي إجابة، لأنه في غرارة نفسه يدرك شيئاً واحداً، أنه عاجز عن الحلول، فهو بارع في اختراع الأسئلة، التي تجعله يحس بالدوار والصداع المزمن، يسرع لتناول قرص مهدئ، اعتاد على هذا الشيء منذ سنوات. بعدها يفرغ التفكير من الذهن بالهرب إلى النوم، حيث يستلقي على الأريكة الخشبية الطويلة في فناء منزله، تحت شجرة ليمون تحوم حولها عصافير تزقزق بهدوء. لا يستيقظ إلا في منتصف النهار بالضبط، دون أن يستخدم ساعة منبه، بعد أن يكون قد قضى أربع ساعات من النوم المتواصل المصحوب بالأحلام المزعجة، السارة أحياناً، والكثير من الأسئلة والألغاز في أغلب الأحوال، خاصة بعد أن يكون قد بالغ في تأملاته أثناء تلاوة صفحات اليوم من الإنجيل.
    اليوم، قبل أن تشرق الشمس، كان القسيس على موعد مع نحس، وهو يؤمن بمثل هذه الأمور، رغم قدرته على صياغة دافع بلاغي وفلسفي ومنطقي قوي، أن الإيمان بهذه القضايا يهلك طاقة الإنسان في الحياة السعيدة. ما حدث أن شروده الذهني في ظل تشوش علاقته المفقودة مع عقارب ساعة الزمن، جعله ينسى وضع البيض داخل الإناء، فقد استغرق في تتبع تفاصيل يد الإناء الذي تلقاه هدية من قسيس مصري قبل ثلاث سنوات، عندما جمعهما سويا مؤتمر سري مشترك في الفاتيكان، مع عدد من القساوسة من بلدان مختلفة، كان يناقش تداعيات الحرب العالمية الثانية على المجتمع الإنساني. الآن غابت تفاصيل الندوات والمحاضرات واللقاءات التي عقدها على هامش المؤتمر، ولم تبق سوى ذكريات غامضة مضللة، كما لو أن كل ذلك كان حلماً، ولم تبق سوى تلك الذكرى المرتبط بذلك القسيس المصري الذي غابت ملامحه عن دماغ سبانوت، وقد أعاد التفكير فيه الآن بمراقبة يد الإناء والمضي في الأفكار وهو واقف مستنداً على الجدار، ينظر إلى جناح الفراشة التي تخيل أنها محبوسة إلى الإناء، أو أن رأسها مقطوع، وأنها سوف تُظهر رأسها بعد قليل، حيث سيخرج الرأس من فراغ غير مرئي مسجون داخل ما يراه من فراغ حوله.
    في اللحظة التي كان شبه متأكد فيها، من أنه رأى جزءاً من رأس الفراشة يكاد يطل من وراء الفراغ المحسوس، خارجاً من الفراغ المسجون، الغائب، والذي لا يراه إلا أناس ذوي قدرات دينية خارقة. كان أمر ما قد حدث، يرتبط بذلك النحس الموعود في أول اليوم الجديد، فقد تحرك القسيس بخطوات سريعة تجاه الإناء على النار، محاولاً الإمساك برأس الفراشة، ليجد فجأة أن الماء الساخن قد اندلق على جسده، تحديداً على يده اليسري، وأدرك أن صرخة عالية قد خرجت منه، بما يشبه بركان مدوي، هكذا تخيلها بعد أن رأى صداها في ارتجاج الأدوات والطناجر والآنية المرصوصة على رفوف المطبخ الصغير. تلك صرخة الألم الذي نتج عن حريق الماء الساخن لطبقة الجلد الخارجية، والتي سرعان ما التهبت بلون غريب، بين الأسود والأحمر، واشتد الألم في عصره للدماغ، كان شيئاً فظيعاً وقاسياً، وكان النحس يلعب لعبته الشريرة قبل بزوغ الشمس بقليل، لعبة الدم الذي كان قد خرج من وراء الجلد الملتهب، منذ زمن بعيد جداً لم يحدث أن تعرض سبانوت لجرح في أي عضو من جسده.
    "عندما يخرج الدم من الجسد، إلى العالم الخارجي، مغادراً سجنه ودروبه المحفوظة منذ خروج الإنسان إلى الوجود من رحم الأم، فهذا يعني أن ثمة أمر ما سيتغير في حياة ذلك الإنسان" فهم القسيس ما يجري بهذه الطريقة، دون أن يمضي في مغالطات مطولة – كما تعود- للفكرة التي ينطلق بها، والتي سرعان ما يهرب منها إلى فكرة أخرى أو تفسير جديد، ومضى يحدث نفسه مع تزايد الألم ومحاولته لتطبيبه بالأعشاب:"بقدر ما يتعلق النحس بالفراشة المزعومة على يد الإناء، إلا أن البيض هو السبب في ما حدث"، اعتقد ذلك، لأنه قرأ في أحد الكتب المنسوبة لقدماء المصريين أن البيض ملعون لأن شكله يشبه الكرة، وقد كان الكثير من فراعنة وحكام مصر لا يأكلون البيض، باعتباره يقلق الروح ويمنعها من الرؤية الجيدة للأشياء في ساعات التأمل العميق لحل مشكلة ما، والشكل الكروي هو الذي أفسد طبيعة البيض، لأن الكرة هي رمز الشرّ والصراع بين الكائنات لدى العديد من شعوب العالم القديم، كما يروي ذلك الكتاب.. وهي معلومة كانت جديدة على سبانوت عندما قرأها لأول مرة، وفيما لاحظ أنها تتكرر في الكثير من الكتب، فنفس الفكرة موجودة عند شعوب المايا وبعض القبائل الأفريقية التي تستوطن مناطق قريبة من بحيرة فيكتوريا، من حيث ينبع النيل الأبيض، أحد فرعي نهر النيل الرئيسيين، الأبيض والأزرق. ورغم ما قرأه سبانوت عن لعنة ونحس البيض، إلا أنه لم يترك عادته في تناوله مسلوقاً كل فجر، لسبب بسيط يقول بأن لعنة البيض تكون في شرابه دون غليه بالماء، لأنه بمجرد أن يغتسل بروح الماء ويسخن داخلها، يكون قد تخلص من النحس المشحون بداخله.
    أيضا الكتاب الذي وردت فيه هذه الفكرة، المتعلقة بنحس البيض غير المغلي، كان هدية من ذات القسيس المصري الذي قابله سبانوت بالفاتيكان، وفكر سبانوت أن هناك أمر ما يصعب تفسيره، فقد اندلق الماء الساخن بسبب التفكير في يد الإناء، الذي كان من المفترض أن يوضع فيه البيض.. "إذن ثمة علاقة سرية بين الفراشة والبيض، وثمة موضوع آخر يتطلب التركيز والبحث الذهني لإدراكه، أن ذكرى القسيس المصري ظهرت في هذا اليوم بالتحديد مع أمور تتعلق به، فهل جرى مكروه للمصري؟ أو كان يتذكرني في هذه اللحظة؟". كانت هذه الأفكار قابلة للامتداد والتوالد إلى مالانهاية في دماغ سبانوت، لولا أن الألم أقوى، حيث أفقده السيطرة وجعله يسرع لمقابلة الطبيب، حتى يخفف من ألم الجسد الذي استطاع في بضع دقائق أن ينسف كل ألم الروح، لقد كان يزداد مع الوقت، مع الأيام، ومعه تزداد البثور والتقرحات والرائحة العفنة في الصاعدة من الجلد الذي أصبح منظره بشعاً لا يطاق، يشعر كل من يرى يد القسيس باضطراب سريع في فم المعدة ورغبة في التقيؤ.
    وسط الألم وعزلة القسيس، فقد صار لا يقابل الناس ولا يستقبلهم في بيته، كانت لديه قناعة بأن ما حدث كان لحكمة ما، وتوجد عدة دلائل لهذا الشيء، منها خروج الدم، الذي يعني التطهر والانعتاق، ومنها صورة القسيس المصري الذي بإمكانه أن يسترجع صورته الآن وسط الألم، فيراه شاباً في مقتبل العمر، حوالي الثلاثين، لا أكثر، كان نابضاً بالحيوية وجميلاً مثل ملاك هبط من السماء، إضافة إلى كونه مثقفاً في معارف عديدة، وكريم. تتداخل هذه الصور الآن في ذهن سبانوت، ويتقدم خطوة بعد أخرى في الاقتراب من بلورة فكرة ما تحدث ضميره بأنه الحكمة الماثلة وراء ما جرى مرتبطة بهذا الشاب المصري، والذي تذكر اسمه الآن.. محسن جورج.
    لم تمض سوى ليلة واحدة بعد النتائج الذهنية التي رسمها عقل سبانوت، في تقدير ما حدث على أنه مؤشر لقدر جميل قادم، حتى سمع طرقاً على باب البيت، وتخيل أن القادم ليس من سكان كوبنهاجن، تخيل ذلك لسبب غامض، وأيضا شعر برغبة في التقدم نحو الباب، فتحه، وهذا بغير عادته في الأيام الماضية، حيث لا نية البتة في استقبال الضيوف. وبالفعل صدق حدسه، فقد كان أمامه مجموعة من القساوسة من ذوي الملامح الشرقية، وكان بينهم محسن جورج بابتسامته الهادئة وصوته المبحوح وعنقه الطويل، صافحهم جميعا ودعاهم للدخول، في الوقت الذي كان فيه يفكر فيه في الطريقة المدهشة التي تصاغ بها الأقدار في العالم، تلك التي يتربها الله على نحو غريب لا يفهمه إلا هو.
    لم يحكي سبانوت عن حدسه الذي صدق، لمحسن ورفاقه، ولم يسرد أي شيء فيما يتعلق بما مرّ به من ظروف صعبة مع الألم، كما لم يذكر حكاية الفراشة التي شغلته أو الكتاب الذي يروي علاقة الفراعنة المتوترة مع البيض الغير المسلوق، وهذه هي عادته فهو لا يحكي أبداً عن أفكاره وتجاربه، يكتفي في أغلب الأحيان بسماع تجارب وأفكار الآخرين، وهو لا يستمتع بذلك، بقدر ما يتعذب، لأنه سرعان ما يكتشف أن أي فكرة تقال من قبل مُحدّثه كانت قائمة في ذهنه منذ سنوات، وكأنما التقطها مُحدّثه منه بوسيط لامرئي وسارع في روايتها عليه.
    كان سبانوت خلال الأيام الماضية قد زار عدداً من الأطباء دون أن يكون واحداً منهم قادراً على تضميد جرحه، وقد بدا الأمر غريبا، فالجرح الذي أصاب القسيس في منظور الأطباء الذين قابلهم، يبدو عادياً وقابل للشفاء في بضع أيام، لكن الواقع كان مختلفاً، لأن البثور كانت تتفاقم والألم يتزايد ومظهر الجلد يتشوه بين يوم وآخر. كانت الأدوية المختلفة والضمادات أمام الطاولة في بيت القسيس المكون من غرفتين إحداهما بحجم كبير لاستقبال الضيوف والثانية غرفة نومه ومكتبة في ذات الوقت، فالقراءة هي ما يشغل سبانوت منذ طفولته، حيث يجد في الكتب ما لا يجده في مصاحبة الناس، هكذا كان يعتقد، وأحيانا يقاطع الكتب لشهور ساعة يكتشف أن محاورة الآخر أفضل من مؤانسة الكتاب، بيد أنه سرعان ما يعود إلى القراءة. وبهذا الشكل كانت حياته تمضي متوترة وقلقة وغير قابلة للاستقرار وتشكيل أفكار جازمة ونهائية بشأن مفردات الوجود والعلاقة مع العالم بكل ما يحمله من تناقضات وأشياء جميلة في لحظات نادرة.
    أخبره القسيس المصري محسن جورج بعد أن احتفى سبانوت به ورفاقه: ((أعتقد أن الزيارة شكلت مفاجأة لك، لقد كنا هنا في مهمة عمل رسمية منذ يومين وعلمنا بمرضك، فقررنا زيارتك في الحال)).
    رد سبانوت بترحاب، وكان متحرجاً من وضعه الذي لا يسر: ((يسعدني أن أراك سيد محسن، لقد كنت في ذاكرتي طوال الأيام السابقة، كأنما كنت أتخيل أنك قادم إلى كوبنهاجن)).
    أجاب محسن: ((ليست ثمة صدفة في قانون الله، الواقع أنك كنت ترى أمراً لابد أنه حادث، الناس الذين مثلك يعيشون بروح شفافة قادرة على النفاذ في المستقبل ورؤية كل شيء)).
    القسيس سبانوت كان يحدث نفسه أن ما ذكره محسن ليس بجديد، فهو يشعر بهذا الشيء ويدركه جيدا، لكن عليه أن يكون متواضعاً وألا يغرق في تمجيد الذات، رد قائلاً: ((أبداً سيد محسن، أنا لا زلت أغوص في بحر الخطيئة، أمثالي ينتظرهم زمن طويل حتى يتطهروا من الدنس)).
    بمنظور العمر، كان كلام سبانوت دقيقاً، فهو لم يجتز الأربعين بعد، وهو بالتالي لا يزال في مقتبل الحياة، وما استطاع تحقيقه من شهرة خلال سنوات بسيطة كان كافياً لصقل خبراته، لكن خبرة الحياة لا تقاس بتراكم السنوات، فالمكانة التي يحتلها القسيس في بلاده وربما على مستوى أوروبا، جاءت من مؤلفاته ومشاركاته في المؤتمرات الهامة، فهو بالتالي لا يحتاج لأن يصرخ بصوت عال، من يكون هو، فرجال الدين في أوروبا يعرفونه ويحترمون أفكاره التي استطاع ترتيبها والخروج بها إلى العالم في زمن وجيز. بمنظور ثان وبتغافل مسألة العمر، فإن سبانوت كان يشعر بأن دوره الحقيقي في العالم لم يأت بعد، فكل ما أنجزه، ليس إلا قطرة من فكرة عظيمة سيخرج بها إلى العالم، ما هي هذه الفكرة؟ ليس بمقدوره تحديدها الآن، المهم أنها قائمة في إرادته الباطنة وفي روحه الفائضة بالسؤال، وستخرج ذات يوم ليرى نورها يغمر البشرية. يشعر بهذا الشيء، لكنه لا يحكي عنه لأحد، فهو متواضع جداً في الحديث عن نفسه.
    محسن بعد أن سمع رد سبانوت، قال بسرعة ودون أن يفكر: ((أبداً سيدي، فأنت نجم في عالم اليوم، من يجهلك جاحد أو جاهل، لقد كنا وقبل زيارتك بساعات نتحدث عن مؤلفك الجديد الذي تحدثت فيه عن قارة أتلانتيس، وعن الحكمة الأفلاطونية في ابتداع هذه الأسطورة الجمالية)).
    لثوان ساد الصمت قبل أن يُعلّق سبانوت، تابع محسن الحديث الذي بدأه قائلاً: ((نظريتك حول كون أتلانتيس مجرد توهيم صنعه أفلاطون، أثارت ضجة واسعة في مصر.. ولا أخفيك القول بأن البعض عارض فكرتك، لكن هناك من أعجبوا بها جداً، خاصة أنك استندت على أدلة أرى أنها منطقية برجوعك إلى بنية العقل الأفلاطوني وتشريحك الذي لا يمكن مقاومته بسهولة)).
    أحد القساوسة الذين حضروا مع محسن، وجه سؤالاً إلى سبانوت بعد أن امتدح كتابه عن أتلانتيس: ((في الواقع كانت قدراتك الفلسفية عميقة جداً، أنت تصور نموذجاً مدهشاً لرجل دين وفيلسوف في عقل واحد.. كيف استطعت أن تبني كل هذه المهارات الذهنية العميقة في التصورات الفلسفية، رغم خلفيتك اللاهوتية كما هي واضحة في سيرتك الذاتية المرفقة مع الكتاب)).
    ((لا أعتقد أن الفلسفة والدين يفترقان.. لكن الدين أقوى من الفلسفة في سيطرته على الذهن وتوجيهه، هذا واضح بالطبع.. بالنسبة لي كانت علاقتي مع الفلسفة ناتجة عن اهتمامي بالحضارات القديمة، لا سيما الحضارة اليونانية رائدة التفكير الفلسفي، وقد فهمت من خلال معارفي أن أي حضارة قامت بعد بناء تصور فلسفي معين للعالم، هذا التصور الذي تحاول الأمة أو المجموعة البشرية تحويله إلى مُشاهد للعيان بنقله من بعده النظري إلى بعده العملي.. اهتمامي بالحضارات القديمة مع خلفيتي اللاهوتية مع اهتمامي اللاحق بالفلسفة تولدت عنه فكرة كتاب أتلانتيس ونظرية أن أتلانتيس كانت فكرة فلسفية مسبقة من أفلاطون لحضارة يتمنى لو أنها قامت على الأرض فعلاً، بمعنى أنها أغرب لفكرة المدينة الفاضلة التي روج لها ذات الفيلسوف)).
    قبل أن يكمل سبانوت، كان قد تلقى سؤالاً قطع استطراده من ذات القسيس الذي وجه السؤال: ((لكن أفلاطون حدد موقع أتلانتيس وقال إنها كانت موجودة بالفعل؟)).
    ابتسم سبانوت بشكل غير ملاحظ، ورد(هذه هي النقطة المهمة في تفكير أفلاطون.. فهو أراد أن يبني النموذج المستقبلي للحضارة التي يحلم بها بالقول بأنها كانت قائمة ذات يوم، وأعتقد أن هذا النوع من التفكير جيد جداً في تحفيز الناس، فأنت عندما تقول للناس أن مثل هذا الأمر موجود أو أنه حدث فهذا دليل على إمكانية القيام به، إنتاجه من جديد، لأن من قام بالفعل في الماضي لم يكن عقلاً لكائن قادم من كوكب آخر، أنه ذات الكائن الأرضي المسمى الإنسان..)).
    كان القساوسة المصريون قد ركزوا في سماعهم للمحاضرة المصغرة التي بدأ سبانوت في سردها، رغم أن رائحة جرحه كانت قد أقلقتهم، فالعفونة غمرت المكان وحولته إلى بيئة لا يمكن الجلوس فيها لفترة طويلة، وعندما ذكر العبارة الأخيرة، ابتسموا جميعاً وهم يهزون الرؤوس دلالة على الإعجاب، وواصل القسيس كلامه: ((كانت فكرة أفلاطون إذن دفع الناس نحو الإيمان بأن هناك حضارة متطورة جداً سادت العالم ذات يوم، وبالتالي أراد أن يقول أن الإنسان قادر على إعادة هذا النموذج الحضاري من جديد ما دام قد تحقق في الماضي.. أما في فكرة المدينة الفاضلة التي دعا إليها فالأمر مختلف، فهو يتحدث عن تصور لم يحدث بعد، وهنا يكون التحقق أصعب حسب منظوري، لأننا نتحدث عن شيء من المفترض أن يحدث %E
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de