|
غرباء في التيه - من عمل لم يكتمل....
|
وجه (سيمون)
لم أكن قادرا على الكتابة،أو تدوين مأساتي.ربما لأنني أعاني القلق والتوتر والإحباط،وربما لأشياء أخرى لم أتعلمها بعد في حياتي التي لم تبدأ بعد. دائما، وما زلت أعتقد أن الحياة لا تزال معلقة في فراغ مجهول،هناك وراء أفق غائب.سوف يأتي نهار بشمسه المشرقة الضاحكة، ويحملني على عجل إلى أحلامي المنهوبة. هذا نهار جديد. لكن لا جديد. حتى الأسئلة التي تشغلني،لم تعد حاضرة.كل شيء تسرب عبر ثقوب الماضي الضيقة وهرب إلى العدم،لأجد نفسي تصارع كوابيس الغيب،الأقدار المجهولة والمستقبل الغريب. سمعت صوت يناديني، يشبه صوت النهر الذي عشت إلى جواره سنوات طفولتي. كنت وحدي أحاول أن أفهم معنى للعالم، من خلال تلمس الماء، لكن الحقيقة لا تكتشف ولا ترى من خلال الحواس المحدودة،هي غائبة وراء اللامحدود واللاممكن، ووقتذاك لم أكن أدرك بعد أن الإنسان لكي يفهم الحياة على نحو أفضل يجب أن يتحلى بالصبر وأن يثابر من أجل أن يحقق معرفة خاصة بالعالم، من خلف ما يرى وما يعتقد. هذا نهار جديد. وكنت أعتقد ألا جديد في العالم، بعد أن ماتت الأحلام وضاعت في النسيان. لكن ما هذه المفردة التي تحاصرني.النسيان. فذاكرتي وعلى مدى أكثر من ثلاثين سنة، ظلت قوية براقة، قادرة على التقاط التفاصيل البعيدة جدا، تلك المتدثرة في سراديب الماضي وفي ردهات الغيب. لا عليّ. لن أفكر طويلا، فعلاقتي مع اللغة عابرة، مثل علاقتي مع كل الأشياء من حولي، وهل لرجل - مثلي - سيمضي إلى قبره وحيدا، غير أن يفكر بهذا الشكل؟ أن يرى العالم على أنه مجرد أحلام وذكريات وكوابيس. يكون عليه أن يصارع المتناقضات. انتصر أو انهزم. لا فرق عندي، طالما كنت مرهونا للأقدار التي تحركني كريشة في مهب الريح الشمالية الباردة ذات العواصف الليلية. تضرب الريح النوافذ المهترئة في بيتنا القائم شمال الخور، أكون وحدي، ماذا أفعل. الله أعلم. هل كنت أرتب كتبي؟ أقرأ؟ أكتب؟ أرسم؟ أحاول تقليد وجهي؟. لا أتذكر، هنا تهرب التفاصيل وتتعطل الذاكرة تماما، ولا أعد واثقا في أشيائي. يمضي الشتاء حاملا معطفه إلى غابة الصيف اللعينة. أكون قد قررت السفر إلى مسقط رأسي في الشمال. ولكائن مشبع بمغنطيس الإلفة، من الصعب أن تمضي الحياة في مكان آخر، غير الأرض التي دفن تحتها سرته. كانت عمتي تقول أن عبد الرحمن سيموت هنا، حتى لو أنه سافر إلى كل بلاد الدنيا. لم تكن عمتي عرافة أو من هؤلاء الذين يشغلون الآخرين بزعمهم رؤية العوالم الساكنة في الغد. كانت عجوز عادية، نشطة، مثابرة في حب الخلود. عمرت كثيرا. لا أحد يعرف كم كان عمرها عندما خلدت للنوم ليلا وماتت، دون أن تثير أي حس أو خبر. كنت قد عدت من المدرسة عابرا الخور المخشوشن ببقايا الحشائش التي نمت في فصل الخريف. لم أتقدم سوى خطوات تجاه الجسر الصغير الذي تعبر فوقه السيارات العتيقة في المدينة، عندما سمعت عويل النساء في الحي. أدركت أن ذلك الكائن الذي يخطف الناس ويهرب قد مارس جريمته في هذا اليوم المغْبر. لم أتصور أن زينب قد رحلت إلى العالم الثاني، ولم أتوقع ذات يوم أنها سوف تستسلم بسهولة لكائن خجول يأتي على استحياء، ولا أحد يرى وجهه أو يقدر حجمه ولا طوله. هكذا كنت أتخيل عزرائيل، ملك الموت، الذي أخبرنا به مدرس التربية الإسلامية، وقال لنا أن لديه أجنحة يطير بها من أرض إلى أرض، ومن أرض إلى سماء، حتى يقف أمام الرحمن حاملا سلة كبيرة من السعف، عليها أرواح عشرات البشر الذين قضي أمرهم. يكون خائفا أن تكون الساعة الموعودة قد أزفت، ويقول للحق:هاهم عبادك، فرقهم ذات اليمين وذات الشمال، أنت أدرى بمصائرهم. تخيلت أن روح عمتي الوثابة، قد قفزت من السلة ووقعت على الأرض، فإذا بها تضحك. كنت أنا الذي يضحك، والذي بكى في الفجر، بعد كابوس قصير، أيقظني في الحال، وهرعت إلى حضن أمي. كانت نائمة تتقلب على الفراش الغارق في غبار الرياح الشمالية. لم أيقظها. نمت سريعا واستيقظت في الصباح وقد نسيت كل شيء. في الصباح رتبت حقيبتي الصغيرة، ووضعت داخلها عدتي التي استعين بها في تسجيل اللحظات الهاربة في الحياة. كنت أعمل رساما في الشارع العام، أرسم للعابرين من البشر، بعضهم يرى في لوحاتي انطباعات جميلة ويسر بها، والبعض الآخر يمر من أمامي دون أن يلتفت إليّ، وآخرون يضحكون ويواصلون المسير في الشارع الذي يبدأ عند كلية الطب القديمة المبنية على الطراز الفيكتوري (نسبة إلى الملكة فيكتوريا) وينتهي عند القصر الجمهوري. كنت أرسم وجوه الناس العاديين، وأرسم وجوه الملوك والرؤساء وأحيانا أرسم طفلا من الأطفال المشردين. ومرة رسمت وجه (سيمون). هو بالأحرى صبي، نما شاربه مبكرا في وجه بعينين صغيرتين وفم مقوس كأنما خلق لأكل التفاح. وقف الصبي أمامي يراقب حركات الريشة المبتلة بالزيت الأحمر. لدقائق مضت لم أحس به، وانتبهت إليه ساعة طق أصبعه قريبا من أذني على نحو متعمد، وسألني دون أن يترك لي فرصة لأدرك من يقف ورائي:هل وجهي يستحق الرسم؟. فهمت مغزى السؤال لاحقا، فالأطفال والصبية الذين كان سيمون زعيمهم في ردهات السوق، كانوا يحقرونه بقبح وجهه، ويحدث ذلك مع تشديد سيمون في التعاليم والإرشادات والرقابة الصارمة على تحركات المجموعة، لاسيما في الليل. كان وجه سيمون قبيحا بالفعل، لكنه على أية حال صبي، وداخل كل صبي ملاك صغير، يمكن من خلال تأمل الملاك الساكن في الروح رؤية الوجه بطريقة مختلفة. تعلمت هذا الشيء من عمتي في صغري: ((عليك ألا تحقّر الناس من أشكالهم، حتى تكتشف ما الذي تخبئه دواخلهم، فالجسد تراب لا يكشف عن المعادن التي تحته، بعض الناس يخبئون ذهبا والبعض الآخر قلوبهم خراء)). أقنعت سيمون بأنه جميل، لكن الصبي لا يقتنع. كان عنيدا، وبوصفه زعيما كما يعتقد، كان يتصرف بروح متسلطة، وكبرياء. نقطة ضعفه الوحيدة، كانت وجهه الذي لا يمكن ترميمه إلا بمجهود كبير لرسام قادر على اكتشاف المعدن الحقيقي المندس وراء العينين الصغيرتين. ظل سيمون يطاردني لثلاثة أيام، مصرا على أن يرى وجهه معلقا في الشارع العام، وحاول إقناعي بذكائه الخاص، المكتسب من تجاربه القيادية في سن مبكرة، أن لوحة وجهه ستكون أغلى من كل اللوحات الأخرى، وسألني: أتعرف السبب؟ في الواقع، لم أكن أعرف. فما هو الشيء الذي سيجعل لوحة سيمون أغلى من لوحة لكاسترو أو معمر القذافي أو الملك فهد. إلى أن انتهيت من تسجيل تفاصيل الوجه الكبير في جسد نحيل، لم أكن أتوقع أن أحقق من ورائه عائدا مجزيا، فقد بعت قبل يومين لوحة للرئيس البشير بخمسة آلاف جنيه فقط. علمتني عمتي التي دائما ما أتمثل بحكمها، ما لم تعلمني سنوات دراستي الأربع بكلية الفنون الجميلة، وقد تذكرت ذلك عندما وقف أمامي سائح غربي، لم أعرف في البداية لأي بلد ينتمي وسألني( How much)). كان يشير إلى اللوحة التي انتهيت منها للتو، ولم أعلقها بعد، إذ كان سيمون يحاججني بأن اللوحة ملك له، لأنه لولا وجهه لما كانت اللوحة. قالت عمتي ذات مرة: ((تعلم يا ولدي أن تدرك أن الأشياء التي تبدو تافهة في حياتك، هي الأشياء التي تحمل قيمة الحياة)). الآن يصدق الحال، مع لوحة سيمون. دفع لي السائح مائة ألف جنيه، ودس في جيب سيمون مبلغا من المال، لم أتبين كم يكون، ولم أهتم بذلك كثيرا. كان سيمون قد تلاشى سريعا من أمامنا، قبل أن يخبرني السائح بأنه صحفي في الأصل، جاء من جنوب الولايات المتحدة الأميركية لينتج فيلما تسجيليا عن الحياة في الخرطوم في ظلال الحرب الدائرة في جنوب البلاد. كان سيمون مصّرا على أن لوحة وجهه ستكون أغلى من كل اللوحات الأخرى، وسألني: أتعرف السبب؟ وغاب دون أن يخبرني بسببه الخاص. قلت لنفسي: ((حتى لو أخبرني فلست متأكدا أن الطريقة التي جرت بها الأحوال، هي التي كانت في ذهنه)).
|
|
|
|
|
|