لماذا ضرجوك بالدم وقالوا إنك قاس؟ لماذا قتلوا فيك الخصال الجميلة.. الحب.. الوفاء.. القدرة على الابتكار.. الصمت.. عندما يكون الصمت شيمة الرجال.. القفز فوق حاجز الأسوار والزمن. كلما تذكرتك في ليالي الشتاء القاسية، عرفت أنك لا تشبه هذا المكان ولست جزءاً منه، لقد حكموا عليك بالغربة عن هواك، وفجروا في داخلك لعنة لا تندمل في زمن الفجيعة، أجل ليالي الشتاء ببردها وعواصفها الترابية التي تقذف بنوافذ الخشب المهترئة في ساحات البيوت الكبيرة، هي التي ذكرتني، جعلتني أتضرع لله في تلك الليالي أن تلقى بالاً لذاتك، تحاورها، أن تفكر في جزء مما قلته لك أنت، أنا، نحن لسنا غريبين حتى تكون بيننا أسرار، نحن جزء من عالم واحد قاومنا أمواجه القاهرة في زمان الدميرة، غطسنا، وخرجنا لكن درننا لم يغتسل، لأن أحزاننا كانت أكبر من كل الأيام التي حولنا، أكبر من كل الذين حاولوا أن يعرقلوا مسارنا ويجعلونا مجرد أوثان لهم يحركونها كيفما شاءوا. أتذكر يوم قلت لك يامرتضى «أنت رجل يشبه شجر الحراز في صموده ضد آلام الجفاف، وزيف الصحارى، أتذكر ذلك أم تحتاج أن أعيد لك كل شريط الذكريات المتعطل. أعرف أنك تكره الماضي، تبغضه رغم حلاوته، تتعطش لمستقبل عريض ترى فيه أمانيك الهاربة من بين يديك دوماً، كلما حاولت ملامستها وجدتها كالماء تنزلق لا تبقى، تترك آثارا تجف بعد حين. أنت لست من أبناء هذا الزمان الزائف، زمن العورة الكبرى والرجال الذين لايتعففون عن جهالتهم، لن أقول كفاك بكاء، من حقك أن تبكي وأن تقول لي بصوتك المبحوح المهذب: عندما يفقد المرء سلطان ذاته، فلا يسأل عن هواه، وأدرك تماما أن هذه الحكمة هي التي تقلقك ضالتها، وانك كنت تنوي غير هذا المسار، ولكنك ضللت الطريق، ومن يضل الطريق عن علم، فليتحمل عقبى الطريق ومشقة السفر. مثل نهر شفاف ليس كنهر طفولتنا العكر في مدننا الصغيرة الوديعة في أرض الشمال، أراك وأرى فيك صوت معدياتنا التي تمخر النهر في هدوء لا تبالي بساعة التاريخ الدائرة، ولا لون الدم القادم من الجنوب في ماء النهر العكر، أراك تتسلى بالطين تصنع منه فتاة سمراء اللون تسميها «زينب» تمارس معها لعبة الحب، تحدثها عن ليالي الانفراج الكبير القادمة، عن أحلام جيل التسعينيات، وعن بيوت الطين التي ستصير عمارات شامخة، وعن شبكات الإنترنت والطرق التي سوف تقربنا من ذواتنا قبل أن تقربنا من العالم. وتضحك زينب تقول لك: «يا مرتضى، يا مجنون، الحضارة ليست ماديات، الحضارة روح وثقافة، وانتماء» وتموت زينب بعد أن تحطمها في وجه الريح، ويصرخ من عمق الماء العكر طفل صغير يرفع يده، يخفضها، يرفعها مرة أخرى، يخطفها صارخا: «لا.. لا..، ساعتها أسمعك تقول لي «دعه يموت».. ألسنا كلنا في لعبة الموت نحيا. < < < < «عزيزي مرتضى.. هل أيقنت بأن صراعنا في سبيل أن نكتشف معنى وجودنا كان بلا هدف؟ رحلتنا في مقام أن نكون.. كانت بلا جدوى؟ ترفعنا بتأفف عن الآخرين ظنا منا بأن ناصية الخطاب والذكاء ملكنا نحن، لا غير. لا أحب أن أجرحك أكثر مما أنت فيه، أو أقتل قلقك اللذيذ بعد رحلة البحث الدائب، أعلم بأنك الآن ربما تكون في أحسن حالاتك فهما للمغزى، وتماشيا مع الواقع دون كبرياء أو غرور. وتدرك تماما أن هذه الكلمات لو خرجت من غيري لما قبلتها، لكنها عندما تخرج مني أنا وبالذات فهي مقبولة، وواقعة في محل التفكير والسؤال. تشطرت الأحلام وترملت الأماني، لم يمت شيء، لا، ولم تغب نجوم ليالينا التي نقود بها قوافلنا في عتامير الشمال، ولم تتكسر صنارة الصيد، ها، أعرف أنك لاتجيد فن صيد الأسماك، وعبثا كنت تحاول أن تتعلم أن تكون صيادا بسيطا، ففشلت، كأنك كنت تقرأ غيبك، أجل، وأنت تفهم ما أعنيه تماما، وتفهم كذلك أن رؤانا قاصرة عن بلوغ الآمال. في ذلك الظهر قطعت الحبل، وقذفت به في الماء العكر، رجعت حزينا كمن ثكلت أمه، لكنك لم تعتبر من التجربة، أنا نفسي لم أكن أدرك المغزى، لكنني فهمت الآن، أن خلاصنا في معترك الوجود، أن نناضل بقوة وطموح، وأن نغسل الخطيئة عن قلوبنا السوداء، فنحن نحمل دهرا مثقلاً بسوء النوايا، والأنانية، والغباء اللطيف. كان بلا شك يوما قاسيا، توقفت فيه قطارات الشمال تصفر وجعا متأخرة عن ميعادها المضبوط في الماضي، قلت لي: «كل شيء أخطأ في زماننا، إلا نحن» كنت مغرورا، مليئا بحمق الشباب المثقف، تلعن الأجيال التي أورثتنا القطيعة والخوف من الذات، وأرمدتنا بأحزان الاغتراب. عطبرة آنذاك كانت عاصمة للحديد والبطش والنار، تخرج ضد الطغاة تشابه جوهانسبرج كما يقولون في كثافة عدد عمالها ودراجاتها التي تمشي بلا نفط، قلت لي: «هذه مدن مصيرها الفناء، لأنها ولدت بلا تاريخ» أخذنا القطار على بطء، تحت الجسر، ومن بعده فوق نهر عطبره، كانت الدرجة الثالثة في القطار بلا أضواء، إلا من ضياء النجوم البعيدة، التي تحاول أن تتسلل مستعجلة من خلال نوافذ القطار الكسول، وكانت رياح الشتاء العاصفة في أمشير تذكرني بأشياء غريبة لا أقدر على تجميعها في ذاكرتي، كتلة واحدة منتظمة من المعنى، لربما هي نشارات خشب الحنين الذي قطعته سنون البؤس. كنا صامتين نراقب ما بدواخلنا، كمن يكتشف ميلاده فجأة بلا مقدمات، وأن حياته مجرد ورطة لا غير، عندما نزلنا في الخرطوم، أول ما قابلنا كشك الصحف، اشترينا صحفاً ومجلات، وبعنا مستقبلنا، كنا نكتب ونقرأ بفعل غير مسبوق، كأنما ولدنا لنكون ورثة للمعرفة، لكننا ورثنا الخوف من أن نصبح أقوياء، وأن نشق طريقنا في درب العالم، فالقطارات لم تعد بأنينها القديم، والأمطار لم تعد ببرقها الذي يكشف عن خير قادم، كل شيء تكلس بالصدأ، واغترب عن فحواه، وأصبحنا مجرد أقنعة تمشي في طوابير المدن الملعونة، نبحث عن ظل لنا، فلا نجده، عن ملاذ نستكين له، فنعجز، عندما يكون عجزنا ضعفا مستمراً، وليس قوة تعلمنا ارتياد الحياة والمضي قدما للأمام، هل تراجعت الأزمنة، وصار كل شيء ينخر فيه الدود؟ < < < < بيني وبينك شاطئ من الماضي عكرته الخطايا، كلما حاولت أن ألتمس لذاتي عذرا عجزت.. كان قطار الشمال يحمل أفواج القادمين من الجنوب عندما صرخت في وجهي بعنف وقلت لي: «إلى متى سنظل محاصرين بخوفنا، عاجزين عن مواجهة الأنا في دواخلنا؟. ذلك هو يا عزيزي مرتضى جرس الموت، فصدقني، وليس وراء هذا الجرس الجارف من مصير أو حلم، سنوات تفصل بين الحلم والواقع، والرغبة التي ماتت، ودفنت في الحل والترحال، والبحث عن مغزى، كنت تقول لي يومذاك، إنني سأصنع حياتي وفق ما أهوى، وما أريد، لكنك لم تكن تدرك أن للعالم لغة أخرى، وأنه لايعترف بالطموح، وان مقاييس الوجود موازين إلهية لا نتحكم نحن البشر فيها. وحدثتني عن رباب تلك الفتاة القادمة من عنفوان البلاد المدارية، وقلت لي إنها تشابه «زينب الطين» وكيف أنها استطاعت ان تدخل قلبك المظلم دون سائر النساء اللائي عبرن في صحراء حياتك القاحلة، وكانت رباب مجرد حلم مزيف، عمق جراحك، وإيمانك الذي بدأت تكتسبه في فوضى الوجود، في حين فقدت معنى الحرية والانتماء. أعرف أن جرحك كبير وعميق ومؤلم، يغطي ما بين احساسك بأن تكمل المشوار، وان تستسلم للطموح، ودائما أيها الصديق القديم اللئيم، سوف تفتقدني دون شك، كأنك تفقد عضوا من جسدك أنت في أشد الحاجة إليه، لكن ورغم هذا تمتلكني ثقة عالية لا أعرف لها سببا، من أن بداية الطريق لك قد اتضحت الآن، وأنك سوف تحقق كل ما تصبو إليه، وقد لا تصدق ذلك، لكن جرس الموت الذي رن في أذني، لا يبالي، وسوف يستمر في الرنين. ثمة أمطار في الخارج، وبروق تشق سماء الخرطوم، وأحس بدوار، واحتاج لجرعة ماء، أيتها المدن المدارية.. هل من زمان جديد يعيدنا إليك
الاستاذ عماد ياسلام والله صراحة استمتعت بالنص جدا وحسيت مرتضى ده جوه ناس كتار بس كمان برضو بيشبهو شجر الحراز نادر مش كده يمكن يكون جواك برضو عشان كده وصفته وحسيته بالابداع ده واهنئك على النص المتألق تحياتي
06-04-2003, 11:28 PM
emadblake
emadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة