دعواتكم لزميلنا المفكر د.الباقر العفيف بالشفاء العاجل
|
الفصل الأول من الرواية (Re: emadblake)
|
واحد
داخل المكتب المؤثث على طريقة عصرية، بديكور داخلي راقٍ، رنّ الهاتف النقال على الطاولة الخشبية لأكثر من مرة قبل أن يضغط عبد الحفيظ على الزِر ليردّ على المتحدث من الطرف الآخر.. لقد جرت العادة ألا يستقبل أي مكالمة من رقم مجهول بالنسبة له، لكن إصرار المتصل على تكرار المحاولة للدرجة التي استفزّت المجموعة الجالسة حول طاولة الاجتماع، جعلت عبد الحفيظ يردُّ أخيراً: - عفواً.. من يتحدث معي؟ قالها هكذا، دون أن يردَّ تحية المتصل. - معك اللواء طه عبد الرحمن مدير عام الشرطة. قبل أن يكمل، كان عبد الحفيظ قد نهض من على الكرسي الدوّار، وبحركة لا شعورية جرّ الكارفته تدريجياً إلى أسفل، قائلاً: - نعم سيدي.. تفضل، ما الأمر؟ ليس من عادة عبد الحفيظ أن يطيل المكالمات، لقد تعلم هذه العادة من سنوات عمله بالولايات المتحدة أثناء تدرّبه في إحدى الشركات هناك، بعد أن أكمل دراسته في الهندسة المدنية، قبل أن يعود إلى الخرطوم قبل شهر من الآن، لينشِئ شركة للمقاولات بإمكانيات مادية كبيرة. بدا له أن الضابط مرتبك وغير قادر على الإفصاح، ولثوانٍ ظلّ صامتاً، فيما كانت المجموعة الأجنبية الجالسة حول طاولة الاجتماع تراقب التوتر في تفاصيل وجه عبد الحفيظ، الذي لم يستطع أن يسمع باقي كلام اللواء، حيث سقط الهاتف على الأرض، وترنّح الشاب الذي يبدو في منتصف العشرينات من العمر، ليسقط فاقداً للوعي، وسط المكتب. ساد الاضطراب في المكان، وتبين لأحد المشاركين في الاجتماع أن خط الهاتف لا يزال يعمل، فتولى سماع باقي إفادة الضابط، الذي أخبره بإنجليزية ركيكة: - لقد أعلمته بأن والده السيد عبد الله العربي قد تمّ اغتياله قبل ساعة تقريباً، في مكتبه بوسط الخرطوم في حادث غامض. واصل مدير عام الشرطة الحديث، بصعوبة: - نحن الآن نحمل الجثة إلى المشرحة، لقد فارق الرجل الحياة بمجموعة كبيرة من طعنات الخناجر. أخبر مستر بروك رفاقه بما سمع، قبل أن يحملوا عبد الحفيظ في السيارة بمشاركة عدد من المهندسين بالشركة، ويتوجهوا – جميعهم - إلى المستشفى. في الطريق كان عبد الحفيظ قد استعاد الوعي تدريجياً، غير مصدق لما سمع، وبدا له كما لو أنه يحلم أو يعيش في مكان آخر غير العالم. "هل مات والدي حقاً.. ومقتولاً؟!".. سأل نفسه بين اليقظة والحلم، وذهب في تفكيره إلى تكذيب ما سمعه من الرجل الذي اتصل عليه، حيث قال سراً: "ربما كان كاذباً.. أو أنها لعبة ما يقوم بها شخص متهوّر يدّعي أنه مدير عام الشرطة.. هذا البلد تغيّر كثيراً خلال سنوات غيابي، فقد بات كل شيء ممكناً.. بإمكاني تصديق كل شيء وبإمكاني أيضاً أن أُكذّب ما سمعت". حاول أن يسترجع نبرة الصوت الذي سمعه، ويقارنها؛ في محاولة استرجاع أخرى؛ بصوت مدير عام الشرطة الذي يُخال له أنه سمعه قبل يومين، يتحدث في التلفزيون أثناء الاحتفال بمناسبة ما، ليس بإمكانه تذكّرها الآن. لم يستطع أن يصل لعلاقة مؤكدة بين الصوتين، لأنه لم يكن يهتم بسماع مثل هذه الأصوات التي لا تعنيه، ولأنه نادراً ما يجلس أمام شاشة التلفزيون.. فقط كان يسمع في بعض الأحيان نشرات الأخبار على قناة الـ "CNN" الأمريكية، بعد أن عاد من الولايات المتحدة بطموحات كبيرة في بناء أكبر شركة للتنمية العقارية بالسودان، بتمويل من مجموعة بنوك استثمارية أوروبية وأمريكية، ودعم معنوي من والده الذي عُرِف على مدار أكثر من ثلاثين سنة كواحد من أشهر رجال الأعمال في البلد، وربّما عموم القارة الإفريقية. طوال لحظات التفكير السريع مع الذات، والتنازع بين تصديق الوقائع أو إنكارها، لم يفتح عينيه، ولم يكن يدري أين هو بالضبط!.. وفجأة عندما فتح طرف عينه اليمنى بصعوبة بالغة، فهم أنه في الطريق إلى المستشفى، وأنه سقط على الأرض فعلاً بعد أن سمع أسوأ يمكن خبر أن يسمعه في حياته. خلال الأيام الأخيرة وفي لقاءاته القليلة مع والده لاحظ عليه شيئاً من الاضطراب، هذا الأمر الذي لم يفهمه إلا الآن، عندما وجد نفسه في المستشفى مُحاطاً بالناس من مختلف قطاعات المجتمع وكافة الطبقات. "كيف جاءوا بهذه السرعة؟.. وكيف انتشر الخبر في الخرطوم؟"، لا يهتمّ بكل هذا.. فقط كان مهتماً بمراجعة أخر مرة جلس فيها مع والده في صالون البيت الكبير، قبل يومين. قال له الوالد بنبرة مُودّعٍ، لم تكن مُدركة وقتها: - عبد الحفيظ كنّ حذراً، وأدرس الاحتمالات جيداً، لأي عمل تقوم به. - ماذا تعني يا والدي؟ فأنا من خلال دراستي وتجربتي بالولايات المتحدة أعلم جيداً أن أي عمل يكون عبارة عن مخاطرة، مغامرة ينبغي على المرء دراسة كافة جوانبها. - لا أشكّ في خبراتك الإدارية من خلال ما تعلمته، ما أتحدث عنه أمر مختلف تماماً، فالناس الذين ستتعامل معهم هنا تختلف طباعهم عن الأمريكيين، إنهم أذكياء في الابتزاز بدرجة لا يمكنك توقعها أبداً. لنصف دقيقة أو أكثر صمت عبد الله العربي قبل أن يُكمل حواره مع ابنه: - توقع كل شيء حتى القتل. تغيّرت ملامح وجه عبد الحفيظ، مع الجملة الأخيرة، حيث لم يسبق له أن سمع كلمة قتل، أو موت، على لسان والده من قبل. "دائماً كان الوالد مشحوناً بالتفاؤل والأمل وحب الحياة، فما السبب الذي يدعوه للنطق بهذه الكلمة بالذات.. اليوم؟!" سأل عبد الحفيظ نفسه، لكنه لم يُعد التفكير في السؤال، الآن، في المستشفى، وسط ضجيج الناس، الذين كانوا يحاولون سماع إفادات منه، تعليقاً على ما حدث. بعضهم جاءت به المجاملة الاجتماعية، وبعضهم جاء حتى لا يفقد مصالحه القديمة مع والده، ذلك لأننا نعيش في بلد يكون فيه الابن هو ظل الأب والامتداد الطبيعي له، وهناك من كان دافعه حبّ الاستطلاع، فقد رأى عبد الحفيظ مجموعة من الوجوه المتداخلة التي لم يتعرف عليها، ولم يسبق له أنْ رآها من قبل، والغريب أنهم كانوا يتحدثون معه كأنهم يعرفونه جيداً منذ سنوات بعيدة. أمر الطبيب المسئول الجميع بالانصراف، وقال للصحفيين الذين تجمهروا في الغرفة الصغيرة: - عفواً يمكنكم تأجيل كل شيء فحالة الابن لا تسمح له بالحديث، راحته هي الأهم الآن. أغلق الطبيب الباب بإحكام، بينما ظلّ الضجيج في الخارج، في الوقت الذي كان فيه عبد الحفيظ يراجع ذلك الحوار الأخير مع والده، والذي بدأ يفهم في هذه اللحظة أنه لم يكن ألغازاً أو حديثاً لا معنى له: "فقد كان الوالد يتحدّثُ عن أمر قادم، رّبما كان يتوقعه أو يعرف عنه، ولم يشاء الإفصاح عن تفاصيله إلى أن خرج المستور". الأمر الوحيد الذي بات عبد الحفيظ متأكداً منه، بعد أن وقعت الواقعة، أن الحديث مع والده لم يكن مجرد حوار عادي، وصل إلى هذه النتيجة أخيراً: "لأنه بالنسبة لرجل مثل عبد الله العربي لا تخرج الكلمات هكذا.. كل كلمة لابد أن تكون محسوبة بدقة، حتى مع أبنائه". "لقد كانت للقدر كلمته النافذة، لقد فهمت أخيراً" قال عبد الحفيظ لنفسه، قبل أن يغرق تحت تأثير حالة نفسية قوية من الألم والحزن، جعلته يعود إلى حالة اللاوعي مُجدداً.
| |
|
|
|
|
|
|
|