المدنية والسلطان في "سودان الإسلام" - من "بني ربيعة" إلى "دولة الترابي" - كتاب في حلقات

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 03-28-2024, 07:34 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مكتبة عماد البليك(emadblake)
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-30-2009, 09:53 PM

emadblake
<aemadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
المدنية والسلطان في "سودان الإسلام" - من "بني ربيعة" إلى "دولة الترابي" - كتاب في حلقات


    المدنية والسلطان في "سودان الإسلام"

    يشكل سؤال "المدينة والسلطان"، أحد الأسئلة الملحة في الحياة السودانية على مدار أكثر من خمسة قرون. تحديدا في اللحظة التي تأسست فيها الدولة المسماة بسلطنة أو مملكة الفونج 04-1505م، والتي وصفت بأنها أول دولة إسلامية سودانية. وهو وصف مشكل في حد ذاته - بجمعه بين صيغتي الإسلام والسودان - الإسلام باعتباره لم يقدم أي مشروع واضح ومثالي أنموذجي لمشروع الدولة الإسلامية وفق التصور المقدس، الذي هو في أساسه مجرد صورة ذهنية لمدينة فاضلة لم يكن لها وجود ذات يوم، والسودان لكونه صيغة غامضة ومدرجة تحت عدد من التأويلات المفتوحة، لكيان يوصف أحيانا بالتفسير الجغرافي البحت، دون أن يعطي هذا التفسير أي دلالات واضحة، أو يوصف بفكرة لهوية لا محددات لها.
    لكن مشكل الوصف "إسلامي/سوداني"، لا يقف عند حد ما ذكر، حيث يتشعب ليكون بإمكانه احتواء مناخات أكثر غموضا في ظل خضوع العقل المنسوب للسودان بمعناه الحديث، كنتاج إمبريالي، إلى تقلبات وحالات من الدوران المتلازم مع فلك الحياة الإنسانية على الأرض، مع رحلة التيه لكائن يفتقد للمعنى إلا في حدود ما ينتجه من معرفة وخواص تجعله يقترب من ذاته بقدر مزعج، يحقق الاستغراق لحظيا في دائرة فوضى سلطة الزمن وقوانينه المؤنسنة، بيد أنه لا ينفك أسير العشوائية والنزوح إلى ذات البدايات.
    فالوصف في حد ذاته ليس له معنى، أو دقة. لأنه حتما نتاج مابعدي، لما تشكل في الماضي بطريقة قد تكون مغايرة تماما لما جرى اعتماده لاحقا. خاصة أن التاريخ لتلك الفترة افتقد لمصادر واضحة، أو بالأحرى هي شحيحة أو منعدمة تماما. وحتى لو توفرت هذه المصادر فليس معنى هذا أننا أمام حقائق، لأن التقرير المبدئي سيكون إحالة التاريخ إلى هوى السلطة التي كتب في زمنها.
    وإزاء ذلك فنحن أمام كيان هلامي، متشتت الهوية، مجهول الجذور. لذا كانت الاختلافات جلية حول متى بدأت تلك "الدولة الإسلامية" والكيفية التي تأسست بها، وأصول من أسسوها. "وبالرغم من أن هذه الحقبة من تاريخ السودان قريبة منا نسبيا فإن مصادرها قليلة ومشوشة والعهد الذي سبقها في علوة المسيحية كان أشد غموضا" كما يذهب المؤرخ مكي شبيكة.
    دولة بني ربيعة:
    ومن جهة ثانية فإن أهلية الفونج لاحتلال مقام السبق بوصفها الدولة "الإسلامية" الأولى في تاريخ السودان، هي قضية ذات جدل، فثمة إشارات مغايرة إلى أن أول دولة بذات المفهوم المشكك فيه أصلا، هي دولة "بني ربيعة" التي لم يرتض مكي شبيكة أن يسميها دولة، تماشيا مع منظومة السائد في وصف الفونج بقصب السبق، حيث سماها "دويلة إسلامية" ، وقد امتد نفوذها من أسوان جنوبا في بلاد النوبة وشرقها في الصحراء إلى البحر الأحمر، وتنسب إلى مؤسسها بشر بن أسحق بن ربيعة، وكان ذلك في حدود منتصف القرن العاشر الميلادي.
    وهي "الدويلة" التي استحق ملوكها لقب كنوز الدولة بمكافأة معنوية من الحاكم الفاطمي الحاكم بأمر الله، عندما استطاع ملك بني ربيعة، أبو المكارم هبة الله، القبض على الثائر أبي ركوة الذي كان من معارضي النظام الفاطمي والمحققين لانتصارات ضده في شمال أفريقيا إلى أن هُزِم في الفيوم المصرية ففر لاجئا إلى بلاد النوبة فانتهت حياته بفوز أنجال بني ربيعة بلقب الكنوز.
    ومن هذا السرد يبدو واضحا أن "الكنوز" لم يؤسسوا دولة ذات استقلالية، حيث كانوا بشكل أو بآخر تحت إمرة الحاكم الفاطمي الذي يدبجهم بالألقاب. كما أن دولتهم كانت تعاني منذ بدء تأسيسها من النزاعات الداخلية بين بطون قبيلة بني ربيعة، الأمر الذي أدى إلى قتل مؤسسها أولا، ليخلفه ابن عمه المعروف باسم ابن يزيد اسحق.
    ومن خلال المصادر الشحيحة حول هذه "الدويلة" نجد أن جل همها كان يقوم على موالاة الفاطميين والحرص على رضاهم من خلال مد نفوذها في بلاد النوبة، ولعل اعتراف الفاطميين بها ودعمهم لها كان ضمن خططهم لمد نفوذهم جنوبا حيث بالإمكان فتح أسواق جديدة للرقيق والنخاسة، وتطلب ذلك أسلمة النطاق الجنوبي ومحاربة المسيحية ومصاهرة أهل الجنوب، وكل ذلك كان لأهداف سلطوية تكتيكية، أراد منها بني ربيعة الحفاظ على دولتهم لأقصى زمن ممكن بتحالفهم مع العلويين الذي كان بمثابة شؤم عليهم عندما حل صلاح الدين الأيوبي حاكما على مصر، والذي أتهم سلطانهم بأنه لا يزال متشيعا للعلويين وأنه لعب دورا في حركة ثورية لم تكتمل فصولها كانت ترمي لإحداث انقلاب على نظام الأيوبي لصالح الفاطميين في مصر، ورغم أن سلطان الكنوز حاول أن يلعب فيما قبل دورا في تملق صلاح الدين بالوقوف معه ضد مجموعة من الجند السودانيين الذين كانوا قد حاولوا إقصائه عن الوزارة في عهد الخليفة العاضد الفاطمي، إلا أن هذا التملق لم يخدمه حيث سير الأيوبي حملة لغزو دولة الكنوز، استطاعت أن تقضي على "كنز الدولة" ودولته، فتشتت الكنوز إلى الجنوب واندمجوا مع النوبة.
    ويتضح من هذا السرد أن تلك "الدويلة الإسلامية" كانت تفكر في أدوار أكبر منها رغم عدم استقرارها الداخلي، مثل المشاركة في الحركة الانقلابية المشار إليها، أضف إلى ذلك قيامها بقتل والي صلاح الدين في جنوب مصر في حملة سيرها الكنوز على المنطقة الواقعة تحت سيطرته بعد سوء العلاقة بين الطرفين، وقد كان بإمكان دولة بني ربيعة أن تنسج علاقة جيدة مع الأيوبي بيد أنها أرادت أن تلعب على الحبلين كما يقال، (الموالاة الظاهرة واللعب الخفي)، الأمر الذي أفشلها وأدى لنهايتها، فقد كانت الأحلام أكبر من الواقع، وعلى ما يبدو أنهم كانوا يطمحون في قيامة إمبراطورية إسلامية تمتد إلى مصر ومن ثم باقي بقاع الدنيا، وهو ذات الحلم الذي سيحمله فيما بعد في نهاية القرن التاسع عشر خليفة المهدي، عبد الله التعايشي، ويتكرر المشهد في نهاية القرن العشرين بحلم آخر حاول أن يقوده الدكتور حسن الترابي بإقامة مشروع الدولة الإسلامية الكبرى انطلاقا من "دولة الكنوز الجديدة".
                  

01-30-2009, 09:58 PM

emadblake
<aemadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
الفونج ودنيوية الدين (Re: emadblake)



    الفونج ودنيوية الدين:

    بيد أنّ السؤال الأكثر مركزية، مع ضرورة تهميش مفهوم فكرة المركز، واستخدمها فقط لحاجة تفسيرية مؤقتة. هو سؤال يخارج ذاته بسهولة من مشكل "إسلامي/سوداني"، بحيث ينفتح على ما ابتدأت به "المدينة والسلطان"، أو جدلية العلاقة القائمة بين فضاء مكاني قادر على تذويب الذوات وإعادة إبداعها لتكون مجرد ذوات افتراضية، وأحد "مراكز" هذا الفضاء والذي يعبر عنه بالسلطان أو الملك أو السلطة الحاكمة التي لها السيادة. وقبل أن يدخل العرب السودان فإن هذه السيادة شكلها أساس الإقليم الجغرافي، ولم يكن مفهوم القبيلة واردا، حيث أنه اختراع عربي، فالسودان في العهد المسيحي كان يحكم على هذا الأساس الإقليمي، وهو الأمر الذي يقود إلى أن الإشكاليات بخصوص الجزء الأول من ثنائية (المدينة/السلطان)، لم تكن قائمة، في حين كان المشكل بخصوص الجزء الثاني، حيث كانت السلطة المركزية في يد الملوك، وكانت العلاقة طبقية بحتة: سادة وعبيد، حكام وشعب، وكان الملك هو السلطة المطلقة "يمتلك كل الأراضي ويعتبر رعاياه من عبيده لاحق لهم في امتلاكها أو التصرف فيها بالبيع والشراء" .
    ولعل التأكيد على أن الجدل يدور حول الثنائية المذكورة، أن "الدولة الإسلامية" في الفونج، لم تكن إلا مجرد إطار صوري للإسلام يقوم على إنزال حد القصاص وتحريم الخمر، وإن كان الناس بما فيهم الحكام يشربونها سرا، وافتقدت تلك الدولة لخصائص الإسلام في أبرز معانيها الحفاظ على النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، ففي أحد مستويات السلطة كان الملك عند احتضاره يأمر بقتل جميع أخوته لإزالة فرص المنافسة والمؤامرات، حتى يبقي القوة لمن أراد من بعده، وإن كانت المصادر تذهب إلى أن الاختيار لا يتم بواسطة الملك مباشرة وإنما بمجلس يتم تعيينه بقرار ملكي، ولن ينأى الأمر بعيدا، فما يحدث هو تفويض غير مباشر، وقرار مستبطن لسلطة لن تغادر محلها حتى بعد رحيل صاحبها. والدولة لم تكن إلا كيان متشظ متشرذم، قائم على الصراعات القبلية المغرقة في الجهل، والمؤامرات التي لا تنتهي ضد الملك وأعوانه، أضف إلى ذلك الحروب التي اشتعلت مع الجارة الحبشة. ورغم كل هذا كان "الملوك المسلمون" اسما، يعيشون ترف الحياة وبهجتها غير آبهين بدين ولا شعب.
    كتب الطبيب بونسيه يصف ذلك المشهد:"ومن عادة الملك أن يخرج في ركب عظيم كل يوم سبت وأربعاء من كل أسبوع، إلى إحدى الضواحي، تتقدمه ثلة من الفرسان ما بين 300و400 فارس، ويحف بالملك عدد من البيادة بموسيقى طبلية يتغنون بمدائحه، ويأتي بعد ذلك موكب عماده نحو 700 أو 800 من النساء والفتيات يحملن سلال الطعام من لحوم وفواكه، وفي المؤخرة عدد من الفرسان مثل المقدمة. وعند وصول الركب إلى المكان المقصود يترجل الملك وتترجل حاشيته ويجلس إلى الطعام وهو ملثم بحرير شفاف متعدد الألوان الزاهية، وتتناول الحاشية الطعام ويتبارى الملك مع كبار دولته في التدريب على إصابة الهدف بالبنادق".. والذي يذكره بونسيه هنا:" أنهم لا يجيدونها.. وفي المساء يرجع الركب بنفس التشكيل إلى العاصمة".
    هذا النص يكشف كيف أن السلطة الدينية مارست دورها الدنيوي البحت منتعلة الدين كحذاء تدوس به على العباد كما سيتضح لاحقا من خلال تحليل نص بونسيه. فالأسبوع يفتتح (السبت) بهذا المشهد الدراماتيكي، والذي يبدو كما لو أنه مجتزأ من ألف ليلة وليلة، ويختتم ما قبل الخميس بذات المشهد. ورغم هذه الجمهرة التي تحف بالملك إلا أنه من الجلي مهدد بالموت في أي لحظة، فالفرسان في المؤخرة والمقدمة، وحتى لو كان التفسير يخضع لفكرة المشهد الاحتفالي إلا أن قضية الخوف على السلطان ورادة باعتبار غياب الأمن في دولة مشحونة بالدسائس والمكايد. ويبلغ الشغف الدنيوي ذروته في البذخ في الأكل والشرب والملبس والحاشية. ولنا أن نلاحظ أن هذا التصوير لا يكاد يذكر أي شعيرة دينية مرتبطة به، فالملك يعود في المساء وهذا يعني أن أوقات الصلوات قد مضت. ومن المحتمل أن بونسيه تغافل هذا الأمر وركز على التصوير الاحتفالي.
    أما ذروة لذة النص وبهجته في ما يكشف عنه النص من انعدام الخبرة في تصويب البنادق بالنسبة للملك وكبار دولته وهم الوزراء والأعوان، وليس المقصود بهم الحراس والجنود. فهذا الملك لم يوفر لنفسه الوقت المتواضع لكي يتعلم كيف يصوّب بندقية، حيث أوكل المهمة لمن يقوم على حمايته وكذلك وزراؤه ارتضوا نفس الدور الملكي الوضيع، دون أن يهتموا بكل تأكيد لسخرية من حولهم من "حور الأرض"، تلك السخرية المستبطنة من الكائن الأنثوي، فليس جملة المشهد إلا إطار تمثيلي يدركه كل طرف، في خطاب صامت.
    هذا الوضع ليس إلا إطار سلطوي بحت، لا يمت للدين بصلة، وهو يمارس بكل عفوية وأحقية مكتسبة من اللاوعي الجمعي المسيطر، والمتأتي من تجارب الدولة الإسلامية في العصور الأموية والعباسية وغيرها. وما فعلته الفونج أنها أعادت تكرار ذات ما حدث، وربما بصورة أسوأ وجهل كبير، لأن تلك المدنيات رغم ما كان فيها من مظاهر الترف السلطوي والتناقضات التي تدلل على مفارقة العقدي للممارسة المعاشة، إلا أنها من جهة أخرى حملت ثراء فكريا وزخما من حيث العلوم المنتجة والتسابق نحو إبداع معرفة.
    وبغض النظر عن الصراعات التي دارت بين العلماء والسلطة والخصومات التي ترتبت عنها فرق وشيع لا زالت تلقي بظلالها السيئة على عالم اليوم، إلا أن محصلة ما كان يجري تدل على حراك ثقافي واجتماعي ومدنية حقيقية. وفي المقابل كان النموذج السوداني غارقا في براثن الجهل وسلطة اللاوعي والأساطير والشعوذات، يصف بونسيه الناس في سنار بـ: "الخداع والدهاء وبميلهم للخرافات وبتمسكهم بدينهم وعندما يقابلهم مسيحي في الطريق ينطقون بالشهادة"
    هذا الوضع ليس إلا إطار سلطوي بحت، لا يمت للدين بصلة، وهو يمارس بكل عفوية وأحقية مكتسبة من تراث وافد اختلط بالطقوس المحلية في حدود مظهرية، ولم يعني السلطة من أمر الدين سوى إنجاز الحدود على عامة الناس على طريقة محاكم "التفتيش" أيام النميري والمسماة بـ "العدالة الناجزة" عندما أعلن تطبيق الحدود الإسلامية. كتب بونسيه: "وفي سنار تنظر الجرائم ويعاقب مرتكبوها في الحين".
    وقد شاهد بونسيه أثناء إقامته بالمدينة الحكم على شخص بالإعدام ضربا بالعصي الغليظة. وشاهد أسواق الرقيق المفتوحة في سنار، لدولة لم تصك عملتها حيث اعتمدت على العملات الأجنبية. وشاهد أيضا المفارقة الطبقية الواضحة والتي انعكست في ملابس النساء، حيث قارن بين لباس نساء الطبقة الراقية كما أسماهن ونساء الطبقات العادية.، فـ "الراقيات" يتحلين بالذهب ويمشطن شعورهن وينتعلن أحذية بسيور ويلبسن أقمشة "قد تكون من الحرير أو غيره" من الأقمشة الجيدة التي تتدلى إلى الأرض. أما "العاديات" فـ "لباسهن ما بين أوساطهن وركبهن فقط". ويكشف الوصف حجم التفاوت في المجتمع في مدينة بلغ سكانها حوالي المائة ألف نسمة، وتأتي في المرتبة الثانية بعد القاهرة من حيث ازدحام السكان بها كما وصفها وافد آخر هو كرمب.
    أما زعماء القبائل فقد كانوا يتسابقون لرضا السلطان والحظوة منه بالبذل والعطاء، كما في مشهد موكب المانجل زعيم قبيلة الذي وفد لسنار ومعه ضريبة مكونة من مئات العبيد والخيل والإبل ومقدار من النقود، واستقبله الملك في احتفال جماهيري كبير مصحوب بالموسيقى والحشود وزغاريد النساء والروائح المعبقة للجو، ووسط كل هذه الجموع يركع المانجل أرضا ويقبّل رجل الملك ثم ينهض ليركب ويدخل الموكبان سويا للمدينة.
    تسوق هذه السرديات التي ما خفي منها أعظم مشاهد مؤلمة ومفارقات تكشف هشاشة البناء المدني وثقل السلطة الغارقة في غيها، وكيف أن القبيلة لعبت دورها في تمزيق الكيان الإقليمي الذي كان قائما في فترة المسيحية، ليكون المشكل في عصر تأسيس"الدولة الإسلامية السودانية" ثنائيا، مدنية وسلطان غائبان. غياب المدنية في لاتحققها بالمعاني التي تحترم الكيان الإنساني، وغياب السلطان في ابتعاده عن دوره الفاعل في بناء الإنساني والمدني، ويتم ذلك داخل تكريس الخرافة والسماح بانتشارها وتوسعها دون أدنى تدخل من الدولة، مادامت هذه "الخرافات" لا تلعب أي دور في تهديد السلطة السلطانية على الأرض والشعب، وفي ظل احتفاظ الملك بنفوذه واحتفالاته المبهرجة.
    بل أن السلطة الدينية المتمثلة في شيوخ المتصوفة وعلماء الدين لعبت دورا في رفد سلطة الملوك وتكريسها، فثمة تحالف بين عدد من أعلام السلطة الدينية الشعبية والملوك في إطار تقديم النصح والمشورة بطريقة تظهر المتصوف وعالم الدين على أنه العارف والمدرك للحقيقة بما فيها مصائر السلطان ومآله. والواقع أنه حتى الملوك أنفسهم كانوا أسرى "الخرافة" في اعتقادهم في "أولياء الله". وإن كان البروفسور يوسف فضل يرى أن هذا الاعتقاد حقيقي وجازم، بقوله: "لم يكن الاعتقاد في الأولياء وقفا على عامة الناس بل اعتقد الملوك والسلاطين فيهم"، وراح يضرب أمثلة على ذلك من خلال الاستعانة بكتاب الطبقات والقصص الواردة فيه.
    إلا أن المسألة قابلة للتشكيك فيها وإعادة النظر، فالملوك كانوا يخشون تطور سلطة الأولياء لتفوق سلطتهم فآثروا رضاهم، وفي هذا نجد أن ثمة إغراءات لا تحتمل الشك، يكشفها فضل نفسه: "وإزاء هذا الاحترام والتأييد من السلطات الحاكمة، لقي المتصوفة (كالعلماء) كثيرا من أسباب العون المادي إذ أوقف الحكام عليهم الاقطاعات وأعفوهم من الضرائب بينما أغدق عليهم المريدون والأتباع من عامة الناس النذور والهدايا ". وقد حاول فضل أن يبرر هذه المشهدية النفعية، بأن "الأولياء" أنفقوا الأموال السلطانية مقابل "متطلبات وظيفتهم التي تجمع بين الإرشاد الديني والهداية الروحية". وهو قول باطل، لأن المشهد برمته يصب في البحث عن السلطة والنفوذ باستعارة الدين، والتلاعب بعقول العامة.
    ولنا أن نتأمل الطريقة التي وصل بها أحد هؤلاء الأولياء إلى الملك، في حشد يهدف إلى إظهار قوة الرجل في مقابل قوة الملك ونفوذه، بما يفسر الأمر على أنه تهديد ضمني للملك بأن لا يغتر بسلطته، وكان الملك بادي قد طلب عون الولي الشيخ حسن بن حسونة لعلاج أخيه ناصر الذي كان مصابا بمرض أعصاب يشبه الجنون، فتأهب الولي للسفر في ركب عظيم وصفه مكي شبيكة بأنه "أدهش ملك الفونج"، وتضمن الوفد الخيول والجمال والأموال وحملة البنادق، في مشهد "درامي" لا يمت بصلة للهدف الذي من المفترض أن الولي ذهب لأجله وهو استخدام مهاراته الدينية في شفاء "الأخ المجنون". ولعل الحوار الذي دار بعد ذلك بين الملك والولي والذي نقله الوسطاء - أي لم يكن مباشرا - يكشف عمق النزاع الباطني بين السلطتين، حيث يروي صاحب الطبقات أن بادي خرج ليرى ذلك الوفد المهيب وقال بعد أن رأى ما رأى: "هذا فكيا أخذ ملكنا" ، وهي صيغة واضحة تدل على مدى قوة الفكي/الولي والتي برزت عبر ما جاء به، فماذا كان رد الولي عندما أخبروه بما قال الملك؟. كان أن رد وبصيغة فيها شيء من المبالغة استخدمت أسلوب المتصوفة في إدعاءات بعضهم بأن لهم عوالم خارج العوالم المتحققة لعامة الناس وأيضا الملوك، بأن قال: "قولوا له أنا ملكك عرضوه عليّ، أنا أبيته".

                  

01-31-2009, 07:33 PM

emadblake
<aemadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
المهدية والنزعة السلطانية الذاتية: (Re: emadblake)



    المهدية والنزعة السلطانية الذاتية:

    ما تشكّل من علاقة متوترة بين السلاطين ورجال الدين، تقوم على المداراة والمناطحة بإشارات ضمنية، ولجوء السلاطين للأولياء توظيفا لخرافاتهم في إمكانية الحصول على نبوءات يستطيعون من خلالها وضع خطط إستراتيجية للمستقبل تكفل لهم مد سلطانهم لأبعد مدى زمني، كل هذه الصور التي ترسخت في دولة الفونج، برزت بشكل أوضح لدى قيام محمد أحمد المهدي بتأسيس مشروعه السلطوي، الذي وظّف الدين لإنجاز "الدولة الإسلامية" الثالثة بالسودان في الربع الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي. غير أن استيعاب هذه المسألة يتطلب درجة راقية من الوعي التاريخي الذي يشكل واحدة من طرق تفكيك القضايا السياسية والأيدلوجية الراهنة، والتي تظل غير محسومة، ويكون تعاملنا معها بنهج غير سليم لا يساعد في فهم مجريات الأحداث ودوافعها الحقيقية إذا ما التزمنا بالشروط "الأرثوذكسية" لقراءات التاريخ.
    تمثل قضية "الثورة المهدية" في السودان إحدى هذه القضايا التي يجب بحث أغوارها، فهي حتى الآن لم تُدرس الدراسة التفكيكية اللازمة لبنيتها وفق العلوم الإنسانية الحديثة، فمعظم الذين درسوا المهدية تعاملوا معها وفق إطار رؤيوي ضيق، أو تعاملوا معها كمقدس لا يحق بتر مفعلاته، بينما الرؤية الحقيقية توضح لنا أن "الثورة" في حد ذاتها ليست إنجازاً مطلقاً، بل هي فعل بشري من الممكن التفكير في زحزحة كثير من مؤطراته ومركباته الأساسية وتفكيك هذه المركبات كي ّما يتسنى لنا دراستها بوعي تاريخي مجرد عن الأسطرة والمخيال الجماعي الذي يتوجه وجهة قداسوية تجاه ذلك المنجز التاريخي.
    ومن أبرز الإشكاليات في دراسة المهدية وبالتالي غياب الاستفادة الماثلة من تراثها في التجارب الأكثر حداثة، كتجربة سنوات البشير، أن المعالجات التي تمت جاء معظمها ظاهريا وفوقيا لم يغص في التربة العميقة لبنيات "الثورة" ولم يحفر بشكل عملي في التكوين السيكولوجي لمفعل "الثورة" (محمد أحمد المهدي) والذي اكتسب هذه التسمية (المهدي) بعد أن خلعها هو على نفسه.
    إن البحث العميق في طبيعة النفس البشرية من شأنه أن يزيح الكثير من الغبار العالق برؤيا الذات في التاريخ، ومن خلال ذلك يكون ممكنا فهم التاريخ بوعي فعال وإيجابي، وبخصوص "الثورة المهدية" بوصفها ظاهرة ارتبطت بالدين، يصبح البحث في بنية إنسانها ضروريا لفهمها كظاهرة موازية للدين والمعتقد، وفي هذا الجانب فإن الدراسات الحديثة في علم النفس تركز على أن "البحث العميق في طبيعة النفس البشرية أصبح ضرورياً لفهم الظواهر الدينية " وهذا ما يمكن أن يبسط المسألة للنظر إليها وإدراكها بوعي تاريخي مجرد عن القداسة والخوف من مواجهة عنف التاريخ المنعكس على الواقع الآني. أيضا ولكي نفهم الدوافع الأساسية لـ "ثورة الإمام المهدي" في السودان، يجب أن نجرد أنفسنا من كل الألبسة الآنية المترتبة عن ذاك الحدث التاريخي القديم، ونخلع ذواتنا من إطار وعيها التاريخي التراكمي، وهذا لا يحدث ما لم تكن هناك حيدة تجاه الحدث التاريخي ومفعله.
    يذكر نعوم شقير في كتابه (تاريخ السودان) أن أسباب الثورة انحصرت في العنف الذي مارسه النظام التركي ونظام الضرائب ومنع تجارة الرقيق ، وكل هذه الأسباب أدت لزحزحة الوعي الجماعي ليخرج عن طاعة النظام.
    هذه الأسباب لا يمكن نفيها كمسببات مفعلة للثورة في خطوطها العريضة، لكن هذه النقاط التي أثارها شقير وغيره من المؤرخين والباحثين، كما يقول الدكتور محمد إبراهيم أبو سليم "تصف في جملتها الظروف التي تستدعي قيام ثورة أو خلق احتجاج عام ولكنها لا تقف دون إبراز الظروف الذاتية والملابسات التي جعلت محمد أحمد دون غيره ممثلا لهذا الاحتجاج وقائدا للثورة على الأوضاع" ، أي أن أبو سليم يرى أن هذه الأسباب التي أوردها شقير وغيره ليست من شأنها أن تصف لنا لماذا تمت الثورة كنتاج فعلي على يد محمد أحمد دون غيره من السودانيين. هذا السؤال وبالاقتراب من الإجابة عليه يكشف لنا الكثير من البنى التي تقوم عليها عملية توظيف الدين في الثورة، أو في الحراك الاجتماعي، وتوضح لنا درجة من بناء العقل السوداني الحالم بيوتوبيا الدولة الإسلامية، ومن لحظة تأسيسية في التاريخ الحديث.
    لكن استخلاص النتائج ليس بالمسألة السهلة، إذ أن ذلك يتطلب أولا التمهيد النظري الذي يقرّب من فهم الدوافع، ومن هنا يجب دراسة بعض المركبات الهامة في شأن علاقة الدين بالمجتمع في السودان، ودور الدين في تفعيل الشعوب وتكوين وعيها الجمعي الذي من الممكن أن يتخذ كوسيلة لإدراك مآرب جهة معينة من الجهات، أو منظمة ما.
    إن أهم ما يلفت النظر إلى الحركة الإصلاحية التي قام بها محمد أحمد، أنها تعمل وفق منظور الديني حسب ما فهمه "محمد أحمد"، فقد كان "يعمل لبناء مجتمع ديني مقوماته من المجتمع الذي أقامه الرسول (ص) وصحابته" باعتبار أن هذا النموذج هو الذي يمكن أن يمهد للوعي الجماعي في قبول منطلقات الثورة. وبحسب محمد أركون يرى الوعي الجماعي في مثل هذه المجتمعات "أن الحقيقة كلها متضمنة في الوحي وتجربة المدينة"، ويشير أركون إلى أن تجربة المدينة تمثل نموذجاً للموقف الإصلاحي في القرن التاسع عشر الميلادي، أو ما سماها بالنزعة الإصلاحية التي بدأت منذ القرن الهجري الأول من قبل السلف.
    بالنظر إلى القدسية المسقطة على ذلك الزمان وباعتبار تجربة المدينة نموذجا مثاليا يبحث الإسلاميون عن إمكانية إسقاطه على الحاضر، وبوصف التجربة كونها كما يرى أركون بشأن اعتقادهم: "جاءت في زمن مقدس يعلو على كل الأزمان". كل هذا جعل الاستفادة من المضمون المتوارث عن تجربة المدينة محركا فعليا للجماعة، وبشكل غير مباشر أو واع، ومن ذلك المنطلق كانت الإرادة والسؤال هل يمكن بعثها من جديد لكي تشكل ثورة ضد نظام يؤمن بالعنف والضرائب الباهظة ويمنع الناس أن يمارسوا حياتهم التجارية في حرية ويحارب الرق. ويشير أركون إلى أن "الدين حتى ظهور الأيدلوجيات العلمانية الحديثة هو الذي يحمل وظيفة التبرير هذه والتي لابد منها"، أي أن هناك دوافع بحتة تتعلق بشخصية القائد، لكن الدين يأتي مغطياً البنية التحتية أو المركبة الحقيقية للثورة، ولذا فإن انتهاج الإسلام من شأنه "أن يقوم بوظيفة خلع الشرعية على الأنظمة والسلطات السياسية" في مجتمعات ينظمها عرف وقيم تؤمن بها تماماً وتتعامل معها بقداسة لا يمكن تجاوزها أبداً. وما يشار إليه هنا أن بنية الثورة دائما ما تتعلق بجانب أسطوري يضفي عليها الفوقية ويجعل مسألة قبولها حتمياً مثلما يقبل المسلم أن الله واحد، وأن الدين هو الإسلام، فعليه أن يقبل الثورة لأن إطارها المنطقي الذي جاءت به ينتهج طريقة الوعي السائد في المجتمع. ونجد أن أسطورة الثورة التي تمثل الدين مطية لها هي من نوع الأساطير الحديثة وهي "التي لا تتكلم عن قصة الخلق أو صراع الآلهة، وإنما عن صراعات قائمة وموجودة"، وهذا ما يفرقها عن الأسطورة القديمة ويلزم عملية التعامل معها بانتهاج طرق جديدة باعتبار أن منظومات الوعي قد تغيرت.
    جاءت تجربة محمد أحمد المهدي مستمدة من تجربة الرسول (ص) وصحابته، وهذه التجربة كما ذكر هي العامل المفعّل لتحريك بنية الوعي الجماعي لأي حركة سياسية تتخذ الدين كوسيلة لتحقيق أهدافها "فحياة الرسول (ص) تمثل مرتكز السلوك الإسلامي" الذي لا يمكن لأي مسلم أن يرفضه ما دام منتميا لهذه الجماعة، ولهذا تكون للتجربة فعاليتها وقوتها في التمكين لذاتها. وهذا ما فعله المهدي بوعي تام عبر مراحل من الوعي التراكمي وعبر دراسة مستفيضة لبنية الوعي لإنسان السودان في نهاية القرن التاسع عشر، فمذهب المهدي هو عبارة عن "آراء كونها عن الإسلام والمسلمين أثناء تجواله وإطلاعه وأثناء مخالطته للعلماء والصالحين" .
    يذهب نيتشه إلى "أن دعاة الزهد في التاريخ كانوا أبعد الناس عن الزهد وأنهم كانوا يضللون البشر بهذه الدعوة الزائفة" ، ويدعم هذا القول ما يقول به مذهب اللذة السيكولوجي الذي يقف نيتشه ضده وهو: "أن الإنسان ينشد دائما ما وراء أفعاله لذته ومنفعته". وهنا يكون السؤال: هل يوجد في حياة محمد أحمد ما يؤيد هاتين النظريتين المتوافقتين رغما أنهما متولدتان عن فلسفتين متعارضتين؟. هدف السؤال هو البحث عن قاعدة للدوافع الذاتية للتغيير الذي قاده "المهدي". وتستدعي الإجابة على السؤال أعلاه، إلقاء نظرة على ثقافة "المهدي" وبعض من القضايا التي ارتبطت بحياته المبكرة قبل تفجيره الدعوة، حيث أن ذلك يساعد في إدراك "الظروف الذاتية" كما اسماها أبو سليم، والتي يتطلب الوصول إليها معرفة "مزيد من الحقائق والبيانات عن حياة محمد أحمد الأولى ومدى ارتباطه بالحياة العامة، وإلى إبراز العوامل التي دفعت به من الحياة السلبية التي يمارسها المريد الصوفي إلى الحياة الإيجابية الهادفة إلى بناء مجتمع جديد" .
    بدأت الحياة الفاعلة لمحمد أحمد والخطوة الأولى لبسط فكرته التي تجمع بين الدين والسياسة أو تتخذ من الدين وسيلة لتحقيق أهداف سياسية عملية سنة 1871، وذلك عندما أنشأ خلوته في الجزيرة أبا، وكان إنشاء هذه الخلوة "من أول خطواته وأخطرها" كما رأى أبو سليم، إذ أن الخلوة تمثل المرجعية الأولى لتفعيل بذرة الحياة المستقبلية للفرد في السودان الشمالي والأوسط في ذلك الوقت، باعتبارها مؤسسة تعليمية راسخة في زمنها، تخرّج الفئات التي من شأنها أن تتحكم في تسيير الحياة في المجتمع.
    كانت الخطوة الثانية بعد إنشاء الخلوة، هي تفجير الخلاف مع شيخه محمد شريف والذي كان محمد أحمد من أتباعه المقربين وأخذ عنه الطريقة السمانية، وقد حدث هذا الخلاف سنة 1878. وهنا تختلف الرؤى بشأن مسببات الخلاف، وهي قصة طويلة، بيد أن التحليل المجرد لها يقود إلى أن هذا الخلاف لم يكن دافعه الأول ديني أو أنه بُني على المرتكزات الإسلامية ، وإنما كان بسبب التنافس الذي حدث بين التلميذ (محمد أحمد) ومعلمه (محمد شريف)، لأن التلميذ عندما أسس خلوته المنفصلة سالفة الذكر استطاع أن يجمع من حوله أتباعا أصبحوا يحملون اعتقادا جازما فيه، تحول إلى اعتقاد شخصي وليس اعتقاد في طريقة صوفية ينتمي لها التلميذ، هذا التصاعد الحادث لشخصية محمد أحمد أدى إلى إحساس من جانب محمد شريف بخطورة منافسه الجديد الذي برز على الساحة، فرأى أن يصعد من حدة الموقف بأن أشاع "أن محمد أحمد أفصح عن مهديته وأنه طرده بعد أن فشلت محاولاته عن إثنائه عنها".
    الخطوة الثالثة هي الحركة الإصلاحية التي بدأها محمد أحمد سنة 1880، وهي حركة عميقة الجذور والإشارات حولها صعبة، وكذلك محاولات تفسيرها، لأن "محررات المهدي في هذه الفترة لا تعطي إلا إشارات قليلة" . وفي هذه الفترة بدأ محمد أحمد دعوته السرية عبر حركة دائبة في الأقاليم ودعوة الناس إلى الالتفاف إلى الدين الحق. وحتى ذلك الوقت "يبدو أن حركته كانت ذات أهداف دينية خالصة وإنها كانت تخلو من الغرض السياسي" . غير أن الغرض السياسي الذي لم يتمظهر في الدعوة وقتها كان يجذر نفسه في ذات محمد أحمد، وكانت القاعدة التي تحمل دوافعه الذاتية قد بدأت في التأسيس لنفسها، فلم تكن المسألة في بساطة القول أن محمد أحمد كان مجرد رجل يحقق استجابة لمشاعر الآهلين التي انطبعت بما تركه المستعمرون من أثر سيء، لأن الاستجابة كانت مضمرة فيه وعمل على إبداع شروطها عبر تكوينه الشخصي والواعي بخطواته، الأمر الذي ساعده على التفاف الناس حول دعوته أولا ومن ثم حركة المقاومة التي قادها. وبشكل مختصر فإن هذه المرحلة هيأت المناخ الممهد لإعلان "الثورة" من قبل محمد أحمد.
    وبالفعل وفي مارس 1881 كانت الخطوة الرابعة والفعالة والتي اكتسب فيها محمد أحمد صفة (المهدي)، حيث "كان الناس على استعداد لتصديق هذا الأمر وأتباعه لكثرة ما أصابهم من ظلم ولحقهم من أذى، ولأنهم كانوا قد بلغوا نهاية القرن، وقد شاع أن القرن لا ينتهي قبل أن يأتيهم المنقذ الموعود" . ويشار إلى أن هذه الخطوة قد سبقتها الحركة عبر الأقاليم، والتي قام فيها محمد أحمد بتوثيق علاقات مع رجال الدين سيكون لها آثرها الفاعل فيما بعد، خاصة في إقليم كردفان عندما هاجر إلى هناك. ونجد أن إعلان محمد أحمد لمهديته كان قد أحاطت به هالة من الأسطرة والدعم المتمثل في استغلال مركبات العقل الجمعي لإنسان السودان في القرن التاسع عشر عبر شروط الثقافة والبيئة.
    ويلاحظ أن دعوة محمد أحمد لم تكتف ببعدها الميتافيزيقي في دعم مسارها، إذ أنها أول ما قامت كان يدفعها أيضا عامل "التشكل البيئي" في العقل الجمعي، وقد استفاد محمد أحمد من هذا العامل في مشروعه، فالدين في تلك البيئة التي نشأت فيها الثورة "ينهج له كممارسة روحية وعمل لا علم ودرس"، وهذا ما استوعبه محمد أحمد وحاول أن يطبق به منهجه الدافع لهمه السياسي الذي شكل ثورته فيما بعد، والتي "كانت ثورة بالمعنى العلمي – والاجتماعي طورت مؤسسات السلطنات، وعلى رأسها الطرق الصوفية في سبيل تحقيق أهداف سياسية وعملية"، كما فسرها الدكتور قيصر موسى الزين في دراسة له بعنوان: (الدولة والمؤسسات الاجتماعية في السودان).
    ولكن كيف نفهم استيعاب محمد أحمد للبيئة وتطويرها لرفد "الثورة"؟. يستدعي ذلك فهم مركبات التطور الإنساني في البيئة وهي "المركبة الاجتماعية – الاقتصادية (مركبة الإنتاج )، والمركبة الاجتماعية – الثقافية (مركبة العقل)، والمركبة الاجتماعية – التاريخية أو العناصر الحضارية". فكيف انعكست كل واحدة من هذه المركبات عبر التشكل البيئي مما أتاح استثمارها في تفعيل الثورة؟
    بالنسبة لمركبة الإنتاج فإن أول ما نلاحظه أن الإنتاج الزراعي هو المشكل الأول لهذه المركبة، والزراعة في ذلك المجتمع ارتبطت بالوسائل الطبيعية المباشرة كالمطر، وفيضان النيل، والتي لم تكن تتعلق – وقتذاك - بمعرفة الإنسان المباشرة وإنما تستند على قوى عليا يعلق الإنسان أمله عليها، ويؤمن الإنسان بدفعها للنجاح في سبيل تحقيق الإنتاج، أما الفشل فهو من عنده باعتبار أن الإنسان كائن عاجز ومقصر أمام قوى مطلقة لها مقدرة فاعلة على مستويات واسعة في حياته. وارتباط المركبة الإنتاجية بالعامل الفوقي يجعلها من الممكن أن تستجيب لأي قوى من شأنها أن تعمل على تعديل الإنتاج عبر "مسار فوقي" يستمد قوته من الدين، وهذا ما استفادت منه الثورة المهدية عندما رفضت أساليب النظام التركي الاقتصادية، لكن ما سوف نستنتجه أن الهدف الرئيسي لم يكن يتعلق بتعديل المربكة الاقتصادية فالمهدية "أقامت دولة أكثر مركزية وأكثر ضرائب، وأكثر قدرة على قمع المتمردين".
    أما بخصوص مركبة العقل، فقد سيطرت على العقل الفعالية الميتافيزيقية الفوقية، حيث أن البنية كانت صوفية خالصة تعمل وفق قانون التعالي الصوفي، وقد وعي محمد أحمد هذه المركبة واستفاد منها أكثر عندما أدخل الوعي الديني المتمثل عبر الصوفية في إطار "ثورته". هذا الوعي الذي عندما تمكن من موقعه السلطوي، كان أن جرّد الصوفية من أبعادها ليمركز نفسه على منهج يستمد ذاته من المركزية الجديدة، التي اتخذت الصوفية كوسيلة لغاية. ويظهر هذا الدعم الصوفي في استمداد محمد أحمد لبنية الوعي الصوفي واستغلالها، فإعلان مهديته سبقه تصوفه، وإنشاء خلوته، وعندما أعلن المهدية كان أول ما دعمها ما يعرف بكرامات الأولياء – أي البعد الميتافيزيقي للصوفية عندما تتسامى عن بعدها المادي عند أهلها أو كما يرون.
    ولم يكن محمد أحمد هو الذي بسط لنفسه الطريق بمفرده حيث ساعدته جهات لتدعيم فكرته عبر مستوياتها الغيبية، وحاجتها إلى التمكين السياسي لنفسها، وهذا ما فضحه المستقبل، حيث أن (الخليفة عبد الله) عندما قابل محمد أحمد لأول مرة وهو يبني قبة شيخه القرشي ود الزين:"قيل أنه لما رآه وقع مغشياً عليه، ولم يفق من غشيته إلا بعد ساعة أو أكثر وأغمي عليه ثانية لما نظر إلى إليه محمد أحمد، وحكى عبد الله لمحمد أحمد أن له أب صالح من أهل الكشف وقد قال له قبل وفاته إنك ستقابل المهدي وتكون وزيره وقد أخبرني بعلامات المهدي وصفاته فلما وقع نظري علك رأيت فيك العلامات التي أخبرني بها والدي بعينها ". ويتضح من المشهد "الدرامي" مجموعة من القضايا الهامة، والتي تعكس لنا كيف كان أول لقاء بين رجلين قادا مسيرة "الثورة"، ذلك اللقاء الذي بدأ أشبه بحكاية أسطورية، بيد أنه واقعي، واستخدمت فيه كافة أساليب مركبة العقل الجماعي ليفعل منطلقاته الخفية، ويسلط خطابه، لكن الخطاب يفضح نفسه من داخله حيث يتضمن داخل بنيته رائحة البعد السياسي " وتكون وزيره". وهذا يفسر كل القصة التي لا شك أن الخليفة قام بنسجها متماشيا مع موقع هذا الخطاب الذي ينتهجه المهدي لتأييد نفسه، فكيف لا يرتضيه، عندما يأتي ليدعم حالته من رجل يريد منصبا معينا وقد فاز به. واستغل محمد أحمد كما تمت الإشارة سابقا مركبات الوعي الصوفي في العقل الجمعي، ليمهد ليقام حكومته، كأنما بنى أمره على قاعدة علم الاجتماع الديني التي تقول: "أن الدين يختلف عن الحكومة التي تهتم بالسلطة والفوقية". فلم يكن باكر الدعوة يدعو لإقامة حكم بديل للحكم التركي ولكنه كان ينادي بالعدل بدلاً عن الظلم. ومفهوم البحث عن العدل المستمد من فلسفة الدين لم يكن له موقعه من "الجماعة" – وقتها - كوسيلة للوصول إلى الحكم، فلقد استند العقل الجمعي على أن الدين يحمل في محتواه خلاصاً، لكنه لم يكن يفكر في أن هذا الخلاص سيتحول إلى دولة بديلة للدولة القائمة، وربما ظهرت هذه النية معلنة عندما بدأت معارك محمد أحمد في أبا ومن ثم هجرته إلى قدير، هذا من منظور القراءة الخارجية لعامة من تبعوا محمد أحمد، أما منظوره هو فيحكم عليه من خلال دوافعه الذاتية المبكرة في الاشتغال السياسي ومد نفوذه ليصبح قوة تصنع دولتها.
    وفي تجربة محمد أحمد نحو صياغة مشروعه السياسي تتجلى بعض عناصر الاستغلال لطبيعة المركبات التي تحيط بالدين كالرؤى والأحلام والرموز والنبوءات، "وهي ذات الأدوات التي يستعملها الدين لإيقاع الهيبة ولغرس القداسة في النفوس" كما يشير خليل عبد الكريم . وهي قاعدة قديمة منذ أيام (الجاهلية) فقد استخدمها عبد المطلب جد الرسول (ص) عندما استثمر كل هذه المركبات، ومراجعة سيرته تعكس لنا ذلك مثلما في حادثة زمزم، وحادثة النحر، وقد كان عبد المطلب وفق رؤية خليل عبد الكريم: "يعمل على ضرورة ضرب المثل بالنفس بداية وأهمية القدوة عند دعوة الناس إلى أية عقيدة، وهنا تلازمت أو تزامنت طبيعته المتألهة معه نهجه في مزج الدين بالدولة، وضرورة ذلك حتى تكتسب الدولة القداسة التي انغرست في نفوس المحكومين وأثمرت طاعة كاملة وانقيادا تاما ". وقد سار محمد أحمد بنفس الخطوات تقريبا حتى فرض القداسة التي توازي قداسة عبد المطلب وأعلن دولته في مزج حقيقي بين الدين والدولة، مستفيداً من الماورائيات، واعياً لقاعدة أن "كل المجتمعات بحاجة إلى نظام من العقائد والقيم والمعارف من اجل تبرير نظامها وتأمين شرعيته والحفاظ عليه". هذه العقائد والقيم تستمد نفسها من البيئة عبر مركبة عقل المجتمع والعناصر الحضارية لهذا المجتمع. والقيم غالباً ما تأخذ تمحورها الأسطوري بحيث أنه "عندما ننزع التركيبات الأسطورية من إطارها الاجتماعي/المادي والزمني، فقد تتحول إلى هلوسة. ووما يشير إلى استغلال الماورائيات من فجر دعوة محمد أحمد، قصته عن رؤيا النبي (ص) يقظة وأنه أجلسه وقلده سيفه وغسل قلبه بيده وملأه إيمانا ومعارف وأخبره بأنه الخليفة الأكبر والمهدي المنتظر وان من شك في مهديته فقد كفر ومن حاربه خذل في الدارين، وغيرها من القصص التي تدعم كيفية استثمار محمد أحمد لمركبات الوعي الجماعي والعقل الاجتماعي الكلي. وبشكل عام بخصوص المركبة الحضارية فقد تتداخل هذه المربكة مع عقل المجتمع غير أنه يمكن الإشارة إلى أن المهدية كانت تحوي في وعيها الداخلي ضرورة إقامة نظام سياسي يستمد معارفه وقوته من الإسلام كموازي لنموذج المدينة، وقد طورت المفهوم السلطوي للنظام الصوفي لتقيم نظامها الجديد، مستفيدة من التجربة الصوفية، وكان هذا التطوير قد امتد إلى بعض العناصر (المقدسة) والتعدي عليها – بمعنى أنها مقدسة من قبل عقل المجتمع – حيث أن محمد أحمد "قام بأعمال أنكرها عليه العلماء إذ أحرق الكتب إلا أصول منها، كالقران والصحيحين (البخاري ومسلم) وأحياء علوم الدين، والكتب التي أحرقها كان يرى أنها حجبت المنبعث من القران والسنة، كما أبطل العمل بالمذاهب الأربعة.


                  

01-31-2009, 09:10 PM

Adil Ali
<aAdil Ali
تاريخ التسجيل: 10-25-2003
مجموع المشاركات: 1641

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: المهدية والنزعة السلطانية الذاتية: (Re: emadblake)

    جديد عميق جدير بالقراءة.
    في انتظار بقية الحلقات.
    تُشكر يا عمدة،
    مودتي
                  

01-31-2009, 11:42 PM

emadblake
<aemadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
سنوات الخليفة: (Re: Adil Ali)



    سنوات الخليفة:

    هكذا تبدت الصورة في التأسيس لمشروع "الدولة الإسلامية الثالثة" في تاريخ السودان، من الحركة الإصلاحية الدينية إلى فتح الخرطوم سنة 1885. لكن تلخيص التلخيص أن "المؤسسة السياسية المهدوية" رسخت السلطان في مقابل أي "قيم مثالية" للدين، وجاءت على حساب المدنية السودانية حذفا، فما تحقق في العهد التركي قامت المهدية بشطبه في زمن وجيز، ليتراجع السودان عقودا إلى الوراء تخلفا وجهلا وتعنصرا. وهو ذات المشهد الذي يتكرر في مطلع الفترة التي جاء فيها انقلاب يونيو، لكن وبالنظر إلى تغير شروط العصر والحياة الإنسانية في عالم بفروض جديدة فقد كانت تجربة "الدولة الإسلامية الرابعة" مختلفة، وفقما حكمته الفروض الجديدة للعالم الحديث، في نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة، ولكن بالنظر إلى البنى العميقة للعقل والمجتمع والحركات السياسية سنجد أن التاريخ يعيد نفسه، كما درج القول. لكن من العبط الاستناد على هذه المقولة بشكل جذري، لأن المعالجة الأكثر علمية تتطلب الاستفادة من تراث الأمس تحليلا وتفكيكا وإعادة قراءته وربطه بما حدث لاحقا. حتى يمكن الباحث من تحليل مكمن الأزمة، عسى أن يقترب من أفق استشرافي أكثر سعة وبصيرة في إضاءة المستقبل.
    وبمجرد أن تولى الخليفة عبد الله الحكم بعد وفاة محمد أحمد، بدأت "حروب الردة الجديدة" في ذاكرة لا تعرف الإبداع حتى في شروط إنتاج الوقائع في حياتها، حيث كان عهد الخليفة القادم من غرب السودان، فترة خصبة للنزاع العرقي وتغلغل فكر القبيلة إلى درجة مخزية. وإذا كان "المهدي" أكثر سياسة وحكمة، في الحفاظ على التوازن القبلي والاجتماعي إلا أن هذا الحكم يظل قاصرا لأن محمد أحمد لم يعش الزمن الكافي ليمارس السياسة في الدولة، فهو إن مارسها فقد كان ذلك في مرحلة التأسيس والمقاومة، فالرجل توفي بعد ستة أشهر من تحقيق حلمه ببناء دولته العالمية حيث أن بعض منشوراته كانت تشير إلى هذا الأمر، وأنه كان يفكر في فتح مكة والحجاز. وهذه "النبوءات" التي أطلقها كانت إحدى الأسباب التي سارعت لتمزيق دولته بعد وفاته، بدخول الخليفة في صراعات خارجية كان في غنى عنها لو أنه التزم الحكمة وعرف قدر حاله. لكن نشوة النصر على الأتراك وفي زمن وجيز لم يتعد الخمس سنوات، كانت سببا في الظن بأن القادم أسهل. غير أن الخليفة ولو كان متعقلا وأراد بالفعل أن يسيّر مشروع "العالمية" لكان قد عمل على رأب الصدع الداخلي بدلا من تأجيجه وبشكل مخز، حتى لو أن البعض حاول تبرير ذلك، في كتابة مشحونة بالتناقضات، على سبيل المثال كتاب (العلاقات بين الخليفة عبد الله التعايشي وقبائل السودان 1885- 1898) لمؤلفه عزام أبوبكر علي الطيب، فهو على الرغم من اعترافه بأن الأسس التي اختطها الخليفة لتحقيق الاستقرار كانت تصب في محاولة إضعاف زعماء القبائل ومراقبتهم مراقبة مباشرة بحشدهم في العاصمة، "واقتضى منه ذلك اللجوء إلى العنف بل القسوة في أغلب الأحيان" ، مما ساهم إلى "أحداث هزة قوية زعزعت قوة التماسك التي كانت للسودانيين أيام المهدي". أيضا اعترافه بمسؤولية الرجل عن انتشار روح العداء، بقوله: "كان الخليفة عبد الله مسؤولا بلاشك عن انتشار روح العداء لحكمه في شمال السودان وغيره من المناطق النيلية، وذلك منذ بدأ العمل على تركيز السلطة والانفراد بها". وغيرها من "الاعترافات" والأحكام. رغم ذلك يحاول عزام أبوبكر أن يوجد تبريرات لكل ما جرى، منها قوله: "الحكم على الخليفة عبد الله هو من أصعب الأمور كما يقتضي كثيرا من التجرد، فالرجل لم ينل من التعليم والثقافة شيئا يذكر، كما أنه قبل كل شيء رجل بادية جاء من أقاصي غرب السودان ليحكم إمبراطورية مترامية الأطراف متعددة القبائل والأجناس" . ويمضي في ابتكار الأعذار.
    وأمثال "عزام" وغيره يقدمون قراءات لا قيمة لها سوى التكرار والإعادة المملة، ولا تخدم في تطوير الوعي الاجتماعي والسياسي وإنتاج بنى أكثر تحديثا في المجتمع السوداني، وبمقارنة ما قام به عزام بما قام به "أبو سليم" رغم الفارق الزمني (عزام ثانيا)، سنكتشف ببساطة أن الثاني كان أكثر عمقا ورغبة في التحليل ومخارجة النص عن سلطته. بيد أن مشروع أبو سليم يحتاج إلى من يستند عليه ليطوره ويقدم أطروحات جديدة، تنفصل عن الخوف القابع في النفوس من "تابوهات" القبيلة والعرق والدين. فكثير من المشروعات البحثية في السودان تتسكع دون أن تدخل قصور أشواقها خوفا من المجتمع وسلطة الطوائف المتغلغلة سلطانا وجاه لأكثر من قرن، في بلد يحتاج لعقول جديدة وأكثر نضجا.
    إن القراءة لتاريخ السودان وبشكل غير روتيني سوف تكشف أن كثيرا من المشاهد التي عاشها السودانيون في "سنوات البشير" لم تكن سوى اجترار للماضي، سواء بأسلوب ردة الفعل أو بالمباشرة، أعني كقضية دارفور، التي قد يمكن فهم بعض جذورها من خلال الرجوع إلى الوراء في عمق التاريخ السوداني. وما فعله الخليفة عبد الله في إشعال نار الفتنة بين أهل النيل وأهل الغرب، لا يفسر جملة الصورة، لأن ثمة أمور أكثر تعقيدا تتعلق بتاريخ آخر مسكوت عنه في كثير من تفاصيله كقضايا الرق والفوقية التي يشعر بها أهل الشمال من ناحية عرقية بحتة، وليس لها أدنى علاقة بمفهوم "الإيمان"، لو تمت إجازة الفكرة الأخيرة مجازا. كما يتعلق الأمر بقضية أكثر "حساسية" هي تحول المجتمع السوداني السريع من المسيحية إلى الإسلام، وأشواق الدولة الإسلامية المعلقة في هامش من هوامش الخريطة التقليدية للعالم الإسلامي.
    والمطلوب من الجميع هو تجاوز شروط الوعي التقليدي للذات، بمحاولة إبداع "هوية جديدة" تقوم على أسلوب حداثي مدني، عصري. وهو حلم لكن يكون صعبا، فـ "سنوات البشير" رغم الإخفاقات التي صاحبتها إلا أنها حملت إيجابيات على صعد أخرى، وهو ما سيتم طرحه لاحقا. ومن أجل الدقة فإن هذه الإيجابيات تم كثير منها بشكل غير مقصود ودون وعي من السلطة، حيث أن الحراك الاجتماعي والحداثي والأسئلة الجديدة التي طرحتها تحديات الحياة في السودان خلال العشرين سنة الماضية، كل ذلك تقاطع مع المشهد العالمي وتسلح به، وتناغمت جملة عوامل مرئية وغير مرئية لتصوغ خطاب مستقبلي جديد للحياة في السودان، يمكن أن يعيد إنتاج الدولة السودانية في المستقبل القريب وعلى نحو أكثر جمالا وسلاما وحكمة، لو تم توظيفه بناء على رؤى علمية وإستراتيجية وبتجاوز الفوقية والأنا وضحالة النظر المؤقت للأشياء.


                  

02-02-2009, 10:33 PM

emadblake
<aemadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: سنوات الخليفة: (Re: emadblake)

    انتهى الفصل الاول

    وسأدرج بعده الفصل الثاني والفصل الاول تسبقه في الكتاب مقدمة رأيت عدم ادراجها هنا
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de