المكان : أمام إدارة الدفاع الشعبي – شارع البلدية – الخرطوم
الزمان : ساعة شؤم ( مستعارة من رواية ماركيز )
يلا يا شباب قالها شاب بلحية حديثة عندما توقف الباص أمام المبنى، إنه الشتاء برائحته المختلفة، هذا الفصل المحبوب بالنسبة لي سيكون فصلا مزعجا مع نهاية العام، الطريق إلى جامعة الخرطوم يبدأ برأس بلا شعر وقفز بهلواني على طريقة الأراجيز، صعدت، صعدنا، صعدوا إلى الباص وأنطلق بنا، اشتعل الكاسيت بالأناشيد ( الجهادية )
أمريكا روسيا قد دنا عذابها علي أن لاقيتها ضرابها
بين ليبيا والسودان والعراق واليمن وحدة إلى الأمام فوق هامة الزمن
كان الزمن يتقاعس إلى الوراء وفي داخل الباص المحتشد بالرؤوس الصغيرة، أندس رأسي بين فخذي وبدأت في البكاء، من حقي أن ابكي في اول غربة لي داخل الوطن، وأنا أبتعد لأول مرة عن بيتي لشهرين كاملين، كنت كم يبكي مستقبله الضائع لا شك، نحن جيل بلا هوية، بلا أمل، جيل سيسرق حدقات العيون الغائصة في وحل الدروب القادمة بالحلم المقتول
ينطفئ النهار على عجل كأنه بدأ للتوّ، كأنه نهار بلا أنثى تدقدقه، لكنه نهار الطريق إلى الجنة، نهار أفراح الروح مع سيد قطب، نهار إبراهيم عبيد الله وهو يقص لنا كيف أسس عثمان بن عفان لمفهوم الإدارة في الإسلام، الإسلام في حد ذاته ينشطر لثلاثة ديانات، إسلام نصلي من اجله وبه أكتشف أبي أن الحياء ديدن الحر، وإسلام مقوس الظهر كجمل صحراوي يسير بلا خارطة إلى متاهات التيه والانكسار وغربة المؤمن الذي يبحث عن الله خارجه وهو أقرب إليه من حبل الوريد، وإسلام سيعصف بعظامنا الصغيرة إلى الخلاء، يجعلنا نلوك البسملة بدلا عن اللبان المعتق بالحرية
أنزلوا .. نزلنا .. قفلوا صفا .. وقفنا .. صفا .. انتباه .. عزة في هواك .. رأيت خليل فرح حزينا، ورأيت ضراع عازة منكسرا، ورأيت أمي في بيتنا تبكي وهي تقول : " دي جامعة شنو البتودي للموت ". نعم رأيتها من على البعد في رمال القطينة الباردة وهي تستعر حرارة مع الشمس التي تخشى أن تتعامد على المكان خوفا من رائحة البارود. ألبس .. لبسنا الدمور، ومع الدمور تذكرت شندي وأهلنا الحلب وبقايا الفول الذي تعسر هضمه، أكلته هناك عند الكشك في محطة الباص الشنداوي. كانت الأيام تلبس سوادا أعظما وعيني تغرورقان بالدموع والأسف
يلا يا ولد ما تأخرنا.. ربطت البوت الأبيض ربطة مقهور منكسر، وعودت نفسي المشي على السراط المستقيم الذي سأصل به إلى الجنة الموعودة، وقلت في سري وأنا أستغفر الله العظيم " يا ولد هو الجنة معقول فيها جنود" الجنود مكانهم النار، مع فرعون وثمود، ألم يأتك حديثهم وحديث الغيب الذي تعفن فجأة مع الوجع الذي سيحاصرك منذ هذه اللحظة
الكتيبة ثلاثة – السرية خمسة - الخيمة رقم 67 – يلا شد الخطوة، كانت خطاي متثاقلة من الجوع والقهر وإحساسي بالخوف من المجهول، لم أشد الخطوة، شددت حزني فأنكسر بصوت قاهر جاء من وجه يشبه التبش الني:
- أنت يا ولد مش ماشي الجامعة
- ايوه
- هنا برضو جامعة .. هنا الأساتذة اللفي الجامعة جاءوا وأنسحقوا في التراب، أنت شنو يا جربوع
جربوع .. اعتصر قلبي الألم، كنت ضعيفا لا أقدر على المقاومة، المقاومة لا تأتي من صبي لم يخبر العالم بعد، هل سينسحق حلم أبي بأن أكمل دراسة الهندسة واصير مهندسا كبيرا، قبل أن أجيب على السؤال الذي سيظل بلا إجابة وجدت نفسي ابصق دما ودموعا، قلت لنفسي :" آه ما هذا الشقاء " وقال لي الشقاء من حولي : " ولات حين مناص "
تأملت في الفراغ من حولي، صحراء ممتدة وخيام ومبني صغير هناك في نهاية المعسكر، وفي مرمى الأفق البعيد يقع النهر، هل سأهرب يوما إلى هذا النهر ليحملني إلى بلدي في الشمال، لا أريد الجامعة يا امي، أريد أن أكون صبيا غبيا في الحلة يفتح متجرا صغيرا ويبيع الطلح للنسوان، لكن هل سيتركوك، ألا تتذكر محمد ود عجبنا عندما فتح الطبلية في الحلة وجاءوا ليحملوه في الدفار، سألت جارتنا مريم وأنا أقف أمام الدكان لاشتري النبق لي ولأختي اسماء، من هؤلاء ؟ . قالت لي : " هس ولا كلمة ما يسمعوك ".
وماذا لو سمعوني؟ ماذا يا مريم ؟ هل هم كائنات قادمة من كوكب آخر تختطف الصبية من أمهاتهم، في ذاك الزمن شاعت شائعة لا يعرف أحد هل هي صحيحة أم لا عن رجال يقبضون الأطفال ويمصون دمهم بحقن وأبر طويلة ثم يرمون الصبي ويهربون، تخيلت نفسي أقع في قبضة مصاصي الدماء، رأيت جو رجي آمادو الكاتب البرازيلي وهو يقود أولاد الشمس إلى مدن الرمال الجديدة في الصحراء، رأيت العقاد وعبقرية عمر، رأيت سيد قطب في ظلال قرانه، رأيت دومة ود حامد تقع على رأس أمحمد فتصنع له كدمة كما وصفها بشرى الفاضل، رايت قانون الجاذبية يفضح ذاته أمام قوانين جديدة، رأيت الأله ديكه، إله العدل القديم في ممالك مجهولة، يدس راسه في التراب مثل النعامة ويقول لا حول ولا قوة إلا بالله، كان قد قضى أعواما بين البشر يعيش معهم في البيوت ويمشي معهم في الأسواق والأشواق ويتغوط في مراحيض السوق الغارقة إلى فمها بالبلوى، وفي يوم ما بعد أن أقتنع بأن البشر لا يستحقون محبة إله العدل بصق فيهم وغادرهم إلى السماء، ينظر من علُ إلى وقاحتهم
(عدل بواسطة emadblake on 06-23-2003, 02:05 AM) (عدل بواسطة emadblake on 06-23-2003, 02:11 AM) (عدل بواسطة emadblake on 06-23-2003, 03:06 AM)
06-23-2003, 03:03 AM
emadblake
emadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791
سيبدأ الماراثون الصحراوي الآن وعليك بالحيطة الخائبة عن الحذر، حيطة من لا أب له ولا أم يتيما يبحث عن أبيه الضائع، طابور العصر أول طابور ستدخله، بمعنى آخر اول فرن ستنضج فيه في طريقك إلى الجنة الموعودة، تقف في الصف مترخي الرأس، تكتشف فجأة أن لا رأس لك، ولا عقل، وقد نما لك ذنب طويل، وبدأت في جني الذنوب، أذن الذنوب التي ستجنيها من ثمرة الجند هي التي ستقودك إلى الجنة،
يأتيك صوت من مكان بعيد يقول الصوت : نحن كرري شهيدنا لينا. تنسى كل التاريخ الملوث بالدم في بلدك ، تنسى من أنت ومن تكون، هل يستطيع حيوان ماركة أنميل فارم أن يتذكر أو يفهم، يقف إلى جوارك معتز على الحاج هذا الشاب السني المتزمت الذي لا يعتقد إلا في كتابات الإمام محمد بن عبد الوهاب، كان يقرأ في الظهيرة بعد أن دخلتما الخيمة سويا في كتاب ديننا المعاصر لمحمد قطب، قال لك :
- محمد قطب رجل لن يكتب التاريخ مثله أبدا لو اهتدى العالم بكتابته لصلحت الأرض - يا معتز الأرض فاسدة هذا كلام غير صحيح - يا عماد نحن أمة بلا قيم - من أين تولد القيم - من ديننا من التوحيد - هل قرأت رواية موسم الهجرة إلى الشمال - هذا رواية فاسقة لكاتب فاسق - صلاح من الله يقول في زاوية باختصار يجب أن تسمى موسم الهجرة إلى الحضيض لكني لا اتفق معه - أنت فاسق مثله
لا ينتهي الحوار، ما بعد طابور التاسعة مساء وقبل أن ينتهي اليوم الأول تذكرت من جديد أولاد الحلة والمساء الجميل في السوق عند دكانة أولاد حسن عوض يتناقشون في أمور الدنيا والزراعة والترعة التي وعدت الدولة بشقها قبل عشر سنوات ولم تشقها إلى الآن لا بد أنهم يتكلمون في هذه اللحظة عن المحافظ الجديد اسمه فلان بن حيدر، أخوه شاب متطلع درس معنا الهندسة، المحافظ الجديد لم يفعل غير أمر واحد باع مبنى المحافظة التي بناها النميري وافتتحها في عرس بهيج، واشترى مبنى القضائية ليكون مقرا للمحافظ، الصفقة جملتها 25 مليون جنيه سوداني، يا لبؤس عملتنا، ويا لأحلام محافظينا الصغيرة جدا، تذكرت قصيدة حميد وهو يقول للرجل الذي سرق الملاية ودخل بجرمه السجن :
صحيت بالمؤذن وحالتك تحزن تبكي الجبال حليك بتسرق بتسرق ملاية وغيرك بيسرق خروف السماية تصدق في واحد بيسرق ولاية
قبل أن أحلم جيدا في منامي على وسادة القماش المحشوة بقطن الرمل استيقظت على صوت المؤذن، كنت تماما كصاحبي اللص حالتي تحزن ووجعي يكبر وذنبي يطول. كان معتز قد استيقظ ليقول لي الصلاة الحاضرة خير من الصلاة المؤجلة، قلت له فهمنا، أنت عاوز تدخلنا الإسلام من جديد، أنا جدي كان عندو خلوة. وقفنا صفوفا كالبنيان المهدود، ووقف الأمام يقرأ سورة البقرة " الحلوب " وبعدها سورة النساء. وكنت في تفكيري أقول هل الصلاة خير من النوم. لو كان الأمر كذلك لنمت. الصلاة التي لا تكسبك محبة الناس واحترامهم لا حاجة لك بها، بشرط ألا تحب من كان ثقيل الظل، وهؤلاء كثر ستقابل منهم خلال الأيام القادمة هشام الذي رايته البارحة في الحلم جالسا في مأدبة يدعوك للأكل فترفض، كان يأكل لحما نيا، يستمتع بأكله، تتذكر أيام الضلال عندما كنت تعتقد بأن الجنة طريقها واحد لا يتغير، فالجنة في السماء وروما في الأرض. جلس هشام في تلك الأيام على الجانب الآخر من المائدة، يعض الموز والمانجو، قال لك عصمت الذي أصبح سيد البلد بعد سنوات وأمتلك بقدرة قادر محطة البنزين في موقف المواصلات : " هشام بدأ مشواره معانا بالأكل ". نعم بدأه بالأكل، وسينتهي بالأكل، هشام الذي صعد سريعا في الحياة وتزوج قبل كل أولاد الحي، من أجمل البنات، وحج قبل أن يستطيع إلى ذلك سبيلا، ذهب إلى الجنوب خمس مرات هذا ما تعلم، وما لا تعلمه هل كان الجنوب الذي يقصده كوستي أم الجنوب الحقيقي الذي تستعر فيه النار، تعرف أنه جبان، ويوم تحديته بقطع لسانه سكت وهو يطارد الطلاب في موترسايكل مرتديا قناع عند بوابة النشاط الطلابي في الجامعة حتى لا يعرفه أحد. قال لك معتز الذي سيصير بعد ذلك أعز أصدقائك : " يلا على الخيمة " رجعتما سويا، رأيت نورا يصعد إلى السماء من جبينه، هذا الولد من أحفاد الكرام البررة، هكذا قلت في سرك، لكن الحقيقة التي اكتشفتها بعد ذلك وبعد مضي ثلاث سنوات في الجامعة أن صديقك سيطلق محمد قطب، ومحمد بن عبد الوهاب، وسيستبدل المحمدية بالماركسية تارة وبأشعار لوركا تارة وبقراءات متفرقة في كتب الحداثة بعد أن قضى عامه الأول في الجامعة في مطاردة الفتيات اللائى لا يتحجبن، ينبشهن بالقصائد المقفاة على طريقة الخليل بن أحمد الفراهيدي، الحداثة بالنسبة له نوع من العبودية الجديدة والاستعمار المغلف، وقتذاك لم تبزغ فكرة العولمة بعد ولم يولد الإنترنت، ولم تبدأ أشياء كثيرة في العالم في التشكل، ربما لأن المرء يفهم العالم على طريقته وبقدر وعيه لا أكثر. فقط ما حدث أن سور برلين أنهار وأنهارت الدولة السوفيتية، ودخل بن لادن وجنوده السودان، بدات شركة ما في بناء طريق يربط الخرطوم بمسقط راسك، أخيرا سيضحك القدر لأهل الشمال، ثم يبصق في وجههم بعد قليل.
(عدل بواسطة emadblake on 06-23-2003, 03:13 AM) (عدل بواسطة emadblake on 06-23-2003, 03:20 AM)
06-23-2003, 04:09 AM
emadblake
emadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791
الحياة لا تحتمل المرارة إذا ما جاءت هذه المرارة من غير ما محبة، نحن جيل فقد الطريق إلى الجنة في الأرض وسيفقد الطريق إلى الجنة في السماء وعلينا أن نصدق دائما أن خطايانا لن تغتفر هذا ما قاله لي قلبي ولا أدري متى كان المقال بالضبط، رأيت الرمال باردة وفي تلك الليلة القريبة البعيدة ابتكر الطلاب مصطلح بولندا الذي يعني أن تتبول قريبا من الخيمة حتى لا تهاجر إلى الحمامات البعيدة وما حدث أننا هاجرنا ما بعد ذلك هجرة من لا رأس له ولا ذنب، انقطع الذنب المسكين لنعود بشرا بلا هوية تبحث عن أذنابها المقطوعة، كان أحد الأصدقاء يتندر علينا بأن الدورية ستطارد أمير الذي يريد أن يقضي حاجته عند الزرع وراء الخيمة، أمير الذي ستسرقه الحياة الآخرة سريعا، ويكون موته مفأجاة لي، نوع من القدر المحتوم القابل للشك، هل مات أمير، هل ماتت أحلامه ومات الولد الاشتراكي الذي كان يتمتع بصدق عال وبصيرة قوية في هذه الدنيا التي تفتقد لأصحاب القلوب البصيرة إلا من رحم ربي.
كان موته في غرب السودان ذهب هناك لأداء الخدمة الإجبارية، ويقال والعهدة على الرواي أنه شرب من ماء عكر، عاد الى الخرطوم محمولا الى المستشفى ومات بعد أن أحس بطعم العافية، كان موته نهاية لعالم جميل، وجلسات صدق صافية، وذكريات لشهور أطول من آلاف السنوات قضيناها في تلك الخيمة، كان رحمه الله طويلا وكان معتز طويلا، وعندما ننام تضرب رجل أمير برجل معتز، فهما نائمان في اتجاهين متعاكسين، في خيمة بها عشر طلاب، أقصد جنود مجندة.
دائما ما يهرب أمير من طابور الليل وأحيانا تدريبات النهار بطرقه الخاصة المبتكرة، والتي لم يفلح الضباط في اكتشافها، مرة يتجسد ملتفا على سارية الخيمة كأنه جزء منها، ومرة أخرى يدفن جسده في الرمل ويترك راسه داخل وسادة القماش فإذا أحس بحركة العسكري يفتش عن الهاربين عصر أنفاسه وأفلح في الإندساس حتى تروح أصوات الأقدام العاثرة. ولم يكن يصلي معنا في الحوش الكبير، وهذا أفقده فرصا رائعة لمشاهدة العديد من المسلسلات الدرامية الهائلة التي كانت تحدث أثناء الصلاة، ومنها مسلسل الأفعى التي ظهرت فجأة فخربت صفوف الصلاة وجعلت الطلاب يهرعون إلى الخيام، أما سيدنا الإمام فقد أكمل القراءة على عنت.
لديه راديو صغير يشغله في آخر الليل هذا إذا لم يمتد طابور التاسعة إلى الصباح الباكر، وقد ادخل الراديو إلى المعسكر بحيلة لم يقصها لنا، فممنوع على الجندي الذي يريد الذهاب إلى الجنة أن يسمع الأخبار فالأخبار فتنة من فتن الدنيا، والمؤمن لا بد أن يفتن، وعندما حدثت حادثة الأفعى سماها الإمام بعد نهاية الصلاة فتنة، وقال هناك من يعملون على الفتنة بينكم، ولابد من الإبلاغ عنهم، ومن يتأخر فأثمه كبير، فسأله أحد الطلاب الأبرياء : " أنا لا أعرف شيئا هل سيصيبني ذنب ". قال له الإمام : " لا عذر لمن أنذر وعليك بالاجتهاد " .
وصاحبنا هذا ظل على حالة نفسية ليومين كاملين يخشى أن تصيبه دائرة السوء لأنه أجتهد حسب قوله فعرف من فعلها من الطلاب، لكنه تعرض لتهديد، إذا نطقت بكلمة فسوف ــــــــ ، كان مسكينا على حد ما يمكن وصفه، وعاش ألمه بين التصريح بالقول أو الرضاء بعقاب الفتنة. وبعد يوم ثالث نسى الأمر، لأن فواجع وفتن أكبر حدثت منها التمرد الكبير في المعسكر الذي جعل وزير التربية والتأليم العالي يظهر في التلفزيون ليقول : " أيها الهاربون من القطينة من عاد عاد ومن لم يعد فلا جامعة له ". وجاء بعد ذلك إبتكار ما سمي بالسرية الخامسة والتي خصصت للخارجين عن القانون والنظام والذي يخرجون في المرض الصباحي أدعاء لا واقعا، والذين يهربون في الليل إلى مشارف مدينة القطينة بحثا عن الباسطة والبسبوسة والتمباك والسجائر وأن كان بعضهم أعوان لجنود صغار يتفقون معهم على الهرب والعودة مقابل علبة سجائر لكل جندي أو كيس تمباك فاشري أصلي .
يقول الرواي في شأن التمرد الكبير الذي حدث في ذلك اليوم أن الشرارة بدأت تحت مظلة الطائرات، تحديدا بعد صلاة العصر الإجبارية، أنتهت الصلاة بالدعاء الكبير لنصر الأمة الإسلامية وقيام دولة الإسلام التي ستسود إلى قيام الساعة.
بعد الصلاة بهنيهات قليلة، كانت طاولة قد أحضرت وجلس ورائها رجلان أحدهما أمير المؤمنين الذي يحكم المعسكر والثاني تعرفنا عليه بعج قليل هو قاضي القضاة في مدينة القطينة، ما الذي سيحدث، لا شك أنها محاضرة مثل المحاضرات اليومية، إذن ستكون محاضرة اليوم عن تاريخ القضاء في الإسلام هذا القضاء المفعم بالعدل، ستكون محاضرة تطبيقية بخلاف كل المحاضرات السابقة وسيطبق فيها الجلد 25 جلدة على الطالب الذي سب الديانة أمام احد الضباط، تلا القاضي المحضر ثم صاح أحد الجنود
محكمــــــــــــــــــــــــــــة
الأمر بالوقوف، من لم يقف فهو عاص، وصاحبنا الطالب كان واقفا في الحالتين، قال القاضي الذي سيسجل التاريخ اسمه مضيفا إياه لقضاة العدالة الناجزة الأيلولية :
بعد أن ثبت بما لا يدع مجالا للشك وبشهادة الضابط ـــــــــــــ أن فلان بن فلان سب الديانة الإسلامية، فستقوم المحكمة باستتابته الآن، ومن ثم جلده أربعين جلدة عبرة لم يعتبر.
محكمـــــــــــــــــــــــــــة
صاح الجندي من جديد وقال أمير المؤمنين
أبنائي الطلاب كما تعلمون جميعا أن الهدف من هذا المعسكر هو التربية التي تجعلكم تحبون الله والوطن وتعملون بإخلاص لدولة الحق والعدالة والجهاد ولذلك فقد كان من الممكن أن يحاكم هذا الطالب في القطينة، ولكن أتينا بالقاضي هنا ليكون الأمر عبرة لكم، ولكي يتأدب الذين تسول لهم أنفسهم وليعلموا أن دين الله حق وأن الله لا يغفر للذين يصدون عن سبيل الله
أنتهت الخطبة
قبل أن يبدأ الجلد، وقبل أن تكون التوبة النصوح للطالب الذي لم يبلغ الحلم، أو بلغه قبل مبلغ أمير المؤمنين، قال الأمير :
هل هناك من لديه سؤال أو استفسار لمولانا – يعني القاضي –
تجشم القاضي وانتفخت أشداقه اللولبية حتى لكأنه لو وضع داخل بالون بحجمه لطار به من الخفة التي اكتسبها.
وقف عوض الكريم الطالب الذي سيكون أحد أعمدة أركان النقاش البارزة في الجامعة فيما بعد ليقول قوته المشهورة : لدي استفسار لكم جميعا
قال له الأمير : تفضل
فقال عوض الكريم ما معناه : أنكم أتيم بنا دون رضانا ودون رضى أهلنا فكيف تريدون أن يرضى الله عن هذا السجن الذي تضعونا فيه، وهذا الطالب الذي تحاكمونه الآن لم يرتكب جرما أفظع من ــــــــــ
لم يكتمل الكلام، تعالت صيحات متفرقة تقول الله أكبر من تحت الهنكر الكبير، امتزجت مع صوت السوط العنج بعد أن بدأ التأديب والضرب بالفعل، وفي لحظة من اللازمن تحولت الله أكبر لقوة انطلقت من الحناجر الطلابية في غير ما أريد بها في العادة، الله اكبر تصاعدت مع فوضى لا شعورية ضربت المكان، اختفى الأمير والقاضي واشتعلت النيران في المعسكر، كسر الطلاب أواني الطعام وأزيار المياه وبوابة المعسكر وبدأوا في الهرب إلى الشارع المؤدي للطريق البري الواصل بين الخرطوم وكوستي.
عماد المذكرات ممتعة للغاية، وتغطي حقبة هامة من تاريخ بلادنا، نحيي قلمك النشط المثابر ونتمني ان نري رواياتك ومذكراتك مطبوعة قريبا، الم تحاول ان تهرب مثلما فعل عبود من قبل، مزيدا من الابداع
06-24-2003, 00:39 AM
emadblake
emadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791
نحن نحتاج لهروب كبير جدا هروب يجعلنا نغسل ذواتنا ألف مرة وهذا النوع من الهروب المطلوب لن يتأتى إلا عبر إبداع مثابر نعمل عليه إبداع للتغيير وليس للتقليد والسير على ما وجدنا عليه السلف
الحرية التي نبحث عنها هي ثمرة الحلم في داخلنا يجب أن لا تموت
06-24-2003, 04:12 PM
ebrahim_ali
ebrahim_ali
تاريخ التسجيل: 02-05-2002
مجموع المشاركات: 2968
الأخ الغالي عماد البليك تحياتي لك يامبدع فمنذ فترة طويلة ولم نتقابل وكانت آخرها زيارتك لكلمون حقيقة الواحد في شوق للقياك ...هذه المذكرات روعة في السرد وفي نفس الفترة هذه انتم ذهبتم للقطينة ونحن ذهبنا لخليوة في عطبرة وكانت فترة عصيبة ملئية بالخوف من المجهول وما تخبئيه لنا الأيام وكانت أول مرة في حياتي أتجاوز حدود مدينة شندي للشمال ..وهذه الفترة مليئة بالكثير من الذكريات الحلوة والمرة .فواصل ياعزيزي لهذا السرد الرائع وتحياتي لك مرة اخرى
06-25-2003, 00:10 AM
emadblake
emadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791
القطينة ليالي الشتاء الباردة تلك فول تغوص حباته في ماء أشبه بما المطر فاصوليا بامبي كمية من التخلف والرجعية لا أصدق أني أجتزت تلك المرحلة وأنا بكامل قواي
شكراً عماد على استدعاء هذه الذكريات الأليمة
ومن سخرية القدر أن تجمعنا سرية واحدة وتفصلنا حسب ما تروي بضع خيمات
نادر
06-25-2003, 00:13 AM
emadblake
emadblake
تاريخ التسجيل: 05-26-2003
مجموع المشاركات: 791
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة