الأصدقاء هم الكابوس.. التحرر منهم هو اليقظة. عندما صرخت ثلاث مرات، وبصوت عالي جداً، كنت أتخيل أن من في المكان يسمعونني جداً، لكن لم يكن هناك أحد. كنت نائماً بعيداً عن غرفة طفولتي، عن أمي، وكان الأصدقاء يحاصرونني حتى في مناماتي، يستلبون حريتي وإرادتي. نمت قبل ساعتين فقط. ساعتين بالضبط. استيقظت نشطاً، لكنني كنت خائفاً، ربما لأنني لا أصلي، أو لأن علاقتي مع الله كانت متوترة، أو لأن أبي ذهب إلى الحج. تخيلت أنه غير راضٍ عني. أكتشفت تيهي في العالم وهو يدعو الله في فجاج مكة، عند بيتها المقدس. بالأمس كتبت الصحف.. مكة تغرق في الماء.. الحجاج حملوا المظلات يحتمون بها، وهم يدخلون البيت الحرام. قلت لزميلي في المكتب، سراً، لأنه لم يسمعني: "كانت زمزم تبحث عن الماء، ها هي مكة تغرق في الماء". تذكرت صورة أخرى في الصحيفة. الرئيس الإيراني محمد خاتمي يحاول أن يتقي الثلوج في منتدى دافوس. تحت الثلوج. كم هي جميلة هذه الثلوج التي تتجمع نثاراً كأنها المهدي المنتظر. قرأت قبل نومي حوار جمانة حداد مع أمبرتو إيكو. هذا الرجل الكابوس لم يفز بجائزة نوبل. فكرت وأنا أحاول التغوط في الحمام الذي دُهِن قبل يومين. أعتقد ذلك. يومين لا أكثر. لماذا لم يفز إيكو بنوبل؟ هل لأنه كتب الرواية بعد الخمسين؟.. فكرت أنه ربما يفوز خلال الأعوام المقبلة، إذا ما بقي على ظهر الحياة. فكرت في عبد الرحمن منيف الذي مات قبل يومين، هو الأخر بدأ الرواية متأخراً في سن الأربعين. تخيلت عام 1970 وربما 1972. حسبت المسافة حتى 2004. ثلاثون عاماً تقريباً. هل هي طويلة أم قليلة. لا أعرف. حاولت أن استجمع تفاصيل رواية "الأشجار واغتيال مرزوق". غابت عنيّ. ثمة ضباب هلامي لرجل يتحرك بحثا عن شيء ما. دائما ما أحب الكتابة على الكمبيوتر، أحيانا.. في الماضي كنت أكتب على الورق. الآن اكتب على الورق. إيكو يقول أكتب عندما تلاحقني الأفكار. يسخر بطريقة مغلفة من "مورافيا". (أكتب من الساعة الثامنة صباحاً حتى الـ ...) – ليس مهماً. سألت نفسي وأنا في الحمام: " هل أدمن إيكو عادة السهر مثلي؟". تذكرت كلامه عن روايته التي قرصنها ناشر عربي، بدا لي إيكو سعيداً أن تترجم له رواية، حتى لو ترجمت بطريقة مشوهة. لا أحد في العالم يرفض الشهرة، حتى لو كان مشهور جداً. ذكرتني القرصنة فكرةً. كنت أود الكتابة عنها. نسيتها! ما هي ؟ ما هي ؟ ما هي ؟ أفكّر.. أتنفس.. صعب عليّ أن أعثر عليها. إنه الكابوس يحاصرني في اليقظة! أشعلت سيجارة لأواصل الكتابة على الورق. تذكرت إيكو يكتب عندما تطارده الأفكار. حتى لو كانت الأفكار حجرية!.. عفواً خانني التعبير، اللغة كابوس! إيكو يكتب عندما تطارده الأفكار، حتى لو كانت. أُف. أُخطي مرة ثانية. أيكون يكتب عندما تطارده الأفكار. إيكو يكتب عندما تطارد الأفكار، أُف.. إيكو يكتب عندما تطارده الأفكار.. لم أخطي في المرة التي أنهيتها بأفٍ، لكنني استعجلت، ظننت أنني أخطأت. كم نحن محاصرون بالخطيئة. إيكو يدخن كثيراً. دخنت بالليل كثيراً قبل أن أنام لساعتين فقط. لا نصوص جديدة في العالم. الأبجدية هي التي تؤلف الوجود والنصوص. الكون معادلة تبادل وتفاضل. احتمالات واحدة لا تتغير. لا أدري لماذا ذكرتني عبارة "تبادل وتفاضل" بعجلة الملاهي الكبيرة في طوكيو، التي يبلغ ارتفاعها أكثر من 100 متراً. بالتحديد 115 متراً. لكنني كتبت في التقرير للصحيفة أمس "أكثر من 100 متراً". لماذا يهرب الإنسان من تحديد الأشياء بدقة؟ أن يقول الحقائق، حتى لو كان يدركها؟ حتى لو لم يكن هو المصدر الأول للدقة؟ كان مصدري مجلة يابانية مترجمة للعربية. في دراستي، أثناء الجامعة كنت أرغب أن أتعلم اليابانية لسبب لا أعرفه. كنت قد نهضت من سريري. كنت أكتب وأنا مستلقٍ. حركت لمبة الإنارة الصغيرة المخصصة للقراءة. كانت ساخنة في أسفلها. اشتريتها من " السيتي سنتر". تذكرت. أنا أشتري الأشياء وفق مزاج أصدقائي. قمت. أغلقت المروحة. شعرت بالبرودة في هواء الغرفة. أسمع صوت عربة كبيرة تتحرك في الشارع. ربما تحركت من أمام منزلنا. كنت أفكر وأنا أكتب كلمة (منزلنا) ما الذي سأكتبه بعدها! نظرت إلى الجوال. كانت الساعة السادسة إلا ثلاث دقائق صباحاً. كدت أن أكتب التاريخ. لم اكتبه. من الجدير. أو المهم. (أبحث عن مفردة مناسبة تضيع مني). يجب أن لا نقول ما هو التاريخ عندما نكتب. هل كتابة التاريخ تعني أن عملاً سيقاس بمسطرة الزمن. ستلاحق الأحداث داخل العمل وتربط بالحاضر، تحديداً بأزمنة حدوثها؟! لا أدري!! لماذا عندما جلست بشكل مريح، بدأت الكتابة في الهروب عن ذهني؟ عجيب هذا الذهن الذي لا يقبل الراحة! عجيب هذا الصباح المجنون! هذا الصباح السكران! كان صديقي يبحث في الليل عن قارورة خمر. اسمع صوت عربة ترن..(سوري)..(Sorry). تصدر صوتاً في الشارع..(هرنين).. لا أكثر. إيكو يكتب بلغة شعبية في عمله الأخير. يقول أنه متوسط الثقافة. هل من المعقول أن تملأ كتابة بترهات إيكو. اللعنة! زقزقة العصافير تعبئ الفراغ خارج الغرفة. فيل صغير من الجبص يجلس أمامي، أهدتني له البنت التي كنت أحلم أن أتزوجها، لكننا من عرقين مختلفين. أنا سوداني وهي فارسية. لم تكن تعرف أنني احبها. كانت تحبني. أمامي منفضة سجائري شاغرة. إيكو منفضته مليئة/ معبأة بالسجائر. عليّ أن أشعل سجارة إذن! أتوقف لأشعل سيجارة! انفث الدخان، أشعر بحرارة الجو. لكنني لن أفتح المروحة من جديد. طبلة صغيرة مغلقة إلى يميني. الجوال يشير إلى الساعة السادسة وخمس دقائق. إذن عبرت ثماني دقائق. لن أعود للوراء لأقرأ كم كانت الساعة عندما نظرت إليها في الجوال سابقاً. أعتقد أنني لم أخطي الحساب، رغم أن ذاكرتي خربة، منهكة. أتأوه. أراقب الأشياء من حولي. منديل ورق مغموس في ذاته. بقايا شاي من قبل ليلتين في الكوب. سماعة الكمبيوتر التي لم استخدمها منذ شهور. ندوة عن الإمام الجويني في الدوحة. متى كانت؟ الجزء الأسفل من الكتاب يختفي تحت طابعة الكمبيوتر. أرى الرقم 19 لكن لا أرى الشهر ولا السنة. يضايقني الدخان. أتأوه. أضع السيجارة على المنفضة. اقلب الورق لأعثر على الورقة التي سجلت عليها تفاصيل الحلم الذي انتهى بالكابوس! فوق الطابعة وضعت الأوراق. لا تحسبوا أنني سأبدا في الطباعة. أعني وضعت الورق على درج الطابعة، بالتحديد أعلى الدرج. كنت قد أحصيتها 9 أوراق. أكتب الرقم هكذا 9 دون أن أضعه بين قوسين، أنفض السيجارة، تبقى بها نفثان. هل هي (نفثان) أم (نفسان) ? لا أعرف، أضع علامة الاستفهام مقلوبة بالوضع اللاتيني. أتنفس. أشعر بالتعب. أعرف أنني لم أنم كما ينبغي. إنه الكابوس! لا أدري لماذا أكثر من وضع علامات التعجب هذا الصباح! هأنذا أضع علامة التعجب. . (نقطة) – بين قوسين. صوت عربة أخرى في الشارع. هذا الشارع الضيق الممل. أضع الورقة مقلوبة فوق كيس كان يغطي الطابعة. عينا الفيل سوداوين. جملتين. اسمها ـــ. شفتاه صغيرتين كشفتيها. ملونتان بلون الورد. وراء الفيل كيس. ماذا يوجد داخله؟ لا أذكر. أتوقف لأنظر داخله. توجد قطع خبز جاف منذ عشر أيام، لا أقل. ربما أقل. أو أكثر. لا أتذكر. ابتسم عندما التفت جانباً فوجدت ظلي جميلاً مع امتداد نظارتي. رأسي اكبر مني. فكرة الظل جعلتني أتأمل ظل يدي على الورقة. هناك لمبتان تنيران في نفس الوقت. لمبة صغيرة فوق رأسي. وأخرى كبيرة بعيدة عن رأسي، أعلى منه، ضوءها باهت. أقلب الورقة الثانية. لكن عندما أجمع الكلمات في الكمبيوتر لن تكون الثانية. الساعة السادسة و18 دقيقة. يجري الوقت سريعاً عندما نقبض عليه، ويتجمد عندما يفلت منّا. أقلب ورقة أخرى. ورقة أخيرة بيضاء في المجموعة التي أكتب عليها. أبدأ الكتابة في ورق أبيض. عفواً اصفر. ما هذا البياض الذي يحاصرني؟ كدت أن أنهي الفقرة، ترددت. لا أدري لماذا شعرت بأن فمي متعفن، احتاج لنظافته، أن أدخن سيجارة أخرى، وقبلها احتسي كوب ماء. لا يوجد ماء في الغرفة، سأشرب بيبسي. أنهض. أتوقف. شربت. رجلي اصطدمت بغلاية الشاي الكهربائية تحت الطاولة. لم تقع. كنت قد مسحت فمي بمنديل ورقي. لم أرمه. ما يزال في يدي. أقلب ورقة أخرى. أحرك رقبتي. أطقها. تطق. أتذكر الحلاق مطقطقاً رقبتي. لن أكتب عنه! اضحك. سأشعل سيجارة أخرى.
تركت مساحة للانتظار، في الواقع لم استطع أن أضبط المساحة. كنت قد توقفت مرتين. أشعلت السيجارة لأجد أنها لم تشتعل، كاد القلم أن يتحرك على الورقة، عندما أكتشفت أن السيجارة مطفأة. تذكرت "كوبرنكس" وقبته الهلامية، هذا الرجل الذي لا يحب فكرة أن تكون للأشياء مراكز رغم أنه يحترم الدائرة. عربة أخرى تتحرك، تحاول أن تتحرك في شارعنا الضيق. أقلب الصفحة، أدخل في الصفحة الأخيرة من المجموعة التي أمامي، شككت هل هي صفراء أم بيضاء؟ اختلاف لونيّ الإضاءة توهني، تأملت ظل يدي، كنت قبلها قلبت الورقة.. بيضاء في هذا الصباح. ذهب الكابوس! الأصدقاء هم الجنة!
(عدل بواسطة emadblake on 01-26-2004, 06:27 AM) (عدل بواسطة emadblake on 01-26-2004, 06:30 AM)
01-26-2004, 07:26 PM
rani
rani
تاريخ التسجيل: 06-06-2002
مجموع المشاركات: 4637
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة