أحلام قبل الرحيل الأبدي .. بقلم: بروفيسور / مهدي أمين التوم

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 12-15-2024, 11:31 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف الربع الاول للعام 2014م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
05-08-2014, 03:08 PM

مكي النور

تاريخ التسجيل: 01-02-2005
مجموع المشاركات: 1628

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
أحلام قبل الرحيل الأبدي .. بقلم: بروفيسور / مهدي أمين التوم

    Quote: أحلام قبل الرحيل الأبدي ..



    05-07-2014 01:02 AM

    بقلم: بروفيسور / مهدي أمين التوم


    بسم الله الرحمن الرحيم

    تتابع السنوات، ويتسرب العمر نحو مشارف الخامسة والسبعين، والسودان الذي حلمنا به، ونحن نشهد صعود علم استقلاله قبل ثمان وخمسين سنة، يبدو اليوم أكثر بعداً عن ما كان عليه يومذاك!! إنها مأساة أجيالٍ تفتحت على حرية استعصت على البقاء والاستمرار والنماء، فعاشت أهوال ثلاثة أنظمة شمولية قاهرة، وفوضى عدة أنظمة ديمقراطية عابثة، لنجد أنفسنا في أخريات أيامنا نعيش غرباء ومضطهدين في وطن لم يعد مليون ميل مربع، كما ورثناه من الآباء والأجداد، ولم يبقى آمنا في ربوعه كما وصفه الرحًالة والسائحون، بل لم تعد اللقمة فيه سائغة وافرة هانئة.

    كل شئ حولنا يدعو للإحباط، ولكننا لن نيأس أبداً من رحمة الله، ولن نفقد الأمل في انفلاق بذرة الخلاص المتأصلة في وجدان وجينات أهل السودان الطيبين الصابرين، على الرغم مما نحن فيه من خريف عمري عاجز ينبئ بالرحيل. لهذا لا نملك حالياً غير التفكير بصوت مسموع للتعبير عن أحلام مشروعة قبل الرحيل الأبدي، عسى أن تجد آذاناً صاغية في مقبل الأيام.
    حلمي الأكبر أن أجد الساحة السياسية خاليةً تماماً من كل من عبثوا بها خلال الثمان وخمسين سنة الماضية. أحلم بإزالة الإنقاذ حزباً وشخوصاً ومفاهيم، كما أحلم بإبعادها، قادة وحزباً، عن الساحة السياسية المستقبلية جزاء ما اقترفوه في حق السودان وأهله، وأؤمن أن في ذلك دفاع عن الحرية و الديمقراطية وليس تغولاً عليهما.

    كذلك أحلم بغياب الطائفية تماماً عن الساحة السياسية، وحتى الاجتماعية. إنها استعباد لا يليق بعالم القرن الحادي والعشرين واستغلال لإرث لا يملكوه ولم يصونوه. كفانا دوراناً حول أنصاريةٍ مزعومةٍ، وختميةٍ مدعاة، فتاريخ كليهما البعيد والقريب ينطوي على مآخذ ومحَن تؤهلهما للانطواء الأبدي.

    إن السودان بتاريخه وتجاربه يستحق أن يكون له نظام حزبي متقدم ينظم حياته السياسية على أسس ديمقراطية ثابتة تقوم على المؤسسية الفعلية وليس النظرية، وتستند على البرامج والسياسات ذات الآليات الواقعية، المتآلفة مع حقائق العصر، والمدركة لتطلعات الشعب، وليس لأطماع النخب، والمبتعدة عن الأيدلوجيات والمذاهب المستوردة والمفاهيم الدينية التي عفا عليها الزمن. إن من العبث أن يكون في السودان أكثر من ثلاثة أحزاب سياسية تتبادل الحكم وفق الإرادة الشعبية الحرة التي تتعامل مع الاحزاب كبرامج وليس كشخوص أو انتماءات طائفية أو قبلية أو دينية. إن أكبر ديمقراطيات العالم تتنازع الحكم فيها ثلاثة أحزاب فقط، فما بالنا نحن تتجاذبنا عشرات الأحزاب، وليس أياً منها جدير بهذا اللقب الدقيق.

    حلم آخر يراودني وهو أن يعود السودان مقسَماً إلى وحدات إدارية كبرى إنهاءً لعبث التشرذم الولائي الذي أضعف الانتماء الوطني عبر بعثه للقبلية والجهوية البغيضة، كما أنه لم يقصًر الظل الإداري، كما أدعى، بالإضافة الى تكلفته العالية. إن السودان الآن في حاجة ماسة لكي يحكم مركزياً، كما كان في الماضي، شريطة أن يواكب ذلك توفير كوادر إدارية مؤهلة وقادرة. قد يكون مهماً مستقبلاً البحث عن عاصمة جديدة للبلاد، كما حدث في بلاد أخرى كنيجيريا والبرازيل وباكستان، لكن في المستقبل المنظور يمكن أن تبقى الخرطوم عاصمة قومية في هيئة مدينة كبري كواشنطن ولندن، بينما يتوزع باقي السودان في خمس مقاطعات فقط هي: دارفور، كردفان، الجزيرة، الشمالية والشرق، وتعود بذلك مركزية العدالة والأمن والتخطيط الاقتصادي والاجتماعي والخدمي، بأيدي رجال ونساء لا يحتاج المرء للسؤال عن أصولهم وجدودهم ولا يطمع أحد في انحيازاهم القبلية أو الجهوية. إن نجاح كل ذلك يرتبط بحلم عودة الخدمة المدنية المتميزة التي كانت لها دولة سادت في أجواء السودان منذ عهد الاستعمار لكنها بادت تحت ضربات العبث السياسي الشمولي، بخاصة في عهد الإنقاذ وما ارتبط به من فلسفة التمكين التي جعلت الولاء يتقدم على الكفاءة، فإنهار الموروث الإداري الذي كان فخراً للسودان، تحت سمعنا وبصرنا ونحن عاجزون، لكنا سنبقي نحلم بعودته وعودة مفهوم وكلاء الوزارات الدائمون ليفهم السياسيون أنهم مجرد لاعبين مؤقتين بينما للدولة حَراس دائمون.

    إن التعليم هو أساس المستقبل ولكنه الآن محتضر وأحلم بإدخاله غرفة الإنعاش رحمة بمستقبل هذه البلاد العظيمة التي لم تحظ أجيالها الصاعدة بتعليم يجعلنا نطمئن على مستقبلهم ومستقبل أبنائهم، وهم قطعاً ليسوا مسؤولين عن ذلك. فالتعليم العام يحتاج إلى إعادة صياغة هيكلية وعلمية، وفي هذا الصدد أحلم بإعادة ثلاثيته المجرًبة: أساس ومتوسط وثانوي، ولكل مرحلة سنوات أربع تليها تصفيات طبيعية عبر منافسات أكاديمية عادلة تؤهل البعض للتقدم علمياً، كما تؤهل آخرين للتقدم في سلًم المهنية التي يحتاجها المجتمع بمثل احتياجه للأكاديميين. ونجاح كل ذلك يعتمد على توفير عباءة وآليات وكوادر مؤهلة لإعادة صياغة مناهج التعليم العام على ضوء فلسفة وتجارب معهد بخت الرضا في عهده الزاهر. إن بخت الرضا تراث علمي وتربوي زاخر فقدناه في حماقة سياسية قاصرة، فأضعنا، أو أضعفنا، أجيالاً من بني وطننا دون ذنب جنوه. لهذا فإنني أحلم بعودة بخت الرضا، كفكرة، في سماء تعليمنا العام تؤازرها مجموعة معاهد تدريب المعلمين التي كانت منتشرة في أرجاء الوطن تغذي البلاد بمعلمين مؤهلين، وتسهم عملياً في تطوير وتثقيف المجتمعات المحلية، وتخلق من التعليم مهنة جديرة بالاحترام وليست مهنة من لا مهنة له، أو مهنة من تضطره حاجات العمل الإلزامي للعبث بمستقبل الابناء والبنات بالوقوف أمامهم دون تأهيل أو رغبة.
    ثم ماضٍ آخر أحلم بإعادته وهو عودة الألق للمدارس الحكومية في التعليم العام بكافة مستوياته، لتعود مدارس الدولة لتصبح هي الجاذبة للطلاب الأفضل، وهي الراعية الأمينة لأجيال المستقبل كما كانت في ماضٍ، ليس ببعيد، تخلقت فيه أجيال لا تزال تفتخر بالانتماء لمدارس تركت بصمات قوية على تلك الأجيال، فبقيت حفية بذلك الماضي وبتلك المدارس العريقة التي انهارت بفعل سياسات أخشى أن تكون مقصودة، هدفت لتحطيم رأس المال التعليمي للإنسان السوداني الذي كان يجعله مميزاً جداً على كل المستويات الإقليمية والدولية.

    والحلم بعودة الألق للمدارس الحكومية يتطابق معه الحلم بالقضاء على جرثومة المدارس الخاصة، المحلية والعالمية، التي غزت البلاد في غفلة من ذوي الشأن الفعليين، لتخلق طبقية بغيضة بين أبناء السودان، ولترهق الكثير من الأسر إلى درجة الإفلاس، ولتغذي عقول الناشئة بثقافات وأساليب حياة تجعل منهم مسخاً مشوهاً لما يجب أن يكون عليه السوداني من خلقٍ وقوة انتماء لجذور حضارية ضاربة في أعماق التاريخ، كما تنمي فيه اتكالية تحجب عنه المقدرة على ابتداع البدائل وعلى التأقلم والاندماج مع المجتمع بخاصة عندما يجد نفسه عاجزاً عن مخاطبة أهله بلغتهم العربية أو المحلية لأنهم أدخلوا في روعه أن اللغة الإنجليزية هي الحياة، إذ جعلوها أساس تعليمه منذ بدايات مرحلة الروضة أو مرحلة ما قبل التعليم المدرسي.

    أما التعليم الأهلي بمفهومه الصحيح، فليته يعود ويسود مرة أخرى في سماء وربوع بلادنا فهو يمثل فلسفة اجتماعية راقية مبنية على التكافل الطوعي والتعاضد المجتمعي الذي لا يخضع لمتطلبات الربح والاستثمار في الأبناء. رحم الله الشيخ بابكر بدري وأمثاله، ورحم الله رَواد مؤتمر الخريجين الذين أرسوا قواعد ومفاهيم التعليم الأهلي في السودان فنفعوا به الأبناء والبنات دون منٍ أو أذى أو تربٌح ظالم على حساب الأفراد والمجتمع. إن الحلم بعودة التعليم الأهلي الصحيح قابل للتحقيق الفوري لولا حقيقة أن المال حالياً متوفر أساساً في أيدي مستجدي النعمة لذلك هم يخافون زواله، بينما كان المال في الماضي عند من حفروا الصخر بأظافرهم من أجله، فتدفق عليهم بأمر الله فبذلوه بسخاء من لا يخشى الفقر ما دام اتكاله على الله. لذلك سيبقى الأمر حلماً لأنه البديل الإيجابي لجرثومة التعليم الخاص.

    إن ما حدث من عبث منهجي وهيكلي بالتعليم العام، انعكس سلباً على التعليم العالي فانحط هو الآخر وضعفت مخرجاته وأصبحت سمعة مؤسساته في الحضيض وخرجت جامعاته من مظلات الترتيب العالمي، بعد أن كانت رائدته، جامعة الخرطوم، يشار إليها بالبنان إقليمياً وعالمياً وكانت تحتل موقعاً متقدماً في التصنيف العالمي للجامعات.

    أحلم بعودة الجامعات السودانية إلى مواقعها المتقدمة في العالم والإقليم. إن لتحقيق ذلك الحلم متطلبات ليست عصية التنفيذ إذا رفعت الدولة يدها القابضة عن الجامعات، وتركتها تنمو وتتطور ذاتياً في جو صحي معافى، تحت ظل قانون يحمى حرية الجامعات الأكاديمية و استقلالها الإداري والمالي. فالجامعات كائنات حية تنمو وتزدهر إذا كانت البيئة المتاحة تتفهم طبيعة الجامعة كمؤسسة هدفها استشراف المستقبل، والمساهمة الفعَالة والإيجابية في تطوير المجتمعات وتقدم العلوم. كيف لهذا أن يحدث إذا كانت الجامعة غير حرة وغير مستقلة، وإذا كانت نظرة الدولة إليها نظرة أمنية متوجسة، ونظرة مالية قابضة، ونظرة إدارية متخلفة تتمحور كلياً حول الإصرار على تعيين إدارات موالية وفرض أساتذة دون المستويات المطلوبة وخلق ثغرات لإحداث انحطاط مقصود بالدرجات العلمية، فامتلأ الكون بدرجات الماجستير والدكتوراه التي أصبح الشك حيالها يكاد يكون عالمياً وإقليمياً ومحلياً. كما أمتلأ الأفق بالمراتب العلمية غير المستحقة أو المصطنعة فاصبح الكل بروفيسيراً وضاع في هذا الخضم البروفيسرات الحقيقيون الذين نالوا تلك المراتب العلمية الرفيعة باستحقاقات علمية جعلتهم جديرون بإنارة سماوات المؤتمرات العلمية العالمية والإقليمية والمحلية وجعلت من مساهماتهم العلمية، النظرية والتطبيقية، مكاسب انعكست إيجاباً على وطنهم وجامعاتهم.

    إن الحلم بعودة الجامعات السودانية لمواقع متقدمة في خريطة جامعات العالم، يتمحور أساساً حول توفير الحريات الأكاديمية والاستقلالية الإدارية والمالية، بكل ما تعني هذه المصطلحات من معاني. لكنه أيضاً يتطلب إعادة نظر جذرية في هيكلية التعليم العالي ككل. لقد ارتكبت الإنقاذ خطأ عظيماً في حق السودان والعالم بابتداعها ما أسمته بثورة التعليم العالي الذي يمثل مسخاً نخجل منه نحن الذين ترعرعنا في ظل تعليمٍ عالٍ حقيقي توفر لطلاب متميزون، وقام به أساتذة وعلماء حقيقيون أنتجوا كوادر علمية ومهنية أفتخر بها السودان وحفي بها العالم. فلا وجه للمقارنة هنا بين ما كان وما هو كائن.

    حلمي بإصلاح هيكلية التعليم العالي ومخرجاته يتمحور حول الدعوة للإبقاء على عددٍ مناسب ومحدود من الجامعات الحكومية القومية، لا يتعدى السبع جامعات هي: الخرطوم والسودان للعلوم والتكنولوجيا، وأم درمان الإسلامية، الجزيرة، البحر الأحمر، غرب السودان وشمال السودان، يكون لكل منها نكهته الخاصة وتخصصه ويكون القبول فيها قومياً خاضعاً للمنافسات العامة، كما كان حال جامعه الخرطوم في عهدها الزاهر، ولا يخضع لأي اعتبارات جهوية أو قبول خاص لدبابين وحفظة قرآن أو ما شابه ذلك من تشوهات ابتدعتها الإنقاذ لمآرب خاصة ليس لها موقع في حلمي بعودة الحياة لتعليمنا العالي. ومثل هذه الجامعات القومية تتطلب معاملة مالية تفضيلية من الدولة لأنها ستمثل بؤر الاندماج المجتمعي الذي يحتاجه السودان بعد أن طغت الجهوية والقبلية على جامعاته الولائية الحالية فانغلق طلابها على أنفسهم وأصبحوا لا يرون السودان بأبعد من حدود مفاهيم ولاياتهم وقبائلهم، فضعفت فيهم النظرة القومية اللازمة لتطور البلاد والمحافظة عليها.

    بجانب الحلم برؤية جامعات قومية شامخة ومؤهلة يبقى الحلم بتحسين نوعية الطلاب، تطلعاً لتحسين نوعية المخرجات من تلك الجامعات. لا يزال إيماني قوياً بأن التعليم العالي منحة وليس حقاً وبالتالي ليس مطلوباً أن يكون متوفراً لكل من هب ودب ممن أكملوا تعليمهم العام. فالتعليم العالي بطبيعته يجب أن يقتصر على المتميزين لتصبح الجامعة مكاناً للانطلاق بهم نحو آفاق العلم الفسيحة والمتقدمة فهي ليست دوراً لترميم ثغرات تعليمهم العام بتضييع الوقت في أبجديات علمية، أو في تكرار يتطلبه انخفاض المقدرات الاستيعابية لطلاب حملتهم ثورة التعليم العالي للجامعات بدون وجه حق فكانوا في النهاية مخرجات لا تشرف السودان. وربما لا يصدق الكثيرون أن بعض هؤلاء الخريجين يخطئ حتى في كتابة اسمه أما كيف يحدث ذلك فاسألوا لوائح الامتحانات بالجامعات فهي في معظمها أصبحت تتمحور حول تمكين الراسبين من التقدم في سنوات الدراسة لأن (الكم) في نظر الدولة أصبح بكل أسف أهم من (الكيف) والمحافظة على الأمن الطلابي أهم من المحافظة على الأكاديميات!!

    جانب آخر أحلم به في عالم الجامعات وهو أن تبتعد كلياً عن بلوى الدبلومات العامة والوسيطة التي اضطرت لها لتغطي نفقات تسيير أساسية تقاعست الدولة عن توفيرها. لمثل هذه الدبلومات مؤسسات أخرى أدنى من مستوى الجامعات وأكثر ارتباطا وتخصصاً فيها. ففي الجامعات ما يكفيها من أعباء ومن مسؤوليات فمثل هذه الدبلومات أولى بها الكليات التقنية ومعاهد التدريب الفني.

    أما أخطبوط ما يسمى بالجامعات الولائية فأحلم برؤيته خارج خريطة التعليم العالي بقرار مركزي شجاع يتخذ من التصفية التدريجية منهجاً انتقالياً حتى يكتمل مرور الطلاب لنهاية أشواط دراساتهم وليكن في الكليات التقنية وكليات المجتمع بديلاً ممكناً لبعض من تتقاصر مؤهلاتهم عن الالتحاق بإحدى الجامعات القومية السبع.

    وليتحقق بعض ما أحلم به في دنيا التعليم العالي، لا بد من إلغاء وزارة التعليم العالي تماماً وإنشاء مجلس قومي مستقل للتعليم العالي يتكون من قيادات التعليم العالي والخدمة المدنية ولفيف من الشخصيات العامة ذات الخبرات والمعرفة، ونخبة من القطاع الخاص من ذوي التجارب الناجحة والرؤى الاستشرافية، ويكون المجلس ذا طبيعة تنسيقية، ومكاناً لتبادل الخبرات والتعرٌف على الاحتياجات لتتمكن الجامعات من التخطيط السليم لمخرجاتها العلمية.

    حلم آخر يراودني وهو عودة دولة الرعاية الاجتماعية التي كانت سائدة في سماء السودان حتى بُعيد الاستقلال. هي بالتالي ليست بدعة بل كانت هنا يوماً، فأعطت المجتمع تعليماً مجانياً راقياً، وأعطته خدمة طبية ممتازة متاحة مجاناً لكل أفراد الشعب دون تمييز ودون طبقية. إن التعليم والصحة ضرورات حياة ولبنات مستقبل ولهذا تستحقان حيازة النصيب الأكبر من الإمكانات المالية المتاحة بدل إهدارها في الجوانب الأمنية التي لا أبقت السودان موحَداً، ولا أشاعت الأمن والأمان في ربوع البلاد، وأحلم هنا بأن يكون المعلمون هم الأكثر تقديراً مادياً ومجتمعياً فهم بناة المجتمع الحقيقيون الذين يحترقون لإنارة الطريق لأجيال المستقبل.

    ويرتبط بعودة دولة الرعاية الاجتماعية حلم آخر باختفاء دور العجزة والمسنين وفاقدي رعاية الأبوين عبر نهضة مجتمعية وأخلاقية تعيد الناس إلي ما كانوا عليه من أخلاقٍ، وسماحةٍ تكافلية، وبٍر بالوالدين، وما كان من مسؤولية جماعية ومجتمعية في ضبط السلوك العام وفي تقويم انحرافات الطريق قبل استفحالها. ليت المجتمع يعود مصلحاً كما كان، وينبذ فلسفة التوحُد التي أفرزها مفهوم الأسرة النووية ليسود مرة أخرى مفهوم الأسرة الممتدة بكل ما يعنيه من تراحم وتعاضدٍ ومشاركة حميدة في كل شئون الحياة، حتى لا يذل عزيز قوم بالتشرد أو التسوٌل وانتظار الموت في دور العجزة والمسنين، ولا تمتلئ الطرق بالأطفال فاقدي الرعاية الأبوية أو المتشردين. وفي إطار كل ذلك أحلم بعودة الشرطة صديقاً للشعب يجد عبرها الأمن والأمان تسهر لتأمينه وليس لزعزعته وابتزازه، وتستقبله بالترحاب في ملماته، تعيد له الثقة فيها لتعود حقيقة لخدمته وليس لخدمة السياسة والسياسيين. أما جهاز الأمن بمفهوم الإنقاذ، فليس له مكان سوى مذبلة التاريخ.

    أحلم أيضاً بزوال عهد الترييف الذى تعيشه حالياً العاصمة وكل مدن السودان الرئسية بسبب الهجرات غير المنظمة وغير التدريجية للمدن والتي أحدثتها ظروف طبيعية وسياسية خارجة عن إرادة المهاجرين. والمشكلة ليست في الهجرة فكلنا أبناء وأحفاد مهاجرين، بالذات للعاصمة، لكنها كانت في الماضي هجرات محدودة وتدريجية مكًنت القادمين من استيعاب روح المدينة والتزاماتها فذابوا في المدينة وأصبحوا جزءاً لا يتجزأ من الكيان الحضري. لكن سنوات الجفاف والتصحر وصراعات الهامش السياسية جعلت الرحيل، للعاصمة بالذات، مهرباً لا مناصٍ منه ولم يجد المهاجرون الوقت الكافي لاستيعاب متطلبات المدينة والتأقلم عليها فأنشأوا لأنفسهم مجتمعات قروية في قلب المدينة وحواريها وأزقتها ومارسوا ما كانوا عليه في قراهم وبواديهم من ثقافات وعلاقات وانعكس كل ذلك في ظاهرة الترييف التي طغت على العاصمة وغيرها من المراكز الحضرية فتدهور الحال وانحطت البيئة الحضرية، بدل أن تتقدم بنفسها وبالقادمين إليها زرافات ووحدانا، وتراكمت النفايات، وأصبح الجيران لا يعرفون بعضهم البعض وأصبحت السلوكيات العامة لا يربطها إطار جمعي متفق عليه، وهاجت المدينة وماجت بشكل يجعل عودة المدينة لطبيعتها الحضرية، أحد أحلام ما قبل الرحيل الأبدي، وليت ذلك يتم في إطار بيئة صحية نظيفة خالية من أكوام النفايات وأسراب الذباب والبعوض وبقايا الصعوط.

    وتبقى أحلام أخرى كثيرة يحتاج تفصيلها إلى مجلدات من بينها إلغاء بدعة (البكور) التي أخرجتنا دون منطق من آليات التوقيت العالمي، وعذبت أبناءنا الطلاب ومعلميهم، ولم تحدث أي تطوير إيجابي في الإنتاج والإنتاجية العملية. ويرتبط بهذا، حلم عودة التقويم المدرسي إلى طبيعته المستمدة من بيئة السودان المناخية ليمتد من منتصف شهر يوليو وحتى منتصف شهر مارس من العام التالي حيث أن صيف بلادنا يعرض الأبناء لأمراض موسمية قاتلة دون منطق مقبول. وليت رحلة التعليم تعود لتبدأ عند سن السابعة لينعم الأبناء بشئ من بهجة الطفولة المفتقدة حالياً وتنعم الجامعات بشئ من النضج في من يلتحق بها.

    أما الحلم بأن يكون السودان حقيقة، وليس مجازاً، سلة لغذاء أهله والعالم، فإننا سنموت ونحيا عليه، لأنه ببساطة يمثل الحل النهائي والأبدي لمشكلات السودان الاقتصادية المرئية و المتوقعة.

    ثم لا بد من الديمقراطية الليبرالية مهما طال الزمن وتعثر التطبيق. إنها أمُ أحلام جيلنا الذى تسربت الديمقراطية من بين أياديه ثلاث مرات، وبقي عاجزاً عن الإمساك بها، والمحافظة عليها، والدفع بها إلى الأجيال الصاعدة، كما عجز عن الإبقاء على كامل الأرض التي سلمنا لها الآباء المؤسسون، فذهب الجنوب مبكياً عليه، وتكاد تلحق به أجزاء أخرى عزيزة من الوطن. إني أحلم بعودة الديمقراطية وثباتها تحت ظل نظام سياسي يستلهم النموذج الفرنسي، ويتعايش بواقعية مع قوى العالم السياسية والاقتصادية، التي أوقعنا التناطح معها في مهالكٍ وضيقٍ شبعنا منه فالتصالح، بكرامة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ضرورة في الحاضر والمستقبل المرئي وهو مفتاح ما نحلم به من تنمية ورغد عيش لشعب عظيم جدير بحياة أفضل ومستقبل أزهر، وكفانا ادعاءً باستقلاليةٍ عرجاء أمام نظام عالمي يتطلب التفاهم والتعاون في المصالح وليس التناطح غير المنتج وأخيراً، لكي لا تكرر البلاد أخطاءها التي أوردتها موارد التهلكة، أحلم باختفاء مصطلح (عفا الله عما سلف) من قاموس أهل السودان، ليدفع كل من أقترف ذنباً في حق هذه البلاد العظيم، ثمناً يليق بجرمه، و ليرعوي الآخرون ويتقوا الله في وطنهم وأهلهم. ليس في هذا إفتئات على الديمقراطية التي نحلم بها، بل هو أحد أهم وسائل المحافظة عليها.
    ولك الله يا وطني، والمجد لشبابك وأجيالك الصاعدة.

    بروفيسور / مهدي أمين التوم
    [email protected]






    http://www.sudaneseonline.com/news-action-show-id-147921.htm
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de