|
!السودان الجنوبي: صراع سياسي أم تطهير عرقي عبد الله علي إبراهيم
|
فُجعت في ما نكتب هذه الأيام عن محنة السودان الجنوبي. فنحن نكتب عنه مثل ما تكتب وسائط العالم الأخرى إن لم تكن هي التي تعطينا رأس الخيط. وهذا عيب كبير في أقلامنا تتناول محنة بلد غادرنا منذ عامين فقط ولنا فيه مصالح إستراتيجية طويلة المدى. ويستحق السودان الجنوبي في هذا المنعطف أداءً إعلامياً أميز مما قدمنا إلى تاريخه إذا كنا قدمنا شيئاً أصلاً. من بين أسئلة النزاع الجنوبي المركزية السؤال عما إذا كان هو تطهير عرقي أم صراع سياسي للسلطة كان فيه الصدام العرقي فكرة عاقبة ( afterthought ) وأعنى بالفكرة العاقبة أنها لم تخطر لأصحابها أول مرة بل تصادف نفعها فتبنوها. وبدا لي أن الرأي السائد عند مثل هلدا جونسون، ممثلة الأمم المتحدة في الجنوب ونجم اتفاقية نيفاشا 2005، أن النزاع في الجنوب كان حول السلطة أولاً أما الإثنية فلاحقة أو مستدركة. وربما كان مثل هذا الرأي تجملاً فالتطهير العرقي ممارسة "نطراها لبعدها" كما يقولون. ولكن وجدت كتابات قليلة حسب اطلاعي قالت أن محنة الجنوب الحالية هي تطهير عرقي. فكتب ستيفن لتر كوال، نائب السفير السوداني السابق في تنزانيا ووزير التعليم بولاية جونقلي، في "السودان تربيون" أن ما جرى في الجنوب تطهير عرقي. فهو خطة مرتبة بسبق إصرار للتخلص من إثنية النوير. وذكر لأول مرة عن مليشيا أنشأها سلفا كير من دينكا بحر الغزال لحماية سلطانه. واسم الفرقة "دوتكا بني" وتعريبها كتيبة نجدة كير". وربما كانت هي الطرف في النزاع المسلح في الحرس الجمهوري أو التي أطلقت يدها في قتل النوير في جوبا على بينة اللغة. وتساءل: إذا لم تكن حادثة جوباً جنوسايد فقل لي بربك لماذ قتلت طائفة من أصدقائه من النوير شغلوا مواقع مميزة في الدولة وهم: لام شول ثيكيونق ومولانا جال ثييك، والعميد مارتن كيوث، والأستاذ ريث سون؟ ويبدو أن جوك مادوت جوك، الأنثربولوجي الجنوبي بجامعة بكلفورنيا الذي تفرغ منذ استقلال الجنوب لخدمة بلده، قد وصل إلى طبيعة الصراع كتطهير عرقي بعد ممانعة. فكان دائماً ما يحتج على الوسائط العالمية لأنها لا ترى في الجنوب سوى القبائل لا الوطن الذي ناضلوا طويلاً لصناعته جميعاً. ولكنه زار معسكر الأمم المتحدة في جوبا الذي احتله 63 ألف من النوير بعد الصراع الأخير وكتب: أصدقائي النوير مرعوبون ولن يخطر على بالهم العودة إلى بيوتهم بعد مقاتل جوبا. وهذا الوضع الذي هم فيه مهين. فهم كبار ضباط جيش، وموظفون في الدرج الأعلى، وطلاب جامعيون ممن لم يعودا يأمنون إلى عاصمة بلدهم التي عاشوا فيها سنينا. أما أكثر الكلمات قوة في الدفع بفكرة التطهير العرقي ومناشئها في سياسة السودان الجنوبي فهي ما كتبه دانيل هودن في جريدة الأوبزيرفر (28 ديسمبر 2013). وجاء بعنوان مثير هو: "هوليوود تغمر جنوب السودان في نجوميتها وتغرها الكذبة الكبرى". ويعني بهوليوود هنا نجوم مثل جورج كلوني ومات ديلون ودون جيدال. وقالوا إنهم اعتقدوا في سردية ممعنة في الخطأ عن الجنوب وهي أنه كان قبل اتفاقية نيفاشا يقاتل شمال مسلم مستعرب. فالخطر الأعظم عليه دائماً أبداً هو الشمال. وتحالف مجوم هوليوود في هذه السردية مع المسيحيين التبشيريين الذين اعتقدوا أنهم يخوضون في السودان طوراً جديداً من الحرب الصليبة. ولم يتوقف نجوم هوليوود ولا المبشرين عند حقيقة أن الحركة الشعبية كانت تحارب من أجل سودان جديد جيشت له أبناء وبنات السودان من كل حدب وصوب. بل ربما حاربت مليشيات جنوبية منشقة أو منافسة بقدر ما حاربت الجيش السوداني. وتحسر هودم أنه لا النجوم ولا المبشرين ولا دول الجوار في أفريقيا انتهزت سانحة ست سنوات قبل الاستفتاء لتدعو بقوة إلى وحدة السودان. وأرتكبت الدعوة إلى الانفصال بأي ثمن على حساب تغاضيها عن بعض الحقائق المرة مثل جغرافياه الإثنية العصيبة. ولذا وقعوا في ما سماه الكذبة الكبرى التي صوروا بها مشكلة الجنوب الأولى والأخيرة هي التنمية. وانفتحت حزائن الأرض للجنوب: بليونا دولار من الأمم المتحدة والغرب. وعليه لم يكن في تعريف مهمة قوات الأمم المتحدة التحسب لحرب إثنية. ولذا فوجئت بأحداث ديسمبر الجاري وتدراكتها تدراك المسبوق. فقد كانت مهمتها قاصرة على الدفع بالتنمية وحراستها. ولهذا اختاروا هيلدا لقيادة عمل الأمم المتحدة بقرينة أنها كانت وزيرة تنمية في بلدها. وأخطر ما ضل عنه أصدقاء الجنوب في شاغل التنمية هو أنهم لم يضعوا إصلاح الجيش الشعبي والدولة بأعلى الأجندة. فبقي الجيش الشعبيي "لُملام قبلي" تحت قيادة لذَّ لها مال البترول ونعمه. وكانت الدولة تتداعي والجيش تتناسل فيه المليشيات بينما أصدقاء الجنوب مفتونون بالتنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان. كانت مشكلة الجنوب، الإثنية، في موضع مظلم ولكن أصدقاءه كانوا يبحثون عنها تحت لمبة الكهرباء (التنمية). وعليه فلربما كانت الجنوسايد فكرة عاقبة للصراع السياسي ولكنها تخللت ذلك الصراع وباتت في بيوته من دولة وجيش وقيلت طويلاً.
|
|
|
|
|
|