|
تاريخ ما أهمله التاريخ عن جنوب السودان (3) عبد الله علي إبراهيم
|
تاريخ ما أهمله التاريخ عن جنوب السودان (3) عبد الله علي إبراهيم
(أنشر على حلقات هذا المقال الذي سبق لمركز الدوحة للأبحاث ودراسة السياسات تضمينه في كتابه "جنوب السودان الفرص والمخاطر" (2012). وأعيد نشره قريباً في سلسلة كاتب الشونة. وجردت المقال هنا من هوامشه المرجعية لطبيعة هذا المنبر. ولكني سأنشر في نهاية الحلقات المراجع التي اعتمدت عليها. ومن طلب دقائق الهوامش رجع إلى المقال في بيئته الأصل. في الجزء الأول جئنا بخبر الأستاذ عبد الخالق محجوب الذي رد على ذائعة الجنوبيين أن سائر الشماليين من تركة الزبير باشا فلا تنتظر منهم خيراً. قال عبد الخالق إنه ربما نسي القائل هنا أنه نشأ بين الشماليين حزب شيوعي أخذ الأخاء الوطني أخذاً جميلا. وتساءلنا إن لم يكن قول عبد الخالق ذاك مجرد تجمل وتفاؤل لا يسنده واقع. وأجبنا بأن تفاؤل الرجل كان في محله. وبدأنا في عرض نضال الحزب والطبقة العاملة بعد الاستقلال لتطبيق مبدأ الأجر المتساوي للعمل المتساوي لرفع أجور الجنوبيين التي بخسهم الاستعمار. وعرضنا للنظرية العرقية الاستعمارية والتبشيرية البيضاء التي اعتقدت أن الجنوبيين قبيل من سائر الزنج ممن يفسدهم النقد ويحجبهم عن الأكل من خشاش الأرض. وأنه يكفيهم من المال النذر. فلو كان من أساء للجنوبيين حقاً فهم الإنجليز الذين قامت سياستهم للأجور على تمييز للشماليين لدرجة مزعومة لهم في سلم الرقي. وهذا ما احتشد الحزب الشيوعي كما سنرى لتغييره لتجديد الزمالة في الوطن. وسنرى كيف لقى الأمرين من حكومة الوقت الوطنية التي لم تخرج عن سقف حركة الخريجين وأمانيها حتى قلنا أن الحركة الوطنية حركات في واقع الممارسة لا حركة واحدة. ووقفنا في الحلقة الماضية عن رابط عن حركة الخريجين والحزب الشيوعي غاب عن نظرنا التاريخي. فكثيراً ما تحدثنا عن دور محمد صالح الشنقيطي في مؤتمر جوبا 1947. وكان من رأي الجنوبيين دائماً أنه "خدع" ممثلي الجنوب في المؤتمر ليقبلوا بأن يكون الجنوب جزءأ في التطورات الدستورية في السودان (الجمعية التشريعية) في طريق البلد للاستقلال المتظر. وبدا للجنوبيين خداع الشنقيطي من حقيقة أن الجنوبيين رفضوا ذلك الارتباط بالشمال في اليوم الأول للمؤتمر ثم تغيروا 180 درجة في اليوم الثاني ووافقوا. والأمر ليس أمر خداع إلا مؤخراً. فقد اقترب الشنقيطي من الجنوبيين عن طرق تظلمهم العظيم من تباين الأجور في الشمال والجنوب كما رأينا. والتزم لهم أن يقف الخريجون معهم لرد هذه المظلمة. وتعاقد الجميع على ذلك ما عدا سلاطين الجنوب الذين واصلوا رفض الارتباط الدستوري مع الشمال لأنه لم يكن يكدرهم شاغل الأجر كالأفندية. وبالطبع لم يف الخريجون بما وعدوا. وقبض الشيوعيون على تلك الذمة الوطنية للخريجين وصارت قضية الأجر المتساوى للعمل المتساوي بين العمال بغض النظر عن العرق والنوع شغلهم في حين قلب الخريجون لها ظهر المجن. وهذا "تسليم وتسلم" للأجندة الوطنية تبنى به الشيوعيون العقود الوطنية بعد تنصل طلائع المتعلمين منها ومنها مثلاً محاربة الإدارة الأهلية. وسنرى كيف تمثل تنصل الخريجين من عقد الأجر المتساوي في "لعبة ملوص" التي لعبوها على أفندية الجنوب في عملية السودنة. والفصل التالي هام لأنه يميز كما لم يقع لنا من قبل تعدد وجوه الحركة الوطنية ومواقعها حتى قلنا إنها حركات وطنية لا حركة واحدة كما تصورها سردية مؤتمر الخريجين التي تزعم الصدراة في تحرير الوطن وتجعل الآخرين تابعين وهتيفة. وسنرى فيه كيف ارتسم الخط الفاصل بين وطنية الخريجين ووطنية الطبقة العاملة في يوم بذاته خلال جلسة للبرلمان السوداني في 1954. حركة وطنية شمالية أم حركات وطنية شمالية! رسمت الجلسة الثانية والخمسون لأول برلمان سوداني (السبت 31 ديسمبر 1955 ) الحد الفاصل بين المشروع العمالي الوطني ومشروع حركة الخريجين الوطنية لنهضة السودان الآئل للاستقلال في 1956. ففيها تحادر المشروعان عن كثب وتخاشنا لبعض دقائق مشحونة بالدراما وأنصرفا ليصطرعا بصورة أو أخرى بغير هوادة منذ ذلك التاريخ. وقف في تلك الجلسة النائب الشيوعي المحترم حسن الطاهر زروق عن حزب الجبهة المعادية للاستعمار ليناقش مشروع دستور السودان المؤقت المقدم للبرلمان والذي عرف بدستور ستانلي بيكر نسبة للإداري البريطاني الذي كتب مسودته . وقال: - جاء في الفصل الثاني من الدستور ما يلي: "لا يٌحرم أي سوداني من حقوقه بسبب المولد أو الدين أو العنصر أو النوع فيما يتعلق بتقلد المناصب العامة أو بالاستخدام الخاص أو بقبوله في أية وظيفة أو حرفة أو عمل أو مهنة ..." وهذا لا شك فصل قيم ولكن ماذا نجد عند التطبيق العملي؟ نجد أن مكتب الاستخدام قد سجل في الخرطوم وحدها أكثر من خمسة آلاف عاطل كما نجد أن أجور العاملين في الجنوب لا تتساوى مع أجور العاملين في الشمال حتى إذا كانوا يؤدون نفس الأعمال. واعترض السيد بابكر عوض الله، رئيس البرلمان، على النائب الذي نبهه إلى خروجه عن الموضوع قائلاً: هل يستطيع العضو المحترم أن يوضح لنا ما هي العلاقة بين أجور العمال الجنوبيين وهذا الدستور؟ السيد حسن الطاهر زروق: إنني أقصد ألا يكون هناك تمييزاً عنصري. كذلك نجد أن المدرسات يتقاضين أجوراً أقل من المدرسين وبشروط عمل أسوأ حتى إذا كن يعملن في نفس مستوى مدارس البنين ويملكن نفس المؤهلات. السيد الرئيس: إن هذا الحديث أيضاً خارج الموضوع الذي أمامنا. السيد حسن الطاهر زروق: ولهذا يبقى هذا الفصل معطلاً حتى تصدر التشريعات التي تزيل الأوضاع التي تعطل تشريعات تحقق مبدأ الأجر المتساوي وتشريعات لتوسيع نطاق الاستخدام وتحسين شروط العمل بصورة تدريجية عن طريق التطور الموجه للاقتصاد الوطني. وسيترامى صدى تلك المخاشنة الباكرة بين الحركات الوطنية في بهو سياسات العرق السودانية العصيبة. ومع أنه قَلَّ من توقف عند مواجهة بابكر وزروق في الكتابة عن مسألتي العرق والنوع في السودان إلا أنها كانت لحظة فارقة بين حركة الخريجين الوطنية وحركة العمال الوطنية التي كان الشيوعيون رأس رمحها. ففي الوقت الذي خلع العمال "ماهية شماليتهم"، أي الأجر الزائد الذي يحصلون عليه لأنهم من شمال البلاد، كانت صفوة المؤتمر تتكالب على أسلاب الاستعمار حارمة الجنوبيين منها بغلظة. فصارت السودنة، وهي برنامج سوداني جامع لإحلال موظفين سودانيين محل الموظفين الإنجليز الراحلين، إلى مجرد "شمألة" بفضل حكومة الوطنيين الخريجين. فلم يحظ الجنوبيون بغير ست وظائف من جملة 743 وظيفة خلت بزوال الاستعمار. وفٌجع الجنوبيون في السودنة التي كانوا خشوا طويلاً أن يفتئت الشماليون عليهم فيها خشية تمسكوا بهاً بالإنجليز كي لايعجلوا الرحيل ليخلص لهم "جنوبة" إقليمهم تحت سمعهم وبصرهم. وعزا تقرير التحقيق في إضطرابات الجنوب، أغسطس 1955 (1956) تلك المواجهات إلى تظلم الجنوبيين من حيف السودنة. وهي اضطرابات "تمردت" فيها الفرقة الجنوبية بالولاية الإستوائية وقتلت 255 مدنياً شمالياً بينهم 16 إمرأة و20 طفلاً. فقد حز في الجنوبيين أن يقلب لهم الحزب الوطني الاتحادي، الحزب الحاكم، ظهر المجن ويتنكر لوعوده المسرفة عن فرصهم الطيبة في السودنة الموعودة. وكان عذر الحزب الشمالي في "غزو" الجنوب استئثاراً بالسودنة أقبح من الذنب. فقد أكد إسماعيل الأزهري، زعيم الحزب وقائد حركة الخريجين وأول رئيس وزراء للسودان، أنه ليس من جنوبي تأهل آنذاك ليشغل وظيفة أعلى من مساعد لمفتش المركز. غير أن تقرير التحقيق في إضطرابات 1955 كشف عن نباهة سياسية غراء بقوله إن المؤهلات، وهي الاختبار لنيل حظوظ السودنة الذي سقط فيه الحنوبيون كما زعموا، كان ينبغي أن يترك جانباً. وبدلاً عن ذلك كان على الحكومة أن تعلى الاعتبارات السياسة على المهنية الضيقة. وكان أول من صَدَع بظلامة السودنة عياناً بولين إلير، عضو جمعية رفاه الموظفين الجنوبيين سابقاً والوزير بدولة الحكم الذاتي في 1954 عن الحزب الوطني الاتحادي الحاكم. فقد اشتكى جهاراً أن الشماليين تقاطروا على الجنوب بالبواخر والطائرات لشغل وظائف الإدارة العليا بما يشبه الغزو. ولم تعجب حزبه صراحته فتجنبه. وكتب محرر بالصحف يطلب إبعاد بولين من الوزارة بجريرة كراهيته للشماليين ولما صدر عنه جهاراً من أنه "سيجنوب"وزارته، وزارة الثروة الحيوانية، بدلاً عن سودنتها. وزاد بولين الطين بلة، في نظر الصحافي، بقوله إنه سيضرب بالمؤهلات عرض الحائط متى ما جَنوَبها. وأتخذ الصحفي من استخفاف بولين المزعوم بالشهادات مدخلاً للقول إنه من أين لبولين توقير دلائل التأهيل وهو الذي صار وزيراً ولم يكن قبلها سوى مساعد مأمور في أسفل الدرج. وختم قائلاً لقد لبس بولين حذاء أكبر من مقاسه وأفترى. ولم ينقض وقت حتى أٌرغم بولين على إصدار بيان أكد فيه على ولائه للحزب الوطني الاتحادي والحكومة. ويعتقد مصدر خبر بولين والوطني الاتحادي أن له سياق آخر عن خلاف في الحزب ولكن تلك قصة أخرى. ظلت السودنة وجعاً مثاوراً يؤجج الحرب الأهلية في السودان التي تقودها جماعات البرجوازية الصغيرة لأعراق وإثنيات الهامش. وهي مثاورة أضرت بعلائق الشمال والجنوب إضراراً فات على موظف بريطاني هو ب جي دي ريتشارد مفتش التجارة في السودان خلال فترة الحكم الذاتي (1954-1956). قال ريتشارد إن السودنة، رغم أنها تمت بعجلة خطرة، إلا أنه لم تترتب عليها نتائج خطرة. فالجنوبيون كان أول من احتج بوضوح على "شمألة" السودنة. وجرت محاولتان لرد مظلمة الصفوة الجنوبية في 1972 بعد إتفاقية أديس ابابا وفي 2005 بعد اتفاقية نيفاشا. وصارت السودنة تعرف باسم آخر هو "قسمة الثروة والسلطة". ويطلبها على وقتنا هذا برجوازية دارفور الصغيرة وإثنيات أخرى. جرى وصف السودنة، التي وقعت في 1954 وما بعده، بأنها تعبير عن تصعير خد شمالي وجشع. وربما صح أن نتعاطى مع هذا التحليل العرقي بشيء من التحليل الطبقي. فالشماليون ليسوا على قلب رجل واحد في مسألة السوية مع الجنوبيين وغيرهم من جماعات الهامش. وقد وضح هذا الاختلاف بين الشماليين في الجلسة الثانية والخمسين للبرلمان السوداني الأول كما مر. فخلافاً لوطنيّ مؤتمر الخريجين الذين تكالبوا على سقط السودنة نجد أن وطنية الطبقة العاملة، التي محورها اتحاد نقابات عمال السودان، قد خلعت عنها "أجر الشمألة". فمناداة الاتحاد بالأجر المتساوي مما يشف عن أريحية سياسية فريدة سمتها قياتري سبيفاك، الباحثة الهندية، ب "إطراح الإمتياز" (unlearn privilge) أي خلعه وكأنك لم تتعلمه من قبل أو تمرغت في نعمائه. واللمسة الشيوعية السودانية على الردة للأمية قصداً مما نبه له محمد المرتضى مصطفى، الخبير في علاقات العمل، الذي قرظ التقليد النقابي السوداني لأنه استكن تعليما سياسياً ذكياً. فالتقليد يعالج مسائل العمل من زاوية الاقتصاد السياسي. عزا مارتن دالي فشل حوكمة الوطنيين السودانيين وقصورها دون الوفاء بالسوية في السودنة، ضمن اخفاقات أخرى في فترة التحول للدولة المستقلة، إلى الضغوط التي مورست على الحكومة من سياسيين حاذقين غير أنهم رجال دولة فطيرين. ولكن نهضت الدلائل بأن العاهة لم تقتصر على بؤس الكفاءة في إدارة الدولة. فالعاهة وظيفية وتربوبة، أي سياسية. فلم ينم مؤتمر الخريجين وعياً بالمسألة الجنوبية تخطى به وجوب إلحاق الجنوب بالسودان المستقل بعد تخليصه من براثن المستعمر الذي خطط ليفصله عن السودان. فالجنوب في نظر القوميين الخريجين "الثمرة المحرمة" كما جاء في عنوان كتاب أسود صدر عنهم في نقد سياسة الإنجليز حيال الجنوب. وبالنتيجة أصبحت المسألة الجنوبية عند الوطنيين الشماليين هي الجنوب نفسه بأكثر مما هي عن الجنوب. فمثلاً: برغم أنه كان لمؤتمر الخريجين فروع في مدن الجنوب المهمة إلا أنها لم تنشغل قط بمطلب الجنوبيين في العمل المتساوي للأجر المتساوي. فشاغلها الجنوبي اقتصر على لجم الإنجليز دون فصل الجنوب. وطالب الخريجون في مذكرة لهم برفع القيود عن حركة التجار الشماليين التي جاءت مع سياسة الجنوب (1930)، وتوسيع خدمات التعليم، وتوحيد النظام الوطني للتعليم، وحجب الدعم الحكومي عن مدارس التبشير. وهذه المطالب لا غبار عليها بالطبع وغاية في الوطنية وحتى الجنوبيين ربما لم يروا فيها ما يعترضون عليه. وفي واقع الحال رأينا في ما تقدم القوميين الجنوبيين يطالبون بكثير مما جاء عند مؤتمر الخريجين في مذكرتهم سالفة الذكر. ولكن مما يستغرب له كيف لم يخطر مطلب الأجر المتساوي للعمل المتساوي للوطنيين الخريجين الشماليين. وهو مطلب من نفس قماشة المطالب التي تقدم بها الخريجون عن التعليم وخلافه. بل هو جائزتها الكبرى. ربما نشأت هذه السذاجة السياسية التي رأينا أصابت مؤتمر الخريجين من نبع ثقافي ديني باطن لسياسة الخريجين تجاه الجنوب. فمتى استعرضنا نشاطات فروع المؤتمر في الجنوب، التي غلب فيها الشماليون في الجنوب، رأينا هذا التحيز الثقافي. فقد تكلفت تلك الفروع ببناء المساجد ودعم مدارس القرآن (الخلاوي). وكان أكثر ما كدَّر خاطر عضوية تلك الفروع هو فصل الإنجليز لزعيم جنوبي لوقوفه ضد الإرساليات. وفي الحالات النادرة التي تعاطي فيها شماليّ خريج مع قضية تباين الأجور، كان ذلك التعاطي بلاغياً لا حقيقياً.. فقد صدر عن الخريجين كتاب "مآسي الإنجليز في السودان" ( 1946 ) ليذيعوا قناعتهم في وجوب تقرير المصير للسودانيين وليستند عليه وفد السودان إلى مصر في عام 1946. وكانت مصر طرفاً مستعمراً للسودان ونصيراً كبيراً للوطنيين السودانيين من دعاة الوحدة معها بعد تقرير المصير. وفضح الكتاب الاستغلال الاقتصادي الإنجليزي للجنوب غير أنه لم ينس في فقرته الأولى من الفصل عن الجنوب من الإشارة إلى عريهم الذي ينزعج له الشماليون الكساة. واشتكى الكتاب من أن الإنجليز يعززون هذا العرى الطبيعي ويستديمونه بحجب الملابس عنهم ما وسعهم. ومن جهة الاقتصاد اشتكى الكتاب من تحكم الحكومة في تحديد أسعار بقر الأهالي وعسلهم لتدفع لهم العفو. وتطرق إلى فشل التجار الشماليين (الجلابة) من الكسب من هذه السلع من فرط الجبابات الحكومية. وفي مسألة تباين الأجور تحديداً نجد الكتاب يتطرق إليه بالاحتجاج على بؤس يومية العامل الجنوبي التي كانت 15 مليماً. وقال الكتاب إن تلك الملاليم لا تقيم أود أسرة. واستنكر استغلال الإنجليز للجنوبيين على ذلك النحو بينما كان أجر الجنوبيين الذين طلبوا العمل في الجارة يوغندا حتى عادوا منها مائة وعشرين قرشاً (40 مليماً). وأضاف الكتاب أن الإنجليز فصلوا العمال الحنوبيين الذين احتجوا على بؤس اليومية. وقد جاء وفد من هؤلاء العمال المحتجين إلى مؤتمر الخريجين بالخرطوم لعرض ظلامتهم. والمهم بالطبع تناول الكتاب بالنقد لسياسة تباين الأجور بين الشماليين والجنوبيين. وذكَّر بأن أجر الموظف الجنوبي كان أقل مما يحصل عليه سائس يٌعني بحصان الموظف الشمالي. كما أخذ على الإنجليز تحديدهم سقفاً لأجر الحنوبي بأربع جنيهات لا تزيد حتى بعد خدمة عشرين عاماً. واشتكى الكتاب من حرمان الجنوب تعلم اللغة العربية واقتصار خدمة المدرسين فيه على من كان قبطياً أو مسيحياً. ولم تكن غضبة الخريجين على تباين الأجور سوى هباء. فالمؤتمر لم يطلب من الحكومة رفع هذه المظلمة عن كاهل الجنوبيين جهراً ولا هو عالجها حين تقلد أعضاء منه زمام الحكم خلال الحكم الذاتي والاستقلال. وقد رأينا رئيس برلمان الحكم الذاتي يقاطع عضو البرلمان الشيوعي الوحيد خلال مناقشة مسودة لدستور السودان أخذ فيها على الحكومة تعطيل الدستور طالما لم تجعل الناس سواسية كما اقتضى ذلك الدستور. بل قضى الرئيس بأن العضو قد خرج عن موضوع المناقشة جملة واحدة. كان بالوسع التماس العذر للوطنيين الخريجين بنقص الدربة في الحوكمة لولا أنهم تلقوا أفضل النصح عن ما ينبغي لهم إتباعه من سياسة في الجنوب. قدم لهم هذا النصح اتحاد نقابات عمال السودان في سياق استراتيجيته الشاملة لتقوية الحلف المعادي للاستعمار، الذي شمل الحكومة القائمة ، خلال فترة الحكم الذاتي. ظل الاتحاد يٌطلع الحكومة عن رؤيته للسودان المستقل بعد احتفال نظمه في مناسبة تشكيلها في 27 فبراير 1954. فما تولت زمام الحكم في يناير 1954 حتى بعث لها الاتحاد بخطاب عن المسائل الشاغلة للعمال في 28 مارس. ولكن الحكومة لم تلق بالاً للاتحاد بل هجمت بشراسة تعاكس بعض مكوناته. فكتب الاتحاد في 21 مايو 1954 للحكومة للمرة الثانية يذكرها برسالته الأولى التي لم يحصل على رد عليها. وكان من بين مطالبه المباشرة منها تطبيق مبدأ الأجر المتساوي للعمل المتساوي في الجنوب. ووصف الاتحاد تطبيق ذلك المبدأ بالحيوي بالنسبة للطبقة العاملة وللشعب بأسره. وزاد الاتحاد بأن الطبقة العاملة ظلت تحتج على هذا التباين في الأجور بين الشمال والجنوب الذي وصى عليه خبراء عمل بريطانيون مثل ر سي ويكفيلد في تقريره المعروف (1951). وواصل الاتحاد قائلاً إنهم استغربوا لأن الوزراء الوطنيين أبقوا على هذا الضيم الاستعماري للجنوب. واحتج خطاب الاتحاد بصورة خاصة على تصريح لوزير المالية يوم 20 أغسطس 1954 رفض فيه تسوية الأجور في شقي القطر بذريعة أنها ستفسد مبدأ العرض والطلب في العمالة. وهذا التصريح في نظر اتحاد العمال دليل على أن الحكومة تنصلت عن تنمية الجنوب ليخرج من طول إهماله تحت ظل الاستعمار. لأنه كيف يطور المرء ناساً بغير رفع مستوى معيشتهم بزيادة قدرتهم الشرائية. ولم يكتف الاتحاد بمجرد مطالبة الحكومة بإنصاف الجنوبيين بل طابق القول بالعمل.فقرر الاتحاد أن يبعث منظماً حسن التدريب لبناء فرع له في الجنوب. ووقع الاختيار على تاج السر حسن آدم (1925-2010) وهو نقابي ممحص من خريجي المدرسة النقابية السودانية الأولى وهي نقابة عمال السكة الحديد. وهو عامل فني تدرب في مدرسة السكة حديد الصناعية. وظهرت غريزته السياسة أول ما ظهرت حين انضم لجناح الشباب لمؤتمر الخريجين. وجذب نشاطه الشيوعين إليه. فاتصل به قاسم أمين، القائد الشيوعي ذو الكريزما العالية في نقابة السكة حديد، للانضمام لحزبه. وكان ذلك بمجرد خروج تاج السر من سجن دام ثلاثة شهور لقيادته مظاهرة معادية للاستعمار في 1948. ثم سجن لمدة 3 أشهر لقيادته مظاهرة في 1953. وفصلته السكة حديد. فتفرغ للعمل النقابي وبعثه اتحاد العمال إلى المجر ليحصل على تدريب رسمي في الهمة النقابية. وما عاد من المجر حتى بعثه اتحاد النقابات إلى الجنوب ليعين في بناء النقابات العمالية هناك. فنجح في تنظيم عمال نقابات مناشير الغابات وصحب وفداً منهم للمؤتمر السنوي لاتحاد العمال. وكان ينوي أن يذهب إلى أنزارا بالمديرية الإستوائية التي هي موقع صناعات عديدة ارتبطت بمشروع الزاندي للقطن. وكانت التعبئة النقابية للأجر المتساوي في تلك المصانع قائمة على قدم وساق. ولكن إضطرابات 1955 التي "تمردت" فيها الفرقة الجنوبية كما مر ذكره حالت دون ذلك. ولم يترك الاتحاد للحكومة سبباً للتغاضي عن مطالبه. ففي الثاني من نوفمبر 1954 كتب محمد السيد سلام، رئيس الاتحاد والميكانيكي بمصلحة النقل الميكانيكي، مقالة على الصفحة الأولى من جريدة الصراحة اليسارية عن الأجر المتساوي عنوانها "كريمات الشعر والكلونيا". وفيها حدّث القاريء عن زيارة رئيس الوزراء للجنوب. وهي زيارة سبقتها أخبار عن رفع مرتبات جنود الجيش والشرطة وحرس السجون في الجنوب. فحصل رجل الشرطة زيادة سبع جنيهات وفقاً لخطة رئيس الوزراء بينما تجمد مرتب العامل على ما هو عليه وهو جنيه ونصف. ولما تجاهل الرئيس العمال الجنوبيين أحاطوا به واحتجوا على تلك الزيادات الجانحة. فهم لم يريدوا أن يخضعوا للتفرقة ضدهم مرة أخرى لصالح القوى النظامية.وجاء في المقال أن وزير الشوؤن الاجتماعية، الذي كان يكيد كيداً لاتحاد النقابات، خاطب العمال حول الرئيس وقال إن عليهم أن يبعدوا من مواقع القيادة الخرطوميين الناعمين الذين يرجلون شعورهم بالكريمات ويتعطرون بالكلونيا بعد أخذ الحمام. واستغرب سلام أن يأتي ذلك الحديث من ذلك السياسي بالذات الذي اشتهر وبعض أعضاء حزبه ب"مناضلو فندق الكونتنتال". وهو فندق راق بمصر كان نٌزلاً للسياسيين السودانيين المؤيدين للوحدة مع مصر خلال اقامتهم بالقطر. وذكَّر سلام الوزير بأن رفاقه في اتحاد العمال لم يغشوا ذلك الفندق ليكتسبوا عادات التنعم واللطافة التي أخذه عليهم الوزير
|
|
|
|
|
|