|
لغتنا الدرامية من الفخاخة إلى المصطلح عبد الله علي إبراهيم
|
"كلمة في حلقة دراسية نظمها الأستاذ محمد عكاشة بأم درمان" كانت من أول تجاربي الخوض في الشأن المسرحي هو تقديمي لمسرحية "المك نمر" لإبراهيم العبادي. فقد كلفتني لجنة التأليف والنشر بوزارة الإعلام والشئون الاجتماعية (1967)، التي كنت عضواً فيها، بذلك. وبالنظر إلى ضعف عدتي النقدية في تناول المسرح اتكلت على ما أعرف وهو التاريخ. فتحريت الخبر الذي قامت عليه المسرحية، وهو فتنة الجعليين والشكرية، في التاريخ. وتقع المك نمر في سياق إبداعي شعري في العشرينات والثلاثينات استدعي المأثور التاريخي الشعبي للترويج للوطنية. ومن زاوية مسرحية أدق وجد مؤلفو هذه المسرحيات لغتهم جاهزة في مصطلح الدوبيت. لم يخترعوا لغة لجنسهم الأدبي المبتكر كما هي سنة المبدعين بل ألبسوه اللغة التي تدربوا عليها هم كشعراء شعبيين. اللغة الإبداعية ليست "أي كلام". هي تصطنع اصطناعاً طلباً للتأثير. خذ عندك مشردي المدن عندنا الذين اخترعوا لغة لهم حين أرادوا درمجة (جعلها درامية) محنتهم الوجودية. تلك لغة الراندوك فأفتتنت بها الصفوة. فهي لغة مدروسة ليس فيها ذرة عفوية. فالصديق "فردة". فهو رفيق الحياة "من أسفل" التي تكتنفهم. والقاطرة "صارقيل" لأنه من دون الناس يراها "مسطحاً" تتلوى في الهجير والمسافة. وهو "قادي" الشيء لأنه وحدة لا ينتهي إلى قرار. فهي ليست لغة. إنها وجع وصرخة في واد الإثرة لا الإيثار. من أفضل الدراسات عن صك اللغة للإبداع ما جرى حول "مغنى الحكايات" التي قام بها البرت لورد. وهي دراسة ساقه إليها اهتمامه بالشعر الملحمي اليوناني وهومر. فقد اختلف المعنيون بهومر. فقد استغربوا أن يكون هناك من يروي ملحمة بطول ما يٌروى عنه عن ظهر قلب. وشك الدارسون في وجود مغن للحكايات بهذه السعة. وقالوا إن تراث هومر خليط مخلط نٌسب إلى إغريقي باسم هومر. وساء لورد ذلك فنهض ليثبت حقيقة هومر بالنظر إلى نوع إبداعه الملحمي. فدرس ملحميين معاصرين في يوغسلافيا سماهم "مغنو الحكايات". ووقف عن كثب عند تربيتهم الإبداعية. ووصل إلى أن التأليف الملحمي قائم على "الصيغ formulas" وهي حزمة كلمات يجرى استخدامها في نفس الظرف الوزني، متى نشأ، لتعبر عن فكرة جوهرية. ومن رأي لورد أن المؤلف الملحمي لا يحفظ ملحمته عن ظهر قلب بل تواتيه هذه الصيغ متى وقف يغني للجمهور بصورة إرتجالية. على هذا فهومر حق. فلا ينبغي الاستغناء عنه لأن السعة التي أخذوها عليه هي أصل في مثل تأليفه الذي يستعين فيه بالصيغ لا الحفظ. هذا مجرد مثل على الصناعة في التعبير الإبداعي. ومأخذي أصلاً أن تأليفنا المسرحي الحديث لم يقع بعد على لغته الدرامية. لم تتح لي غربتي شهود مسرحيات عديدة ولكن أخذت على ما سمعته من لغتها "فخاختها". فهي فطيرة. قد تنقل المعنى ولكنها لا تنقر درامياً في الخاطر. وجدتها تواضعت على لغة للريف والبادية فيها بلاهة. ليس فيها نهائية "أنا غلبان". وتجدها تشتبك مع الإنجليزية بصورة عشوائية ليس فيها أثر " فلان ابن المعلم فلان اتشتم ياناس ياهو . . . بالإنجليزي". لغة الإبداع ليست شغل فرد فهي شراكة أي مصطلح كما رأينا عند مغني الحكايات. ووجدت مؤلفي مسرحيات العشرينات والثلاثينات استندوا على مصطلح الدوبيت. فوجدت في "بامسيكا" صيغة التِنِبر (اي الذي يفخر بنفسه): أنا عوج الطنضب الما بتعدل بالنار. ووجدت المثل: وإن طال الزمن لابد تجبر المكسورة ووجدت في "خراب سوبا": والبلقى ضراهو يا بتي عيشو يضري. ووجدت العبارة الشائعة في "بامسيكا": بت ناساً عزاز ما فيها قولة "إن كان". ووجدت "الدعاء" فيها ايضاً: "كفى أريتك بالسنين الهندي". وكذلك التضمين: "داير اشوف عروس يسولها اللول اللول أمسك حجابها ويقوللها سوي الهول وهذا تضمين لأغاني السيرة. شعراء مسرحيات العشرينات والثلاثينات وجدوا مصطلحهم جاهزاً فأحسنوا توظيفه. وبقي على مسرحينا ما يزال صناعة لغتهم الدرامية. من أين لنا تنشئة هذه اللغة؟ صدف أن كنت اقرأ بعض التاريخ وأنا أعد افكاري لهذه المقالة. ووجدت فيها لغة هي مادة لمصطلح مثل الذي ينبغي أن نحاوله لبناء لغتنا الدرامية. أنظر سداد هذه العبارة لثيودر ملك الحبشة الذي صد وفد مبشرين لأنه يعرف حيل الغرب: "أعرف مكر الحكومات الغربية حين ترغب في حيازة دولة شرقية. فهم يبدأون بإرسال المبشرين. ثم يتبعونهم بالقناصل لنصرة المبشرين، ثم يرسلون الأورط الحربية لنصرة القناصل. لست راجا من هندوستان ليجعلوني أضحوكة للدنيا هكذا. أنا افضل أن ألقى الأورط الحربية في أول التبادي" أو أنظر للمهدي يقول عن خسارة الترك وسوء منقلبهم. قال ما طار طير إلا رك على الأرض "والترك الطير ونحن الأرض". وحين استبد بالمهدي "شهوة" الدعوة" وخلص لها لا يشغله شاغل قال: "أنا فارغ. أنا لاقوة لي. تلقيت أمراً بواسطة نبيه. أنا المهدي المنتظر". أنظر كيف أفرغ الرجل ما سبق وأمتلأ بما أزف. ووتوقفت عند وصف مندوب السنوسي لبقعة المهدي قال: بلد محترق محتضر تعمة رائحة الموت. وما تغير شيء. هذه نماذج من لغة استدعتها مواقف درامية ت###### لها شعرة الجلد من تلك التي ربما لم نحاولها في مسرحياتنا. فقد بدا لي أن استثمارنا للغة في الدراما ما يزال عند "ما اتفق" ولم ننم مصطلحاً من خبرتنا المسرحية بعد.
|
|
|
|
|
|