|
في مناسبة ذكرى ميلاد عبد الخالق محجوب السابعة والثمانين عبد الله علي إبراهيم
|
بعض الوعي: دليله وبرهانه لو امتد العمر بأستاذنا عبد الخالق محجوب المولود في 22 سبتمبر 1927 لكان بلغ اليوم السابع والثمانين ربيعا. واشتهرت كلمته "بعض الوعي" في الجيل العاقب. وكان قالها في يوم الهول ومثار النقع فوق الرؤوس بعد كسرة انقلاب 19 يوليو 1971. فاستجوبه القتلة الذين بلا أعراف: "ماذا قدمت للسودان؟" قال: "بعض الوعي." وهناك بالطبع من لا يري في أستاذنا الوعي الذي رآه لنفسه بل ربما رآه ممن أضل وأفسد. وهذا خلاف شرعي لن تخف غلؤاه إلا إذا توافرت لنا حيثيات نقيم عليها البرهان على صدق زعم الرجل. ووجدت هذه الحيثيات في مؤسسة المكتبة الثقافية السياسية، مملوكة للحزب الشيوعي أو لبعض أعضائه، التي كانت بعض أدوات حركته الشيوعية السياسة الاجتماعية. وهي حيثيات تضعنا أمام تحليل كمي ل"بعض الوعي" طالما كان التحليل النوعي (هل كان الوعي الذي زعمه الرجل لنفسه صالحاً أم طالحاً؟) مما يثير الجدل والخلاف.. تربصت حلال السنوات الماضية بكل ما ينشر عن المكتبة الثفافية الشيوعية. وأكثر ما وجدته منه جاء بمثابة نعي لمن تولوا أمرها في مختلف المدن كتبه بعض قادة الفكر عندنا من عارفي فضل تلك المكتبات عليهم. فظهر مثل هذا النعي العرفاني لكل من المراحيم صديق محمد البشير صاحب مكتبة "الجماهير" بالفاشر، ويونس الدسوقي صاحب مكتبة "الفكر" بكوستي و"أفريقيا" بأم درمان. كما تذاكر أبناء الخرطوم بحري بمنبر السودانيزأونلاين المرحوم محمد الحسن شرف الدين صاحب المكتبة الوطنية بسوق بحري القديم الذي كان يبدأ بالبوستة القديمة إلى مدرسة الراهبات. وتذكر الدكتور حسن موسى رفيقنا عبد الله محمد بابكر صاحب كشك للصحف بسوق الأبيض. كما صدر كتاب من قريب عن المرحوم الجزولي سعيد صاحب المكتبة الشعبية بأروما. وذكرت في مقالة لي مرة مكتبة "المواطن" بحي السجانة لصاحبها بابكر محمد علي بوب. كتب عبد الله آدم خاطر وعالم عباس في نعي صديق محمد البشير صاحب مكتبة "الجماهير" بالفاشر كلمات مشرقة عن جمال شخصه وأريحيته وأثره الثقافي على المدينة. كتب خاطر(الصحافة 5-9-2009) كلمة مؤثرة عن فضل الرجل ومكتبته على ولعه هو بالمعرفة وأيلولته كاتباً راتباً محسناً. كما أحصى الشاعر المطبوع عالم عباس دائرة المعارف التي جاء بها صديق إلى الفاشر من دور النشر العربية. فكان يجلب (الآداب) البيروتية ومطبوعات دار الآداب، وصحف ومجلات (الحياة)، و(السفير)، و(الصياد)، و(الهلال)، و(المصور)، و(آخر ساعة)، ودواوين نزار قباني، ومؤلفات كولن ويلسون، وروايات ألبير كامو، وإحسان عبد القدوس، ويوسف السباعي وغيرها كثير. كما كتب مكي أبو قرجة كلمة مؤثرة عن رفيقنا المرحوم يونس الدسوقي يعدد حماسته لتسليك الطلاب في محبة القراءة وسبله الأريحية الذكية في ذلك. أما التشكيلي البارع حسن موسي فنسب بعض الفضل في تزكية بصيرته اللونية إلى كشك رفيقنا عبد الله محمد بابكر بسوق الأبيض. وكان عبد الله يبيع الصحف والمطبوعات الثورية السوفيتية والصينية معًا. وكان الكشك المتواضع مكانًا سحريًا لحسن يشتري منه مجلة “الصين المصورة” وكتب الدعاية السياسية المزينة بالرسومات الجميلة بقرش واحد مرة في الشهر. وكان عبد الله أحيانًا يمنحك “هوادة” بعض المطبوعات الإضافية لأنه توسم فيك مناضلا ثوريًا تحت الوعد. واستحصل حسن من إدامة النظر في تصاوير هذه المجلات تقنيات جديدة في صناعة التصاوير ما كان ليتوصل إليها لو بقي في حدود تجاريب رسامي مكتب النشر الذي كان يصدر مجلة الصبيان وكتب المكتبة المدرسية الأخرى. وجاء ذكر رفيقنا محمد الحسن شرف الدين ومكتبته "الوطنية" بسوق بحري في بوست بالسودانيزأونلاين( يونيو 26، 2014). ووصفه أحدهم بالبوست بأنه "الشايقى الكان شيوعى وبلبس جلاليب ناصعة البياض ويلف العمة بطريقة مميزة، وكانت السيجارة لا تفارق فمه؟". وهذه الفنجرة أيضاً مما جاءت في وصف المرحوم صديق البشير الفاشري.، كتب الأكاديمي عبد الرحمن إبراهيم يعرف بالشايقي الشيوعي. وقال إن مكتبته كانت موئلاً للكتب الاشتراكية و الروسية و عيون الأدب الروسي. وتعرف عبد الرحمن بالمكتبة لأول مرة على (بستان الكرز) و (الخال فانيا) لتشيكوف من كتب كان كومها أمام منزله في المزاد ليشيل منها من يريد. ورأى عبد الرحمن أول ما رأى كتب ماوتسى تونج، وكيم إيل سونق.والمنشق اليوغسلافى ميلوفين جلاس، وكتابات ميخائيل ليرمنتوف، وديستوفسكي، ومكسيم جوركى، وتشيكوف، وأشعار بوشكين بها. وقال إن الرجل فتح عيوننا على أبعاد من الفكر ما كان يمكن أن نعرفها إلا بفضله. وزاد بأنه وسع المدارك بتزويدنا بما يعين على النظر الناقد حتى للماركسية. فقد حوت المكتبة أيضاً مؤلفات لبعثيين وأخوان مسلمين وكتب عن الصراع الصيني السوفيتي، والوجودية: و"ياخي المكتبة دي كان فيها كنوز من المعرفة . . . ودا مش بس وسع مداركنا لكين خلانا ننقد فكريا ونناقش ونفند الماركسية والبعثية وفكر الأخوان المسلمين بجرأة. لأنه كان فيها مؤلفات حول الصراع الصينى الروسى، ونقد الأفكار الماركسية والوجودية ونقد فكر الأخوان فى إطاره التاريخى، وكان فيها جدل اليساريين مع البعثيين فى لبنان وسوريا والعراق". وتمتعت بحري بأكثر من مكتبة يسارية فذكر أحدهم في البوست كشكاً ثقافياً لمن يدعى جابر كثير التهذيب في الركن الشمالي الغربي للمجلس الريفي في بحري: "الراجل ده ساهم في إثراء الثقافة بشكل كبير لأنه كان بجيب المجلات اللبنانية زي الآداب و الصياد و كانت مجلات محترمة و كذلك صباح الخير وروز اليوسف." ووقفت من جهتي على خطر المكتبة الثقافية الشيوعية في موضعين. أما الموضع الأول فهو بعد قراءتي لكتاب "الجزولي سعيد: سيرة عامل سوداني." والجزولي مناضل معروف ومؤسس "المكتبة الشعبية" بأروما بشرق السودان. أما الموضع الثاني فهو عندما وقفت على مساعي السفارة الأمريكية لشراء مكتبة "المواطن" بحي السجانة لصاحبها الرفيق بابكر محمد على بوب. فتح الجزولي مكتبته في مكان غير متوقع في شرق السودان هو أروما التي قال زعيم مسيري محنوق من قريب أن صفوة الخرطوم لا تفرق بينها وبين "روما". وتعطي ربك العجب إن علمت أن كان لها فرع في بلدة وقر الأدروبات. فتأمل. وبلغ توزيع جريدة الميدان فيها 100 نسخة عام 1955. ومن أطرف ما قرأت في الكتاب عن الجزولي أنه بلغ الحزب الشيوعي أن أحدهم يصدر باسمه منشورات في بلدة ما دون أن يكون هو نفسه شيوعياً. فأتصل فيه الجزولي ليراجعه في الأمر. فقال الشيوعي من منازلهم: ما أنا بقرأ الميدان! وكانت المكتبة مشتركة بصورة مباشرة في الصحف والجرائد المصرية وتتلقى 20 نسخة من كل مطبوع لا تنتظر الجاري. وبلغ من شغف الناس بالاطلاع أن صار تعطل وصول الصحف إلى أروما خبراً تنقله الصحف نفسها. كانت المكتبة هي المحطة التي قرر الجزولي منها بناء الحزب الشيوعي والحركة الجماهيرية حين تكلف بقيادة العمل السياسي في قلب مشروع القاش. وكانت للمكتبة وظيفتان. الأولى بؤرة لنشر الوعي السياسي عامة والثوري خاصة. أما الوظيفة الثانية فكانت مقابلة منصرفات الحزب لرواتب 3 متفرغين وغيرها. وأظهر الجزولي مهارة في إدارة المكتبة ومسك دفاترها مما استثمره الحزب لاحقاً حين جعله المسؤول المالي المركزي في السبعينات. وشهد الحزب انضباطاً مالياً في عهده لم يشهده من قبل. ونفذ الجزولي من المكتبة لبناء الحزب بكوادر بجاوية محلية، ثم انتقل بهم إلى تكوين اتحاد مزارعي القاش وسط مصاعب لا حد لها، ثم مؤتمر البجا في 1958. من جهة أخرى قامت دلائل قوية على سعي دقيق موصول للسفارة الأمريكية بالخرطوم لمحاربة الشيوعيين إما بتجفيف منابع فكرهم أو يتنشئة منابر مضادة لهم. وقد عرضت لذلك في كتابي عن منصور خالد (تحت النشر) ولا نريد اجتراره. ومما قصدت السفارة تجفيفه كان مكتبة "المواطن" بالسجانة لصاحبها بابكر محمد علي (بوب) فقد حدثني عليم عن محاولة الإمريكان الاستيلاء بصورة حبية على تلك المكتبة. وكان أسس المكتبة المرحوم بابكر بوب في الخمسينات الأولى من القرن الماضي. وكان بوب، الذي لم يكمل المرحلة الأولية من التعليم ليعين والده في تربية إخوانه، وقتها عاملاً وعضواً بالحزب الشيوعي. وكان متطلعاً مشغولاً بالمعرفة. وكانت المكتبة جزءاً من حيله لنشر الفكرة الشيوعية وتمديد نفوذ الحزب. وكانت كما أراد. فقد كانت مدرجاً يعلو نشاط الشيوعيين بالسجانة منه ويهبط. وانتبه أحد أبناء الحي ممن عملوا بالسفارة الأمريكية إلى منزلة وخطر المكتبة. فجاء في عام 1958 إلى علبوب (أو علي بوب، في نطق المحدثين. وأهلنا بالبار وجلاس والقلعة يقولون عنهم في حالة الجمع ب"العلابيب")، الوالد الذي كان يدير المكتبة. وقال له إن السفارة على إستعداد لشراء كل الكتب الماركسية منه وأن تملأ له أرففها بكتب مكتب النشر التابع لوزارة المعارف السودانية وكتب عربية أخرى مجاناً. وأغرى العرض والد بوب وقبله في نفسه وسعى لإقناع ابنه بذلك. ولم يقبل بابكر بالطبع وغضب واحتد مع والده واستغرقهما شئ من الوقت للصلح بعد أن طرد الوالد، مكرهاً لا بطلاً، فكرة قلب المكتبة رأساً على عقب. وأبلغ علبوب الشاب برفضه عرض السفارة الذي نقله إليهم. وبناء عليه يصح القول إنه كانت للسفارة الأمريكية خطة لتجفيف موارد الشيوعيين الفكرية. فليس معقولاً تصور أن شاب السجانة قد بادر بعرضه بدون أمر من أولي أمره أو بدون موافقتهم. ربما تواضع أستاذنا كثيراً حين قال إن ما قدمه للسودان هو "بعض الوعي". فالعينة التي وقفنا عليها لقياس بذل الرجل كمياً للسودان، بشهادة عدول، برهان على صدقيته. فلقد ألقى في بحيرة السودان حجراً انداحت دوائره فلمست شغاف أجيال سودانية جددت معارفها، وصقلت ذوقها، وطبعتها على السماحة وإرادة التغيير. ولم يكن للرجل أن يبلغ أي شيء من هذا بغير "الفناجرة" من أمثال صديق، والدسوقي، وشرف الدين، وعبد الله، وبابكر علبوب، والجزولي سعيد الذين لبوا نداء هذا الفتي الذي لم يكد يتخطي سن العشرين بقليل وأختار حرب تحرير الكادحين السودانيين.
|
|
|
|
|
|