|
حيدر إبراهيم: إنما يأكل الضبع من الغنم القاسية (1) عبد الله علي إبراهيم
|
قرأت بمزيد الحزن والأسى مناشدة الدكتور حيدر إبراهيم لأهل الرأي وغيرهم التوقيع على مذكرة للاحتجاج على إغلاق مركز الدراسات السودانية، الذي أسسه في السودان وأداره، وللضغط عليها لفك أسره لمعاودة نشاطه الفكري. واقول بالحزن الأسى لأنه نداء مستحق لاستعادة مركز أهلي خدم الثقافة في السودان بما لا نعرف من خدمها مثله. وقولي بالأسى لأنني لم أجد في نفسى أدني رغبة للتوقيع على النداء. ولن يطرف لتمنعي جفن لحيدر. ولكن لن تنشرح نفسي للتوقيع بغير مؤاخذة حيدر مؤاخذة جدية عن سياساته في المركز كما رشحت عليّ شخصياً. من أجمل عبارات الأستاذ محمود محمد طه عن خصمه المتربص مولانا الأمين داؤد قوله: "نحنا الأذى الجانا من تالات الأمين أذى كبير". وأقول بقول الأستاذ عن حيدر طلباً للفلاح. فالأذى الذي جاءنا من تالات حيدر أذى كبير. وقبل التفصيل فيه أعود إلى يوم انتقل حيدر بمركزه من القاهرة إلى الخرطوم. كان ذلك يوم سعادة شخصية لي عبرت له عنها، وصبّرته على ما لقيه من تنكيد المعارضة الرسمية المعتمدة للإنقاذ. فقد انبرى له عتاة من المعارضة قالوا إن عمل المعارض في ظل نظام الإنقاذ حرام قطعاً ونصاً: لا تساوم. فهذا تطبيع مع العدو بشموله بشرعية ليست له. وها هو مركز الدراسات السودانية المنحل بعد عقدين ما يزال تاج المعارضة الثقافية. ولم يصدر من المعارضين في الداخل والخارج ما يدانيه في الشغل الفكري الشقي. وتهاوت مشروعات شبيهة له برغم بسطة مواردها. كان لعبد المجيد إمام مركزاً في الخرطوم بحري فتبخر. وأصدرت الحركة الشعبية مجلة ثقافية صدر منها عدد يتيم. وصدرت "الاتحادي" في القاهرة والتف حولها زهرة كتابنا فتبخرت هي الأخرى. ونشأت مراكز أخرى للاستنارة أو حقوق الإنسان طواها اصطراع أهلها حول نزاهتها قبل أن تطويها الحكومة. والتزمت مع نفسي بوقفة مبدئية مع المركز. أذكر أنني وقَّتَ يوم وصولي الخرطوم في 2000 لأكون ضمن متحدثين في ندوة انعقدت في مناسبة افتتاحه. وكانت عن العولمة. وكان معي فيها الأستاذ كمال الجزولي الذي ما يزال يعتقد أنني لم أحسن تعريف العولمة يومها. ثم لم أتأخر يوماً عن مطلوب لحيدر. فبجانب الندوات (وكانت منها التي شرفها المرحوم عبد الحليم محمد) فوضت له نشر كتابي "المهدي والعلماء" المنقح والمزيد بلا عقد ولا حقوق مترتبة. وبالطبع كنت أعتبر زمالة حيدر وكان يحبنا جداً غير أنه كثيراً ما تأسف لأن السياسة أخذتني. فلولاها لكنت جمال الغيطاني بالسودان. وهوى مصر عند حيدر كبير حتى أنه لم يهتم إن كنت أريد أن أكون غيرى أنا في أي شيء في مصر أو سائر البلدان. وتغاضينا في تضامننا مع حيدر عن شكاو طرقت مسمعنا عن ظلم المتعاونين معه في العقود. وجاء اليوم الذي بدا لي من حيدر ما استنكرته. فقد زرته يوماً وفاتحني عن ندوة ينظم لها عن الأكاديمية السودانية. وتواثقنا. ثم خرجت إلى برندة المركز أقلب كتب مكتبته. ووقع عيني على كتاب "توصيات اللجنة الوزارية لإصلاح جامعة الخرطوم" أو شيء من هذا القبيل. وبالمناسبة كنت عضواً في تلك اللجنة عام 1970 اختصصت مع آخرين بالنظر في شأن الطلاب وسياستهم ونظمهم السياسية. وقد ساط المرحوم محي الدين صابر التقرير سواطة نأمل أن نكتب عنها يوماً. المهم سألت حيدر أن أحصل على نسخة من الكتاب بأن يبعث بموظف شاب معه بالمكتب ليصور لي الكتاب في مكان قريب على نفقتي. وفوجئت برفض حيدر لطلبي "وش". وحزنت للرجل. تساعده على دفن أبيه يدس المحافير. وبدا لي أنه ممن تعود في خاصة نفسه على "هاك يدي" لا "أديني يدك" كما في الفكاهة الشائعة عن الرجل الذي غرق في البئر لأن منقذيه كانوا يسألونه أن "يديهم يده" لا "هاك إيدي". وأحبطني هذا البخل الذي لا مبرر له. ثم جاء وقت في 2007 نشر حيدر مقالات عن عصر النهضة العربية وجدتها معيبة. فكتبت في الرد عليها كلمتين. ومن يومها لم تقل علاقتنا أحيا يا العافية. إتحمى حيدر وإدمى ونشر مقالاً قال إنه الأول من عشرين سيمسح فيها بي الأرض. وكان عنوانها "الصحفنة والأكدمة" وغثاء آخر. ونشر بعده مقالاً في ما أظن وتوقف ربما استجابة لعقلاء ردوا إليه رشده. وبدا لي أن حيدر أكاديمي من منازلهم لم يتأدب للنقد الذي لا طِلاب للحقيقة بدونه. ويظن بمن أدلى به الخيانة وعقابه الرمي بعشرين مقالة بالرصاص. وأخذ حيدر من يومها يتربص بي الدوائر. جاء إلى مناسبة إعلاني لحملتي الإنتخابية لرئاسة الجمهورية بمركز طيبة برس آخر عام 2009 ولم يجد مأخذاً غير أنني أعلنتها ندوة باسم: "السودان: هل هو مريض أفريقيا؟ ثم أشهرت فيها عزمي للترشيح. ووصفني بالمدلس. وقلت له إن من حقه ألا يصوت لي طالما ظن التدليس بي. وهذه هي الديمقراطية. ونقل عنه المشاغبون المعلومون هذه الترهات وأذاعوها هرباً من مستحقات إنتخابات لم يكن منها مهرب، ولم يكونوا قد استعدوا لها. ثم انتهز سانحة دعوتنا له وصحبي ممن رتبنا للقاء الدوحة التفاكري في 2012 لينكد علينا. حضر اللقاء الأول متأففاً. ورفض حضور اللقاء الثاني بعد الدعوة واستعاض عن ذلك ببيان للشعب السوداني عن لاجدوى اللقاء الذي لم ينعقد بعد. وحزن الكثيرون لهذه الجلافة. ولا أعرف أكاديمياً مستحقاً تظاهر ضد لقاء كان منتظراً منه شهوده ومتاحاً له التعبير عن مكنون رأيه فيه وفي غيره. ثم عطلت الإنقاذ مركز حيدر في 2012 ووقفنا معه في اتحاد الكتاب وقفة رجل واحد وسيد الوجعة غائب في الزرائب. ولم يجد مع ذلك سعة في نفسه ليذكرنا بالخير أو ليصمت. فناشنا ظلماً وسفهاً. ونعرض لذلك في كلمة قادمة.
|
|
|
|
|
|