|
حرب الأخوة الأعداء في الجنوب: التغيير كثقافة عبد الله علي إبراهيم
|
(في مناسبة حرب الأخوة في الأعداء في دولة جنوب السودان أنشر هذه الكلمة القديمة عن فساد التغيير بفوهة البندقية وحدها)
في ذيول غزوة العدل والمساواة لأم درمان كنت أقرأ فصلاً كتبه الدكتور حامد البشير، الخبير بمنظمة اليونسيف والأستاذ السابق بحامعة الخرطوم، في كتاب حررته الدكتورة رقية مصطفى أبو شرف عنوانه "طهور النساء" صدر عن جامعة بنسلفانيا للنشر عام 2006. وألقى حامد في فصله الضوء على جهاد نشاط اللجنة الوطنية لإزالة العادات الضارة ضد الخفاض الفرعوني. وتوقفت بصورة خاصة عند شهادتين جاء بهما حامد لامرأة ورجل مستا دعوة الجمعية لإنهاء خفاض البنات شغافهما فغيرتهما فغيرا ما حولهما.
كانت الشهادة الأولى من السيدة سعدية الضو محمد نور. ولدت بكريمة البحر بجهة سنار في 1969. وحضرت حلقة تدريبية لجمعية محاربة العادات الضارة في 1993 خلال عملها كإختصاصية في التغذية. وصادف حرب الختان هوى في نفسها بحكم عملها ولأنها نائب رئيس اتحاد النساء بمديرية سنار وسكرتيرة المال لاتحاد الشباب. وبدأت هي وصديقتها منى بتجديد منهجهما للتغذية ليحمل توعية بمضار الخفاض. ثم كونتا جمعية اسمها "الصلاة على النبي" تتساند بها النساء في الأفراح والاتراح. وبدأت سعدية تبث الوعي ضد الخفاض شئياً فشيئاً. فعودت النساء إلى النظر في أنفسهن وروضتهن على قبول مثل هذه المكاشفة بالتركيز أولاً على حرب عادات البذخ في الأعراس. ثم كونت منظمة غير حكومية لحرب العادة تستعين بها في بلوغ المنظمات المركزية في الخرطوم. وجندت سعدية للحملة واعظاً دينياً بعد اطلاعه على أدب جمعية محاربة الختان. كما كسبت داية البلدة (التي حضرت ورشة تدريب لحرب الختان) لحملتها فكانت لا تجري خفاضاً بغير أن تحيل الأسرة أولاً إلى سعدية. وتحاول سعدية إثناء الأسرة عن خطة ختان بنتهم فإن تعذر وجهت الداية بإجراء ختان السنة. وتظل سعدية ترصد الأسرة لأن الأهل غالباً ما لم يقتنعوا بختان السنة والتمسوا خفاضاً فرعونياً بصورة ما. ولم يدم صفاء الداية وسعدية. فقد اشتكت الداية سعدية للجنة الشعبية وقالت إنها تتطفل على عملها فتصر على حضور كل عملية ختان بنفسها. ولكن اللجنة الشعبية وقفت إلى جانب سعدية وتنازلت الداية عن دعواها وعادت تتعاون مع سعدية بتحفظ. وترافق مع ذلك إدارة سعدية ومنى لندوات لا تنقطع في جميع المناسبات من فرح وكره وختان تدعوان لترك ختان البنات.
وبلغت سعدية ومنى قمة درامية (حقاً لا مجازاً) في نشاطهما. فسعتا للحكومة الإقليمية لكي تعينهما في رحلاتهما بين القرى للتوعية. وخذلتهما الحكومة إلا من مسئول التغذية الذي وضع سيارته تحت خدمتهما وكذلك جماعة من الأهل والأصدقاء. وانتهزتا مناسبة سمنار عقدته جامعة الأحفاد في 1993 لأخذ الحكومة بالشدة لقعودها عن حرب خفاض البنات. فألفتا مسرحية قصيرة وقامتا بتمثيلها أمام نفر من المسئولين. فنفذ النقد إلى خاطر معتمد المديرية فوجه مكتبه لوضع إمكانيات الحكومة المحلية تحت تصرف سعدية ومنى.
أما الشهادة الثانية فهي من شيخنا ضو البيت البشير إمام جامع الحلة الجديدة بكوستي. فقد انتدبته الشئون الدينية والأوقاف لحضور ورشة عن الخفاض الفرعوني نظمتها الجمعية الوطنية لمحاربة العادات الضارة. ورأى ضو البيت وسمع عن الخفاض ما جعله ينفيه عن الإسلام. وبدأ ببيته فحدث زوجته أن لا تختن بنته التي في ربيعها التاسع. واستغربت زوجته هذا منه وهو الذي لم يعترض على ختان اخواتها الأكبر. وقد اختلفا حتى كادا أن يفترقا حول هذه المسالة لولا أن زوجته استمعت إلى شرحه لرأى الدين من الطهور الذي لا مكان للخفاض الفرعوني في إعرابه. استمعت الزوجة القول واتبعت أحسنه. ولم يتوقف شيخنا عند ذلك بل ظل يخطب من منبر المسجد يوضح فساد ممارسة الخفاض الفرعوني. وكانت النساء يأتين لمنزله لحضور حلقة علم خاصة بهن. ورحن يسألنه عن الخفاض والإسلام. ونفذ بدعوته إلى أمهات كثيرات فأنتبذن العادة.
جعل حامد المثل "السايقا واصله" أمثولة تصدرت مقاله. وهي حكمة استبقنا هديها إلى العجلة والعنف والغزو في ميدان الإصلاح السياسي والاجتماعي. فالدكتور خليل عريق في الحركة الإسلامية التي اختارت قبل تورطها في انقلاب 1989 أن تنشغل بالعمل في وسط المحتمع وأن تربى كادرها على التدرج بالتغيير ومراجعة تكتيكاته على قدر طاقة الناس ومعدل سرعتهم. وقال الدكتور حسن الترابي في أوائل الثمانينات يفخر بحركته إنها لم تنهج نهج التكفير والهجرة تعتزل الجاهليين ثم تنقض عليهم تبدل ما بهم باعجل ما تيسر. واستفاد الإسلاميون خطتهم هذا من عدوهم اللدود الشيوعيين الذين نجحوا في التغلغل في أوساط السودانيين مع غربة فكرهم عنهم. بل كان أغيظ ما يغتاظ منه الترابي هو كسب الشيوعيين البادي للمرأة مع أن الإسلام في نظره هو فرصة المرأة المثلى للتحرر.
حكاية سعدية وضو البيت صورة من صور إرادة التغيير. وكيف أن التغيير متى لامس الشغاف (بعد أن سهر الطلائعيون على التنوير به) فإنه ليكتسب حياة مستقلة. فهو يزين منابر مساجد يظن الغرب ومن تبعهم من مستغربة المسلمين أنها أس بلاء المرأة وخفاضها ولا سبيل لتحررها إلا بخلعها عن الإسلام. وورأينا كيف تقوى حجة محاربة الخفاض بالمسرحية والندوة والتأليب متى قام على الأمر دعاة أشرقت شمس المعارف على ضمائرهم ووجدانهم. وكانت الأجيال السابقة من هؤلاء الدعاة هم الذين عمروا منظمات الاتحاد النسائي أو اتحاد الشباب وما يقابلها في الحركة الإسلامية. وبلغ من شغف هولاء الدعاة بتجديد حياة المدن والأرياف حداً وصف الأستاذ فؤاد مطر الشيوعيين في آخر الستينات بالفراشات ترف بين غمار الناس تنقل لهم شهد الحياة القادمة.
ثم جن اليساريون والشيوعيون وجن بعدهم الإسلاميون حين تأبطوا جميعاً السلاح يريد الأوائل حرق المراحل ويريد الأخيرون المسارعة الفطيرة إلى الله. ناهيك عن أهل الهامش الذين ابتدعوا حرب التحرير الشاملة مثل التي شنتها حركة العدل والمساواة. وسادت فينا العصب المسلحة من تاريخه. وانقطعت الطلائع عن الجذور: عن أشواق سعدية وضو البيت وإشراقاتهما وسايقتهما الواصلة. بل بلغ المعارضون حداً من اعتزال الشعب حملوا به منظمات العمل الجماهيري (وحتى القوات المسلحة) معهم إلى مهاجرهم وسموها بالشرعية حتى لا تقوم لدولة الإتقاذ شرعية.
لقد فارقت المعارضة الشعب فراق ذلك الرجل لجمله. ولم يعد طاقمها القيادي يصعد من بؤر سعدية وضو البيت أو كسبهما بل من أهل الفتك كمثل الذي دق الترابي في كندا أو الذي اختطف طائرة أو حتى الذي ضرب قنصل السودان في بيروت بونية جامدة. ولا تعاني الحركة الشعبية لتحرير السودان الآن مثل ما تعاني من حكم السلاح الذي فرحت به وروجت له فحاربت نظاماً ديمقراطياً حتى عافه الناس. وقال أحدهم إن ال###### لو اراد أن يعضه فلن يقل له : جر. فأكبر أعباء الحركة الآن هو تخفيض جندها المسلحين وجمع السلاح من جمهرة تعلمت أن تتحدث من فوهة البندقية.
|
|
|
|
|
|