|
الفتاة المرتدة: حديث إلى اليسار والماركسي منه خاصة عبد الله علي إبراهيم
|
نأمل أن نعود بعقلنا إلى واقعة "القتاة المرتدة"، فك الله كربتها، بعد الإثارة السياسية التي اكتنفتها. وأكثر مزعجات الأمر شغب المعارضين للحكومة بالذات في وجه مسألتي الحرية والدين. وأرغب كماركسي سوداني مسلم الرجوع إلى قواعد استقرت لنا في ممارستنا بين الكادحين السودانيين غابت عن نظر رفاقنا فخاضوا مع الخائضين:
المسألة الأولى: حرية الترحل من دين إلى دين بغير مؤاخذة. ومع أننا وبقوة مع ألا يكون الاعتقاد أو الفكر قيداً على الإنسان إلا أنها، عندنا، حرية من نوع أبغض الحلال. فقال لينين مرة إننا ندعو لحق المرأة في الطلاق ولكن لن ترانا نطرق الأبواب نزين لكل زوجة الطلاق من زوجها. بعبارة أخرى أنها حرية مؤسفة. وقد حز في نفسي أن تعتزل الفتاة صفنا المسلم مهما كان الأمر. فصفنا بغيرها ناقص.
المسألة الثانية: إننا في حركتنا الشيوعية لم نر في تبني المرء فكرة من الأفكار خروجاً من عقيدة باطلة إلى عقيدة صحيحة. فقال أستاذنا عبد الخالق محجوب في دفاعه أمام محكمة عسكرية في 1959 إنه لم يصر ماركسياً طلباً لدين جديد. وفسر قوله هذا بصورة أدق في تقرير للجنة المركزية في 1968 بعنوان "قضايا ما بعد المؤتمر الرابع". ففيه دعا إلى أن نقطة البدء عندنا كمسلمين هي إرث الإسلام ونرغب في تقريب الماركسية (لميزات لا نأتي عليها هنا) لجماهير الشعب بجعلها جزءاً من تفكيره وتراثه الثوري وبإدخالها بين مصادر حضارة الشعب العربية والإسلامية والأفريقية. وهو يري أن هذا التقريب للماركسية هي تبعة علي الماركسيين تلزمهم باكتشاف مصادر هذه الحضارة وعناصر القوة والخير والثورة فيها. فالأخذ بالماركسية، في قول عبد الخالق، ليست مناسبة يخلع بها الشيوعي هويته الحضارية كمسلم وعرب وأفريقي. خلافاً لذلك، فالماركسية هي "تجديد للمعرفة وسط شعبنا، تجديد لمصادر حضارته وثقافته." وهي مع ذلك لا تقف مكتوفة اليد مبهورة حيال ماضي هذه الحضارة كمثال جامع مانع. وإنما تنفذ إليه بالنقد الدقيق المحيط تتغذى بخير هذه الحضارة وتلفظ ما عداه وتتغلغل يوماً بعد يوم إلي ثري الوطن وثقافته.
ليس كل تحول عن الدين حرية. فالتبشير مثلا، الذي عليه مدار أعظم التحولات في الدين، محض شوكة وجاه. فالمغلوب على دين الغالب. وفي واقعنا الراهن فالمسيحية البروتستنتية الإيفلانجيكية بالذات توظف إمكانتها الواسعة مقرونة بالمثال الأمريكي الساطع لكي تكسب أرضاً بين الديانات الأخرى. وأثارت أدوار الإغراء الإيفلانجيكية لرقيقي الحال من الديانات غيرها ثائرة أهلها. فرأينا حتى في إسرائيل يذيق المعتزون بدينهم اليهودي فيها رسل التبشير الإيفلانجيكي ضروباً من الأذى والتحقير. ناهيك عن ضيق الكاثوليكية بهم وهم يتقحمون أراضيها في أمريكا اللاتينية. فالزعم بأن من تحول عن دينه بتأثير التبشير حر مما لايليق بماركسي.
كشفت محنة "الفتاة المرتدة" عواراً كبيراً في ثقافتنا. فليس بين فكرنا المعارض أو الإصلاحي خارطة طريق أو أهداف. ليس بين أطراف هذه الفكر تحشيد بالفكر لبرنامج لإصلاح قضائي يفرض أجندته على الدولة في ظل الإنقاذ أو في غيرها.
1-ربما فوجيء كثيرون، وأنا منهم، بحضور مادة الردة في القانون الجنائي، المادة 126. وكنت من ظن أن فترة ما بعد نيفاشا والتحولات الديمقراطية المرموقة التي جاءت في أثرها قد أماطت عنا هذا الأذى في طريق الحرية. وهذا عوار نبه له الشيخ محود محمد طه. فقال للمثقفين في كتبه عن حكم الردة بحقه في الستينات إنه لن نسلم ولن تتعافى الحرية عندنا إلا بإزالة حكم الردة عليه من كتاب القوانين. ولم يحدث. وقتل الرجل بعد ثلث قرن بهذا الحكم البايت. فأنظر كيف نتبارى في حب الرجل الآن والعرفان بشهادته في الحق ونعتزل عزائمه الفكرية وفراسته. لقد عرف من أين ستقتله الفئة الباغية ولم تخيب ظنه.
2- من أكثر تعقيدات قضية "الفتاة المرتدة" تحري نسبها إلى أسرة زاعمة وأسرة مزعومة. وفوجئ الناس لدي تحقيق هذا الأمر المعلق بأن القضائية ما تزال ثنائية كعهد الإنجليز بها: مدنية وشرعية. فلم يكن بوسع قاضي محكمة الموضوع في الحاج يوسف الأمر بكشف الجينات لأن هذا الكشف من اختصاص المحكمة الشرعية. وهكذا لم تسد القضائية ثغرة في بناء القضية من جهة النسب كانت، متى أنسدت، وضعت الناس أمام بينات أوثق تزيل اللبس حول مسألة النسب.
إذا نظرت في حجج من أبطلوا حكم الردة بالنظر إلى نصوص الدين وجدتها على ضعف بين. أول هذا الضعف أن جدلهم هذا كان "علوق شدة". وهو إطعام الدابة وصاحبها على وشك السفر. ويقال إن مثل هذا العلوق لا يسمن من جوع. فلم نر شغلاً فكرياً ولا ممارسة سياسية متصلة بين دعاة حرية العقيدة لبسط هذه الفكرة وكسب الناس لها حتى تصير وعياً يتنزل في الوجدان والتشريع بصبر ومثابرة.
من الجانب الآخر، بدت حجج مبطلي حكم الردة كحالات التسلل في لعبة الكرة لا تصيب إلا متى أغفل الحكم عنها. وقد وجدت الشيخ الدكتور محمد على الجزولي يقظاً لحالات التسلل هذه في برنامج "حتى تكتمل الصورة" للطاهر التوم الذي أحسن عرض مسألة "الفتاة المرتدة" وقَعّدها. فقبل الجزولي لأجل النقاش بتحجج دعاة حرية العقيدة بأن الردة ليس حداً نص عليه القرآن. ثم سأل: إن كانوا يقبلون إذاً ما نص عليه القرآن من الحدود مثل قطع يد السارق والزنا. وهو يعلم أنهم لا يقبلون حتى بهذا. فهم قد جعلوا من الواثق صباح الخير، الذي طُبِّق عليه حد السرقة خلال محاكم نميري الناجزة (1983-1985)، بطلاً. وكان أكثر ما تفتق ذهنهم عنه عند قضية الباشكاتب المختلس الذي أدانته نفس تلك المحاكم بالسرقة بأن الاختلاس ليس سرقة حدية لشبهة أن للمختلس حقاً في ما اختلس منه لأنه مال عام. والعذر أقبح من الذنب. ولو قلت لهم الآن أن التحلل يسقط الجريمة عن مختلس المال العام كما جرى من قريب بولاية الخرطوم لقالوا لك لا تحلل في المال العام وإنما القطع. وسمى الجزولي هذا الترحل في المنطق ب"الرمال المتحركة" فأصاب. بل قال لهم شيخ الجزولي إن القرآن لم يأت حتى بقواعد في الركن الثاني في الإسلام وهو الصلاة. فلم يرد عددها ولا مواقيتها إلا لثلاث منها وهي خمس: فهل نهمل بعض فروضها لأنها لم ترد في القرآن؟ ثم سأل الجزولي من دفعوا الردة عن الفتاة لمسيحيتها إن كانوا سيقبلون بالحكم لو كانت الفتاة مسلمة أم أنه هذا مجرد تمحل.
لابد من الاعتراف بأنه لم يتفق بعد لمختلف فرق الفكرة العلمانية (أو المدنية لو شئت) عن فصل الدين عن الدولة (لا الحياة بالطبع) رشداً من جهة التعاطي مع الدين في الدولة. فهذه الفرق ما تزال تراوح عند الدفاع عن مواقعها أو تهاجم هجوماً أخرقاً مثل الذي نراه ممن يقومون بذلك من مسافة آمنة بالخارج. وكان استاذنا عبد الخالق محجوب قد أرسى قاعدة أن الهجوم في هذه الجهة أكسب من الدفاع في كتاباته بعد حل الحزب الشيوعي في الحادث المعروف في 1965. فقد طلب من حزبه أن يخوض في أمر الدين لا من موقع الدفاع عن نفسه كمتهم في دينه، بل من مواقع الهجوم. فالحزب الشيوعي، في نظر عبد الخالق ، يكسب بالهجوم الذكي المستنير المتفقه في علوم الدين وغير علومه. فلا مخرج للحزب من تهمة الغربة الفكرية بالاستخذاء وإدارة العقل إلي الجهة الأخرى في وجه ما يلقيه الدين عليه من مسائل وتحديات وفقه. وقال:
"هذه الغربة (الماركسية) التي أشرت إليها لا تحل علي أساس سياسي كما ان مراكز الدفاع مراكز ضعيفة ويمكن أن توصف بالنفاق السياسي ولا توصف بالحالة الجادة لاكتشاف مصادر الثقافة في بلادنا ولاتخاذ موقف تقدمي منها: ما كان مفيداً يدخل في ميدان التطور، وما كان منها يعوق التطور يجب ان يتكلم عنه الشيوعيون بجراءة وأن يقفوا بثبات دفاعاً عن مراكزهم." لقد مرت مياه كثيرة تحت الجسر. وتوافرت بينات لا مهرب منها أن خطة تديين الدولة القائمة منذ عقود في ظل الإنقاذ ونميري قبلها خطة لا يتمناها مسلم لدينه كما لا يحتاج الأمر إلى برهان. إن الذي يلينا من الدين هو دين النطع و السيف. أو هو "دين الحكومة وبوليس كادقلي" كما اشتهر عن متقاض في جبال النوبة لم تنصفه محكمة شرعية ما. ويشهد بعض جيلي من الإسلاميين بلا عسر بأن من حسن الإسلام اعتزاله الحكومة لا "أوبة" الحكومة له كما أرادوا في الستينات. ورأوا من هذه الأوبة ما روعهم خلال العقود الماضية. قضية الفتاة المرتدة ليست عن تصفية حسابات مع "إسلام الكيزان"، و لاهي عن بشاعتنا صورتنا في نظر العالم، ولا عن خروقنا لمواثيق العالم عن الحرية وغيرها. فكل هذا عرض زائل. أما الجوهر فهو منزلة الإسلام في معاشنا ومعادنا وفي أغوار الروح والعقل والتاريخ. فليس لجمهرة الشعب خاصة من ثقافة غيره. لقد تعاورتنا أفكار من هنا وهناك مثل الليبرالية والماركسية والحداثة وغيرها وتداعت كل لأسبابها الخاصة. وتبقى التبعة الآن أن كيف سنتحاور جميعنا حول هذه الرصيد الرمزي التاريخي؟ لقد أمطرنا جميعاً على يوم جلوة الفتاة المرتدة وجديدها. فهي ضحية المسغبة الفكرية التي نتخبط فيها منذ حين. لقد انكسر مرق ثقافتنا وتشتت عيارها. وهذا قريب من قول الشاعر الإنجليزي ييتس: لقد انفرط مركز عقد الأشياء، فتداعت في القِبل الأربع
فمما يؤذي الخاطر صمت الشيخ حسن الترابي حيال مسألة الفتاة المرتدة بأمر حزبه الشعبي بينما هو العمدة في التشريع للردة. فقد هلل ل"الذبح العظيم" بعد إغتيال المرحوم محمود طه إغتيالاً لم تكن حركته الإسلامية طرفاً فيه إلا مكاء وتصدية (والمكاء الصفير والتصدية الصفقة بالأيدي) تبعت فيه الطاغية نميري طأطأة وانكساراً. وما تزال الحركة مضطربة حيال موقفها المخجل ذاك بين متنصل ومعتذر وثابت على الباطل. ثم كان الترابي رأس الرمح في القانوني الجنائي البديل لعام 1988. ولم يطرف له جفن بعد محنة طه أن يضمنه المادة 129 عن الردة ويزعم أنها محايدة سياسياً أو كما قال. وقامت هذه المادة "بعاتي" في القانون الجنائي لعام 1991. ثم اتفق للترابي أخيراً اجتهاداً في الردة صرفها عن حرية تبديل الدين إلى حرب الدولة بعد ذلك التبديل. ولما جاءت المخاضة ظهر الكوك بواقعة الفتاة المرتدة: صمت الشيخ-المركز وتداعت الأشياء.
ومن فرط تداعي الأشياء للجلجة المركز صارت الردة عن الأصل هي القانون الثقافي السائد. فبناتنا يخلعن سمرتهن أو سوادهن بالتبييض، ومهاجرونا يخلعون جنسيتهم بالتجنس، وأهل الحكم يرتدون عن أرنيك 15 بالتجنيب.
لقد أمطرنا على فرح الفتاة المرتدة. فلم تعد ثقافتنا ولا سدنتها من يعالجون مثل محنتها بغير الهوس الديني والعلماني. يخرج كل منهم سيفه من غمده للثأر بينما الأمر أهون لو كان بيينا رشيد بتركنا المسألة لأهل الاختصاص المعروفين بما فيهم علماء الدين في غير صلاحية الاستتابة بل رحمانيين ربانيين.
إننا لنلتمس من رئيس القضاء أن ترفع محاكمه يدها عن هذه القضية لشبهة غير خافية من تعدي المادة 126 على الدستور.
إننا لناشد أسرة الفتاة المرتدة أن تسحب القضية جملة واحدة بعد إثبات النسب بالطرق الحديثة. فحديثهم عن قتلها لم يكسبهم عطفاً يريقون دماً ليس ماء. وأن تترك للزمن ما للزمن احتساباً تجزى به في يوم غير هذا.
إننا لناشد السيد دانيل الزوج أن يتبع سنة من سبقه إلى زواج بنات المسلمين بسترة وصبر ومثالية وهي كلها عناوين غراء في الحب.
وإننا لناشد كنيسة الموضوع أن تراعي مقتضيات معلومة للسلام العقدي. فليس كسباً للمسيحية منقلب إليها صرم الرحم وقال "أف" للوالدين مع تفهمنا الدقيق للملابسات.
أما الحكومة ومعارضتها فلا شيء منتظر منهما بعد حساب نقاط الفوز والخسارة. فقد شغلهم الله بحميدتي اي بالمرج كما في نشايد السادة الختمية.
وأسأل الله، كمسلم، أن يثبت الفتاة موضوع الحديث على الإسلام. فليس من دين آخر أزكيه لها.
|
|
|
|
|
|