|
الجزولي سعيد (1925-1994): وجه القمر سافر عبد الله علي إبراهيم
|
الجزولي سعيد (1925-1994): وجه القمر سافر عبد الله علي إبراهيم سألت مرة: هل نشأت خلال النضال ضد الاستعمار حركة وطنية واحدة أم حركات وطنية؟ بمعنى آخر: هل كانت حركة مؤتمر الخريجين هي الحركة الوطنية المعرفة بالألف واللام وما عداها توابع، أم أنه نشأت (في وقت واحد أو متفاوت) حركات وطنية أخرى ربما كان بعضها أهم من حركة الخريجين ؟ ومثل هذا السؤال مما تسأله مدرسة دراسات ما بعد الاستعمار لكسر السردية الرائجة للحركة الوطنية عندنا التي تقصرها على حركة مؤتمر الخريجين وما عداها نجوم تدور في فلكها. ونبهت إلى من سأل هذا السؤال مرة وهو المؤرخ الجنوبي لازاروس ليك ماووت الذي احتج أن تلك السردية إما أهملت الحركة الوطنية الجنوبية إما خونتها بوصف الصفوة الجنوبية "ولاد كنائس". وأميز من سأل هذا السؤال مؤخراً عبد الله الفكي البشير في كتابه "محمود محمد طه والمثقفون". فمن رأيه أن سردية الحركة الوطنية لخريجي غردون زورت التاريخ بتغييب الحركة الجمهورية من كتابها. خطر لي السؤال مجدداً وأنا أقرأ كتاباً عجيباً هو "المناضل الجزولي سعيد: سيرة عامل سوداني (2013) حرره الشفيع الجزولي سعيد. فبقدر ما تقرأ كتاب الحركة الوطنية لن تجد ذكراً مخصصاً (بل مفتونا) بمدرسة الصنائع في عطبرة كالحال مع كلية غردون ومؤتمر خريجيها (1938). ستجد في سردية الحركة الوطنية المألوفة ذكراً للحركة النقابية بعطبرة وموكب 1947 الذي فرض على الإنجليز الاعتراف يهيئة شؤون العمال التي صارت نقابة عمال السكة الحديد لاحقاً. ولكن ستجد أن هذا النضال العمالي مجرد فقرة ملحقة بنضال الخريجين. يكشف كتاب الشفيع عن أبيه عن منزلة مدرسة الصنائع بعطبرة (التابعة للسكة الحديد) في استنهاض عمال السكة الحديد في خط الحركة النقابية والوطنية. ويسترد لخريجيها حق أن تكون لهم سيرة أو مذكرات توطنهم في أسرة وعشيرة وقرى أو بلدات ونوازع وزمالة واطلاعات ومعارف وأشواق جعلت منهم القادة العماليين الذين نمر على أسمائهم النقابية عجلى. دخل الجزولي مدرسة الصنائع في 1942 بعد تخرجه من مدرسة دنقلا الأولية. وكان بالمدرسة ( وموقعها بجهة المدرسة الثانوية الحكومية على شاطيء النيل الآن) قسمان: ثانوي وأوسط. ويأتي للقسم الثانوي خريجو المدراس الوسطى. وعاصر منهم الجزولى أيقونات الحركة النقابية والشيوعية الشفيع أحمد الشيخ وقاسم أمين وأبراهيم زكريا. وأضيف من عندي أخي محمد على إبراهيم ومحمد محمد خير. وزامل الجزولي في القسم الأوسط كل من على محمد بشير والحاج عبد الرحمن وأرباب العربي. وليس من هؤلاء من لم يكن نقابياً فمؤسساً للحركة السودانية للتحرر الوطني (حستو 1946) فالحزب الشيوعي. وكان المتفرغ الرسمي الأول والثاني للعمل الشيوعي قبل أستاذنا عبد الخالق محجوب منهم وهما إبراهيم زكريا والجزولي سعيد. وستجد سردية التاريخ الوطني تقيم "ظاظا" لإضراب طلاب كلية غردون في 1931 ويخمل عندها ذكر إضراب القسم الثانوي لمدرسة الصنائع ولهم نفس الاحتجاج حول أجورهم بعد التخرج. بل لعل أظلم من ظلم الوطنية العمالية هو فريق من الشيوعيين كان لا يعتقد بوجود طبقة عاملة سودانية أصلاً ليكون لها حزب شيوعي. وهو الرأي الذي تبناه عوض عبد الرازق وجماعة المنشفيك في صراعهم مع أستاذنا عبد الخالق محجوب في آخر الأربعينات. وظلت الفكرة تطل برأسها وبقوة في الآونة الأخيرة بعد كساد الماركسية ذاتها. ومن أهم من يروج لها حالياً الدكتور فاروق محمد إبراهيم. وتكرر تساؤلي للمنكرين في الطبقة العاملة: كيف أذنتم لمؤتمر الخريجين يكون على رأس طبقة برجوازية صغيرة لا يتجاوز عددها المئات وحرمتم طبقة بلغت 10 ألف في عطبرة وحدها من حزب لها، أي حزب؟ لم تكن الماركسية فكرة قاصية عن ذهن هؤلاء العمال كما قد نتصور. ولا أعرف نظرية سلست إلى وجدان هؤلاء العمال كما سلست الماركسية. كانت كأنها فكرة آن أوانها. فقبل أن تبلغهم الماركسة كان الجزولي ويعض زملائه كونوا جماعة للرحلات والقراءة والأخشوشان لحرب الإنجليز. ثم جاء هاشم السعيد منقولاً من بورتسودان وسكن ميز ناس الجزولي. وحمل معه كتباً ماركسية حصل عليها من حامد حمداي الذي جاء بها من مصر. وصارت أسرة الميز ماركسية في لمح البصر. ومن الجهة الأخرى سعى مصطفى السيد القيادي الطلابي بكلية الخرطوم الجامعية إلى دار خريجي الصنائع وتقرب إلى الشفيع فحوله إلى الماركسية بلا جهد. ونقل الشفيع "العدوى" إلى قاسم وزكريا ومحمد علي ومحمد محمد خير. هكذا ببساطة وبسلاسة. وتكونت أول حلقتين لحستو في عطبرة من ذلك النفر الذي كان على الهبّار الثوري. ولا أدري لمَ عسَّر شيوعيون سابقون ولاحقون وغيرهم قيام حزب شيوعي بين عمال السودان بينما المسألة، كما رأينا، يسر. سيأتي يوم شكر رفيقنا الشفيع الجزولي على توافره على تحرير هذا الكتاب المنير عن والده وسلفنا الصالح. وآمل أن كتابه قراءً خارج الشيوعيين ليقفوا على نبل الجزولي: فتى دنقلاوي من الخنّاق مشى أيضاً في السكة الخطرة من أجل كادحي السودان.
|
|
|
|
|
|